محاضرة حول "البحث العلمي في الدراسات القرآنية والشرعية"

عنوان متخم بدنيًا يضيق الوقت عن استيعابه ، مفعم بالحيوية علميا يحتاج إلى تضافر الجهود للوقوف على غاياته وأهدافه.
أهداف اللقاء:
محاولة المواكبة بين متطلبات الواقع والحاجة إلى البحث العلمي في الدراسات الشرعية، بما يكشف عن المنهج السديد في التعامل مع الواقع، ليصلح من شأنه ويقّوم من حاله ليتسق ومنهاج الشريعة المستقاة من القرآن والسنة.
{ إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } (الإسراء:9)
الفئة المستهدفة:
الباحثون الواعون الواعدون وبطريق التكامل أو التكافل أي أن يتم إعداد جيل من الباحثين يكمل بعضه بعضا، من خلال تجزئة التخصص وتعميق البحث في كل جزء بدلا من التيه في تضاعيف التخصص طولا وعرضا، فالتخصصات الآن تدفع باتجاه التقزم، رغبة في الإجادة والاستيعاب، وذلك حتى يقوم المجموع الآن بما كان يقوم به العالم الموسوعي في العقود الماضية.
إننا لا نستطيع أن نعيد الزمان، كما أننا لا نستطيع تعويض علماء لنا قضوا، ولكن نستطيع أن نسد الفراغ الذي تركوه بالتكاتف والتعاون والتكامل، بأن يجهز الباحثون ليجيد كل منهم جزءا من التخصص فلا يترك فيه شاردة ولا واردة ويقوم بإجابة داعي بعض الأولويات الملحة، ليتم لنا في النهاية فريق عمل متكامل نستطيع أن ندفع به إلى الميدان ونحن مطمئنون إلى النتائج.
والله من وراء القصد
ولندلف الآن إلى أهم العناصر التي ستتناولها ورقتنا العلمية اليوم وهي على الترتيب:
البحث العلمي – المفهوم والغاية
أركان البحث العلمي وهي ثلاثة :
1- الموضوع وأولويات البحث العلمي فيما ينبغي تناوله من الموضوعات.
2- المنهج العلمي
3- الهدف والغاية
وهذا هو التفصيل:

البحث العلمي – المفهوم والغاية
هنالك تعريفات عديدة للبحث العلمي يقترب بعضها من بعض، لأن هنالك قدرا مشتركا دائما بينها
فجميعها يتفق على أن البحث العلمي هو عملية علمية منظمة يتم من خلالها استقصاء جميع الشواهد والأدلة للوصول إلى حقيقة من الحقائق.
ولذلك يمكن تعريف البحث العلمي بأنه:
الدراسة العلمية المنظمة المستقصية لظاهرة معينة باستخدام المنهج العلمي للوصول إلى حقائق يمكن التحقق من صحتها.
ومعنى هذا أن هذه الحقائق وهي -غاية البحث العلمي- ليست مطلقة، بل هي نسبية، أي قابلة للاختلاف حولها وتعدد وجهات النظر حول قبولها أو رفضها علميا.
ومعنى هذا أن الحقائق المطلقة ليست من صميم البحث العلمي، لأنها لوضوحها لا تحتاج إلى نظر واستدلال.
فمثلا، هل تحتاج الشمس إلى عملية بحث واستقصاء لإثبات وجودها؟
بالطبع، لا لأن وجودها في الواقع هو دليل هذا الوجود، ومن ثم لا يستطيع أحد إنكارها.
فقد يثير نوعا من الفكاهة المصحوبة باستغراب وتعجب لو أنك سمعت عن باحث أضناه بحثه الذي يصل فيه ليله بنهاره ليثبت وجود الشمس.
لكن أحيانا تكون الحقيقة المطلقة مما لا تهتدي إلى معرفتها كل العقول، ولا تستجليها كل الأبصار، فيحتاج عندئذ إلى البحث العلمي للكشف عنها لمن لم يدركوها، وبيانها لمن عموا عنها.
وذلك مثل قضايا الإيمان وأولها الإيمان بالله.
فرغم أن وجود الخالق حقيقة مطلقة، لا تقبل الاختلاف، لكن الكفر به سبحانه – والعياذ بالله – حاصل على مر التاريخ.
فعندئذ يجد البحث العلمي له مجالا في الكشف عن هذه الحقيقة المطلقة التي لم تدركها عقول لم يشأ الله عز وجل لها الهداية بعد.
بل إن البحث العلمي عندئذ يصبح مطلبا دينيا، بل واجبا يجب أن يقوم به علماء المسلمين.
وقد يقال مثلا، هذا أمر قد تجاوزناه فنحن مؤمنون، فهل نعود إلى الوراء لإثبات أصل الإيمان؟
فنقول مجيبين: سوف تظل هذه القضية قائمة طالما وجد في الكون كفر بالله، فالمؤمن مطالب بالبرهنة على إيمانه ردا على دعاوى الكافرين والملحدين، ودعوة في الوقت ذاته لنبذ الكفر والإلحاد.
فإن قيل: إن علماءنا الأقدمين قد كتبوا في هذا كثيرا، فلم إعادة البحث فيه ؟
والجواب: إن لكل عصر أدواته ووسائله في الإقناع، لأن الكفر وإن كان واحدا ، إلا أن الدوافع إليه متجددة، هنا يجب أن يتحرك البحث العلمي في الدراسات العقدية مثلا ليواكب هذا التجدد، وبغير ذلك ستلحقنا لائمة التقصير والخنوع.
وعلى هذا فمن غير المقبول أن تناقش -بمنطق مناقشة عباد الأوثان- الإلحاد المعتمد على نظرية التطور والانتقاء الطبيعي، وهي نظرية داروين التي تعتبر أصل الإلحاد المعاصر.
ولا زالت قناعات كثير من الملحدين تعتبر هذه النظرية أساسا لإلحادهم، ففي العام 1986 نشر عالم البيولوجيا التطورية البريطاني ريتشارد دوكنز كتابه "صانع الساعات الأعمى"
يرح دوكنز من خلال هذا الكتاب حججا ضد وجود الله.معتمدا في ذلك على نظرية التطور.
لكن لماذا أسمى كتابه "صانع الساعات الأعمى" وماذا يعني هذا العنوان؟
نقولوسوعة ويكيبيديا: عنوان الكتاب مستوحى من المماثلة التي طرحها ويليام بالي في كتابه "الإلهيات الطبيعية" المنشور عام 1802، والتي قصد بها إثبات وجود الله فقال:
إن كل نظام معقّد لا بد له من مصمم قام بإيجاده تماما مثل أن كل ساعة -بكل ما تحويه من تراكيب معقدة- لا بد لها من صانع ساعات قام بتصميمها.
دوكنز يرد على هذه المماثلة بالقول بأن عملية الانتقاء الطبيعي يمكن مماثلتها بصانع ساعات "أعمى" أ.هـ
ونتساءل، كيف يمكن أن يتناول البحث العقدي هذه الظاهرة الإلحادية المعاصرة التي تتنامى، وبدأت تدخل بلادنا الإسلامية العربية عبر أناس تبنوا مثل هذه النظرية، وهذه مسؤولية كبرى ملقاة على أكاديميي الدراسات العقدية والمذاهب المعاصرة من خلال تطوير برامج التعليم من جهة، وتقوية ملكة الجدل والحوار العلمي من جهة أخرى.
أعود وأقول:
إننا إذا وصلنا من خلال البحث العلمي إلى إثبات أصل الإيمان لغير المؤمنين، سهل عليهم بعد ذلك تلقي وقبول مستلزمات الإيمان.
وهذا أمر تنبه إليه علماء المسلمين ونبهوا عليه.
وأنقل لكم هنا كلاما نفيسا جدا لأبي حامد الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين" نصه:
[في دقائق سنن الشرع وآدابه، وفي عقائده التي تعبد الناس بها أسرار ولطائف ليست في سعة العقل وقوته الإحاطة بها، كما أن في خواص الأحجار أموراً عجائب غاب عن أهل الصنعة علمها حتى لم يقدر أحد على أن يعرف السبب الذي به يجذب المغناطيس الحديد؛ فالعجائب والغرائب في العقائد والأعمال، وإفادتها لصفاء القلوب ونقائها وطهارتها وتزكيتها وإصلاحها، أكثر وأعظم مما في الأدوية والعقاقير..... فيكفيك من منفعة العقل أن يهديك إلى صدق النبي صلى الله عليه وسلم، ويفهمك موارد إشاراته، فاعزل العقل بعد ذلك عن التصرف ولازم الاتباع فلا تسلم إلا به ]
أركان البحث العلمي:
من خلال التعريف الذي اعتمدناه للبحث العلمي وهو أنه يعني:
الدراسة العلمية المنظمة المستقصية لظاهرة معينة باستخدام المنهج العلمي للوصول إلى حقائق يمكن التحقق من صحتها.
يتبين لنا أن أركان البحث العلمي الأصول هي ثلاثة:
1- الموضوع
2- المنهج
3- الهدف أو الغاية
أولا- الموضوع
يعتمد اختيار موضوع البحث، على بروز ظاهرة، أو مشكلة معينة، تدور حول قضية من القضايا التي تشغل حيزا في تخصص الباحث، بحيث تتحدى تفكير الباحث وتقفز إلى ذهنه لتدفعه إلى محاولة الكشف عن جوانبها الغامضة.
إذا تصورنا هذا، فالبحث العلمي هو الوسيلة التي يمكن بواسطتها الوصول إلى معالجة هذه الظاهرة أو حل هذه المشكلة, أو اقتحام قضية البحث هذه، وذلك عن طريق الاستقصاء الشامل و الدقيق لجميع الشواهد و الأدلة التي يمكن التحقق منها.
وفي تخصصاتنا الشرعية، كيف يمكن تحديد المعايير التي على أساسها يتجه الباحث إلى اختيار موضوعه ؟
والجواب عن هذا السؤال سيجرنا إلى محاولة الكشف عن أولويات البحث العلمي في الدراسات الشرعية.
وهو ما سنتناوله الآن:
أولويات البحث العلمي في الدراسات الشرعية
تحديد الأولويات في الشريعة قائم على قاعدة المصالح والمفاسد:
إن تحديد نظام الأولويات في الشريعة قائم على قاعدة المصالح والمفاسد وهي قاعدة قرآنية معتبرة قوامها دفع الشر والضر وجلب الخير والنفع وهو ما يغلب التعبير عنه في القرآن الكريم بالسيئة والحسنة يقول العز بن عبد السلام في كتابه قواعد الأحكام في مصالح الأنام: وَقَدْ غَلَبَ فِي الْقُرْآنِ اسْتِعْمَالُ الْحَسَنَاتِ فِي الْمَصَالِحِ ، وَالسَّيِّئَاتِ فِي الْمَفَاسِدِ، لِأَنَّ الْمَصَالِحَ كُلَّهَا خُيُورٌ نَافِعَاتٌ حَسَنَاتٌ ، وَالْمَفَاسِدَ بِأَسْرِهَا شُرُورٌ مُضِرَّاتٌ سَيِّئَاتٌ أ.هـ
ويلفتنا القرآن الكريم إلى مراعاة الأولويات لئلا يتقدم ما حقه التأخير ولا يتأخر ما حقه التقديم قال تعالى: { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون }وقال سبحانه: { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر لا يستوون عند الله }
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم حريصين كل الحرص على أن يعرفوا الأَوْلى من الأعمال،
ليتقرَّبوا إلى الله تعالى به، ولهذا كثرت أسئلتهم عن أفضل العمل، وعن أحب الأعمال إلى الله تعالى
ولذا كثر في الأحاديث: أفضل الأعمال كذا، أو أحب الأعمال إلى الله كذا وكذا.
أقول: وحتى بعد تحديد البعد العام من حيث المصلحة والمفسدة يبقى كل نوع منهما خاضعا أيضا لنظام لأولويات
فإذا كان درء المفسدة – طبقا لنظام الأولويات- مقدما على جلب المصلحة فإن دفع الأفسد مقدم على دفع الفاسد وجلب الأصلح مقدم على جلب الصالح
وعلى هذا فقد يتسامح في ارتكاب أخف الضررين إذا كانت الغاية دفع أقسى المصيبتين وهذا في جانب المفسدة
وفي جانب المصلحة عندما تتزاحم المصالح فإن أولاها هو الذي يقدم
وقد ينظر إلى القاعدة نظرة أشمل ليقال عنها: قاعدة المصالح فقط ليعود إليها درء المفاسد فلا شك أن درءها مصلحة بالغة.
وهنا سأضرب مثالا بنوعين من الأولويات
الأولى: درء الشبهات:
"إن درء الشبهات يفرض نفسه كأولوية أولى محققة لقاعدة وجوب درء المفاسد الذي هو بدوره مُقدَّم –عند التعارض- على جلب المصالح"
قال صاحب كتاب التقرير والتحبير في أصول الفقه:
وَاعْتِنَاءُ الشَّرْعِ بِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ آكَدُ مِنْ اعْتِنَائِهِ بِجَلْبِ الْمَصَالِحِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجِبُ دَفْعُ كُلِّ مَفْسَدَةٍ وَلَا يَجِبُ جَلْبُ كُلِّ مَصْلَحَةٍ. أهـ

* وعليه فإنه لابد من تجريد فريق يفرغ لهذه المَهَمة ليكون بمثابة الدروع الواقية التي تصد الهجمات الموجهة لأصول هذا الدين وفروعه
* لكن هنا إشكالية وجدت لها مكانا في فكر بعض الأفاضل سنعمل على دفعها وتوجيهها بإذن الله وذلك أن هنالك من يعتقد أن الانشغال بدفع الشبه مضيعة للوقت وهذا في رأيي من تلبيس إبليس.
إن دفع الشبه عن الإسلام قرآنا وسنة، عقيدة وشريعة بات فرضا لا يمكن التفريط فيه ويأثم العلماء بتركه فهو ميدان جهادهم، ومَنْ لهذا إن هم قصروا ؟
وإن الباعث على تبني هذه الفكرة من قبل البعض – فيما أرى- هو شُبَه تسربت إلى نفوسهم زينت لهم أن ترك الرد عليها أوْلى ولهم في ذلك - لا أقول حجج - بل شبه تحتاج إلى رد.
فمن قائل: الأوْلى أن ندع الشبهة تموت بدلا من الرد عليها لكن الواقع أن الشبه لا تموت بل يتوفر لها دائما من يعمل على إحيائها وبعثها من جديد
ومن قائل: نخشى بعرض الشبه أن يتشربها من لا يعرفها وهذه – والله - أعظم من سالفتها فإن هذه الخشية إن جاز تصورها في حال من يعذرون كالعوام وأنصاف المثقفين فلا يمكن تصورها في حال أهل القرآن والعلم به .كيف وهم المنوط بهم الدفاع عن الإسلام ؟
وأين هم – أعني علماء المسلمين- عندئذ من قول الله عز وجل في القرآن {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ }الحجرات15
وفاقد الشيء لا يعطيه فإذا خشينا على علماء المسلمين الارتياب فماذا بقي لغيرهم ؟ !!!
وإذا لم يتصد هؤلاء للدفاع عن القرآن فمن لذلك ؟
إن هذا العلم في نظري الآن هو من أولى الأولويات ومن فرائض العصر بعد انتشار وسائل المعلومات وتعددها مع استحالة السيطرة عليها خصوصا شبكة الإنترنيت كل هذا يفرض علينا نوعا من اليقظة نحو هذا الخطر الداهم الذي يدخل علينا بيوتنا ويقتحم غرف أبنائنا وأخشى بالتغافل عن هذا أن نكون جاحدين حق القرآن علينا من حيث نظن أننا نحسن صنعا
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "َكُلُّ مَنْ لَمْ يُنَاظِرْ أَهْلَ الْإِلْحَادِ وَالْبِدَعِ مُنَاظَرَةً تَقْطَعُ دَابِرَهُمْ لَمْ يَكُنْ أَعْطَى الْإِسْلَامَ حَقَّهُ وَلَا وَفّى بِمُوجِبِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَلَا حَصَلَ بِكَلَامِهِ شِفَاءُ الصُّدُورِ وَطُمَأْنِينَةُ النُّفُوسِ وَلَا أَفَادَ كَلَامُهُ الْعِلْمَ وَالْيَقِينَ "
الأولوية الثانية: فلسفة تشريعات الكتاب والسنة:
كلنا نؤمن بكمال تشريع الله سبحانه في كتابه ثم في بيان هذا الكتاب وهي السنة المطهرة، وهذا الإيمان يفرض علينا أن نصدر هذا التشريع الكامل إلى العالم أجمع، فنحن لسنا مسؤولين فقط عن أنفسنا، ولكننا مطالبون بتتميم مهمة سلفنا الصالح في نشر دين الله وتبليغه كما طرحه القرآن وصاغته السنة تطبيقا عمليا.
إشكالية سوء فهم تشريعات القرآن:
إن قوام هذه الإشكالية في نظري مرجعه إلى عاملين ثانيهما أشد خطر وأبلغ ضررا من أولهما:
الأول- فريق من غير المسلمين عمدوا إلى تشويه صورة الإسلام من خلال مهاجمة تشريعات القرآن في قضايا مهمة أهمها قضايا المرأة ، وحرية العقيدة ، وادعاء أن الإسلام لا يمتلك نظاما كاملا شاملا لكل مناحي الحياة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.....
وهذا الفريق يتولى كبره نفر من المستشرقين الحاقدين وبعض أبواقهم في عالمنا العربي.
لكن هذا الفريق ضرره محدود وخطره ضيق، لأنه مكشوف أمره بادٍ عواره فهو لذلك يفقد ثقة الناس به.
الثاني- فريق من المسلمين لا يحسن عرض تشريعات القرآن، إنه يعنى اعتناء كبيرا بجانب الأحكام، ويغفل عن أن يرغب الناس في امتثالها بحسن عرضها، فهؤلاء قد يسيئون من حيث يظنون أنهم يحسنون.
ويذكرنا هذا بقول بعض الفضلاء: الإسلام قضية عادلة تصدى للدفاع عنها محامون فاشلون.
إن جزءا كبيرا من مشكلة المسلمين مع غيرهم الآن تكمن في عدم نجاحهم بتصدير تشريعات القرآن كما أنزلها الله وكما تولاها رسوله الكريم علما وعملا، سلوكا وتبليغا.
وفي رأيي لو أننا انتبهنا إلى أبعاد خطورة هذا الأمر، لوجدنا أنفسنا منساقين خلف بحوث جديدة تهدف إلى عرض التشريع الإسلامي في ثوب جديد تقتفى فيه مقاصد القرآن وغاياته، ويشدد فيه على الثوابت بلا تهاون في ذلك، لكن مع بصيرة وحكمة في عرضها كما هو دأب النبيين والمرسلين { قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (يوسف:107)
ولا يتأتى القيام بذلك إلا لعلماء فاهمين مقاصد القرآن في تشريعاته، واعين لأبعاد ما يقولون أو يسطرون، يهتمون بطرح التشريع القرآني عاليا في سموه شامخا في عليائه – كما هو كذلك –
ومما يساعد على فاعلية القيام بهذا فقه الواقع وتبصر النوازل فمثلا الآن أحدث ما يعاني العالم منه مشكلتان رئيستان ، هما:
الأولى- الأزمة المالية العالمية وهي مشكلة اقتصادية بلغت في تأثيرها أن عانت منها كل دول العالم
والثانية- مشكلة صحية وهي ظاهرة انفلونزا الخنازير.
فهل استغل المنظرون المسلمون هاتين القضيتين في تبصر منهج القرآن في علاجهما؟
إن للقرآن الكريم منهجا راسخا في علاج مثل هذه الظواهر يمر بمرحلتين:
إحداهما وقائية والأخرى علاجية
واستقراء هاتين المرحلتين يحتاج إلى بحوث متخصصة في الاقتصاد الإسلامي الذي يستأهل – لإمكاناته - أن ينهض علما قائما بذاته يضاف إلى منظومة علوم القرآن ليسمى "علم اقتصاد القرآن"
ومثل هذا قل أيضا في اعتناء القرآن بنفي وقوع الضرر بالمجتمع وأفراده وهي القاعدة التي تنطلق منها قاعدة التحريم في القرآن ويدخل فيها تحريم أكل لحم الخنزير، وهاهو الواقع يشهد بصدق التشريع القرآني، وأنه وحده الذي يكفل الأمان للناس.
إن هذين مثالان فقط ولو غاص الباحثون في بحار القرآن لأخرجوا لنا دررا من تشريعاته تضمن لوحدها سعادة البشر.
وإننا لنمتلك على ذلك الأدلة الكثيرة لكننا لا نهدف من خلال تلك الورقة إلى الاستقصاء ولكنها أنفاس تحشرجت في الصدر أبثها للباحثين لتستحيل على أيديهم نسمات عاطرة يفيح بها الكون عطرا وأريجا.
ثانيا- المنهج العلمي
المنهج هو الطريقة التي يعتمدها الباحث للوصول إلى هدفه المنشود.
ومن ثم يصبح استخدام المناهج العلمية في البحث ضرورة وليست ترفا علميا وذلك عن طريق إتباع خطوات المنهج العلمي الذي يعتمده لدراسته بما يتفق وطبيعة هذه الدراسة وفي الدراسات النظرية أو الإنسانية التي ترتك في الأساس على الموازنات والمقارنات والتحليل يحتاج الباحث إلى أن يسلك المناهج الاستقرائية والتحليلية والمقارنة.
وغير خفي أن البحث النظري قد تختلف فيه النتئج من باحث لآخر وهو قابل لهذا، لأن الإمكانات الذاتية عند كل باحث لها دورها في القدرة على التناول والتحليل والاستنباط والاستنتاج.
ومرجع هذا كله إلى التراكم المعرفي لدى الباحث.
والالتزام بالمنهجية العلمية يساعد الباحث على الابتعاد عن الشخصنة أو التعصب ، ويمكنه من تناول بحثه بحياد وموضوعية.
وما قلناه بالطبع يختلف اختلافا كبيرا في الدراسات التجريبية، لأنه في الدراسات التجريبية يترتب على استخدام المنهج العلمي فيها أن نتائج البحث تكون قابلة للاختيار والتحقق، بحيث إذا ما اختار باحث آخر نفس المشكلة، واتبع نفس الخطوات، واستخدم نفس المناهج والأدوات التي استخدمت في البحث أمكنه أن يحصل على نفس النتائج.
ثالثا- الهدف أو الغاية
ومن الضروري أن يتجه البحث إلى تحقيق أهداف عامة غير شخصية. صحيح أن كل بحث يبدأ بشعور الباحث بمشكلة معينة، غير أن من الضروري أن تكون المشكلة ذات قيمة علمية، أو دلالة اجتماعية عامة.
وفي دراساتنا الشرعية يكون الهدف هو الوصول إلى ما يحقق مراد الشارع فينا بقدر الطاقة البشرية.
وذلك من خلال فهم مقاصد الشريعة وتوخي غاياتها