إن قضية التحرر و الحرية من أساسيات حياة الإنسان، لا يعارضها دين و لا يرفضها منطق،إلا أن أيّ حديث عن حضور الحرية في الفكر الحداثي يصير من جملة أضغاث أحلام،إذ لا وجود للحرية خارج نطاق و حدود "التعددية الفكرية" و الإيمان بهذه الأخيرة يقود تلقائيا إلى احترام الآخر و رفض الإنغلاق الفكري و التقوقع الإيديولوجي على الذات،بينما عند الحداثيين نجد في مقابل إعجاهم و انبهارهم بالغرب،شحذ سكاكين النقد اللاذع الهدام لمجتمعاتنا الإسلامية و و صف كل من يرى في التشريع الإسلامي مرجعيته بالرتابة و الجمود و الركود و رشقه بتهمة الأصولية التي صارت تحمل بين طياتها معاني الإرهاب و العنف في الخطاب الغربي،فالتقطها المستلبون من غير أدنى تمحيص أو انتقاد رغم أن المصطلح في تراثنا يحمل معنى إيجابي و هو مما يحمد و لا ينكر،إذ هذا الأخير يعني العودة الى الأصول أو اعتماد الأصول في الاجتهاد و الفقه،إن الحداثيين إن لم يعترفوا بحق أوساط واسعة من الأمة بأن تحمل المرجعيات الإسلامية و تشكل على أساسها تيارات و اتجاهات و حركات و جمعيات فهي بالضرورة في خانة التعصب و القمع و الإرهاب الفكري.
و إذا علم موقف الحداثيين من تراثنا و ماضينا و حضارة أجدادنا،تبين أنهم أبعد الناس عن رفع لافتات تنادي بالدفاع عن الحريات،فكيف يمكن تفسير إجهاض و وأد الحداثيين لقيمهم عندما يتعلق الأمر بحرية "الآخر"؟ فيحل الإنغلاق محل الإنفتاح، و التقوقع على الذات و التمركز عليها محل التعددية الفكرية، و الخطاب العنيف الشديد اللهجة محل المجادلة بالتي هي أحسن،و تسلق الأصولية بألسنة حداد.فمادامت الحرية في التعبير و التفكير تغتال في المنظومة الحداثية،فأي حرية يدعو إليها الحداثيون العرب؟
إن قراءة سريعة و إطلالة عابرة على كتابات الحداثيين كفيلة بأن ترسم لنا نظرة متكاملة عن طبيعة الحرية التي ينادي بها الحداثيون،و تستشف أن هذه الحرية ليست سوى "جوازات سفر" للانفلات و التسيب و الإتيان على المنظومة الأخلاقية من أساسها و محاربة القيم السامية،و تبرير أي سلوك منحرف كالشذوذ و الدفاع عن حق الشواذ في ممارسة "حقهم الطبيعي" و كأن أحدا ما صادر فعلهم هذا ــ مع شناعته ــ و راح يترصدهم،بل إنما رفضنا منصب على التطبيع مع الشذوذ و إعلان ذلك جهارا نهارا و تأسيس جمعيات لهذا الشان و ما يرافق ذلك من ضجيج و صخب إعلامي.
و حتى لا نقع في و حل و مستنقع السلبية لا بد من إبداء موقف الإسلام من الحرية،فمن المعلوم أن الإسلام كان سباقا للدعوة إلى حرية الاعتقاد،ف "لا إكراه في دين" مبدأ أساسي حيث لا يجبر أحد على اعتناق ديننا،و كذلك حرية التعبير و الكلام فلا تعسف في الإسلام و لا نص يدعو لتكميم الأفواه و الاستبداد بالرأي الواحد و مصادرة الأقاويل المغايرة،كما أنه ليس لأحد أن يتكلم و الآخر يصغي و يتبع فالعصمة ليست لأحد غير النبي صلى الله عليه و سلم بل إن أئمتنا علمونا بأن الكل يؤخذ من قوله و يرد،كما أن الإسلام يحفظ حرية التملك و عدم نزع أحد ممتلكاته ..
في المقابل قنن الإسلام الحرية و وضع لها ضوابط ،فالمسؤولية و الحرية صنوان في الإسلام،فإذا كانت الحرية من أعظم القيم و لها مكانة خاصة في الإسلام إلا أنها مقرونة بالمسؤولية،قال تبارك و تعالى : "فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر إن اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها"،فالآية واضحة في حرية اختيار الإنسان لمعتقده و تخييره بين الإيمان و الكفران،لكن على الكافر تحمل مسؤولية كفره و جحوده مع ظهور الآيات البينات على صدق النبوات و الرسالات.
كما أن حرية الإنسان لا بد أن تتوقف عند حرية الآخر،فمادام الإنسان اجتماعي بطبعه كما يقول العلامة عبد الرحمان ابن خلدون و لا يعيش لوحده و لا هو بقادر على ذلك،فلا بد أن تنتهي صلاحيات حريته عند بداية حرية الآخر و إلا فإن الحرية المطلقة قد تكون قناة للاعتداء على الآخر،فضبط الحرية ضرورة حتمية و إلا ارتكبت خروقات باسمها،و كما قالت "مدام رولاند الفرنسية" لما رأت ما أقدمت عليه الثورة الفرنسية من انتهاكات باسم الحرية : "أيتها الحرية كم من الجرائم قد اقترفت باسمك"
إن الحرية إذن هي : "الملكة الخاصة التي تميز الكائن الناطق عن غيره،و تمنحه السلطة في التصرف و الأفعال عن إرادة و روية و رضى،دون إجبار أو إكراه أو قسر خارجي،و ذلك بإعمال العقل و التفكير في الأساليب و النتائج و الوسائل و الغايات"
Bookmarks