النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: مقدمة تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي

  1. #1

    Question مقدمة تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي

    مقدّمة عامة في الأناجيل الأربعة

    1. كلمة "إنجيل"

    لكي نتعرّف عن السبب الذي لأجله دعت الكنيسة الأسفار الأربعة الأولى من العهد الجديد بالأناجيل المقدّسة، يليق بنا أن نعرف ماذا تعني كلمة "الإنجيل" في ذهن الكنيسة الأولى.

    كلمة "إنجيل" مشتقّة عن الكلمة اليونانيّة "إيفانجيليون"، والتي حملت في الأصل معانٍ كثيرة، منها:

    أ. من الناحية اللّغويّة تعني المكافأة التي تقدّم لرسول من أجل رسالته السارّة، ثم صارت تطلق على الأخبار السارّة عينها. كما جاء في 2 صم4: 10 (الترجمة السبعينيّة) "إن الذي أخبرني قائلاً هوذا قد مات شاول وكان في عينيّ نفسه كمن يقدّم لي أخبارًا سارّة (إنجيلا)"، وجاءت في 1 صم31: 9 (الترجمة السبعينيّة) عن أخبار النصر المفرحة، وفي إر 20: 15 (الترجمة السبعينيّة) عن ميلاد طفل.

    ب. استخدمت أيضًا في صيغة الجمع لتعني تقدمة شكر للآلهة من أجل الأخبار السارّة.

    ج. استخدمت عن يوم ميلاد الإمبراطور الروماني أوغسطس كبدء أخبار سارّة للعالم.

    د. استخدمت في سفر إشعياء في الترجمة السبعينيّة عن الأخبار السارّة الخاصة بمجيء الممسوح من قبل الله لخلاص شعبه: "على جبل عال اصعدي يا مبشرّة (مقدّمة الإنجيل) لصهيون" (إش 40: 9)؛ "ما أجمل على الجبال قدميّ المبشّر المخبر بالسلام (المخبر بإنجيل السلام)، المبشّر بالخير، المخبر بالخلاص، القائل لصهيون قد ملك إلهك" (إش52: 7).

    هـ. أمّا في العهد الجديد فقد احتلّت الكلمة مركزًا أساسيًا بكونها تعبّر عن الرسالة المسيحيّة في مجملها (مر1: 1؛ 1كو15: 1)، فإن الملكوت الذي أعلنه السيّد المسيح هو "بشارة الملكوت أو إنجيل الملكوت" (مت4: 23؛ 9: 35؛ 24: 14). وقد تكرّرت هذه الكلمة 72 مرّة في العهد الجديد، منها 54 مرّة في رسائل بولس الرسول، لتعبّر عن أخبار الخلاص المفرحة التي قدّمها لنا الله في ابنه يسوع المسيح ليدخل بنا إلى حصن أبيه بروحه القدّوس.

    ارتبطت كلمة "إنجيل" ببعض الأسماء أو الكلمات مثل:

    أولاً: إنجيل الله (مر1: 14-15؛ 1تس2: 2، 8-9)، فإنه البشارة التي تُعلن طبيعة الله كمحب للبشر، مقدّمة منه لأجل خلاصنا. لقد تصور بعض الغنوسيّين أن الله غضوب ومؤدب قاسِ أمّا المسيح فهو محب ومفرح، لهذا أراد الكتاب المقدّس تأكيد البشارة المفرحة أنها بشارة الآب معلنة في ابنه. ولهذا السبب عينه كان السيّد المسيح يؤكّد أنه جاء يتمّم مشيئة الآب.

    ثانيًا: إنجيل يسوع المسيح (مر1: 1؛ 2كو4: 4؛ 9: 13؛ 10: 14). إن كان الابن قد جاء ليُعلن محبّة الآب لنا، فهو يحمل ذات الحب؛ إنجيل الآب هو إنجيل الابن، يدخل بنا إلى الاتّحاد مع الله في ابنه.

    ثالثًا: أحيانًا يستخدم الرسول بولس التعبير "إنجيلي" أو "إنجيلنا" (2كو4: 3؛ 1تس1: 5؛ 2تس2: 14). غاية الإنجيل هو الإنسان، إذ يريد الله أن ننعم به ونعيشه، فإن كان هو هبة إلهيّة لكنّه مقدّم للإنسان ليقبله ويؤمن به (مر1: 15)، ويعلنه للآخرين (رو15: 19؛ 1كو9: 14، 18؛ 2كو10: 14؛ 11: 7؛ غل2: 2) ويخدمه (رو1: 1؛ 15: 16؛ في1: 12؛ 2: 22؛ 4: 3؛ 1تس3: 2)، وندافع عنه (في1: 7، 17) بحياتنا الداخليّة وكلماتنا وسلوكنا العملي فلا نكون عائقين له (1كو9: 12) بهذا يحمل الإنجيل ليس حبًا منفردًا من الله نحو الإنسان، وإنما حبًا مشتركًا بين الله والإنسان، فيه لا يقف الإنسان سلبيًا أو جامدًا، بل إيجابيًا ومتحرّكًا بغير انقطاع ليصير على مثال خالقه.

    رابعًا: إنجيل جميع الناس (مر13: 10؛ 16: 15؛ أع15: 7)، فلا تقف حدوده عند اليهود، بل يضمّ كل لسان وجنس وأمة، ليتعرّف الكل على الله، ويتمتّعون بالاتّحاد معه، وينعمون بحقِّه في الميراث الأبدي.

    بهذا نفهم الإنجيل ليس كتابًا نقرأه أو فلسفة نعتنقها، لكنّه حب إلهي فعّال يقدّمه الآب في ابنه يسوع المسيح ربّنا لينطلق بالنفس البشريّة إلى حضن الآب تنعم به معلنة حبّها له وإيمانها به، وهي في هذا تنطلق للكرازة به والشهادة له أمام الجميع بلا عائق.

    أخيرًا فقد قدّم لنا الرسول بولس صفات ربطها بالإنجيل، تكشف لنا عن فاعليّته في حياتنا. دعاه "إنجيل خلاصنا" (أف1: 13) حيث ننعم بغفران خطايانا ونتبرّر من سلطانها لنحيا بروح النصرة والغلبة. و"إنجيل السلام" (أف6: 15) حيث يدخل بنا إلى السلام الداخلي بين النفس والجسد خلال مصالحتنا مع الله والناس فيه. كما قال "نوال موعده في المسيح بالإنجيل" (أف3: 6)، ففيه تتحقّق مواعيد الله لنا في ابنه. وفي اختصار، بالإنجيل نلتقي بالسيّد المسيح القائم من الأموات الذي يهبنا الرجاء والخلود والميراث ويمتّعنا لا بعطايا إلهيّة فحسب بل بالله ذاته!

    يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على تفسير كلمة "إنجيل" كأخبار مفرحة بقوله:

    [نعم، لأنه عفو عن العقوبة، وغفران للخطايا، وتبرير وتقدّيس وخلاص (1كو1: 30)، وتبنّي، وميراث السماوات، ودخول في علاقة مع ابن الله الذي جاء ليُعلن (ذلك) للكل: للأعداء والصالبين وللجالسين في الظلمة.

    أي شيء يعادل مثل هذه الأخبار المفرحة؟! فقد صار الله على الأرض، وصار الإنسان في السماء، واختلط الكل معًا.

    اختلطت الملائكة مع صفوف البشر، وصار البشر في صحبة الملائكة والقوات العلويّة الأخرى.

    هوذا الإنسان يرى الحرب الطويلة قد انتهت، وتحقّقت المصالحة بين الله وطبيعتنا. صار إبليس في خزي، وهربت الشيّاطين، وباد الموت، وانفتح الفردوس، وزالت اللعنة، ونُزعت الخطيّة من الطريق.

    زال الخطأ وعاد الحق وبُذرت كلمة التقوى في الموضع وترعرعت، وأقيم نظام السمائيّين (العلويّين) على الأرض، ودخلت هذه القوات معنا في معاملات آمنة، وصارت الملائكة تردّد على الأرض باستمرار، وفاض الرجاء في الأمور العتيدة بغزارة.]

    2. أهمّية الأناجيل

    إن كانت الكنيسة قد عاشت أكثر من عشرين عامًا بعد حلول الروح القدس يوم البنطقستي بلا إنجيل مكتوب لكنها عاشت الإنجيل ومارسته كحياة فائقة في المسيح يسوع، فلماذا لم تبقَ الكنيسة عبر العصور تعيش إنجيلها المُسلّم شفاهًا؟! هل من ضرورة للإنجيل المكتوب؟

    أ. يقول D. Guthrie أن التقليد الشفوي كان له أهميته الخاصة في الكنيسة وبّخاصة في الشرّق، وقد جاء الإنجيل المكتوب لا ليحتل مكان التقليد، إنّما ليكمّله ويؤكّده. فالإنجيل يحفظ التقليد بلا انحراف، والتقليد يفرز الأناجيل القانونيّة ويحفظها بلا تحريف ويكشف عن مفاهيمها. فلا تعرف الكنيسة الثنائية، إنّما تعرف إنجيلاً واحدًا سواء سُلّم إليها بالتقليد الشفوي أولاً بالكتابة، تعيشه في أفكارها وعبادتها وسلوكها كحياة معاشة. بهذا تلقفت الكنيسة الإنجيل ليؤكّد حياتها الإنجيليّة المسلّمة إليها والمعاشة.

    ب. للأناجيل أهميتها، خاصة بين أسفار الكتاب المقدّس كله، لأنها قدّمت لنا حياة السيّد المسيح على الأرض، هذا الذي هو مشتهى الأمم، مخلّص الكنيسة وعريسها، وموضوع لهجها ليلاً ونهارًا. لكن ما نوَد تأكيده أن الأناجيل ليست سجّلاً تاريخيًا يعرض حياة biography السيّد المسيح، إنّما قدّم ما هو أعمق من التاريخ، قدّم لنا "شخص المسيح" لنقبله فينا ونحيا به ومعه، نشاركه آلامه وأمجاده؛ لهذا ركزت الأناجيل على فترة وجيزة من حياته واحتلت أحداث الأسبوع الأخير من دخوله إلى أورشليم حتى قيامته حوالي ثلث إنجيل مار مرقس وأقل من الثلث بقليل في بقيّة الأناجيل.

    ج. إذ كان المسيحيّون في القرنين الأول والثاني يترقّبون المجيء الأخير للسيّد المسيح، تلقّفوا الأناجيل بشوق شديد بكونها الطريق الممهّد لباروسيّا الرب أو مجيئه الأخير.

    د. من جهة الكرازة بين اليهود والأمم، كان الكارزون غالبًا ما يعتمدون على التعليم شفاهًا، لكن ما أن كان يُظهر الموعوظ رغبته في الإيمان ويبدأ يتساءل عن شخص السيّد المسيح، إلاّ وكانت الأناجيل (وهي وثائق رسوليّة أصليّة) تجيب على سؤالهم هذا. كأن الأناجيل جاءت كشهادة حق تستخدمها الكنيسة في الكرازة والتعليم خاصة بين الموعوظين.

    يرى D. Guthrie أن الأناجيل لم تقف عند الدور الكرازي والتعليمي، وإنما جاءت لتقوم بدور رئيسي في حياة الكنيسة التعبّديّة. إذ كانت الكنيسة تجتمع للعبادة استخدمت أجزاء من العهد القديم للقراءة والتسبيح، خاصة الفصول التي تتحدّث عن السيّد المسيح، لكن المؤمنين كانوا في حاجة إلى وثائق رسوليّة تتحدّث عن حياة السيّد المسيح وتعاليمه ومعجزاته وموته وقيامته، تُعلن تحقيق ما ورد في العهد القديم، تدخل في العبادة المسيحيّة كعنصر أساسي فيها.

    بهذا تكون الأناجيل قد تلقفتها الكنيسة الأولى بفرحٍ شديدٍ، وتمسّكت بها، بكونها تؤكّد الإنجيل المسلّم إليها شفاهًا، وبكونها المصدر الرسولي للكشف عن حياة السيّد وأعماله الخلاصيّة، تهيئهم لمجيئه الأخير، تسندهم في الشهادة له بين الموعوظين وتقوم بدور رئيسي في عبادتهم الليتورجيّة.

    3. الأناجيل في الكنيسة الأولى

    قبلت الكنيسة الأولى الأناجيل المقدّسة منذ البداية كأسفار قانونيّة مكمّلة لأسفار العهد القديم مع بقيّة أسفار العهد الجديد، وعلى نفس المستوى، بكونها جزءً لا يتجزأ من الكتاب المقدّس.

    ففي القرن الثاني يُعلن القدّيس إيريناؤس على وجود أربعة أناجيل رابطًا إيّاها بأربعة جهات المسكونة، والأربعة رياح الرئيسيّة، والأربعة وجوه للكاروبيم، قائلاً:

    [لم يكن ممكنًا أن تكون الأناجيل أكثر أو أقل ممّا هي عليه في العدد. فإنه إذ يوجد أربعة أركان للعالم الذي نعيش فيه وأربعة رياح رئيسيّة، وقد انتشرت المسيحيّة في العالم كله، ولما كان الإنجيل هو عمود الكنيسة وقاعدته (1تي3: 15) وروح الحياة، بهذا كان من اللائق أن يوجد للكنيسة أربعة أعمدة فتتنسّم عدم الفساد من كل ناحية، وتنعش البشريّة أيضًا. خلال هذه الحقيقة واضح أن الكلمة خالق الكل والجالس على الشاروبيم، وضابط الجميع إذ أعلن عن نفسه للبشر قدّم لنا الإنجيل تحت أربعة أشكال إذ كان مرتبطًا بروح واحد. وكما يقول داود متوسّلاً إلى حضرته "أيها الجالس على الشاروبيم اِشرق" (مز80: 1)، إذ للشاروبيم أيضًا أربعة وجوه لها شكل التدبير الخاص بابن الله.

    يقول الكتاب "إن المخلوقات الأربعة الحيّة الأول مثل الأسد" (رؤ4: 7) فيرمز لعمله الفعّال وسموّه وسلطانه الملوكي.

    والثاني مثل الثور يُشير إلى تدبيره الذبيحي والكهنوتي.

    والثالث له شبه وجه إنسان شهادة لوصف مجيئه كإنسان.

    والرابع مثل نسر طائر يُشير إلى عطيّة الروح الذي يرفرف بجناحيّه على الكنيسة.

    لهذا تتفق الأناجيل مع هذه الأمور، التي يجلس المسيح يسوع في وسطها.]

    أما القدّيس إكليمنضس السكندري وإن كان قد اقتبس فقرات من "إنجيل المصريّين" لكنّه ميّز بينه وبين الأناجيل الأربعة القانونيّة.

    أما العلاّمة ترتليان فلم يقتبس إلا من الأناجيل الأربعة القانونيّة، ودافع بشدة عن كتابتها بواسطة الرسل أو من هم ملتصقون بهم تمامًا.

    استخدم القدّيسان إكليمنضس الروماني وأغناطيوس الأنطاكي مادة الأناجيل وإن كان بدون التزام بالنص حرفيًا. وجاءت رسالة القدّيس بوليكربس تحوي مطابقات مع الأناجيل.

    4. الحاجة إلى أربعة أناجيل

    وجود أربعة أناجيل خلق مشكلتين، إحداهما قديمة لاهوتيّة تدور حول التساؤل عن سرّ وجود أربعة أناجيل وعدم الاكتفاء بإنجيل واحد، والثانية حديثة ظهرت في الغرب تخص الثلاثة أناجيل الأولى متّى ومرقس ولوقا حيث تظهر فيها مواد متشابهة وأخرى غير متشابهة، بهذا يمكن تفريغها في ثلاثة أعمدة متوازية للمطابقة فيما بينها، فتساءل بعض الدارسين عن سرّ التشابه، وكيف كُتبت هذه الأناجيل، ومصادرها الخ. وقد سُميّت بالمشكلة التكامليّة أو الإزائية أو السينوبتك Synoptic Problem.

    أولاً: المشكلة اللاهوتيّة

    منذ القديم ظهر هذا التساؤل: ما الحاجة إلى وجود أربعة أناجيل؟ أمّا كان يكفي وجود إنجيل واحد يضمّ ما ورد في هذه الأناجيل الأربعة؟ ففي القرن الثاني حاول تاتيان Tatian أن يضمّ الأناجيل الأربعة في كتاب واحد اسماه "الرباعي Diatessarton" (أربعة في واحد)، لكن الكنيسة لم تقبل هذا العمل، فإنه ليس غاية الإنجيل جمع وترتيب مادة عن حياة السيّد المسيح على الأرض، لكن غايته الشهادة بطرق مختلفة ومتكاملة عن حقيقة واحدة، يقدّمها الروح القدس نفسه كأسفار قانونيّة، أي بكونها كلمة الله المعصومة من الخطأ. فالكنيسة تعتزّ بالأناجيل معًا ككلمة الله الحيّة والفعّالة، التي وضعها الروح القدس لتعليمنا وتهذيبنا بطريقة فائقة. لهذا لم يهتمّ الآباء بتجميع ما ورد في الأناجيل وترتيبها تاريخيًا، بقدر ما اهتموا بالكشف عن أعماق ما حمله كل إنجيل من سرّ حياة خفي وراء كلماته، وفي نفس الوقت تحدّثوا عن اتفاق الإنجيليّين معًا في الأحداث، موضّحين ما يبدو للبعض من وجود تعارض، كما فعل القدّيس أغسطينوس في كتابه عن اتفاق البشيرين De consensu evanglistarum.

    تحدّث العلاّمة أوريجينوس في القرن الثاني عن اتفاق الأناجيل الأربعة معًا ومع بقيّة الأسفار بالرغم من عرض الحقيقة في كل سفر من جانب غير الآخر، مشبّهًا الكتاب المقدّس بالقيثارة الواحدة ذات الأوتار المتنوّعة لتقديم سيمفونيّة جميلة ومتناسقة، إذ يقول: [كما أن كل وتر من أوتار القيثارة يعطي صوتًا معينًا خاصًا به يبدو مختلفًا عن الآخر، فيظن الإنسان غير الموسيقي والجاهل لأصول الانسجام الموسيقي أن الأوتار غير منسجمة معًا لأنها تعطي أصوات مختلفة، هكذا الذين ليس لهم دراية في سماع انسجام الله في الكتب المقدّسة يظنون أن العهد القديم غير متّفق مع الجديد أو الأنبياء مع الشريعة أو الأناجيل مع بعضها البعض أو مع بقيّة الرسل. أما المتعلّم موسيقى الله كرجل حكيم في القول والفعل يُحسب داود الآخر، إذ بمهارة تفسيره يجلب أنغام موسيقى الله متعلمًا من هذا في الوقت المناسب أن يضرب على الأوتار، تارة على أوتار الناموس وأخرى على أوتار الأناجيل منسجمة مع الأولى، فأوتار الأنبياء. وعندما تتطلّب الحكمة يضرب على الأوتار الرسوليّة المنسجمة مع النبويّة كما في الأناجيل. فالكتاب المقدّس هو آلة الله الواحدة الكاملة والمنسجمة معًا، تعطي خلال الأصوات المتباينة صوت الخلاص الواحد للراغبين في التعليم، هذه القيثارة التي تبطل عمل كل روح شرّير وتقاومه كما حدث مع داود الموسيقار في تهدئة الروح الشرّير الذي كان يتعب شاول (1 صم 16: 14).]

    نستطيع أن نقول أن الوحي الإلهي قدّم لنا إنجيلاً واحدًا هو إنجيل ربّنا يسوع المسيح بواسطة الإنجيليّين الأربعة: متّى ومرقس ولوقا ويوحنا، كلٌ يكشف عن جانب من جوانب هذا الإنجيل الواحد. وكأنه باللؤلؤة التي يُعلن عنها كل منهم من زاوية معيّنة. فمعلّمنا متّى إذ يكتب لليهود يقدّم لنا السيّد المسيح بكونه المسيّا الملك الذي فيه تحقّقت النبوّات وكمل الناموس. جاء ليملك قينا، ونحن نملك معه في السماويّات. ومعلّمنا مرقس إذ كتب للرومان أبرز شخص السيّد المسيح من الجانب العملي، صانع المعجزات وغالب قوى الشيطان، فلا يقدّم الكثير من كلمات السيّد وعظاته، إنّما يقدّم أعماله لأنه يحدّث رجال حرب عنفاء (الرومان). أمّا لوقا البشير فإذ يكتب إلى أصحاب الفلسفات والحكمة البشريّة، أي اليونان، فيقدّم السيّد المسيح كصديق البشريّة، الذي جاء ليخلّص لا بالفلسفات الجديدة، وإنما بالحب الباذل. أخيرًا فإن يوحنا البشير إذ يكتب للعالم كلّه يُعلن السيّد المسيح الكلمة الإلهي المتجسّد، الذي حلّ بيننا لكيّ يرفعنا إليه في سماواته.

    متى مرقس لوقا يوحنا

    v كتب لليهود للرومان لليونان للعالم المسيحي

    v المسيّا الملك المسيح غالب الشيطان صديق البشريّة الكلمة المتجسّد

    v جاء يتمّم الناموس يعمل العجائب يخلّص البشريّة يحّل في وسطنا

    v اهتم بالنبوّات اهتم بالعمل اهتم بالتاريخ اهتم باللاهوت

    v رمزه وجه إنسان الأسد الثور النسر

    إن بدت الأناجيل متشابهة، خاصة الثلاث الأناجيل الأولى، من جهة ما حوَتْه من عرض لحياة السيّد المسيح وأعماله الخلاصيّة. فالإنجيليون في الحقيقة ليسوا عارضين لحياة السيّد ولا مؤرّخين له بالمعنى العلمي للتاريخ، إنّما هم شهود حق، أعلنوا الأخبار السارّة التي تمسّ حياتنا مشرقة من نور قيامة السيّد المسيح وحلول روحه علينا، وجاء التاريخ من خلال هذه الزاوية، خادمًا حياتنا الإيمانيّة واتّحادنا مع المخلّص القائم من الأموات.

    ولكي ندرك تكامل هذه الأناجيل نقدّم صورة سريعة ومختصرة عن ملامح هذه الأناجيل وغايتها:

    1. الإنجيل بحسب متّى البشير: يعتبر يهودي مسيحي، إن كان قد قدّم لنا شخصيّة السيّد المسيح، لكنّه في جوهره سفر تعليمي دفاعي يقدّم المسيّا المرفوض من قادة اليهود، بكونه مكمل الناموس ومحقّق نبوّات العهد القديم، فيه يتحقّق ملكوت الله السماوي على الأرض. مصحّحًا الفكر اليهودي عن المسيّا كملك أرضي. هكذا يظهر هذا السفر كأنه يعكس تقليد كنائس اليهود المسيحيّة القويّة في فلسطين قبل سقوط أورشليم. أمّا وقد رُمز له بوجه الإنسان، فلأنه قد ركّز على التجسّد الإلهي.

    2. الإنجيل بحسب مرقس البشير: إن كان هذا السفر يعتبر الأساس لإنجيلي متّى ولوقا، لكن له طابعه الخاص به. فقد قُدّم للعالم الروماني المعتزّ بالذراع البشري، كأصحاب سلطان يؤمنون بالقوّة والعنف علامة الحياة والنضوج، لهذا أبرز شخص السيّد المسيح صانع العجائب وغالب الشيطان، الذي غلب بصليبه وحبّه، لا بالحرب والعنف. إن كان الرومان قد انشغلوا بمملكتهم في العالم المعروف في ذلك الحين، فقد سحبهم الإنجيل إلى مملكة من نوع جديد تحتاج إلى قوّة الروح والعمل الإلهي، لا إلى الذراع البشري المتعجرف والمجرّد. لقد رُمز له بوجه أسد إعلانًا عن الغلبة والنصرة، أو علامة الملك الجديد السماوي.

    3. الإنجيل بحسب لوقا البشير: سُجل لليونان أصحاب الفلسفات والأدب اليوناني، لذا جاء هذا السفر في أسلوب رائع من الجانب الأدبي، يقدّم لنا حياة السيّد المسيح في التاريخ ليس بطريقة كلاسيكيّة إنّما لاهوتيّة تُعلن عنه كمخلّص البشريّة كلها: للمتعلّم والأمّي، الفيلسوف والبسيط، الغني والفقير، الخاطئ والوثني. إنه لا يخلّص بالحكمة البشريّة والفلسفات، بل بذبيحة الحب، لهذا رُمز إليه بوجه ثور علامة الذبيحة واهبة المصالحة مع الآب. يبدأ هذا السفر وينتهي في أورشليم بكونها المدينة المقدّسة التي فيها يتحقّق الخلاص، لكن الرسالة موجّهة للعالم الأممي كله، الأمر الذي أوضحه فيما بعد في سفره الآخر، أعمال الرسل.

    4. إنجيل بحسب يوحنا الرسول: له طابعه اللاهوتي الخاص به، يرمز له بوجه نسر.

    ثانيًا: المشكلة الإزائية (السينوبتيّة) Synoptic Problem:

    لا أريد الخوض في هذه المشكلة التي لم تعشها الكنيسة الشرقية بوجه عام، وإنما شغلت أذهان دارسي الكتاب المقدّس في الغرب منذ منتصف القرن الثامن عشر، خاصة مع بدء القرن العشرين.

    كلمة Synoptic مشتقّة عن الكلمة اليونانيّة Sunarao والتي تعني رؤية الكل معًا بنظرة تكامليّة، فهي تخص الأناجيل الثلاثة متّى ومرقس ولوقا بكونها أناجيل تحوي هيكلاً متشابهًا ومواد متشابهة، وإن وُجدت أيضًا مواد غير متشابهة. فالمشكلة هي كيف حدث هذا التشابه؟ هل اعتمدت الأناجيل على بعضها البعض، أم رجعت إلى مصدر بدائي واحد، سواء كان شفهيًا كالتقليد أو كتابيًا، أو أكثر من مصدر؟

    أول من استخدم هذا التعبير هو Griesbach في القرن الثامن عشر، ودعيت الأناجيل الثلاثة: Synoptic Gospel يترجمها البعض بالأناجيل التكامليّة أو المتشابهة أو الإزائية، كما عرّف الإنجيليّون الثلاثة بـ Synopists.

    وقبل أن ندخل في المشكلة نوَد أن نسأل: لماذا نقيم المقارنات بين هذه الأناجيل ونسأل عن مصدرها مادامت قد كُتبت بالوحي الإلهي بالروح القدس؟

    هنا نوَد أن نوضّح الفارق بين الفكر الشرقي والفكر الغربي في دارسة الكتاب المقدّس، فالشرق بوجه عام خاصة الكنيسة الأرثوذكسيّة يميل إلى الاتّجاه الآبائي الأول، وهو الانشغال بكلمة الله أو الوحي الإلهي بكونه قبول للسيّد المسيح نفسه شخصيًا حيًا نعيش به وفيه ومعه متّجهين بفكرنا نحو الميراث الأبدي، ممتصّة أذهاننا بالملكوت السماوي الداخلي أكثر من الدراسات النقديّة النظريّة. أمّا الغرب فقد صبّ جل اهتمامه خاصة في القرنين التاسع عشر والعشرين نحو الدراسات النقديّة والأبحاث العلميّة في الكتاب المقدّس، الأمر الذي يمكننا أن ننتفع به كثيرًا حتى في بنياننا الروحي وفهمنا لكلمة الله إن قبلناها روحيًا.

    قبل الدخول في تفاصيل هذه المشكلة يلزمنا أولاً أن نتعرّف على مفهوم الكنيسة المسيحيّة للوحي الإلهي، لنعرف ما هو دور رجل الله الذي أوحي له بالروح القدس ليكتب؟! فقد جاء في الكتاب المقدّس: "كل الكتاب هو موحى به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البرّ لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهّبًا لكل عمل صالح" (2 تي 3: 16-17)؛ "عالمين هذا أولاً أن كل نبوّة الكتاب ليست من تفسير خاص، لأنه لم تأت نبوّة قط بمشيئة إنسان، بل تكلّم أناس الله القدّيسون مسوقين من الروح القدس" (2 بط 1: 20-21). إذن فالكتاب كلّه موحى به من الروح القدس، والكتّاب هم آله الله، أو كما يقول المرتّل: "لساني قلم كاتب ماهر" (مز 45: 1).

    كل كاتب أشبه بقلم في يدّ الروح القدس، لكنّه قلم ماهر، لا يكتب إلا ما يمليه الروح دون أن يفقده شخصيّته وإمكانيّاته ومهارته وبيئته. هذا هو العجيب في حب الله، فإنه حتى إذ يقدّم لنا كلمته المكتوبة لا يستخدم الإنسان آلة جامدة يحرّكها آليًا بجمود، إنّما يتعامل معنا خلال "الحب المتبادل" وتقدير الله العجيب لمخلوقه الإنساني. إن كان يسكب علينا حبّه ويهبنا كلمته الإلهيّة الخالدة، لكنّه لا يحتقر حبّنا وفكرنا وثقافتنا ولغتنا. إنه يهب الكلمة ويحفظها ويمنح الكاتب إمكانيّة الكتابة في عصمة من الخطأ دون تجاهل لإنسانيّته. لهذا لا عجب إن حوى الكتاب بعهديه أسفارًا مختلفة بأسلوب مختلف كُتبت خلال ثقافات متباينة امتدّت آلاف السنين، ومع ذلك بقيَ ويبقى الكتاب حيًا، يحمل إلينا الكلمة الإلهيّة التي لا تشيخ. هذا ما دفع الدارسون الغربيّون إلى دراسة النقديّة والتحليليّة للكتاب المقدّس. ونحن إذ نقبل هذه الدراسات فبتحفّظ مدركين ما قاله القدّيس إيريناؤس إن الكتاب حتى في أجزائه الغامضة "روحي بكلّيته"، وما قاله الآباء أن الكتاب معصوم من الخطأ وليس فيه شيء زائد بلا نفع، حتى قال أوريجينوس: [إنه ليس حرف واحد أو عنوان كُتب في الكتاب المقدّس لا يتمّم عمله الخاص بالنسبة للقادرين على استخدامه.] وبنفس الطريقة يقول القدّيس جيروم: [في الكتب الإلهيّة كل كلمة ومقطع وعلامة ونقطة تلتحف بمعنى.] وبحسب القدّيس يوحنا الذهبي الفم حتى قوائم الأسماء الواردة في الكتاب لها معناها العميق، وقد كرّس عظتين لشرح التحيّات الواردة في الأصحاح السادس عشر من الرسالة إلى رومية ليُعلن أن كنوز الحكمة مخفيّة في كل كلمة نطق بها الروح.

    بعد وضع هذا الأساس لمفهومنا للوحي الإلهي نعود إلى مشكلة الأناجيل الثلاثة الإزائية Synoptic لتفسير وجود تشابهات بينها وأيضًا مواد غير متشابهة:

    ا. المتشابهات

    تتشابه الأناجيل الثلاثة الأولى في كثير من موادها كما في ترتيبها، فمن جهة المواد المتشابهة وردت عبارات متشابهة في الثلاثة أناجيل يمكن تسميتها بالتقاليد المثلوثة three traditions، وعبارات وردت في إنجيلين فقط نسمّيها التقاليد المثنّاة twofold traditions، وعبارات لم ترد إلا في إنجيل واحد نسمّيها التقاليد الفريدةunique traditions¡ بل وعبارات تكرّرت في نفس الإنجيل تسمى مزدوجاتdoublets.

    هذا ويلاحظ أن إنجيل مار مرقس أكثر الأناجيل اختصارا، وردت أغلب مواده في إنجيلي متّى أو لوقا أو في كليهما معًا. وإن كان يصعب عمل إحصائيّة دقيقة للمتشابهات، لأن بعض العبارات ترد في أناجيل أخرى مسجّلة في عدد أكبر من الآيات.

    متى مرقس لوقا

    إجمالي العبارات 1070 677 1150

    التقاليد الفريدة 330 70 520

    حوالي الثلث العشر النصف

    التقاليد المثنّاة 170-180 170-180 230

    (مت - لو) (مر- لو) (لو- متى)

    230 50 50

    (مت - لو) (مر- لو) (لو- مت)

    التقاليد المثلوثة 350-370 350-370 350-370

    هذا عدد المواد المتشابهة أمّا عن التشابه في الترتيب، فقد حملت الأناجيل الثلاثة إطارًا عامًا واحدًا أو خطوطًا عريضة متشابهة، إذ جاءت هكذا:

    أ. الإعداد للخدمة.

    ب. خدمة السيّد في الجليل.

    ج. رحلته إلى أورشليم.

    د. آلامه وقيامته.

    لم يقف التشابه عند المادة والإطار العام في الترتيب وإنما شملت الأناجيل بعض اقتباسات من العهد القديم أحيانًا معدّلة. وقد وردت بنفس التعديل في الثلاثة أناجيل، كما استخدمت مقارنات يونانيّة نادرة وأحيانًا تأتي العبارات مطابقة لبعضها البعض كلمة بكلمة في الأناجيل الثلاثة. هذا ما دعا إلى التساؤل عن سرّ هذا التشابه؟

    ب. الاختلافات

    من جهة المواد نذكر الاختلافات في الأناجيل الثلاثة على سبيل المثال:

    1. كُتب ميلاد السيّد المسيح في إنجيل متّى بطريقة تختلف عما جاء في إنجيل لوقا، أمّا إنجيل مرقس فلم يشر إليه قط.

    2. النسب كما ورد في إنجيل متّى (1: 1-17) يختلف عما ورد في إنجيل لوقا (3: 23-38).

    3. التجارب الثلاث التي واجهها السيّد ذُكرت في إنجيل متّى (4: 3-12) وفي إنجيل لوقا (4: 3-12)، مع اختلاف في الترتيب.

    4. أحداث القيامة وردت في كل إنجيل بطريقة متباينة، فمعلّمنا متّى تحدّث عن ظهورات السيّد في الجليل، أمّا معلّمنا لوقا فتحدّث عن ظهوراته في اليهوديّة.

    5. وردت العظة على الجبل في إنجيل متّى (5-7) ولم ترد في إنجيل معلّمنا مرقس.

    حلول المشكلة

    في العصور الأولى اهتم الآباء بكل حدث على انفراد، موضّحين اتفاق الإنجيليّين، أمّا ما حدث في الغرب فهو دراسة المشكلة ككل، وقد ظهرت عدة نظريّات لحلّها ليست متضاربة بل كل منها تمهّد للأخرى، أهمها:

    1. نظريّة الاستعمال Utilization Theory: تتلخّص في أن كل إنجيل يعتمد على الإنجيل السابق أو الإنجيليّن السابقين له، أي يستخدم ما قد سبقه. لعلّ هذه النظريّة اعتمدت على ما ورد في القدّيس أغسطينوس أن متّى البشير كتب أولاً، اعتمد عليه مار مرقس، وجاء لوقا الإنجيلي يعتمد على الاثنين، لهذا جاء ترتيب الأناجيل التقليدي: متّى ومرقس ثم لوقا. اقترح Griesbach نظريّة مماثلة، وإنما رأى أن لوقا يسبق مرقس، وبالتالي استخدم مار مرقس إنجيلي متّى ولوقا معًا. عدّل Lachmann النظريّة عام 1835م، وWilbe عام 1838م، وقد دافع B. Buttler عنها.

    2. نظريّة الإنجيل البدائي The Primitive Gospel Theory: لعلّ هذه النظريّة جاءت كتطوّر لما ذكره بابياس في القرن الثاني أن متّى وضع "أقوال يسوع" باللغة العبريّة، استخدمها الإنجيليون. فقد افترض البعض وجود أصل آرامي (عبري) ترجم إلى اليونانيّة استخدمه الإنجيليّون كل على انفراد، هذا الأصل مفقود. ارتبطت هذه النظريّة بـ G. E. Lessing عام 1778م، وعدلها J. Eichhorn عام 1804م. ويسمى أصحاب هذه النظريّة هذا الإنجيل الأولى الذي عنه أخذت الأناجيل الثلاثة "Q"، ولما كان رأي الكثيرين منهم أنه أقرب إلى إنجيل مار مرقس لذا دعاه البعض Proto-Mark. ورأى البعض في قول القدّيس أبيفانيوس ما يوافق هذه النظريّة، وهو أن الأناجيل (أخذت عن ذات المصدر). غير أن القدّيس لا يقصد بهذا مصدرًا معينًا مكتوبًا أو شفاهًا، إنّما يقصد بالمصدر الروح القدس واهب الوحي للإنجيليّين، المصدر المشترك لكل الإنجيليّين.

    على أي الأحوال هذه كلها مجرّد افتراضات تقوم على وجود مصدر مفقود، عليه اعتمد الإنجيليّون، وبالغ الدارسون في افتراض وجود تعديلات في الأصل مستمرّة، حتى افترض الأسقف Marsh وجود ثماني وثائق:

    أ. الأصل العبري.

    ب. ترجمة يونانيّة للأصل العبري.

    ج. ظهور نسخة عن الأصل العبري مع تعديلات وإضافات.

    د. نسخة أخرى للأصل العبري مع مجموعة أخرى من التعديلات والإضافات.

    هـ. نسخة تضم كل التعديلات والإضافات التي للنسخة (ج) مع إضافات جديدة استخدمها مار متّى البشير.

    ز. نسخة تضم النسخة رقم (د) مع إضافات استخدمها مار لوقا البشير، هذا وقد استخدم أيضًا النسخة (ب).

    ح. نسخة عبريّة متمايزة تمامًا تحوي وصايا السيّد وأمثلته ومقالاته مسجّلة بطريقة غير تاريخيّة استخدمها الإنجيليّان متّى ولوقا.

    ويعترض على هذه النظريّة بالآتي:

    أ. إن كان كل معلومة جديدة يمكننا القول بأن مصدرها الوثيقة الأصليّة مضافًا إليها تعديلات جديدة، فإنه يمكننا افتراض عشرات النسخ وليس فقط ثمانيّة نسخ، دون وجود دليل يؤكّد شيئًا من هذا.

    ب. لو أنه يوجد مصدر أصيل أخذ عنه الإنجيليّون الثلاثة لاحتفظت الكنيسة بهذا المصدر الأوّلي. إن كانت الأناجيل غير القانونيّة قد اُحتفظ بها فبالأولى كان يجب حفظ هذا المصدر.

    3. نظريّة القصص: تتلخّص في وجود مصدر يوناني يحوي قصصًا عن أحداث الآلام والمعجزات مع تجميعات لأقوال السيّد المسيح، اعتمد عليها الإنجيليّان متّى ولوقا بجانب اعتمادها على إنجيل مرقس. اهتم بهذه النظريّة Schleiermacher عام 1817م.

    4. نظريّة التقليد الشفهي، ترجع إلى Herder عام 1797م، بحسبها سلك الإنجيليّون حسب التقليد العام الشفهي. ويلاحظ أنه بالرغم من عدم تجاهل أغلب الدارسين لأهمّية الدور الذي قام به التقليد الشفهي لكن وجود متشابهات كثيرة ودقيقة حتى في العبارات جعل البعض يؤكّد الاعتماد على مصدر مكتوب بجانب التقليد الشفهي.

    5. نظريّة المصدرين، اهتم بها Holtzmann عام 1863م. وهي أكثر النظريّات انتشارًا، حيث تربط بين النظريّتين الأولى والثانية، فترى أن متّى ولوقا اعتمدا على إنجيل مار مرقس كل منهما على انفراد، إذ الأخير هو أقدّم الأناجيل، هذا مع وجود مصدر آخر مفقود يحوي تجميعًا لكلمات السيّد المسيح (لوجيا) يشار إليه بالحرف Q.

    الأناجيل غير القانونيّة

    افتتاحية إنجيل معلّمنا لوقا البشير: "إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصّة في الأمور المتيقّنة عندنا" (لو 1: 1)، تكشف عن وجود عدد من القصص تروي حياة السيّد المسيح وتعاليمه ومعجزاته وحياة والدته وموتها وإرساليّات التلاميذ والرسل، انتشرت بين المسيحيّين في نهاية القرن الأول. بجانب الأناجيل الأربعة الأصليّة، وجدت كتابات غير قانونيّة نسبت للتلاميذ والرسل، دعيت بالأبوكريفا، إمّا أنها كُتبت بهدف تقوي سجّلها مؤمنون في الكنيسة، أو هراطقة سجّلوها تحت أسماء التلاميذ أو الرسل أو شخصيّات بارزة في الإيمان لتأييد هرطقاتهم وتعاليمهم، حوت هذه الكتابات الأناجيل المزورة، أي غير القانونيّة والرؤى والرسائل وأعمال للرسل.

    كلمة "أبوكريفا" لا تعني أن كل ما بها ليس حق، على الأقل في أذهان الذي استخدموها أولاً. فإنها وإن كانت ليست قانونيّة لكن بعضها كان له اعتباره الخاص ككتب كنسيّة ذات قيمة روحيّة وتاريخيّة، وهي في الحقيقة تمثل تراثًا هامًا بالنسبة للمؤرّخين، يكشف عن الكثير من الأفكار والاتّجاهات والعادات التي اتّسمت بها الكنيسة الأولى، كما تمثل النبتات الأولى للأدب المسيحي من الناحية القصصيّة والفلكلور الشعبي.

    1. إنجيل يعقوب

    يُعرف باسم الإنجيل الأول Proto-evangelium of James. وهو من نتاج منتصف القرن الثاني. هدفه الرئيسي هو تأكيد دوام بتوليّة القدّيسة مريم قبل ميلاد السيّد وأثناء الميلاد وبعده. وهو يروي الأحداث الخاصة بميلاد العذراء مع ذكر اسميّ والديها (يواقيم وحنة) وحياتها المبكّرة في الهيكل، وتركها له في سن الثانية عشر، وخطبتها ليوسف، وقصّة البشارة، وزيارة مريم لأليصابات وأحداث الميلاد الخ. ويختم الكتاب بقصّة استشهاد القدّيس زكريّا الكاهن والوالد يوحنا المعمدان وموت هيرودس.

    أول من أشار إليه هو العلامة أوريجينوس حينما قرر أن إخوة الرب هم أبناء يوسف من زوجة سابقة. وقبل أوريجينوس ذكر القدّيسان إكليمنضس السكندري ويوستين الشهيد أحداثًا تخص ميلاد السيّد المسيح وردت في هذا الكتاب. هذا وقد اعتمد عليه القدّيس أبيفانيوس في القرن الرابع في ردّه على الهراطقة، كما أشار إليه القدّيس جيروم.

    يوجد منه مخطوطات هي ترجمات سريانيّة وقبطيّة وأرمنيّة وصقليّة، وإن كان لا يوجد بعد مخطوطات لاتينيّة له.

    2. إنجيل العبرانيّين

    دُعي هكذا لأنه كان مستخدمًا في فلسطين بين المسيحيّين الذين كانوا يتكلّمون العبريّة (الآرامية). لا يُعرف كاتبه. انتشر تداوله فقط في الشرّق في النصف الأخير من القرن الثاني. أشار إليه القدّيس إكليمنضس السكندري وأوريجينوس ويوسابيوس وحصل القدّيس جيروم على نسخة منه بالآرامية ترجمها إلى اليونانيّة واللاتينيّة.

    3. إنجيل المصريّين

    من أناجيل الغنوسيّين وإنتاجهم. يذكر القدّيس هيبوليتس أنه كان منتشرًا بين إحدى شيعهم التي تسمى Nassenes، ويحتمل أنه كان منتشرًا بين المسيحيّين المصريّين الذين من أصل أممي. أشار إليه كل من القدّيس إكليمنضس السكندري وأوريجينوس على أساس أن له قيمة تاريخيّة فقط، مع ملاحظة أن الآراء النسكيّة واضحة فيه.

    4. إنجيل بطرس

    اكتشف V. Bouriant جزءًا من هذا الإنجيل عام 1889-1887م بمقبرة راهب في أخميم بصعيد مصر وهي تروي آلام يسوع وموته ودفنه وتُنمق قصّة قيامته بتفاصيل مثيرة بخصوص المعجزات التي لحقتها.

    أشار إليه يوسابيوسكسفر رفضه صرابيون أسقف إنطاكية حوالي عام 190م بسبب اتّجاهه الهرطوقي (الدوسيتون) Docetic character وقد استخدمه العلاّمة أوريجينوس في تعليقاته على إنجيل متّى.

    5. إنجيل توما

    أشار العلاّمة أوريجينوس في عظته الأولى إلى إنجيل توما. كان هذا الكتاب معروفًا لدى القدّيس إيريناؤس وأيضًا يوسابيوس. وقد نسبه القدّيس هيبوليتس الروماني إلى إحدى شيع الغنوسيّين تسمى Nassenes، التي لا نعرف عنها شيئًا. وكان له منزلة كبيرة لدى أتباع ماني، لذلك حذّر منه القدّيس كيرلّس الأورشليمي بكونه من إنتاجهم، موضّحًا أنه يفسد عقول البسطاء.

    يتناول هذا الكتاب قصّة طفولة يسوع وقوّته ومعرفته ومعجزاته خلال سني حياته المبكّرة، وقصّة ذهابه إلى المدرسة، وكيف كان يصنع من الطين اثنى عشر عصفورًا صغيرًا أثناء لعبه مع الأطفال في يوم سبت، ولما اشتكاه أولياء أمور الأطفال ككاسر السبت أمر العصافير أن تطير، فطارت وهي تغرّد!

    6. إنجيل نيقوديموس

    يضم جزئين مختلفي التأليف والتاريخ. الجزء الأول هو ما يعرف بأعمال بيلاطس، Acts of Pilate ويتكلّم عن محاكمة ربّنا يسوع والتقرير الرسمي الذي قيل أن بيلاطس أرسله إلى الإمبراطور طيباريوس عن شخص يسوع، ويرجع هذا الجزء إلى القرن الثاني. هذا ونلاحظ في إنجيل بطرس محاولة المسيحيّون الأول التخفيف من جريمة بيلاطس، الأمر الذي ظهر أيضًا في "أعمال بيلاطس" التي احتواها إنجيل نيقوديموس. وقد أشار القدّيس يوستين والعلاّمة ترتليانمن رجال القرن الثاني إلى أعمال بيلاطس، مستخدمين الوالي الروماني كشاهدٍ على تاريخ صلب المسيح وقيامته وصدق الإيمان المسيحي. وقد استخدم إنجيل نيقوديوس ذات الاتّجاه.

    أما الجزء الثاني من الإنجيل فيحوي وصفًا للنقاش الذي دار في السنهدرين بخصوص قيامة السيّد المسيح (فصل 12-16) وقصّة نزوله إلى الجحيم (فصل 17-27) مستشهدًا بشاهدين هما ابني سمعان اللذين قاما من الأموات بعد معاينة السيّد في الجحيم. هذا الجزء يمثّل نوعًا من الوعظ الشبيه بميامر سير الشهداء.

    7. إنجيل فيلبس

    إذ تحدّث القدّيس إبيفانيوس عن الاتّجاه الغنوسي في مصر أشار إلى هذا الإنجيل وجاء بمقتطف منه يحمل ميلاً غنوسيًا نسكيًا قويًا، انتشر هذا الإنجيل في مصر ابتداء من القرن الثالث.

    8. إنجيل الاثنى عشر رسولاً

    أورد القدّيس أبيفانيوس مقتطفات منه، ويرجع تاريخه إلى أوائل القرن الثالث، ويسمى بإنجيل الأبيونيّين The Gospel of Ebionites.

    9. توجد مجموعة من الأناجيل وضعها الهراطقة مثل إنجيل باسيليدس الغنوسي من القرن الثاني قد أشار إليه أوريجينوس والقدّيس أمبروسيوس وجيروم، وإنجيل أندراوس الذي أشار إليه القدّيس أغسطينوس، وإنجيل فالنتينوس الغنوسي الذي أشار إليه العلاّمة ترتليان، وإنجيل مرقيون الهرطوقي، وإنجيل يهوذا الإسخريوطي الذي استخدمته طائفة غنوسيّة تُدعى بأتباع قايين Cainites، وإنجيل تدّاوس وإنجيل حوّاء وإنجيل كيرنثوس وإنجيل أبلوس Apelles.

  2. #2

    افتراضي


    الإنجيل بحسب يوحنا


    2003


    القمص تادرس يعقوب ملطي

    كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج

    بسم الآب والابن والروح القدس

    الله الواحد، آمين

    اسم الكتاب:الإنجيل بحسب يوحنا.

    المؤلف : القمص تادرس يعقوب ملطي.

    الطبعة : الأولى 2003.

    الناشر : كنيسة الشهيد مارجرجس باسبورتنج.

    المطبعة : الأنبا رويس (الأوفست)، بالعباسية القاهرة.

    أمجاد لا يعبر عنها

    أثناء كتابتي لهذا السفر كثيرًا ما عبر بي فكر ترددت في تسجيله، إذ شعرت بشيءٍ من الأسى أنني لم أبدأ بالتمتع بإنجيل يوحنا منذ بدء حياتي لأقضي عمري كله أسبح في الأمجاد التي يقدمها لنا هذا السفر، والتي لا يمكن للغة بشرية أن تعبر عنها.

    أثناء دراستي للسفر أدركت معنى ما قاله العلامة أوريجينوس حين كتب تأملاته وعظاته عن السفر بأنه يظن أنه لا يقدر أن يتمم تفسيره للسفر حتى يعبر إلى السماء ليكمل تفسيره هناك! حقًا لست أظن أن إنسانًا يقدر أن يدرك أعماق السفر بأكملها، لكنها تتجلى بالأكثر حين نلتقي بمسيحنا الممجد لنشاركه مجده السماوي، فندرك ما عناه هذا السفر في صورة أروع مما يمكن الحديث عنها هنا.

    ليت روح الله القدوس يحمل كل نفس إلى الأحضان الإلهية، ويشرق على بصيرتها الداخلية فتتمتع بما يود أن يقدمه مسيحنا العجيب لنا من أمجاد ومعرفة إلهية، فنلتهب بنار الحب الإلهي، ونشتهي اللقاء مع مخلصنا.

    كلمة شكر

    أشكر الأحباء الذين بذلوا جهدًا في كتابة هذا الكتاب على الكومبيوتر، خاصة الأخ صفوت فرج بأورنج كاليفورنيا ومدام ماجدة حنا بستيت إن آيلند نيو يورك، الرب يعوضهما بالبركات السماوية.

    مقدمة

    في الإنجيل بحسب يوحنا

    الإنجيل بحسب ما كتبه القديس يوحنا سفر يناسب الكل، البسطاء والعلماء. كلماته بسيطة للغاية، يقرأه البسطاء فيجدون نفوسهم قريبة منه فيرتاحون، ويغوص فيه أصحاب الخبرات الروحية دون أن ينتهوا إلى سبر غوره.

    إنجيل يوحنا والكنيسة الأولى

    سحب الإنجيل بحسب يوحنا قلب الكنيسة الأولى ليرفعه إلى الأسرار الإلهية الفائقة، بوحي الروح القدس، بأسلوبٍ روحيٍ جذَّاب، بعيدًا عن المصطلحات الفلسفية الصعبة ولغة اللاهوت الجافة.

    فيما يلي بعض تعليقات آباء الكنيسة عنه:

    v يمكننا أن نتجاسر فنقول أن الأناجيل هي بكر كل الكتب المقدسة، أما بين الأناجيل فإنجيل يوحنا هو البكر. لا يدرك معناه من لم يتكئ على صدر يسوع (يو 23:13) ويستلم مريم من يسوع أمًا له أيضًا (يو 27:19)؛ مثل هذا يكون يوحنا آخر، ويظهر له يسوع ذاته كما فعل مع يوحنا. فإذ لم يكن ابن لمريم سوى يسوع، وذلك بالنسبة لمن يقدمون رأيًا صادقًا فيها، وقد قال يسوع لأمه: "هوذا ابنك" (يو ١٩: ٢٦)، ولم يقل: "هذا هو أيضًا ابنك". كأنه يقول: "هوذا يسوع الذي ولدتيه". فإنه بالحق كل إنسان صار كاملاً، لا يحيا هو بل يحيا المسيح فيه (٢ كو ٤: ٧). وإذ يحيا المسيح فيه، يُقال لمريم عنه: "هوذا ابنك" المسيح.

    العلامة أوريجينوس

    v هؤلاء جميعًا (الإنجيليون متى ومرقس ولوقا) ارتفعوا قليلاً عن الأمور التي على الأرض، أي عن تلك الأمور التي صنعها ربنا يسوع المسيح على الأرض، أما عن لاهوته فتحدثوا القليل عنه. كانوا أشبه بأناسٍ ساروا معه على الأرض، وبقي النسر، أي يوحنا، الكارز بالحقائق السامية، والمتأمل بنظرة ثاقبة نحو النور الداخلي الأبدي...

    مع هذا فإننا نحن الذين نزحف على الأرض ضعفاء، ونسلك بين البشر بصعوبة، نتجاسر لنتمسك بهذه الأمور ونتفهمها، حاسبين أنفسنا كما لو كنا قد أدركناها عندما نتأمل فيها، أو نتحدث عنها.

    القديس أغسطينوس

    v أما يوحنا المبارك... نراه برغبةٍ ناريةٍ وعقلٍ يرغب في الأمور التي تعلو العقل الإنساني، تجاسر واقترب لكي يشرح الميلاد الفائق الذي لا يُمكن الإحاطة به، أي ميلاد اللَّه الكلمة. فهو يعلم أن "مجد اللَّه إخفاء الأمور" (أم 2:25)، والكرامة التي تليق باللَّه تفوق فهمنا وإدراكنا، ومن الصعب أن يدرك أحد أو يشرح صفات الطبيعة الإلهية.

    القديس كيرلس الكبير

    يحقق إنجيل يوحنا بصورة خاصة "ملء" الكتاب المقدس بعينه، وكأنه "مركز" سرّ الكتاب.

    يشبه الأب مكسيموس المعترف الكتاب المقدس بالكنيسة المقدسة، وإنجيل يوحنا قدس الأقداس فيها، فيه ندخل إلى أعماق مقدسات الكتاب، ونتعرف على أسراره، ونخترق الحجاب.

    بحق يدعوه القديس اكليمنضس السكندري "الإنجيل الروحي"، لأنه يدخل بالنفس إلى التعرف على الأمجاد التي أعدت لها خلال محبة الله الآب، وعمل المسيح الخلاصي، وتعزيات الروح القدس. يرى أن إنجيل يوحنا بمثابة الروح، والأناجيل الثلاثة الأخرى بمثابة الجسد. قدمت الأخيرة الحقائق والوقائع الملموسة في حياة السيد المسيح وخدمته وعمله الخلاصي. وجاء إنجيل يوحنا يفسر ما وراء هذه الأحداث، ويكشف عن أعماقها ومفاهيمها. جاء السفر متناغمًا مع قول السيد المسيح: "ليعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته" (يو 8:5).

    هو الإنجيل الروحي إذ يرفع المؤمن إلى عالم الروح، ولا يسمح لمؤمنيه أن يبقوا على مستوى المادة، فإذ أشبع الجموع بالخبز فرحوا (26:6)، أما هو فدعاهم إلى الطعام الأبدي (27:6).

    في حديثه مع نيقوديموس عن الولادة الجديدة كان فكر نيقوديموس المعلم في إسرائيل حبيس أحشاء أمه، أما السيد المسيح فرفعه لينظر بعيني قلبه أن "المولود من الروح هو روح" (1:3-6).

    وفي حديثه مع المرأة السامرية كان فكرها حبيس الدلو المادي وبئر يعقوب وماشيته، فرفع قلبها إلى الينبوع الإلهي حيث يقدم لها ماءً يفجر في داخلها ينابيع مياه حيّة تجري للحياة الأبدية.

    إذ بدأ القديس يوحنا الذهبي الفم يعظ على إنجيل يوحنا، تحدث عن القديس يوحنا الإنجيلي وهو يقدم إنجيله مقارنًا بينه وبين الخطباء والممثلين كيف يجتذبون الجماهير بفن الخطابة واستخدام الموسيقى وارتداء قناعات جذابة، أما القديس يوحنا فيتقدم كما على منصة السماء، ليحدث أناسًا صار منهم كثيرون أشبه بالملائكة، ويشتهي أن يصير بقية المستمعين هكذا. إنه لا يستخدم سوي نعمة الله، يتحدث وهو في صحبة السمائيين، مقدمًا لهم رسالة المسيح المفرحة.

    v يتقدم أمامنا الآن هذا الرجل: ابن الرعد، حبيب المسيح، عمود الكنائس في كل العالم، الذي يمسك بمفاتيح السماء، الذي شرب كأس المسيح، واعتمد بمعموديته، الذي اتكأ بكل ثقة على صدر سيده… دخل مرتديًا ثوب الجمال غير المدرك. فإنه سيظهر أمامنا مرتديًا المسيح (رو 13: 14؛ غلا 3: 27)، منتعلاً في قدميه الجميلتين باستعداد إنجيل السلام (أف 6: 15)، ومتمنطقًا بمنطقة ليست حول خصره بل حول منطقتيه، ليست من جلد قرمزي، ولا مكسوة في الخارج من ذهب، بل منسوجة ومصنوعة من الحق نفسه. الآن يظهر أمامنا لا ليقوم بدور تمثيلي، وإنما برأس دون قناع يعلن الحق مكشوفًا. إنه لا يجعل جمهور المستمعين له يصدقونه بل بالأحرى بالمحفل والنظرات والصوت يحقق رسالته دون أدوات موسيقية مثل القيثارة أو ما يشبهها، إنما يستخدم لسانه، ناطقًا بصوت أعذب من أية قيثارة أو أداة موسيقية وأكثر نفعًا. منصته هي السماء كلها، ومسرحه هو العالم المسكون كله، وفرقته هي كل الملائكة، أما عن المستمعين فهم بشر صار منهم كثيرون ملائكة أو يود أن يصيروا هكذا. فإنه لن يستطيع أن ينصت إليه بانسجام حقيقي إلا الذين صاروا هكذا، مظهرين ذلك بأعمالهم. أما البقية فإنهم كأطفال صغار يسمعون ولا يفهمون… إنهم في طرب ولهو، يعيشون فقط من أجل الثروة والسلطة واللذات الحسية. ما يسمعونه هو حق، ولكنهم في أعمالهم لا يبرزون ما هو عظيم ونبيل خلال إسراعهم نحو الطين لعمل قرميد (طوب).

    v لم يعد بعد صياد السمك ابن زبدي، بل ذاك الذي يعرف "أعماق الله" (1 كو 2: 10)، الروح القدس، أقصد أنه يضرب على هذه القيثارة، لذلك ليتنا ننصت إليه، فإنه لا يتحدث معنا بشيء قط كإنسانٍ، إنما ما يقوله سيقوله من أعماق الروح، من الخفيات التي لم يعرفها حتى الملائكة قبل حدوثها، فقد تعلموها بواسطة صوت يوحنا معنا، وبواسطتنا، الأمور التي نحن نعرفها. هذا أيضا أعلنه رسول آخر، قائلاً: "لكي يعرف الآن عند الرؤساء والسلاطين في السماويات بواسطة الكنيسة بحكمة الله المتنوعة" (أف 3: 10). فإن كان الرؤساء والسلاطين والشاروبيم والسيرافيم تعلموا هذا الأمور من الكنيسة، فواضح جدًا أنهم كانوا مشتاقين جدًًا للإصغاء إلى هذا التعليم. في هذا ننال كرامة ليست بقليلة، أن الملائكة تعلموا هذه الأمور التي لم يكونوا يعرفوها قبلاً.

    القديس يوحنا الذهبي الفم

    كاتبه

    v كلمة "يوحنا" تعني: "يهوه حنان".

    v هو ابن زبدي من بيت صيدا في الجليل، دعاه السيد المسيح مع أخيه الأكبر يعقوب الذي قتله هيرودس أغريباس الأول سنة 44م.

    v يبدو أنه كان على جانب من الثراء، إذ كان والده يستخدم أجرى في سفنه (مر 10:1)، وكان يوحنا معروفًا لدى رئيس الكهنة (يو 16:18). وكانت أمه سالومي سيدة فاضلة تقية تتبع السيد المسيح على الدوام (لو 3:8)، اشتركت مع النساء اللواتي اشترين حنوطًا كثير الثمن لتكفين السيد المسيح، وهي على الأرجح أخت مريم أم يسوع (يو 25:19).

    v اتخذ مهنة صيد السمك حرفة، وكان هو وأخوه شريكي سمعان في الصيد (لو 10:5)، وقد اختار السيد المسيح سمعان وأندراوس ويوحنا ويعقوب كأول تلاميذ له. وإذ كان يوحنا وأخوه حادي الطبع دعاهما "بوانرجس"، أي "ابني الرعد" (مر 17:3). وقد صار يوحنا رسول الحب، رقيقًا للغاية؛ جاء إنجيله ورسائله ورؤياه تدور حول "الحب". وبقى يكرز بالحب حتى شيخوخته، وكما يقول القديس جيروم في تفسيره الرسالة إلى أهل غلاطية كان تلاميذه يحملونه على أذرعهم ويذهبون به إلى المنبر لينطق بالكلمات: "يا أولادي أحبوا بعضكم بعضًا. هذه وصية الرب، إذا عملتم بها وحدها فهذا يكفيكم". دُعي "التلميذ الذي كان الرب يحبه" (يو 20:21).

    v يقول القديس إيرينيؤس إن يوحنا كان في الخامسة والعشرين من عمره حين دعاه السيد المسيح للعمل.

    v يعتبر مع بطرس ويعقوب من التلاميذ الأخصاء الذين انفردوا مع السيد المسيح في كثير من المواقف، مثل التجلي (مت 1:17)، وعند إقامة ابنة يايرس (مر 37:5)، وفي بستان جثسيماني (مت 37:26)، وعندما تنبأ عن خراب الهيكل وأورشليم (مر 13: 3). أمره السيد المسيح مع بطرس أن يعدا الفصح له ولتلاميذه (لو 8:22).

    انفرد باتكائه على صدر السيد المسيح (لو 23:13)، وقد رافق السيد حتى الصليب حيث تسلم منه القديسة مريم أمًا له (يو 20:19-27).

    v بعد صعود السيد اشترك مع القديس بطرس في إقامة الأعرج الذي كان عند باب الهيكل المُلقب بالجميل (أع 1:3-6)، وفي الذهاب إلى السامرة لوضع اليد على المؤمنين ليحل الروح القدس عليهم (أع 14:8-17).

    v حسبه الرسول بولس أحد أعمدة الكنيسة (أع 6:15؛ غل 9:2).

    v كرز في آسيا الصغرى، لاسيما في أفسس، وعُذب في أيام دومتيانوس، ونُفي إلى جزيرة بطمس، حيث تمتع برؤيا يوم الرب "سفر الرؤيا"، وبقي في منفاه حتى تنيح. يقول القديس جيروم أن الرسول يوحنا انتقل في العام الـ 68 بعد صعود الرب. وبذلك يكون الرسول قد عاش عامين أم أكثر في القرن الثاني للميلاد. ومعنى هذا أنه عاش إلى ما يقرب المائة عام، حيث أن كان أصغر من الرب بقليل. ويرى البعض أنه تنيح حوالي سنة 98م في حكم تراجان (98-117م).

    v يروي لنا يوسابيوس القيصري في كتابه "تاريخ الكنيسة" قصة عن القديس يوحنا الرسول في شيخوخته تكشف عن مدى تقديره العجيب لخلاص النفس البشرية وبحثه عنها؛ وقد رواها نقلا عن القديس اكليمنضس السكندري في كتابه "من هو الغني الذي يخلص؟"

    جاء عن القديس يوحنا أنه بعد عودته من جزيرة بطمس إلى مدينة أفسس تجوّل في بعض المناطق الوثنية المجاورة، لإقامة أساقفة في بعض الأماكن وتدبير أمور الكنائس، وإذ بلغ مدينة ليست ببعيدة (غالبًا أزمير) سلم أسقفها شابًا وثنيًا قَبِل الإيمان وكان مملوءً غيرة، مؤكدًا عليه أن هذا الشاب هو وديعة بين يديه. وبالفعل اهتم به الأسقف حتى نال سرّ المعمودية. لكن بعض الشبان الفاسدين اجتمعوا به، وأفسدوا حياته في ترفٍ وبذخٍ، وإذ احتاجوا إلى مالٍ صاروا يسرقون، فكان يشترك معهم. انحدر الشاب من جريمة إلى أخرى حتى كوَّن عصابة تحت قيادته يسلبون وينهبون ويسفكون الدماء. وإذ عاد القديس يوحنا إلى المدينة يسأل الأسقف عن الشاب أجابه: "لقد مات... مات عن اللَّه، لأنه عاد إلى شره، وأصبح خليعًا، وأخيرًا صار لصًا، وعوضًا عن الكنيسة صار يلازم الجبال مع عصابة تماثله". لم يحتمل القديس ذلك، بل طلب فرسًا امتطاه رغم شيخوخته، وانطلق إلى الموضع حيث أسره اللصوص، وأتوا به إلى رئيسهم، الذي لما رآه اعتراه الخجل وحاول الهرب. صار القديس يجري وراءه صارخًا: "لماذا تهرب مني؟ أنا أبوك يا ابني، وأنا أعزل، طاعن في السن، وإن لزم الأمر فإنني مستعد أن احتمل الموت عنك، كما احتمل الرب الموت عنا. لأجلك أبذل حياتي. قف، آمن، فإن المسيح أرسلني إليك". للحال خجل الشاب ووقف مطرقًا رأسه نحو الأرض، يبسط ذراعيه في رعدة، وكان يبكي بمرارة. فرح به القديس جدًا، ورجع به إلى الكنيسة، ولم يترك المدينة حتى اطمأن عليه.

    v يروي القديس يوحنا كاسيان القصة التالية: "بينما كان الإنجيلي المبارك ذات يوم يداعب صقرًا، إذا بشاب أقبل عليه عائدًا من الصيد. فتعجب الشاب وسأل الرسول كيف أن رجلاً عظيمًا مثله يقضي وقته على هذا الحال. وحينئذ سأله الرسول: "ما هذا الذي في يدك؟" فقال الشاب: "إنه قوس". قال الرسول: "ولماذا هو غير مشدود؟" فأجاب: "لأنني لو جعلته مشدودًا على الدوام يفقد مرونته، وهي التي أحتاج إليها حين أطلق السهم". فقال الشيخ: "إذن لا تغضب على يا صديقي الشاب لأني في بعض الأحيان أحل أوتار نفسي، وإلا فقدت قوتها وخانتني في اللحظة التي أحتاج أن أستعملها".

    v يحدثنا أيضًا المؤرخ يوسابيوس عن مدى حرصه على الإيمان المستقيم من البدع نقلاً عما جاء عنه في كتابات القديس إيرينيؤس أسقف ليون أن الرسول دخل مرة إلى الحمام ليستحم، وإذ عرف أن المبتدع كيرنثوس (نادى بأن مملكة المسيح أرضية؛ إذ كان محبًا للولائم والعلاقات الدنسة الجسدية) هناك قفز فزعًا، وخرج مسرعًا، لأنه لم يطقْ البقاء معه تحت سقفٍ واحدٍ، ونصح مرافقيه أن يقتدوا به، قائلاً: "لنهرب لئلا يسقط الحمام، لأن كيرنثوس عدو الحق بداخله".

    v يحدثنا أيضًا المؤرخ يوسابيوس على لسان أبولونيوس الذي يظن أنه كان أسقفًا على أفسس أن الإنجيلي يوحنا أقام ميتًا في أفسس بمعونة الله.

    v يروي لنا العلامة ترتليان أن الإنجيلي يوحنا اُلقي في قزانٍ به زيت مغلي والرب نجاه.

    مكان كتابته وتاريخ الكتابة

    حسب شهادة القديس إيرينيؤس أسقف ليون (حوالي سنة 177-200م)، وهو تلميذ القديس بوليكربوس، سلّم القديس يوحنا إنجيله لأساقفة آسيا حيث كان مقيمًا معهم إلى عهد الإمبراطور تراجان، وأنه قام بنشره في أفسس.

    وقد بقي تقليد الكنيسة في الشرق والغرب يأخذ بهذا الرأي دون اعتراض يُذكر. لكن جاء بعض النقاد المحدثين يشككون في نسبة السفر للقديس يوحنا، وبالتالي تشككوا في مكان كتابته وتاريخه.

    أما من جهة مكان الكتابة فظن البعض أنه كُتب في إنطاكيا أو سوريا، يعتمدون في ذلك على ما جاء في أعمال أغناطيوس Acts of Ignatius، (وهو مُستند لا يُعرف تاريخه)، بأن يوحنا كان مرتبطًا بأنطاكيا. يُرد على ذلك بأن يوحنا كان في أنطاكيا زمانًا ثم ذهب إلى أفسس واستقر هناك.

    ينسب بعض النقاد السِفر إلى الإسكندرية، حجتهم في هذا أن أقدم مخطوطة للسِفر وُجدت في مصر. وأن السفر يحمل طابعًا هيلينيًا يناسب فكر الإسكندرية المتأثرة بفيلون Philo اليهودي الرمزي السكندري. يُرد على ذلك أن مناخ مصر العلمي جعلها تقتنيه في وقت مبكر وتحتفظ به، ويكون له دوره في حياة كنيستها وآبائها، لكن ليس بالضرورة أن يكون قد كُتب في مصر.

    أما من جهة اعتراض البعض على كتابته في أفسس، فقد قام الاعتراض على أساسين:

    أولاً: أكّد كثير من النقاد المحدثين خلال النصف الأول من القرن العشرين أن أسلوب السِفر غنوسي هيليني، وهو أسلوب لا يوافق القرن الأول الميلادي بل القرن الثاني. لذلك أصروا على أنه حتى وإن كانت أصوله من وضع يوحنا، فإنه قد أُعيد كتابته في القرن الثاني بيدٍ غنوسية في أنطاكية أو الإسكندرية. وجاء اكتشاف مخطوطات البحر الميت سنة 1947م وأيضًا المكتبة الغنوسية الكاملة التي اُكتشفت في تاريخ مقارب بنجع حمادى بصعيد مصر يؤكدان عكس ما أصرّ عليه النقاد. فتراجع الدارسون وشعروا بصدق التقليد الكنسي، وتيقّن غالبيتهم أنه من وضع القرن الأول، غالبًا بيد القديس يوحنا في أفسس. الأمر الذي نعود إليه عند حديثنا عن "إنجيل يوحنا والغنوسية".

    ثانيًا: حاول بعض النقاد التشكيك في كتابة هذا السِفر بواسطة القديس يوحنا في أفسس بدعوى أن القديس قد استشهد مع أخيه يعقوب على يديّ هيرودس أغريباس الأول سنة 44م في أورشليم، مُقدمين بعض الدلائل التي يمكن الرد عليها:

    1. جاء في مرقس39:10 أن يعقوب ويوحنا يشربان الكأس التي يشربها ربنا يسوع، قائلين بأن هذا يعني أن يوحنا كان يجب أن يستشهد مع أخيه، وإلا كان القديس مرقس قد التزم بتغيير النص. ويُرد على ذلك بأن القديس مرقس مُلتزم بكتابة نص كلمات السيد المسيح تمامًا، وليس من حقه تغيير النص، تاركًا للقارئ التفسير. فإن الكأس التي قصدها الرب كانت نبوة عن الآلام التي احتملها التلميذان، وليس بالضرورة البلوغ حتى الاستشهاد بسفك الدم. هذا ولو أن هيرودس قتل الأخوين معًا لما اكتفى لوقا (كاتب سفر الأعمال) بذكر قتل يعقوب وحده، وإنما كان قد ذكر الأخوين معًا، "فقتل يعقوب أخا يوحنا بالسيف، وإذ رأى أن ذلك يُرضي اليهود عاد فقبض على بطرس أيضًا" (أع 2:12، 3).

    2. اعتمدوا على عبارة موجزة وردت في كتابات كاتبين متأخرين هما فيلبس الصيدي Philip of Side من القرن الخامس، وجورج همرتوليس George Hamartolus من القرن التاسع، فيها نسبا لبابياس أن يوحنا ويعقوب قتلهما اليهود. ويرد على ذلك بأن ما ورد في هذا الشأن لا يُمكن أخذه بجدية إذ عُرف عن الكاتبين أنهما غير مدققين كمؤرخين. ويقول C. K. Barrett أن إيرينيؤس ويوسابيوس عرفا كتابات بابياس ولم يذكرا شيئًا عن استشهاد يوحنا. ومما يشكك في الأمر أن فيلبس لقب يوحنا باللاهوتي بينما لم يكن هذا اللقب قد عُرف به القديس يوحنا في أيام بابياس (القرن الثاني)؛ أما جورج فلم يأخذ ما كتبه عن بابياس في هذا الشأن بجدية، إذ عاد فتحدث عن القديس يوحنا أنه رقد بسلام (دون استشهاد).

    3. جاء في أعمال الشهداء السرياني (سنة 411) تذكار القديسين يوحنا ويعقوب في نفس اليوم، أي 27 ديسمبر، كرسولين في أورشليم، كما جاء في تقويم قرطاجنّة (حوالي 505م) تذكار يوحنا المعمدان ويعقوب في نفس اليوم (27 ديسمبر)، فحسب بعض الدارسين أن التقويم أخطأ في تلقيبه بالمعمدان، كما جاء في عظة للأب أفراهات أن الذين استشهدوا من الرسل غير اسطفانوس وبطرس وبولس هما اثنان يوحنا ويعقوب.

    يرد على ذلك بأنه في كل هذه حدث لبس بين القديسين يوحنا المعمدان ويوحنا الرسول. أما الدلائل الإيجابية على أن الرسول يوحنا لم يستشهد مع أخيه فهي:

    1. ذُكر القديس يوحنا بين أعمدة الكنيسة في غلاطية 9:2، وكان ذلك بعد سنة 44م.

    2. جاءت اكتشافات علماء الآثار النمساويين لمقبرة القديس يوحنا بأفسس تسند الفكر الكنسي التقليدي.

    3. جاء عن بوليقراطيس Polycrates أسقف أفسس أنه كتب إلى فيكتورينوس أسقف روما حوالي سنة 190م، يؤكد أن الرسول يوحنا عاش في أفسس وتنيح فيها.

    أما من جهة تاريخ كتابة السفر فبحسب الفكر الكنسي كان في أواخر حياة القديس يوحنا. هذا وواضح من السفر أنه كُتب بعد خراب هيكل اليهود في أورشليم عام 70م (راجع يو 19:2، 20؛ 21:4)؛ وربما بعد طرد المؤمنين من مجامع اليهود، الأمر الذي تم حوالي سنة 85م حتى سنة 90م (راجع يو 22:9؛ 2:16).

    غاية الكتابة

    1. يذكر لنا الإنجيلي غاية كتابته للسفر قائلاً: "لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن اللَّه، ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه" (31:20). ويلاحظ في هذا النص الإنجيلي الآتي:

    أ. جاءت كلمة "تؤمنوا" في اليونانية pioteonte وذلك في النسخ السينائية والفاتيكانية وKoredethi في صيغة الحاضر لا الماضي، لتعني أن الإنجيل كتب لتثبيت إيمان قائم فعلاً. فهو لم يقدم إيمانًا جديدًا، إنما أراد تثبيت إيمان الكنيسة الذي تعيشه حتى لا ينحرف أحد عنه.

    ب. موضوع الإيمان أن يسوع هو المسيح، وأنه ابن اللَّه. وكما يقول W. C. Van Unnik أن كلمة "المسيح" لا تعنى لقبًا مجردًا، إنما تعنى بالضرورة "الواحد الممسوح"، "الملك الممسوح"، الأمر الذي كان اليهود يدركونه دون الأمم، أما كلمة "ابن اللَّه" فيدركها بالأكثر العالم الهيليني. على أي الأحوال ارتباط اللقبين معًا كان ضروريًا لتثبيت إيمان من كانوا من أصلٍ يهوديٍ أو أمميٍ، إذ يدرك كل مؤمن أن يسوع هذا هو موضوع كل النبوات القديمة، وهو ابن اللَّه الواحد معه في ذات الجوهر، قادر على تقديم الخلاص وتجديد الخلقة.

    هذا وقد لاحظ الدارسون أن كلمة "المسيا" قدمت في هذا الإنجيل وحده دون ترجمة بل كما هي، وكأن القديس يوحنا أراد أن يؤكد أن اللقب هنا إنما عني ما فهمه اليهود. لذا نجده يقدم لنا حديث فيلبس لنثنائيل: "وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء" (45:1)؛ ودعوة أندراوس لأخيه سمعان بطرس: "قد وجدنا مسيا، الذي تفسيره المسيح" (41:1). هذه هي صورة ربنا يسوع في هذا الإنجيل منذ بدايته، صورة مسيانية.

    هذه الصورة عن يسوع بكونه المسيا الملك الذي طال انتظار اليهود لمجيئه أكدها الإنجيلي في أكثر من موضع. ففي دخول السيد أورشليم "كانوا يصرخون: أوصنا، مبارك الآتي باسم الرب ملك إسرائيل... هذا الأمور لم يفهمها تلاميذه أولاً؛ ولكن لما تمجد يسوع حينئذ تذكروا أن هذه كانت مكتوبة عنه" (13:12-16). وأمام بيلاطس اعترف السيد بمملكته (33:18-37)؛ وقد دين كملكٍٍ لليهود (3:19، 12-15، 19، 20). القديس يوحنا وحده هو الذي أخبرنا أن الجموع طلبته لتقيمه ملكًا فانسحب من وسطهم (15:6)، لأن فهمهم للملك المسياني مختلف عن قصده هو.

    هذه الصورة التي قدمها الإنجيلي يوحنا عن ربنا يسوع بكونه "المسيا الملك" الذي طال انتظار اليهود لمجيئه، جعلت بعض الدارسين ينادون بأن يوحنا كرجل يهودي كان مرّ النفس بسبب العداوة التي أظهرها اليهود نحو يسوع. هذا ما نادى به لورد شارنوود Lord Charnwood سنة 1925، غير أن بعض الدارسين مثل ف. تيلور فيرى أن هذا الهدف لم يكن رئيسيًا، إنما كان القديس يوحنا مرّ النفس من نحو كل من حمل عداوة ليسوع سواء كان يهوديًا أو غير يهودي. ودارسون آخرون مثل J. A. T. Robinson نادوا بأن الرسول قصد المسيحيين الذين من أصل هيليني ولم يوجه إنجيله لليهود.

    ج. غاية هذا السفر تأكيد لاهوت السيد المسيح، بكونه ابن اللَّه الوحيد الجنس، لكن لا لمناقشات نظرية أو مجادلات فلسفية، وإنما للتمتع بالحياة باسمه. إيماننا بلاهوته يمس حياتنا وخلاصنا نفسه، لذلك جاءت أول عظة بين أيدينا بعد كتابة العهد الجديد تبدأ بالكلمات: [يليق بنا أيها الاخوة أن نفكر في يسوع المسيح بكونه اللَّه، ديان الأحياء والأموات. يلزمنا ألا نقلل من شأن خلاصنا، لأننا عندما نقلل من (السيد المسيح) إنما نتقبل منه القليل.]

    كأن هذا السفر جاء يعلن بأكثر وضوحٍ وإفاضة ما قدمه لنا الإنجيليون الآخرون، معلنًا لنا الجانب اللاهوتي. وكما يقول العلامة أوريجينوس: [إن أحدًا من هؤلاء لم يعلن لنا لاهوته بوضوح كما فعل يوحنا، إذ خلاله يقول: "أنا هو نور العالم"، "أنا هو الطريق والحق والحياة"، "أنا هو القيامة"، "أنا هو الباب"، "أنا هو الراعي الصالح"، وفي الرؤيا: "أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية، الأول والآخر".]

    بمعنى آخر، قدم لنا هذا السفر علاقة الابن الأزلية مع الآب، ومعنى هذه العلاقة الفريدة في حياة المؤمنين، ودورها في خلاصهم. أراد الإنجيلي بالكشف عن شخصية السيد المسيح كابن اللَّه الوحيد أن نؤمن به فنخلص، ونحيا أبديًا. وقد أبرز الإنجيلي أن معاصري السيد المسيح أنفسهم لم يدركوا كمال حقيقته كما ينبغي ولا مغزى كلماته وتصرفاته الفائقة للعقل. أقرباؤه حسب الجسد مثل أمه وأخوته (أبناء خالته)، وأصدقاؤه، ومعلمو اليهود، والكهنة، وأيضًا المرأة السامرية، وبيلاطس بنطس... هؤلاء جميعًا لم يدركوا كلماته وذهلوا أمام تصرفاته.

    v أتجاسر فأقول يا اخوتي أن يوحنا نفسه لم يتحدث في الأمر كما هو، إنما قدر استطاعته فقط. لأنه كان إنسانًا يتحدث عن اللَّه، حقًا مُوحى إليه من اللَّه، لكنه لا يزال إنسانًا.

    القديس أغسطينوس

    د- حافظ الله على حياة هذا الرسول ولم يسمح باستشهاده مبكرًا مع بقية التلاميذ ليقدم للكنيسة الصبية الحق في شيء من الإيضاح (إنجيل يوحنا)، ويدخل بها إلى يوم الرب لتعاين السماء المفتوحة (سفر الرؤيا).

    v ألا ترون أنه ليس بدون سبب أقول إن هذا الإنجيلي يتحدث إلينا من السماء؟ انظروا فقط في البداية عينها كيف يسحب بها النفس، ويهبها أجنحة، ويرفع معه ذهن السامعين. فيقيمها فوق كل الأشياء المحسوسة، أعلى من الأرض والسماء، ويمسك بيدها، ويقودها إلى أعلى من الملائكة أنفسهم والشاروبيم والسيرافيم والعروش والسلاطين والقوات، وفي كلمة يحثها على القيام برحلة تسمو فوق كل المخلوقات.

    القديس يوحنا الذهبي الفم

    v كان بولس سماءً عندما قال: "محادثتنا في السماء" (في 20:3). يعقوب ويوحنا كانا سماوات، ولذا دعيا ابنيّ الرعد (مر 17:3)، وكان يوحنا كمن هو السماء فرأى الكلمة عند اللَّه.

    القديس أمبروسيوس

    عاش القديس يوحنا حتى نهاية القرن الأول، كآخر من رقد بين تلاميذ السيد المسيح ورسله. وقد عاصر الجيل الجديد من المسيحيين، فكان هو - إن صح التعبير - حلقة الوصل بين العصر الرسولي وبدء عصر ما بعد الرسل. لقد أراد أن يقدم الكلمة الرسولية النهائية عن شخص المسيا، وأن يحفظ الكنيسة من تسلل بعض الأفكار الخاطئة.

    يرى بعض الدارسين أن الإنجيلي قصد مواجهة بعض الحركات الغنوسية مثل الدوناتست (الدوسيتيون) Docetism، إذ نادى هؤلاء باستحالة أن يأخذ الكلمة الإلهي جسدًا حقيقيًا، لأن المادة في نظرهم شرّ. لذلك أكد الرسول في إنجيله أن يسوع وهو ابن اللَّه بالحقيقة قد تجسد أيضًا حقيقة، ولم يكن خيالاً، إذ يقول: "الكلمة صار جسدًا". ما كان يمكننا أن نتمتع بالخلاص ما لم يحمل طبيعتنا فيه، ويشاركنا حياتنا الواقعية. لقد أبرز الإنجيلي السيد المسيح في عرس قانا الجليل وهو يقوم بدور خادم الجماعة. لقد حوَّل الماء خمرًا، وهو عمل فيه خلق، لكنه قام به خلال الخدمة المتواضعة غير منتظرٍ أن يأخذ المتكأ الأول. وعلى بئر سوخار ظهر متعبًا وعطشانًا، وعند قبر لعازر تأثر جدًا بعمقٍ وبكى، وفي العلية غسل أقدام التلاميذ، وعلى الصليب عطش.

    غاية هذا السفر الربط بين يسوع التاريخي والمسيح الحاضر في كنيسته. محولاً الأحداث التي تمت في حياة ربنا يسوع للإعلان عن شخصه بكونه رب المجد العامل في كنيسته.

    أهداف أخرى للسفر

    يرى البعض أنه قامت خمس نظريات خاصة بغاية هذا السفر، وهم:

    1. انطلاق المؤمن بالإيمان بالسيد المسيح ابن الله المتجسد إلى عربون الحياة الأبدية والتمتع بالسماويات كما أوضح الإنجيلي نفسه (يو 20: 30-31). هذا ما تحدثنا عنه قبلاً.

    2. الرد على الهرطقات والبدع المعاصرة واليهود المقاومين، والدفاع عن الإيمان المسيحي. وسنتحدث عن هذه النظرية فيما بعد.

    3. نظرية تكميل ما ورد في الأناجيل الثلاثة الإزائية الأخرى. وقد مال إليها يوسابيوس القيصري والقديس جيروم. يصعب القول أن هذا هو ما هدف إليه الإنجيلي. حقًا لقد أمدنا بإعلان الروح القدس بأحاديث وحوار للسيد المسيح مع بعض الشخصيات والجماعات تكشف لنا عن شخص السيد المسيح وعمله الخلاصي وإمكانياته الإلهية التي قدمها لنا وهباته الفائقة وإرساله روحه القدوس وسكنى الثالوث القدوس فينا. قدم لنا فيضًا من اللاهوت الحي العملي الرائع، ومعرفة لاهوتية كاملة.

    يوجد تقليد قديم يقول إن القديس يوحنا كتب إنجيله بناء على طلب أساقفة آسيا الصغرى شركائه في الخدمة، إذ يقول القديس أكليمنضس الإسكندري (حوالي سنة 190م): [إن يوحنا، آخر الكل، إذ أدرك الحقائق الخارجية التي كشفتها الأناجيل (الأخرى)، حثه تلاميذه كما أوحى إليه الروح ليكتب إنجيلاً روحيًا.] كأن تلاميذه وشركاءه في الخدمة بآسيا سألوه أن يسجل لهم تفسيرًا لاهوتيًا لما سبق فكتبه الإنجيليون الآخرون تاريخيًا. هذا وإن كان كل إنجيلي سجل سفره بالروح القدس ليحمل فكرًا لاهوتيًا متمايزًا ومتكاملاً مع الأناجيل الأخرى.

    4. مال القديس أكليمنضس السكندري إلى ما يدعوه البعض بنظرية التعليم، حيث يقدم السيد المسيح المعلم. هذه حقيقة لكنه ليس بالمعلم الذي يقدم معلومات خارجية، إنما الذي يضم تلاميذه إليه كأعضاء جسده، يختبرون حياته كحياةٍ لهم.

    5. نظرية مواجهة الفلسفات المعاصرة للتوفيق بين الفلسفة والإيمان المسيحي. لسنا نظن أن هذا هو الهدف من وحي الروح القدس لهذا السفر، إنما غايته تقديم الحق الإنجيلي الإلهي. لا يعني أن هذا الحق يرفض ويقاوم كل الفلسفات، إنما يغربلها ويرفض ما فيها من باطل. وقد انبرت مدرسة الإسكندرية، خاصة في عصر القديس اكليمنضس السكندري تكشف عن إمكانية التزاوج بين الإيمان الحي والفلسفة بما فيها من حقٍ وليس بما أفسده الإنسان من أوهامٍ وخيالاتٍ.



    الرد على الهرطقات والبدع المعاصرة واليهود المقاومين

    يرى بعض آباء الكنيسة مثل القديس إيرينيئوس أسقف ليون والقديس جيروم وفيكتورينوس من بيتَّاو Victorinus of Pattau وغيرهم أن غاية هذا السفر هو الرد على الهرطقات والبدع المعاصرة في أيامه واليهود المقاومين للكنيسة.

    يقول فيكتورينوس من بيتَّاو في أواخر القرن الثالث وبدء القرن الرابع: [كتب يوحنا الرسول إنجيله بعد سفر الرؤيا، وذلك بعد أن نشر كل من الهراطقة فالنتينوس وكيرنثوس وإبيون وآخرون من مدرسة الشيطان تعاليمهم في كافة أنحاء المسكونة، مما اضطر الأساقفة الذين في البلاد المجاورة أن يجتمعوا إلى القديس يوحنا واضطروه أن يكتب إنجيل شهادته].

    حقًا لقد قام الرسول بالدفاع عن الإيمان المسيحي في مواجهة عدة جماعات مقاومة للكنيسة، لكن السفر في جوهره هو عطية الروح القدس الذي أوحى للإنجيلي أن يكشف عن الحق الإلهي الذي يمس خلاصنا، ولا يقف عند الجانب السلبي.

    ومما لا شك فيه أن هذا السفر يبقى دومُا مصدرًا حيَّا تنهل منه الكنيسة في دحض البدع عبر العصور. ففي رد القديس إيرينيئوس على الهرطقات اقتبس أكثر من 100 شاهدًا منه. وأيضًا كلٍ من هيبوليتس والقديس أثناسيوس الرسولي والقديس كيرلس الكبير، كما استخدمه كثيرًا القديس اكليمنضس السكندري.

    أولاً: الرد على اليهود المقاومين

    وقد ظهرت مقاومتهم لشخصه في الأناجيل الثلاثة السابقة. استخدم كلمة "اليهود" 70 مرة في هذا السفر مقابل 5 أو 6 مرات في كل سفر من الأناجيل الإزائية. يستخدمها بمعانٍ كثيرة، منها:

    v بمعنى وطني لا ديني، كما في الحوار مع المرأة السامرية (9:4).

    v بمعنى السلطات الدينية، خاصة سلطات أورشليم المقاومة للسيد المسيح (22:9؛ 3:18؛ 13:8).

    يميز الإنجيل بين كلمتي اليهود وإسرائيل، فالأخيرة إيجابية تدل على ميراث العهد القديم الحقيقي. فقد جاء يوحنا المعمدان يعمد بالماء حتى يظهر يسوع لإسرائيل (31:1). ووصف نثنائيل أنه إسرائيلي لا غش فيه (47:1). حينما يتحدث عن أعياد اليهود وعاداتهم (6:2، 13؛ 2:7) لا نجد ما يشير إلى الازدراء.

    قاوم اليهود السيد المسيح: "أنت تلميذ ذاك، أما نحن فتلاميذ موسى" (28:9)، وأرادوا قتله، فحسبهم السيد "أولاد إبليس" (44:8-47)، لأنهم يريدون أن يمارسوا عمل أبيهم القتّال منذ البدء.

    إنهم ينكرون أنه المسيا ابن الله السماوي (18:5؛ 40:8-49). دبروا المؤامرات لقتله (10: 30 ـ 39؛ 11: 8 ـ50)، وحرموا من يعترف به أنه المسيا من المجمع (22:9؛ 42:12).

    أيضًا الأبيونيون وهم جماعة من المؤمنين من أصل يهودي اعتبروا التمسك بالفروض اليهودية وطقوس الآباء ضرورة يلتزم بها المسيحيون. وفي حماسهم الزائد لموسى والأنبياء اعتبروا أن السيد المسيح مجرد ابن لداود بدون وجودٍ له قبل التجسد، ومجرد نبي ممتاز كانوا ينتظرونه، ودعوا أنفسهم الأبيونيين من الكلمة العبرانية ebyon ومعناها "فقير".

    في هذا السفر أوضح:

    v ليس من وجه للمقارنة بين موسى مستلم الناموس والمسيح واهب النعمة والحق (17:1). قدم الأول المن، وأما الثاني فهو نفسه خبز الحياة (32:6).

    v نهاية الطقوس اليهودية (2: 1 ـ 10).

    v عدم ارتباط العبادة بالهيكل (2: 1 ـ 10).

    v اليهود المقاومون ليسوا أبناء إبراهيم، بل أبناء إبليس (8: 39 ـ 44).

    v لن يلتقي اليهود المقاومون بموسى كشركاء في المجد، بل سيدينهم (45:5).

    ثانيًا: المتشيعون ليوحنا المعمدان

    يرى البعض أن بعض تلاميذه كوّنوا جماعة تعظم يوحنا المعمدان على حساب شخص ربنا يسوع المسيح. كانوا يحسبونه أعظم من المسيح، لأنه جاء قبله، ولأنه عمده. جاء في "التعارفات Recognitions" المنسوب لإكليمنضس أنهم يدَّعون أن معلمهم هو المعمدان وليس يسوع. هؤلاء عاشوا في العالم المسيحي وعارضوا المسيحية. وكان لهم تأثيرهم، خاصة في أفسس (أع 19: 1 ـ 8).

    يرى أصحاب هذا الرأي (أن السفر قد كُتب لمقاومة المتشيعين ليوحنا المعمدان) أن الإنجيلي قد أكد أن يسـوع المسيح وليس يوحنا المعمدان هو نور العالم (8:1-9). وأنه جاء بعده، لكنه هو سابق له، وأعظم منه (30:1) مع تأكيد أن يسوع وليس يوحنا هو المسيح (20:1؛ 28:3). وأن يوحنا المعمدان جاء شاهدًا ليسوع ينبغي أن الأخير يزيد والأول ينقص (30:3).

    أكد القديس يوحنا بشهادة يوحنا المعمدان نفسه عن عظمة المسيح: فالمعمدان ليس بالنور بل هو شاهد للنور (1: 6ـ 8)، وأنه ليس بالعريس بل صديقه (2: 28ـ30)، ليس بحامل خطايا العالم، إنما المسيح وحده هو حمل الله الذي يحمل خطية العالم (29:1).

    حقًا لقد أعلن هذا الإنجيلي مشاعر السيد المسيح العميقة أكثر من بقية الأناجيل، وظهر ذلك بقوة في صلاته الوداعية في الإصحاح السابع عشر حيث صلى بصوتٍ عالٍ. بهذا يقدم لنا الإنجيلي صورة السيد المسيح الفائق الإدراك، والتي لا يمكن التعبير عنها، إذ يدخل بنا إلى كمال أسرار اللاهوت فنقف خاشعين، وإلى كمال ناسوته فنقف مذهولين!

    لم يتجاهل القديس يوحنا الإنجيلي عظمة يوحنا المعمدان، فهو مُرسل من قبل اللَّه (6:1)، وهو السراج المنير الساطع (35:5).

    ثالثًا: الرد على بعض أصحاب البدع

    جاء في كتاب "ضد الهرطقات" للقديس إيرينيؤس، وهو من رجال القرن الثاني، أن إنجيل يوحنا كُتب ضد كيرنثوس. وهو صاحب نزعة غنوصية، من آسيا الصغرى. في رأي القديس إيرينيؤس أن كيرنثوس ادعى بأن يسوع هو ابن ليوسف، وأن المسيح عنصر سماوي حلّ على يسوع في وقت العماد وتركه بعد موته. كما ادعى أن الخلق قد تم بواسطة قوة خلاّقة لا بواسطة اللَّه.

    إذ يذكر القديس إيرينيؤس أسقف ليون أبيون مع كيرنثوس، لذا ظن القديس جيروم أن إنجيل يوحنا جاء ردًا على أبيون وأتباعه، وهي شيعة مسيحية متهودة.

    قيل أيضًا أنه موجه ضد الدوسيتيين Docetists الظاهرين، القائلين بالخيالية في جسد الرب. وهو يدعون أن يسوع المسيح لم يأتِ حقًا بالجسد. فجسده ليس جسدًا حقيقيًا بل ظاهرًا أو غازيًا أو أثيريًا. يبدو كأنه إنسان، وبهذا كان تألمه وموته ظاهريين.

    رابعًا: نداء إلى المسيحيين الذين من أصل يهودي في الشتات

    يشير مرتين إلى الذين آمنوا بالسيد المسيح ولم تكن لهم الشجاعة أن يعلنوا إيمانهم خوفًا من الطرد من مجمع السنهدرين. الأولى في 42:12 إذ "آمن به كثيرون من الرؤساء أيضًا غير أنهم لسبب الفريسيين لم يعترفوا به لئلا يصيروا خارج المجمع". والثانية في 38:19 "ثم أن يوسف الذي من الرامة وهو تلميذ يسوع، ولكن خفية لسبب الخوف من اليهود سأل بيلاطس أن يأخذ جسد يسوع".

    خامسًا: مساندة المسيحيين في العالم أيا كان أصلهم

    جاء يسوع إلى العالم ليكون نورًا لكل إنسان (9:1)، وهو حمل اللَّه الذي يحمل خطية العالم (29:1)، جاء ليخلص العالم (16:3). متى ارتفع على الصليب يجذب إليه كل إنسانٍ (32:12). فهو مسيح العالم. في استهزاء قال اليهود إنه ربما يذهب إلى الشتات لكي يعلم اليونانيين (35:7)، فتنبأوا عن عمله بين الأمم وهم لا يدرون، كما نسمع عن بعض اليونانيين الذين قالوا لفيلبس: "يا سيد، نريد أن نرى يسوع" (20:12-21). وفي حديثه عن عمله كراعٍ صالحٍ يؤكد أن له خرافًا ليست من هذا القطيع يجعلها جزءً من رعية واحدة لراعٍ واحدٍ (16:10). وفي 35:4 نرى السيد المسيح قد جاء ليس لفداء الأمة اليهودية وحدها بل ليجمع أبناء اللَّه المشتتين ويوّحدهم. لقد تعرف بعض السامريين عليه، وعرفوا أنه مخلص العالم (42:4)، وقد رأى السيد حقول السامرة قد ابيضّت للحصاد (35:4).



    إنجيل يوحنا والأناجيل الثلاثة الإزائية Synoptic Gospels

    إن كان الإنجيل بحسب يوحنا يختلف عن الأناجيل المتشابهة أو الإزائية (متى ومرقس ولوقا) Synoptic Gospels، لكننا لا نستطيع أن نبتره عنها تمامًا، إذ يفترض معرفة الإنجيلي يوحنا للأناجيل الثلاثة السابق كتابتها أو على الأقل للتقليد الذي اعتمدوا عليه.

    كان الرأي الكنسي الأول يمثله قول القديس اكليمنضس الإسكندري، وهو أن القديس يوحنا أراد أن يقدم تفسيرًا روحيًا للأناجيل الثلاثة السابقة له. هذا الرأي ساد عبر العصور ولازال يقبله كثير من الدارسين، وإن كان بعض النقاد المحدثين يرون أنه لا علاقة بين هذا السفر والأناجيل الثلاثة لا بالإيجابية ولا بالسلبية، ورأى بعضهم أن يوحنا عرف مرقس ولوقا دون متى.

    ويلاحظ في هذا السفر أنه يفترض في القارئ معرفته للأناجيل الثلاثة الأخرى؛ نذكر على سبيل المثال في يو 40:1 يقدم لنا أندراوس هكذا: "كان أندراوس أخو بطرس..."، دون أن يشير قبلاً إلى القديس بطرس. وفي 67:6 يفترض في القارئ أنه يعرف الاثنى عشر تلميذًا. وفي 32:1-34 إذ يسجل لنا شهادة يوحنا المعمدان عن السيد، يفترض في القارئ معرفته عن عماد السيد بواسطة يوحنا دون الإشارة إليه.

    يعتبر البعض الأناجيل الثلاثة أشبه برحلة السيد المسيح من الجليل إلى أورشليم، فتركز على صعوده الأخير إلى المدينة المقدسة حيث قدم نفسه ذبيحة الفصح الفريدة. أما إنجيل يوحنا فيتحدث عن مناسبات عديدة أقام فيها السيد المسيح في أورشليم، ويذكر عيد الفصح في ثلاث سنوات متوالية، وفي ليلة الفصح الأخير مات المسيح "حمل اللَّه" ليُقدم احتفالاً جديدًا للعالم كله يملأه ببهجة قيامته التي صار تذكارها هو "عيد الفصح المسيحي".

    سجل لنا القديس يوحنا الحبيب بإعلان الروح القدس هذا السفر بعد كتابة الأناجيل الإزائية الثلاثة، سجله للكنيسة الجامعة موضحًا شخص المخلص بكونه الكلمة الأزلي الإلهي، ابن اللَّه مخلص العالم.

    v بسبب حسن يبدأ الإنجيلي يوحنا قصته من الوجود الأزلي. بينما يبدأ متى بعلاقة (المسيح) بالملك هيرودس، ولوقا بطيباريوس قيصر، ومرقس بمعمودية يوحنا، يترك هذا الرسول كل هذه الأمور ليعبر فوق كل زمن وكل عصر.

    v لماذا بينما بدأ الإنجيليون الآخرون بالحديث عن التدبير... أشار يوحنا إلى ذلك باختصار مؤخرًا: "الكلمة صار جسدًا" (14). ترك الحديث عن بقية الأمور: الحبل به، وميلاده، ونشأته، ونموه، متحدثًا معنا في الحال عن ميلاده الأزلي؟... لكي ينزع عن الذين يرغبون في أن يُغرموا بالأرض هذا الأمر، ويجتذبهم نحو السماء. لهذا بسبب حسن يبدأ قصته من فوق ومن الوجود الأزلي. بينما دخل متى إلى الحديث ذاكرًا الملك هيرودس، ولوقا طيباريوس قيصر، ومرقس معمودية يوحنا، ترك هذا الإنجيلي كل هذه الأمور وارتفع فوق كل زمن وكل عصر وسحب فكر سامعيه إلى "البدء" حتى لا يسمح للفكر أن يلتصق بأية نقطة، ولا يرتبط بحدودٍ معينة كما فعل الإنجيليون، إذ ارتبطوا بهيرودس وطيباريوس ويوحنا. وما نشير إليه هو أن ما يستحق العجب أن يوحنا الذي كرّس نفسه لهذا التعليم العلوي لم يتجاهل تدبير (الخلاص)، كما أن الإنجيليين الآخرين لم يقفوا عند الارتباط بهذه الحدود ولا صمتوا عن كيانه قبل العصور. فإنه بسبب صالح الروح الواحد هو الذي حرك هذه النفوس جميعًا. ولذلك اظهروا اتفاقًا عظيمًا في روايتهم.

    القديس يوحنا الذهبي الفم

    v يوحنا الإنجيلي، بين زملائه وأصحابه الإنجيليين الآخرين تقبَّل هذه الهبة الخاصة من الرب. إذ اتكأ على صدره في العيد، إشارة إلى شربه أسرارًا أعمق، وذلك من قلب (الرب) العميق. فصار ينطق بهذه الأمور الخاصة بابن اللَّه، التي قد تثور في أذهان الصغار المتيقظة، ولكنها لم تقدر أن تشبعها إذ هي عاجزة عن استيعابها. بينما بالنسبة لأذهان من هم أكثر نموًا، الذين بلغوا نوعًا من الرجولة الداخلية، فتعطيهم هذه الكلمات ما يختبرونه ويقتاتون به.

    v في الأناجيل الأربعة أو بالأحرى في الأربعة كتب للإنجيل الواحد ليس عن غير استحقاق يشبه القديس يوحنا الرسول بخصوص فهمه الروحي بالنسر. لقد ارتفع بكرازته أعلى وأكثر سموًا من الثلاثة الآخرين، وبارتفاعه هذا أراد أن يرفع قلوبنا أيضًا. لأن الثلاثة إنجيليين الثلاثة ساروا مع الرب على الأرض كما مع إنسانٍ، أما عن لاهوته فتحدثوا القليل عنه. أما هذا الإنجيلي فإنه كمن استهان بالسير على الأرض، كما في مقدمة مقاله، فرعد علينا، وحلّق بنا ليس فقط فوق الأرض بل وفوق كل محيط الهواء والسماء، بل وفوق كل جيش الملائكة وكل نظام القوات غير المنظورة، وبلغ إلى ذاك الذي "به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان".

    القديس أغسطينوس

    لم يشترك مع الأناجيل الثلاثة إلا في:

    * عماد السيد المسيح (بالتلميح) 32:1-34؛

    * تطهير الهيكل 13:2-16؛

    * إشباع الجموع 1:6-13؛

    * المشي على المياه 16:6-21؛

    * سكب الطيب في بيت عنيا 1:12- 8؛

    * دخول المسيح أورشليم منتصرًا 12:12-19؛

    * إعلان الخيانة 21:13-30؛

    * آلامه وقيامته، قدمت بطريقة خاصة.

    هذا ولم يذكر الإنجيلي يوحنا سوى سبع آيات فقط، اختارها من بين الآيات والعجائب التي بلا حصر. وقد جاءت هذه الآيات أو المعجزات جديدة لم يذكرها غيره من الإنجيليين، سوى إشباع الجماهير التي سجلها كمقدمة لحديثه الصريح عن الإفخارستيا، والسير على المياه.

    ذكر الإنجيلي يوحنا حوادث وأحاديث لم يذكرها غيره من الإنجيليين، فجاء جديدًا على مسامعنا. لم يكرر ما جاء قبلاً مثل ميلاد السيد المسيح، نسبه، التجربة، الموعظة على جبل، التجلي، الأمثال، العشاء الأخير، الآلام في جثسيماني، الصعود الخ. مكتفيًا أحيانًا بالتلميح.

    إنجيل يوحنا بين اللاهوت والتاريخ

    بلا شك أن إنجيل يوحنا له طابع متميز عن بقية الأناجيل، فإن كانت الأخيرة قد سجلها الوحي الإلهي بغرض تاريخي مع اهتمام كل إنجيل بالكشف عن أحد جوانب السيد المسيح، فإن هذا الإنجيل يغلب عليه الطابع اللاهوتي، وإن كان في عرض تاريخي أيضًا.

    في إنجيل مرقس يذكر رحلة واحدة من الجليل إلى أورشليم (مر 1:10)، أما في يوحنا فيذكر ثلاث رحلات (يو 13:2؛ 1:5؛ 10:7). في إنجيل مرقس يأتي تطهير الهيكل في أواخر السفر (مر 15:11)، أما في يوحنا فيأتي في قرب بدايته (يو 13:2 الخ).

    لقد ركز الإنجيلى يوحنا على شخص السيد المسيح ليعلن أنه كلمة اللَّه الذي فوق الزمن وقد خضع للزمن، وصار له موضع في تاريخ البشرية. حقًا لم يُقصد بالإنجيل أن يستعرض تاريخ حياة السيد، بل أبرز حقيقته بكونه اللوغس "الكلمة الإلهى"، النور، الحق، الحياة، القيامة الخ. وكأن هذا السفر أراد تأكيد أن التمتع بملكوت اللَّه الداخلي إنما هو تعرُف على شخص المسيا المخلص، وإدراك أسراره عاملة فينا. من أجل هذا خضع للزمن، إذ "صار الكلمة جسدًا" (14:1).

    إن كنا نحن كبشرٍ نحمل جسدًا يخضع للزمن، فبخضوع السيد المسيح بإرادته للزمن واقتحامه تاريخنا خلال تجسده لم يحطم الزمن بل أعطاه قدسية خاصة. ولعله لهذا السبب نجد الرسول يوحنا يهتم بالتدقيق في الحديث عن الأزمنة والأوقات، إذ يقول:

    "وكان نحو الساعة العاشرة" (39:1)؛

    "كان نحو السادسة" (6:4؛ 14:19)؛

    "في ست وأربعين سنة بُني هذا الهيكل" (20:2)؛

    "وكان شتاء" (23:10)؛

    "وكان ليلاً" (30:13)؛

    ولعل اهتمام الرسول بتحديد الأزمنة تأكيد أن السيد المسيح قد حمل جسدًا حقيقيًا، ودخل في التاريخ البشري، ولم يكن جسده خيالاً كما ادعى البعض مثل الدوناتست.

    إذ يسبح القديس يوحنا في اللاهوتيات، بكونه اللاهوتي الأول، يشرح لنا قصد اللَّه و"تدبيره" (باليونانية eikos ecomomia، eikos أي بيت؛ وnomos أي قانون أو ناموس): "الحكمة بنت لها بيتًا" (أم 1:9). فالحكمة هي المسيح، وأول بيت لها هو العذراء مريم التي بتجسده منها جاء المسيح إلى العالم. والعذراء صورة الكنيسة التي هي أيضًا بيت اللَّه (1 كو 9:3-17).

    تزايد الاهتمام بالجانب التاريخي

    إن كان بعض الدارسين المحدثين أرادوا تفسير إنجيل يوحنا من الجانب اللاهوتي البحت، متجنبين قيمته التاريخية، لكنهم وجدوا أنفسهم أمام هذه الحقيقة: أن هذا اللاهوت سُجَل في قالب تاريخي. لذلك نما الاتجاه نحو الاهتمام بالجانب التاريخي والاجتماعي والجغرافي لهذا السفر خاصة في الأحداث التي وردت في هذا السـفر وحده دون بقية الأناجيل، من ذلك دراسات كل من Albright وHiggins وLeal وPallard و Stauffer وغيرهم. هؤلاء ركزوا على الآتي:

    1- ما جاء في الاصحاح الرابع بخصوص السامريين، وفكرهم اللاهوتي، وممارستهم للعبادة على جبل جرزيم، وموقع بئر يعقوب بدقة.

    2- في الاصحاح الخامس نجد معلومات دقيقة عن بركة بيت حسدا، من جهة اسمها وموقعها وأبنيتها.

    3- مقالات لاهوتية خاصة بعيد الفصح (إصحاح 6)، وعيد المظال (ص 7، 8)، تقدم لنا معلومات دقيقة عن الاحتفالات الخاصة بالأعياد وقراءات المجمع اليهودي في أثنائها.

    4- تفاصيل خاصة بأورشليم، مثل الإشارة إلى بركة سلوام (7:9)، وإلى رواق سليمان كملجأ في الشتاء (22:10-23)، وإلى الممر الحجري في بلاط بيلاطس (13:19). بمعنى آخر يمكننا القول إن هذا السفر قدم لنا معرفة دقيقة خاصة بفلسطين قبل دمار أورشليم سنة 70م وتحطيم معالمها.

    سماته

    1- إنجيل القداسة الإلهية

    يكشف لنا هذا السفر عن قداسة اللَّه بطريقة رائعة مفرحة. فكلمة قداسة في اليونانية ayios تعني "لا أرضي". فالقداسة اسم يخص اللَّه، ليُعلن لنا ما هو فوق إدراكنا، وقد ارتبطت قداسة اللَّه قديمًا بالخوف:

    "فارتعد كل الشعب الذي في المحلة... وارتجف كل الجبل جدًا" (خر 12:19- 25).

    "أما وجهي فلا تستطيع أن تراه، لأنه لا يراني إنسان ويعيش" (خر 20:23).

    "ويلي قد هلكت، لأني رجل دنس الشفتين... وقد رأت عيناي الملك رب الجنود" (إش 5:6).

    يكشف إنجيل يوحنا العهد الجديد في أعماقه حين نزل السماوي إلى الأرضيين، وأعلن قداسته مقرونًا بالمجد لا بالرعد: "حلّ بيننا ورأينا مجده" (14:1).

    2- إنجيل الإيمان العامل بالمحبة Redemptive love، واهب الحياة

    اتسم هذا السفر بوجود مصطلحات معينة متكررة تختلف عما وردت في الأناجيل الأخرى. ولعل من أهم الكلمات التي تكررت فيه هي: يؤمن (98 مرة)، يعرف (55 مرة)، يحيا (55 مرة)، يحب (20 مرة)، يشهد (21 مرة). تكرار هذه الكلمات لم يأتِ مصادفة أو بدون حكمة، فقد أراد الوحي الإلهي أن يكشف عن غاية هذا السفر، ألا وهو الإيمان القائم على المعرفة الروحية، لكي يحيا الإنسان بروح الحب.

    فإن كانت كلمة "يؤمن" قد تكررت 98 مرة في السفر كله، فإنها تكررت 74 مرة في الإثني عشر إصحاحًا الأولى، هذه الإصحاحات التي تُدعى "كتاب الآيات أو المعجزات"، شملت سبع آيات صنعها السيد المسيح. وكأن غاية هذه الآيات هي "الإيمان" بكونه سرّ حياتنا وخلاصنا. ويلاحظ أن الكلمة: "يؤمن" جاءت في هذا السفر 39 مرة لتعني ليس مجرد تصديق أقوال السيد، وإنما إعطاء الإنسان ذاته للًّه أو تحركه عمليًا نحوه كما جاء في 11:12 "لأن كثيرين من اليهود كانوا بسببه يذهبون ويؤمنون بيسوع". وربما جاءت الكلمة عن أصل عبري يعني أن الشخص يسلم نفسه بثقة للغير.

    تكررت أيضًا كلمة "يعرف"، ليؤكد الرسول أن الإيمان وهو يحمل معنى التسليم مع الثقة في اللَّه، هو تسليم النفس العاقلة التي تتقبل حب اللَّه، وتتعرف على أسراره، فترتمي في أحضانه. الإيمان لا يتقبله الأغبياء، ولا يعني الجهالة، بل يسير جنبًا إلى جنب مع المعرفة الحقيقية، خاصة التي يعلنها اللَّه نفسه ليتقبلها العقل، وإن كانت فائقة عن قدراته، لكنها ليست متعارضة معه أو مناقضة له.

    المعرفة هنا لا تعني مجرد الإدراك الذهني النظري، إنما تعني الاتحاد الكامل في الحق والحب، أو شركة الحياة، الأمر الذي أوضحه الإنجيلي في رسالته الأولى: "الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به، لكي يكون لكم أيضًا شركة معنا، وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح" (1 يو 3:1).

    أما غاية المعرفة فهي "الشركة مع اللَّه" ليمارس حياته فينا، فنحمل طبيعة محبته. هذا هو الحب الخلاصي الذي يسكبه فينا لنختبره ونعيشه. جاء الإنجيل يعلن لنا: "هكذا أحب اللَّه العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية" (16:3). هذا الحب الخلاصي قدمه الابن، إذ يقول: "وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلى الجميع" (32:12). "أما يسوع... وهو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب، إذ كان قد أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم إلى المنتهى" (1:13). الإيمان بالصليب ينير بصيرتنا، فنتعرف على اللَّه، بكونه محب البشر الباذل، لذا يؤكد السيد: "متى رفعتم ابن الإنسان، فحينئذ تفهمون إني أنا هو" (28:8). نعرفه أنه اللَّه الكائن، الذي يحب خليقته حتى النهاية.

    هكذا يرتبط الإيمان بالمعرفة والحب ليحيا الإنسان بالإيمان الحي خلال المعرفة الروحية، ممارسًا طبيعة الحب.

    الحب الخلاصي الذي نتذوقه فنتجاوب مع اللَّه بالحب، إنما ينبع عن طبيعة الحب الأزلية التي بين الآب والابن (35:3؛ 9:15). وخلاله نمارس حبنا أيضًا لبعضنا البعض (14:13).

    كأن الإنجيلي يوحنا، وهو رسول الحب، يحدثنا عن:

    - حب الآب للسيد المسيح.

    - حب الآب للبشرية خلال بذل ابنه وحيد الجنس.

    - حب السيد المسيح الخلاصي للبشر، خاصة في حديثة الوداعي.

    - حبنا للَّه.

    - حبنا لبعضنا البعض كعلامة شركتنا في الحب الإلهي.

    3- إنجيل الحق

    جاءت كلمة "الحق" 25 مرة في هذا السفر. و"الحق" هنا يختلف عما يعنيه الغنوسيون أو الهيلّينيون، إذ هو ليس ثمرة فكر بشري بحت، أو فلسفة إنسانية يتعرف عليها، وإنما "الحق الإنجيلي" يعني الآتي:

    أولاً: الكلمة الإلهي نفسه الذي يحرر النفس من ظلمة الخطية: "وتعرفون الحق، والحق يحرركم" (32:8). الكلمة الإلهي الذي فيه نتقدس، كما جاء في صلاته الوداعية: "قدسهم في حقك، كلامك هو حق" (17:17).

    ثانيًا: يُعلن لنا إلهيًا، إذ يقول السيد المسيح: "الذي من اللَّه يسمع كلام اللَّه، لذلك أنتم لستم تسمعون لأنكم لستم من اللَّه" (47:8). "وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء، ويذكركم ما قلته لكم" (26:14).

    ثالثًا: الحق هو حياة تُعاش وتُمارس: "وأما من يفعل الحق، فُيقبل إلى النور، لكي تظهر أنها باللَّه معمولة" (21:3). "سالكين في الحق" (2 يو 4).

    4- إنجيل الروح

    يرتفع بنا الإنجيلي إلى اللاهوتيات لنتعرف على أسرارها فنعيشها ونختبرها، فالحاجة هنا لا إلى مجادلات فكرية بشرية وفلسفية، وإنما إلى الروح القدس الذي ينير لنا البصيرة الداخلية. فإن كان الروح هو الذي يوحي للرسول بما يكتب، يطلب من قارئيه أن يتمتعوا بعمل الروح، فيدركوا أسرار الكتابة، ويتعرفوا خلال الأحداث على العمل الإلهي الخلاصي.

    لم يدرك التلاميذ بالروح كلمات السيد المسيح حتى تمجد، إذ يقول: "قال لهم انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه... فلما قام من الأموات تذكر تلاميذه أنه قال هذا، فآمنوا بالكتاب والكلام الذي قاله يسوع" (19:2، 22). "وهذه الأمور لم يفهمها تلاميذه أولاً ولكن لما تمجد يسوع حينئذ تذكروا أن هذه كانت مكتوبة عنه" (16:12). "لأنهم لم يكونوا بعد يعرفون الكتاب أنه ينبغي أن يقوم من الأموات" (9:20).

    لقد سمعوا كلمات السيد ورأوا الأحداث، لكنهم كانوا في حاجة أن يفتح الروح بصيرتهم الداخلية ليدركوا ويؤمنوا؛ لهذا أكد الإنجيلي أن الرؤية الجسدية وحدها لا تكفي، إنما يلزم الإيمان الذي يفتح البصيرة للرؤية الداخلية:

    "فقال لهم يسوع... إنكم قد رأيتموني ولستم تؤمنون" (36:6).

    "لأن هذه هي مشيئة الذي أرسلني أن كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير" (40:6).

    "لأنك رأيتني يا توما آمنت، طوبى للذين آمنوا ولم يروا" (29:20).

    "وخرج دم وماء، والذي عاين شهد، وشهادته حق، وهو يعلم أنه يقول الحق لتؤمنوا أنتم" (34:19، 35).

    "دخل أيضًا التلميذ الآخر الذي جاء أولاً إلى القبر ورأى فآمن" (8:20).

    يوضح الإنجيل أنه يوجد من يرى بعيني جسده، ولا يرى ببصيرته الداخلية: "فقال يسوع: أتيت أنا إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا يبصرون، ويعمى الذين يبصرون". إذ بالإيمان أبصر الأمم الذين لم يبصروه حسب الجسد، بينما أصيب قادة اليهود بالعمى مع أنهم أبصروه بأعينهم الجسدية.

    وما نقوله عن الرؤية الجسدية والروحية هكذا أيضًا بالنسبة للسماع. إذ يوجد من يسمع الصوت بأذنيه ولا تنفتح أذناه الداخليتان، كما قيل: "فجاء صوت من السماء: مجدت وأمجد أيضًا، فالجمع الذي كان واقفًا وسمع قال: قد حدث رعد..." (28:12-29).

    v كلمات يوحنا هي كلا شيء بالنسبة للذين لا يرغبون في التحرر من هذه الحياة البهيمية، كما أن أمور هذا العالم لا تفيده في شيءٍ. الرعد يذهل نفوسنا، إذ يصدر صوتًا بلا معنى، أما صوت هذا الرجل فلا يربك أحدًا من المؤمنين، بل بالأحرى يهدئ من متاعبهم وارتباكهم. إنه يذهل الشياطين فقط وعبيدهم.

    القديس يوحنا الذهبي الفم

    5- إنجيل الشهادة للسيد المسيح

    الشهادة للسيد المسيح تمثل بلا شك عصب الحياة الرسولية، وقد جاء القديس يوحنا في إنجيله يعلن الشهادة للسيد بكونه "المسيا ابن اللَّه"، قدمها بما يناسب العقلية اليهودية الناموسية، فقدم لنا عدة شهادات متباينة:

    1. شهادة الناموس له، موضحًا أن فيه قد تمت الكتب والنبوات، خاصة في قصة آلامه (38:12؛ 18:13؛ 25:15؛ 12:17؛ 9:18؛ 24:9؛ 24:19، 36). يطالبنا السيد المسيح نفسه بتفتيش الكتب (39:5).

    ب. شهادة يوحنا المعمدان (7:1، 15، 19 الخ؛ 26:3 الخ؛ 53:5 الخ).

    ج. شهادة المرأة السامرية (39:4).

    د. شهادة الجموع له (17:12).

    ه. إذ يعلن السيد أن الإنسان لا يشهد لنفسه، أوضح أن الآب يشهد له خلال الأعمال (31:5-36، 17:8 الخ؛ 37:10؛ 10:14 الخ).

    و. شهادة الروح القدس عنه (26:15 الخ).

    ز. شهادة التلاميذ له (27:15).

    وإنني أترك الحديث عن الشهادة لبنوة السيد المسيح للآب وتأكيد لاهوته لصُلب شرح الإنجيل منعًا من التكرار وتحاشيًا للإطالة، إذ يعتبر هذا الموضوع في صلب الإنجيل نفسه افتتح به الإنجيلي السفر وختمه به، موضحًا العلاقة الأزلية بين الآب والابن، الأمر الذي أثار اليهود وأرادوا رجم السيد (18:5).

    ويلاحظ أن القديس يوحنا الحبيب يُسقط على الأشخاص نور السيد المسيح وينسبهم إليه، فيدعو القديسة مريم: "أم يسوع"، ويدعو نفسه: "التلميذ الذي كان يسوع يحبه". وكأن القديسين يحملون أسماءً هي عبارة عن نسبهم إلى السيد المسيح.

    6- إنجيل الوصية الجديدة أو إنجيل المحبة

    إن كان هذا السفر لم يقدم لنا الموعظة على الجبل، ولا أمثال السيد المسيح ولا شرائع خاصة به، لكنه قدم وصية جديدة ركز عليها، هذه الوصية ليست دستور قوانين أو شرائع code of laws وإنما طريق محبة way of love؛ ليست ثقلاً يلتزم به الإنسان، بل شركة في طبيعة المسيح محب البشر، إذ يقول: "وصية جديدة أنا أعطيكم أن تحبوا بعضكم بعضًا؛ كما أحببتكم أنا تحبون أنتم أيضًا بعضكم بعضًا، بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إن كان لكم حب بعضنًا لبعض" (34:13، 35).

    تكلم كثيرًا عن علاقة الرب بالكنيسة والعالم أنها علاقة محبة. فالاتحاد بالكنيسة يشبه اقتران العروسين. فلقد قال عنه المعمدان أنه عريس الكنيسة "من له العروس فهو العريس... إذًا فرحي هذا قد كمل" (يو 25:3-28). كما أكد النمو بأكل جسده: "أنا هو خبز الحياة. أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد" (48:6-51). لقد شبَّه نفسه بالراعي (11:10)، وأيضًا بالبواب (3:10)، والباب (7:1). ثم اعتبر نفسه الكرمة والكنيسة الأغصان (إصحاح 15).

    وصف هذا الإنجيل كاتبه بأنه كان يتكئ على صدر الرب، وكان الرب يحبه. ووصف الرب يشارك الناس ظروفهم كما في العرس بقانا الجليل (يو 2)، وفي الأحزان مثلما بكى عند قبر لعازر (يو 11). وحين يضعف إيمان البعض مثلما حدث مع توما فيثبت إيمانه (27:20-28) ومع بطرس حين يسقط فيشجعه على عدم التراجع ويسنده بالحديث عن المحبة (15:21-18). ويصدر حديثه الوداعي للتلاميذ بقوله إنه "أحب خاصته الذين في العالم. أحبهم إلى المنتهى" (1:13) ولا غرو فهو الذي بذل ذاته عنا، "لأنه هكذا أحب اللَّه العالم حتى بذل ابنه الوحيد كي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية" (16:3).

    هذا ولم يذكر إنجيل يوحنا مثلاً صريحًا سوى في حديثه عن الراعي الصالح (يو 10).

    7- مسيح الشباب المفرح

    افتتح خدمته بحضور عرس في قانا الجليل، فهو صديق الشباب، ومصدر فرحهم. لم يذكر معلمنا يوحنا اسمي العروسين اللذين حضر السيد المسيح عرسهما وصنع أول معجزة (يو 2)، غالبًا ما كان أحد أقرباء يسوع المسيح حسب الجسد، لذا دُعي مع أمه للحضور.

    8- إنجيل أحاديث للسيد المسيح

    جاءت غالبيتها خلال أسئلة أو اعتراضات وجهت إليه، خلالها كشف السيد عن حقيقة نفسه وعن أعماله، نذكر على سبيل المثال:

    * نثنائيل: "من أين تعرفني؟" (48:1)

    * اليهود: "أية آية ترينا حتى تفعل هذا؟" (18:2)

    * نيقوديموس: "كيف يمكن أن يكون هذا؟" (9:3)

    * السامرية: "كيف تطلب مني لتشرب، وأنت يهودي، وأنا امرأة سامرية؟" (9:4)

    * اليهود: "كيف يقدر أن يعطينا جسده لنأكل؟" (52:6)

    * في عيد المظال: "كيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلم؟" (15:7)

    * الجمع: "بك شيطان؛ من يطلب أن يقتلك؟" (20:7)

    * الكتبة والفريسيون: "يا معلم، هذه المرأة أمسكت وهي تزني في ذات الفعل، وموسى في الناموس أوصانا أن مثل هذه تُرجم، فماذا تقول أنت؟" (5:8)

    * اليهود: "إننا ذرية ابراهيم ولم نُستعبد لأحد قط، كيف تقول أنت إنكم تصيرون أحرارًا؟" (23:8)

    "ألسنا نقول حسنًا إنك سامري وبك شيطان؟" (48:8)

    "ألعلك أعظم من أبينا ابراهيم الذي مات، والأنبيـاء ماتوا، من تجعل نفسك؟" (53:8)

    "ليس لك خمسون سنة بعد، أفرأيت إبراهيم؟" (57:8).

    * التلاميذ: "يا معلم، من أخطأ هذا أم أبواه حتى وُلد أعمى؟" (1:9)

    هكذا سار السفر في غايته يحمل أسئلة أو اعتراضات والرب يجيب ويعلن أسراره!



    حوى السفر عدة أحاديث عامة أو موجهة لاشخاص:

    1- المعمودية والميلاد الجديد (3: 1-21).

    2- الحياة الأبدية (4: 5-21).

    3- مصدر الحياة الأبدية (5: 19-47).

    4- خبز الحياة (6: 29-59).

    5- معلم الحق (7: 14-29).

    6- نور العالم (8: 12-20).

    7- المسيح المصلوب غاية الإيمان (8: 21-30).

    8- المحرر الروحي (8: 31-59).

    9- الراعي الصالح (10: 1-18),

    10 - وحدة اللاهوت (22:10-38).

    11 - مخلص العالم (20:12-36).

    كما قدم أحاديث وداعية لتلاميذه:

    12- موته عن كل البشرية (12: 20-36).

    13- التقديس والتكريس (31:13-31:14).

    14- الاتحاد مع المسيح (1:15-27).

    15- الروح المعزي (1:16-33).

    9- إنجيل ليتورجي

    إنجيل يوحنا أكثر الأناجيل "ليتورجية"، أي إعلان حضور السيد المسيح سريًا، فيعلن عن حضوره في عرس قانا الجليل لا كمدعو فحسب، وإنما كسرّ فرح خفي بتحويل الماء إلى خمرٍ، ويتحدث عن حضوره السري خلال حديثه مع نيقوديموس ليلاً عن سرّ المعمودية، كذلك في شفائه مفلوج بيت حسدا.

    ما أن أسلم السيد المسيح الروح حتى طعنه واحد من العسكر في جنبه بحربة وللوقت خرج دم وماء (34:19)، دم الإفخارستيا وماء العماد. وكأنها لحظات ولادة الكنيسة، فقد وُلدت حواء الجديدة من جنب آدم الثاني.

    جاءت الأحداث والأحاديث المسيانية في السفر لها طابع ليتورجي سرائري كنسي، مثل حوار السيد المسيح مع نيقوديموس عن الولادة الجديدة أو المعمودية (يو 3)، كما تحدث مع الجمهور حديثًا أفخارستيًا (يو 6).

    10- إنجيل القوة والحركة

    يتميز إنجيل يوحنا بالحركة "الديناميكية" الجلية، فيقدم لنا حركة الخليقة نحو الآب في المسيح. "يسوع وهو عالم... أنه من عند اللَّه خرج وإلى اللَّه يمضي" (13: 1، 3). إنها حركة فصحية حقيقية خلالها يُصعد السيد المسيح المؤمنين إلى حضن الآب بالصليب. يقول السيد المسيح: "إبراهيم أبوكم ابتهج بأن يرى يومي، فرأى وفرح" (56:8).

    إن كان إنجيل مرقس يشَّبه بالأسد حيث يفرح المؤمنون مع السمائيين بتسبيح الظفر كأسودٍ غالبة، وإنجيل لوقا يشَّبه بوجه الثور مقدمين حياتهم ذبيحة حب للَّه في المسيح الذبيحة الحقيقية، وإنجيل متى بوجه إنسانٍ، فإن إنجيل يوحنا يشَّبه بالنسر الذي يحلق بنا في اللاهوتيات، ويرتقي بنا إلى السماء عينها لنعرف أسرار اللَّه الفائقة، قائلين: "رأينا مجده!" (14:1).

    11- اهتمامه بأرقام معينة

    كمثال رقم 3، إذ نجده:

    * يحدثنا عن ذهاب السيد المسيح إلى الجليل ثلاث مرات؛

    * ويختار في الجليل ثلاث معجزات؛

    * كما ذهب إلى اليهودية ثلاث مرات؛

    * ويُجري السيد بها ثلاث معجزات؛

    * يسجل لنا من كلمات السيد المسيح السبع على الصليب ثلاث كلمات؛

    * ويُقدم لنا ثلاثة ظهورات للسيد المسيح بعد قيامته.

    واهتم أيضًا برقم 7، إذ نجده:

    * يأتي بسبعة شهود للسيد المسيح (راجع إنجيل شهادة للسيد المسيح)؛

    * ويختار في كل السفر سبع معجزات أو آيات صنعها السيد المسيح.

    * وترد فيه كلمة "اليوم الأخير" سبع مرات.

    12- أسلوبه إعجازي مطلق

    يجد المؤمن في الإنجيل بحسب القديس يوحنا متعة خاصة، فهو ذروة الوحيّ الإنجيلي، أسلوبه إعجازي مطلق بكونه السهل الممتنع، مادته هو "المسيح" نفسه بكونه "كلمة اللَّه" الذي يرفع النفس لتكتشف الأسرار الإلهية فيه كما بدون وسيط.

    عاش القديس يوحنا هذا الإنجيل أكثر من نصف قرنٍ بعد صعود السيد المسيح يتأمله بالروح القدس الذي وعد به السيد: "لأنه ماكث معكم ويكون فيكم... يعلمكم كل شيء، ويذكركم بكل ما قلته لكم" (17:14، 26)، "يرشدكم إلى جميع الحق" (13:16). تحولت خبرته الشخصية مع السيد المسيح أثناء وجوده على الأرض، ودالته لديه إلى انطلاقة بالروح القدس لتهيم نفسه في السماوات، تنعم بالسيد المسيح محبوبها الممجد. لذا كتب بالروح هذا السفر ليرفع كل نفس إلى ذات الخبرة.



    13- آخر ما كُتب من أسفار الكتاب المقدس

    قلنا أن هذا الإنجيل جاء متمايزًا عن الأناجيل الإزائية Synoptic Gospel، بكونه قد كُتب في أواخر القرن الأول، غالبًا آخر ما كُتب من أسفار الكتاب المقدس، فجاء لا ليكرر ما ورد في الأسفار الأخرى بل ليكملها، لهذا جاء يحمل السمات التالية:

    v بينما اهتمت الأناجيل المؤتلفة بخدمة السيد المسيح في الجليل ولم تتعرض إلا لرحلةٍ واحدةٍ له في أورشليم في الأسبوع الأخير من حياته على الأرض، اهتم هذا الإنجيل بالأكثر بخدمة السيد المسيح في اليهودية وأورشليم والهيكل، لهذا دُعي البعض الأناجيل الأولى بالجليلية، أما إنجيل يوحنا فيُدعى "الإنجيل الأورشليمي".

    v قدمت لنا الأناجيل الأولى معاملات السيد المسيح وأحاديثه مع عامة الشعب بلغة البساطة، أما الإنجيل الأورشليمي فإهتم بالأكثر بمعاملات السيد المسيح مع علماء اليهود وزعمائهم وأحاديثه معهم أكثر من أحاديثه مع العامة. لهذا ادعى بعض الدارسين أن مسيح الأناجيل المؤتلفة يكاد يكون غير مسيح الإنجيل الأورشليمي. لكن الحقيقة أنه السيد المسيح الذي يخاطب جماهير الشعب بلغة شعبية تعتمد على الأمثال من واقع حياتهم هو نفسه يخاطب العلماء بلغة أخرى، إذ يُعلن عن ذاته وعن الآب صراحة، حتى قال التلاميذ: "الآن تتكلم علانية ولست تقول مثلاً واحدًا" (29:16).

    14- وحدة فنية وزمنية معًا

    يمثل إنجيل يوحنا وحدة فنية وزمنية معًا بطريقة فريدة ورائعة. ففيه ترتبط موعظة السيد وأحاديثه بالأحداث ربطًا زمانيًا ومكانيًا وموضوعيًا. يضم هذا الإنجيل سبع معجزات ترتبط بسبعة أحاديث تكشف عن شخص السيد المسيح وأسراره الإلهية.

    15- استخدام طريقة المقابلة

    اتسم الإنجيل بحسب يوحنا باستخدامه طريقة المقابلة، نذكر على سبيل المثال:

    v أُفتتح سفر التكوين بالعبارة: "في البدء خلق اللَّه السموات والأرض"، وأُفتتح الإنجيل هكذا: "في البدء كان الكلمة... به كان كل شيء".

    v تمت الخليقة في 6 أيام، وبدأ تجديد الخليقة في اليوم السادس من بدء شهادة يوحنا عنه (19:1-1:2) إلى دخوله العرس، وتحويل ماء حياتنا إلى خمر محبته.

    v نجد مقابلة بين نيقوديموس رئيس اليهود المتردد (ص3) والسامرية غريبة الجنس الشاهدة له لتجتذب المدينة كلها (ص4).

    v عند حديثه عن تناول جسده المقدس نفر منه كثيرون (66:6)، يقابل هذا تعلق تلاميذه به بالأكثر، إذ يقول القديس بطرس: "يا رب إلى من نذهب، كلام الحياة الأبدية عندك؟ ونحن قد آمنا وعرفنا أنك أنت المسيح ابن اللَّه الحيً" (68:6،69).

    v عند تفتيح عيني المولود أعمى (ص 9) اجتمع الفريسيون معًا لمقاومة السيد، معلنين أنه رجل خاطئ (24:9)، بينما وقف الأعمى يشهد له أمامهم ويحاجهم. لذا قال السيد: "لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم، حتى يبصر الذين لا يُبصرون، ويعمى الذين يُبصرون" (39:9).

    16- تنوع في الأسلوب

    من جهة الأسلوب حمل هذا السفر تنوعًا في الأسلوب، كأن يستخدم أحيانًا الرمزية، وأحيانًا الأسلوب القصصي، وأيضًا الحوار الجدلي، والخطابة، والأسلوب الباطني (الصوفي)، والتعليمي... بتناسقٍ وتناغمٍ مع وحدة اللغة مما يدل على أن الكاتب واحد.

    من العلامات المميزة لإنجيل يوحنا لغته، فبينما يتكرر تعبير "ملكوت اللَّه" و"ملكوت السماوات" في الأناجيل الإزائية، لا نجده في هذا السفر إلا مرتين. وعلى العكس يتكرر هنا تعبير "أنا هو..." بينما لا نجده في الأناجيل الإزائية.

    إنجيل يوحنا والعهد القديم

    يعتبر إنجيل يوحنا أقل الأناجيل اقتباسًا من عبارات العهد القديم بطريقة مباشرة، ففي النص اليوناني: "Nestle Greek Text" نجد فقط 14 عبارة مقتبسة، وفي نص "Westcott-Hort" نجد إشارة إلى 27 عبارة في إنجيل يوحنا مقتبسة عن العهد القديم، يقابلها 70 في مرقس، 109 في لوقا، 124 في متى. مع هذا يرى كثير من الباحثين الارتباط الشديد بين إنجيل يوحنا والعهد القديم، إذ قدم لنا السيد المسيح بكونه المسيا، العبد المتألم، ملك إسرائيل، النبي، الأمر الذي يُطابق الصورة التي قدمها لنا العهد القديم.

    يقول Donald Guthrie إن التركيز الشديد الذي وُجه نحو مدى أثر الهيلينية على إنجيل يوحنا جعل دراسة أفكار العهد القديم في هذا السفر لم تستوفِ حقها. ففي الحقيقة قدم لنا الإنجيل شخص يسوع المسيح كجزءٍ من التاريخ اليهودي. وحينما رفضه اليهود، إنما رفضوا شخصًا ينتمي إليهم: "إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله" (11:1). جاء إلى الهيكل، ومارس سلطانه الذي من حقه، إذ "صنع سوطًا من حبال وطرد الجميع من الهيكل؛ الغنم والبقر..." (15:2) الخ. لقد أدرك نيقوديموس وهو رئيس لليهود حق السيد كمعلم (1:3، 2)، وقد حسب السيد نفسه من بين اليهود الذين لديهم سرّ الخلاص، قائلاً للسامرية: "أما نحن، فنسجد لما نعلم، لأن الخلاص من اليهود" (22:4).

    يرى بعض الدارسين أن أسفار العهد القديم، خاصة سفريّ التكوين والخروج وراء هذا السفر، خلال العبور من الحرف إلى الروح، ومن الظل والرمز إلى الحق:

    1. يفتتح سفر التكوين بالحديث عن اللَّه كخالق، أوجد العالم كله من أجل محبته للإنسان، ويفتتح إنجيل يوحنا بالحديث عن كلمة اللَّه (اللوغوس) الذي به كان كل شيء. هو الخالق ومُجدد الخليقة، ينير كل إنسانٍ ببهائه.

    2. أبرز إنجيل يوحنا الصراع بين السيد المسيح وإبليس الذي كان قتَّالاً للناس منذ البدء (تك 3، يو 44:8)؛ أعطانا الغلبة عليه، قائلاً: "الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجًا" (31:12)، فقد جاء من هو من نسل المرأة ليسحق رأس الحية (تك 15:3).

    3. في سفر الخروج كان تابوت العهد يمثل مقدسًا ليسكن اللَّه في وسطهم، وجاء إنجيل يوحنا يُعلن مجد ابن اللَّه المتجسد الحال في وسطنا (14:1).

    4. الحيَّة النحاسية الشافية (عد4:21-9) رمز للسيد المسيح مخلصنا (يو 14:3).

    5. المن السماوي (خر 16) رمز لجسده المبذول (يو 25:6-58).

    6. الصخرة واهبة الماء (خر1:17-7) رمز للسيد المسيح القائل: "إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب" (37:7).

    7. عمود النار الذي كان يضيء لهم (خر21:13-22) يشير إلى القائل: "أنا هو نور العالم" (12:8؛ راجع 35:12).

    8. في سفر الخروج أعلن اللَّه ذاته لموسى قائلاً: "أنا هو"، أو "أهيه الذي أهيه" (14:3)، وجاء السيد المسيح في إنجيل يوحنا يؤكد" "أنا هو" أكثر من مرة.

    9. احتل الفصح مركز الصدارة في سفر الخروج (ص 12)، خلاله عبر شعب إسرائيل من مصر حيث العبودية لينطلقوا نحو أرض الموعد. وقد جاء إنجيل يوحنا يكشف لنا عن العبور الحقيقي. إنه عبور من هذا العالم إلى الآب (1:13، 28:16).

    ذكر الإنجيلي أعياد الفصح الثلاثة التي أقيمت أثناء خدمة السيد المسيح، وبدون ذكرها هنا لما استطعنا معرفة مدة إقامته على الأرض نحو ثلاث سنوات ونصف بعد الثلاثين السابقة لعماده.

    v في العيد الأول (13:2 الخ) قام بتطهير الهيكل، معلنًا غيرته عليه، مؤكدًا لهم أنه يُقيم الهيكل من جديد في ثلاثة أيام (خلال قيامة هيكل جسده).

    v في العيد الثاني (4:6 الخ) أعلن عن تقديم جسده المبذول مأكلاً حقًا للتمتع بالحياة الأبدية.

    v في العيد الثالث (31:12) جاءت ساعته ليتمجد خلال ارتفاعه على الصليب فيهب مؤمنيه حياة أبدية.

    10. أعطى مفاهيم جديدة للعهد القديم، فإذ كان اليهود يعتزّون بأنهم أبناء إبراهيم صاحب العهد، وحافظو الشريعة خاصة يوم السبت. أوضح لهم أنه هو الابن الوحيد الجنس واهب البنوة الحقيقية، وأنه هو رب السبت؛ أما هم فليسوا أبناء إبراهيم بل أبناء إبليس بسبب جحودهم ورغبتهم في قتله، وأنهم ليسوا حافظي السبت بل موسى نفسه يشكوهم (45:5).

    11. حث السيد المسيح اليهود على قراءة العهد القديم، ليُدركوا أنها تشهد له، إذ يقول: "فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية، وهي تشهد لي، ولا تريدون أن تأتوا إلىّ لتكون لكم حياة" (39:5، 40). لقد أكد لهم أن من يُصدق موسى يُصدقه هو، لأن موسى كتب عنه (46:5)، وهو بهذا يعني بوضوح الاستمرارية بين العهدين.

    12. في وضوح أظهر هذا الإنجيل أن ما تحقق بالسيد المسيح من أحداث تمس خلاصنا سبق فأنبأ عنها أنبياء العهد القديم، مثل:

    v دخول السيد المسيح أورشليم منتصرًا (14:12).

    v جحْد اليهود له (38:12، 40).

    v عدم كسر ساقيّ السيد (36:19).

    v رؤية إبراهيم يومه وتهليله (56:8).

    v رؤية إشعياء لمجده (41:12).

    v نبوة إشعياء عن يوحنا السابق (23:1).

    يقول Guthrie: [إن استخدام ربنا للعهد القديم وتعليقات الإنجيل تفترض أن الكتاب المقدس كله يشير إلى المسيح، فهو متمم للقديم؛ الحقيقة التي نسترشد بها في تفسيرنا مفاهيم الإنجيل.]

    إنجيل يوحنا والغنوسية

    مجرد نظرة سريعة على إنجيل يوحنا تكشف لنا عن سمة مختلفة تمامًا عن بقية الأناجيل. وإن كان قد قدم حياة السيد المسيح في فلسطين، وأوضح أن فيه قد تحققت نبوات العهد القديم، لكن إلى وقت قريب كان النقاد المحدثون يحسبون أن شخصية السيد المسيح كما عرضها هذا الإنجيل أقرب إلى الجو الهيليني الغنوسي منه إلى مسيح الأناجيل الأخرى. وإن كانت هذه النظرة قد تغيرت تمامًا لدى كثير من الدارسين كما سنرى.

    ظن بعض النقاد أن الغنوسية التي تشدد على المعرفة الباطنية كطريق للخلاص لها تأثيرها على كاتب السفر. غير أن الغنوسية ظهرت في القرن الثاني الميلادي، بينما سُجل السفر في نهاية القرن الأول. قد يعترض البعض بأن جذور الغنوسية بدأت في الوثنية واليهودية مبكرًا جدًا، وقبلها بعض المسيحيين بطريق أو آخر منذ القرن الأول.

    على أي الأحوال جاء الإنجيل يحارب الأفكار الغنوسية التي تنكر حقيقة بشرية المسيح وآلامه. ففي يو34:19 طعنه أحد الجنود بحربة في جنبه فخرج للحال دم وماء. أية واقعية لبشريته مثل هذه الواقعة؟ كما قال أيضًا: "الكلمة صار جسدًا" (يو14:1). وفي رسالتيه الأولى (2:4-3) والثانية (ع7) أن من لا يعترفون بيسوع الذي جاء في الجسد فهم مضلّون وليسوا من اللَّه.

    يدعي بعض الدارسين أننا لا نجد في هذا السفر مسيح الأناجيل الأخرى حيث الأمثال والتعاليم السلوكية البسيطة، إنما نجد رموزًا وتعاريف معينة: مثل أنا هو الخبز، أنا هو النور، الباب، الراعي، الحق، الحياة، الطريق، الكرمة، كما نجد أسماء مثل "اللوغوس"، "الحق"، "المعرفة". مع استخدام الثنائية مثل: النور والظلمة، الحق والباطل، الروح والجسد... هذا كله دفع الدارسين للقول بأن السيد المسيح في هذا الإنجيل كأنما يسير في العالم الهيليني في القرن الثاني، أو أن الكاتب يحمل فكرًا غنوسيُا.

    حقًا إن يسوع بحسب إنجيل يوحنا يُقدم نفسه بالعبارة الخشوعية القدسية المتكررة: "أنا هو". جاء إلى عالم ظلمة يكره النور، ودخل عالم الباطل بكونه الحق، وعالم الكراهية والبغضة بكونه الحب؛ بحضرته ميّز البشرية إلى فريقين: فريق يقبل النور وآخر يهرب من النور، الأول يؤمن بالحق والآخر يرفضه. لكن هذا الفكر يختلف عن الثنائية الغنوسية، إذ لم يُقدم إنجيل يوحنا فكرًا خاصًا بأصل النور وأصل الظلمة، وهذا ما كان يشغل بال الغنوسيين.

    كان يمكن لهذه الدراسات أن تبقى عقبة تشكك بعض البسطاء في قانونية هذا السفر، ونسبه للقديس يوحنا الإنجيلي، لكن اللَّه أراد أن يحوّل هذه الدراسات إلى تثبيت المؤمنين بالأكثر خلال اكتشافين هامين في حوالي سنة 1947.

    أولاً: ظهور مخطوطات البحر الميت، والتي تُسمى مخطوطات قمران التي قدمت للعالم مكتبة عن الجماعة الأسينية كشفت عن حقبة زمنية من حوالي سنة 140ق.م إلى 68م. هذه المستندات أظهرت أن الأفكار والتعبيرات التي وردت في إنجيل يوحنا هي فلسطينية ترجع إلى القرن الأول الميلادي.

    ثانيًا: اكتشاف مكتبة كاملة غنوسية في منطقة نجع حمّادي بصعيد مصر، قدم للعالم الغنوسية من مصادرها الرئيسية لأول مرة، بعد أن كنا نتعرف عليها خلال كتابات الآباء المقاومين لها، ونسمع عن أسماء كتبها دون وجود نصوصها كاملة. هذا الاكتشاف عرّفنا الفارق الشاسع بين عالم الغنوسية وإنجيل يوحنا، والتمييز القاطع بينهما، إذ لم يعد هناك بعد أي شك بأن الإنجيل اعتمد على مصادر غنوسية، بل ظهر أن ما جاء في السفر من كلمات غنوسية هي يهودية فلسطينية بحتة اُستخدمت في القرن الأول.

    قام بعض الدارسين مثل Quispel وBarret وBraun بدراسات مقارنة بين إنجيل يوحنا والمخطوطات الغنوسية التي وُجدت في نجع حمّادي مثل "إنجيل الحق" (يرجع لسنة 140م)، "إنجيل توما"، من جهة الأفكار والتعبيرات، فخرجوا بالنتائج التالية:

    أنه يستحيل وضع إنجيل يوحنا وسط الأعمال الغنوسية التي وُجدت بنجع حمّادي، لكن يمكن القول بأن الأعمال الغنوسية استخدمت إنجيل يوحنا في القرن الثاني وقدمت أفكارًا غير ما وردت بالإنجيل.

    هناك تمايز قوي بين الإنجيل وهذه الأعمال من جهة الأفكار ومن جهة التعبيرات.

    توجد بعض تعبيرات مشتركة بين الإنجيل وهذه الأعمال، لكن الإنجيل قدمها بمفهومٍ معين والأعمال الغنوسية قدمتها بمفاهيم أخرى وباستعمالات مختلفة تمامًا.

    4 هذا بالنسبة للعلاقة بين إنجيل يوحنا وبين الأعمال الغنوسية المسيحية (الهرطوقية). لكن ربما نتساءل: هل يمكن أن يكون هذا الإنجيل قد فتح الباب للغنوسية؟ أو أعدّ الطريق لها؟

    v يرى بعض الدارسين أن الغنوسيين يمكن أن يكونوا قد تأثروا باليهودية خلال إساءة فهم بعض نصوص العهد القديم وليس إنجيل يوحنا، فإن كان إنجيل يوحنا قد ميّز بين النور والظلمة لكنه لم يُقدم فكرًا خاصًا بأصل النور وأصل الظلمة.

    v ركّز إنجيل يوحنا على "الإيمان"، وحسب "المعرفة" هبة إلهية تُقدم خلال الإعلان الإلهي، الأمر الذي يتنافى مع الفكر الغنوسي.

    إنجيل يوحنا والهيلينيّة

    أُتهم القديس يوحنا - أو كاتب السفر - أنه قام بتقديم مسحة هيلينية للمسيحية حتى يمكن للعقل الهيليني أن يتقبلها، مقدمين في ذلك دليلاً وهو استخدامه لتعبير "الكلمة" أو "اللوغوس" نقلاً عن الفلسفة اليونانية.

    يُرد على ذلك بأن القديس يوحنا لم يستخدم هذا التعبير كما جاء في الفلسفات اليونانية أو في الغنوسية أو كما جاء عند فيلون (مفكر يهودي إسكندري قدم الفكر اليهودي بطريقة هيلينية رمزية)، وإنما حمل مفهومًا كتابيًا، على ضوء ما جاء في العهد القديم عن "الحكمة" التي خرجت إلى البشرية لتقيمهم مسكنًا إلهيًا، كما يقول سفر الأمثال:

    "الحكمة تنادي في الخارج، في الشوارع تُعطي صوتها"؛

    "الحكمة بنت بيتها، نحتت أعمدتها السبعة" (1:9).

    "اللوغوس" في الفكر الهيليني يمثل العقل المدبّر الكامن في الكون، وهو أول الخليقة، أما القديس يوحنا فيحدثنا عن "اللوغوس" بكونه نطق اللَّه الذاتي، فهو الابن الوحيد، من ذات الآب وفي ذاته، وليس خارجًا عنه، بل هو واحد معه في الجوهر. لا نجد في الفكر الهيليني كلمة اللَّه متجسدًا يحلّ بين البشر الذي يعلن لهم أسراره الإلهية، هذا تمايز بين "الكلمة" في الفكر الهيليني و"الكلمة" في الإنجيل.

    إذا دققنا في "اللوغوس" كما أعلنه القديس يوحنا في إنجيله نجده مرادفًا للحكمة كما جاء في العهد القديم:

    ا. أزلي (أم 22:8؛ ابن سيراخ 9:24؛ حك 5:9) (راجع يو1:1).

    ب. قائم في السموات، ينزل إلى الأرض، ليسكن وسط إسرائيل (أم 31:8؛ باروخ 37:3؛ ابن سيراخ8:14 ) (يو 14:1؛ 41:3؛ 38:6؛ 28:16).

    ج. فيض مجد القدير (حك 25:7) (يو 14:1؛ 15:8؛ 4:11؛ 5:17).

    د. يعلم الناس الإلهيات (حك 16:9)، وما يُرضي اللَّه (حك 4:8)، ويقودهم إلى الحياة (أم 25:8، ابن سيراخ 12:4) (يو 19:3؛ 40:7؛ 19:14).

    ه. ينطق بصيغة المتكلم "أنا" (أم 8، ابن سيراخ 24).

    ز. ينادي الإنسان ويخرج إليه (أم 1:8 ، حك 16:6) (يو 14:5؛ 35:9). ويدعو تلاميذه "أبنائي" (أم 32:8؛ ابن سيراخ 18:6) (يو 33:13).

    إنجيل يوحنا والسيد المسيح

    للأسف انهمك كثير من النُقاد المحدثين في الكشف عن مدى ارتباط هذا السفر بالفكر الهيليني واللغة والثقافة الهيلينية، حتى ظن البعض أن الكاتب لا يمكن أن يكون يهوديًا. غير أن دراسة هذا السفر في علاقته بالسيد المسيح تكشف عن الإنجيلي وقد انشغل بالكشف عن شخص ربنا يسوع المسيح:

    أولاً: بكونه ملك اليهود، الملك الروحي، المسيَّأ الذي ترقبه الأنبياء وانشغل به العهد القديم.

    "يا معلم أنت ابن اللَّه، أنت ملك إسرائيل" (49:1)؛

    "مبارك الآتي باسم الرب ملك إسرائيل" (13:12)؛

    "قال له: أنت ملك اليهود… أفأنت ملك؟ فأجـاب يسوع: أنت تقول إني ملك" (33:18-37)؛

    "كل من يجعل نفسه ملكًا يُقاوم قيصر" (12:19)؛

    "أأصلب ملككم؟!" (15:19)؛

    "كان مكتوبًا: يسوع الناصري ملك اليهود" (19:19).

    ثانيًا: جاء السفر يؤكد أن يسوع هو المسيّا 21 مرة، بينما في إنجيل متى 19 مرة؛ فما نطق به السيد وما فعله إنما يحقق الرجاء المسياني لشعب اللَّه:

    v جاء يُطهّر هيكله بأورشليم (13:2-22)؛

    v هو ذاك "الذي كتب عنه موسى والأنبياء" (45:1؛ تث 18:18)؛

    v الذي تحقق فيه قول إشعياء (5:35،6) حيث فتح أعين العميان (6:9)، وجعل الصُم يسمعون والعرج يمشون الخ.

    v واهب الحرية (36:8؛ إش 1:61)؛

    v النور الحقيقي الذي يُشرق على الجالسين في الظلمة (5:1، 9؛ 12:8؛ 46:12؛ إش 1:9؛ 1:60)؛

    v ينبوع الحياة الحيّة يُعطى لارتواء شعبه (37:7 الخ؛ ص4، خر 1:17-7؛ إش 1:55؛ 11:58).

    v الملك الراعي الذي يفتقد شعبه بنفسه (ص 10؛ حز 34)؛

    v ديّان الأحياء والأموات، وهو لقب يهودي خاص باللَّه (يو 11)؛

    v السِفر في مجمله يكاد يردد ما قالته المرأة السامرية: "أنا أعلم أن مسيّا الذي يُقال له المسيح يأتي... ألعل هذا هو المسيح؟!" (25:4، 29).

    ثالثًا: اتسم هذا السِفر بدعوة السيد المسيح نفسه: "أنا هو"، أو تقديم ذاته للبشرية. فإن "أنا هو" في العهد القديم تُشير إلى اللَّه الواحد العامل المخلص (خر 14:3؛ 2:10؛ إش 8:42؛ 10:43-11؛ حز 7:6) لذا جاءت كلمات السيد المتكررة في هذا السفر "أنا هو" تُعلن شخصه الإلهي كمصدر الخلاص:

    "أنا هو خبز الحياة" (35:6)؛

    "أنا هو نور العالم" (12:8؛ 5:9)؛

    "أنا هو الشاهد لنفسي" (18:8)؛

    "أنا باب الخراف" (7:10)؛

    "أنا هو الراعي الصالح" (11:10، 14)؛

    "أنا الكرمة الحقيقية" (1:15، 5)؛

    "إني ملك" (37:18).

    رابعًا: الخط الواضح في هذا الإنجيل منذ بدايته حتى نهايته هو تقديم السيد المسيح بكونه الملكوت بعينه، فلم يأتِ بذكر الملكوت إلا مرتين (3:3-5؛ 36:18) لكنه يُعلن عنه خلال تمتعنا بالمسيح نفسه ملكوتنا الأبدي.

    "كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية" (40:6)؛

    "ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي" (6:14)؛

    "الذي رآني فقد رأى الآب" (9:14 الخ.)

    هذا الخط الواضح في كل السفر قدمته الأناجيل الأخرى كنتيجة نهائية ظهرت في أواخر أيام السيد المسيح على الأرض.

    خامسًا: لم يُقدم السيد المسيح كمشرّع لوصايا أو طقوس قدر ما قدم شخصه كسرّ حياة. السيد المسيح هو "الحياة" (6:14؛ 4:1)؛ يُعلن لقطيعه سرّ مجيئه: "أما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة، وليكون لهم أفضل" (10:10)، "إني أنا حيّ، فأنتم ستحيون" (19:14). وقد أكّد لمرثا: "أنا هو القيامة والحياة" (25:11)، جاء ليغرسنا فيه كأغصان في الكرمة، فنحمل حياته فينا (1:15-8).

    يتحقق تمتعنا بالسيد المسيح "الحياة" خلال التغيير الكامل لطبيعتنا في سرّ المعمودية (3:3-8)، واتحادنا معه وثبوتنا فيه في سرّ الأفخارستيا (52:6-58)، ونوالنا المغفرة المستمرة في سرّ التوبة (23:20). هذه جميعها تحققت بقوة الصليب واستحقاقات الدم.

    سادسًا: مع كل اصحاح يقدم لنا القديس يوحنا شخص يسوع المسيح من زاوية معينة تمس خلاصنا وتشبع كل احتياجاتنا.

    v من إنجيل يوحنا نتفهم ربنا يسوع المسيح من جهة لاهوته خالق كل الخليقة؛ ومن جهة ناسوته لأجل إصلاح الخليقة الساقطة.

    القديس أغسطينوس

    من هو يسوع؟

    يو 1: الكلمة الإلهي المتجسد، واهب سلطان البنوة لله.

    يو2: ابن الإنسان صاحب السلطان الإلهي، مفرح النفوس ومجددها.

    يو3: المعلم الإلهي القدير، واهب الميلاد الجديد.

    يو4: رابح النفوس العجيب.

    يو5: الطبيب العظيم.

    يو6: خبز الحياة.

    يو7: ماء الحياة.

    يو8: نور العالم.

    يو9: واهب الاستنارة.

    يو10: الراعي الصالح.

    يو11: واهب الحياة والقيامة.

    يو12: ملك إسرائيل.

    يو13: غاسل الأرجل.

    يو14: المعزي السماوي.

    يو15: الكرمة الحقيقية.

    يو16: مُرسل الروح القدس.

    يو17: رئيس الكهنة العظيم.

    يو18: المسيا المتألم.

    يو19: الملك المرفوض.

    يو20: غالب الموت.

    يو 21: مقيم النفوس الساقطة ورافعها إلى السماء.

    v لا تظن (في فهمك لأسرار الثالوث) أنك تفعل شيئًا فوق طاقة الإنسان. فإن الإنجيلي يوحنا نفسه فعل ذلك.

    لقد حلق فيما وراء الجسد، وراء الأرض التي وطأ عليها، وراء البحار التي تطلع إليها، وراء الهواء الذي تطير فيه الطيور، وراء الشمس والقمر والكواكب، وراء كل الأرواح غير المنظورة، وراء ذهنه، وذلك بذات نفسه العاقلة، بسموه فوق كل هذه سكب نفسه عاليًا أينما وجد.

    القديس أغسطينوس



    إنجيل يوحنا والآب

    إن كان السيد المسيح هو مركز هذا السفر، فقد أكّد الإنجيلي أنه هو كلمة اللَّه الأزلي. جاء إلينا يُعلن لنا عن ذاته ليُمارس العمل المسياني لحسابنا، مقدمًا لنا الخلاص (47:20)، واهبًا إيّانا الحياة (10:10)، بكونه من فوق وفوق الكل (3:3). لكن الإنجيلي أكّد دور الآب حتى لا نسقط فيما سقط فيه الغنوسيون، فالابن الواحد مع أبيه بكونه كلمته وابنه في نفس الوقت قد أرسله الآب (36:5؛ 57:6؛ 42:11؛ 21:20). جاء يُعلن كلماته (34:3؛ 29:6؛ 3:17)، ويمارس أعماله (36:10). من يراه يرى الآب، ومن يؤمن به ينظر الآب (23:5 الخ؛ 44:12 الخ، 9:14).

    إن كان هذا السفر هو إنجيل المسيّا كلمة اللَّه المخلص، فهو واحد مع أبيه يتمم إرادة الآب التي هي واحدة مع إرادته. هذا ما سنلاحظه بأكثر توسع خلال دراستنا للسفر.

    v يوحنا مثل نسر يحلق عاليًا ويبلغ إلى الآب نفسه ويقول: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند اللَّه، وكان الكلمة اللَّه" (1)... شرح الكاتب البتول أسرارًا لم يستطع المتزوجون أن يقوموا بها.

    القديس جيروم

    إنجيل يوحنا والروح القدس

    يسمى البعض هذا السفر: "إنجيل الروح القدس"، فقد جاء الحديث عن الروح القدس خلال السفر واضحًا وبقوة.

    في حوار السيد المسيح مع نيقوديموس تحدث السيد عن دور الروح القدس في الولادة الجديدة (ص 3). لقد أوضح الرب الفارق بين الولادة الطبيعية (الجسدية) والولادة الروحية، وكان يصعب حتى على هذا المعلم اليهودي نيقوديموس أن يتفهم عمل الروح القدس، فقدم له السيد مثلاً ملموسًا مشبهًا الروح بالريح التي "تهب حيث تشاء وتسمع صوتها لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب، هكذا كل من وُلد من الروح" (8:3).

    حديث السيد هنا عن الميلاد بالروح القدس يعتبر أحد معالم إنجيل يوحنا الرئيسية. وقد جاء منسجمًا مع السفر ككل، فإننا لن ندرك لاهوت السيد المسيح بدون الروح القدس، ولا أن نمارس العبادة للَّه بالروح والحق (24:4) من عندياتنا، وإنما بروح الرب الساكن فينا.

    لقد رأى السيد المسيح الجماهير تمارس العيد بطقوسه دون الشبع الروحي الداخلي، لذا وقف في اليوم الأخير من العيد يَعد بتقديم روحه القدوس كمياه حيّة تنفجر في داخل المؤمنين (37:7-39).

    وفي حديثه الوداعي (ص14-17) لم يجد السيد المسيح ما يقدمه لتعزية تلاميذه قبيل تسليمه سوى الوعد بالروح القدس، بكونه الباراقليط المعزي الذي سلمه السيد المسيح لكنيسته، ليعمل فيها ويُشكّلها على الدوام، فتصير على مثال عريسها:

    v بكونه المحامي Advocate [الترجمة الحرفية للكلمة اليونانية: باراقليط]، هو روح الحق الذي يشهد للسيد المسيح، لا بالكلام النظري، وإنما بكونه يُشكِّل طبيعتنا على صورة السيد المسيح ومثاله.

    v هو المتحدث في غياب رب المجد يسوع جسديًا (بصعوده إلى السماء)؛ يعلّم التلاميذ ويقودهم ويرشدهم إلى كل الحق ويشهد خلالهم (26:14؛ 13:16 الخ).

    v هو المعزّي (6:16 الخ.) وسط حملنا صليب رب المجد يسوع.

    إنجيل يوحنا والكنيسة

    يرى كثير من الدارسين أن الأناجيل المقدسة السابقة قُدمت للعالم، سواء اليهودي أو الروماني أو اليوناني، ليتعرف على السيد المسيح بكونه الملك الروحي والخادم الحقيقي والصديق الفريد لكل البشر، فيتقبل الكل الإيمان به، وينعمون بعمله الخلاصي، فيرتفعون من العبودية إلى البنوة للَّه. أما إنجيل يوحنا فكُتب في النهاية للكنيسة، لذا دُعي "إنجيل الكنيسة"، يقدم لنا "مسيح الكنيسة"، بالرغم من عدم استخدامه لتعبير "الكنيسة".

    كأن الفكرة اللاهوتية الرئيسية هنا هي الربط بين السيد المسيح التاريخي كما ظهر في حياته على الأرض، وبين مسيح الكنيسة الحال فيها ليعمل فيها. بمعنى آخر، إن كان السيد المسيح "كلمة اللَّه المتجسد" هو مركز الإنجيل، فإن كنيسته بكرازتها وعبادتها خاصة الأسرار الكنسية تحتل مركزًا رئيسيًا فيه، إذ يحدثنا عن:

    1. إرساليتها (يو31:4 الخ؛ 20:12 الخ).

    2. عبادتها "بالروح والحق"، حيث أُنتزع المجد عن هيكل أورشليم ليُعلن خلال كنيسة المسيح المصلوب القائم من الأموات (14:1، 51؛ 13:2 الخ؛ 19:4 الخ).

    3. من جهة أسرار الكنيسة، نجد القديس يوحنا يعطي أهمية خاصة بالحديث عن الأسرار الكنسية مثل المعمودية والأفخارستيا والكهنوت:

    قدم معمودية يوحنا كشهادة للمسيح (8:1) وطريق تمهيدي لمعمودية المسيح بالروح القدس (15:1، 23:25).

    في عرس قانا الجليل (1:2-12)، كان تحويل ماء التطهير اليهودي إلى خمر علامة مسيانية أن ساعته قد جاءت (4:2)، وربما يشير إلى الإفخارستيا.

    تحدث مع نيقوديموس صراحة عن سرّ المعمودية (1:3-7).

    قدم لنا الإنجيلي في صراحة حديثه عن الافخارستيا (22:6-59). وفي إشباع الجماهير (1:6-13) نرى السيد المسيح مشبع مؤمنيه خلال سرَّ الإفخارستيا في كنيسته.

    ربما أعلن عن سرّ العماد خلال شفاء مفلوج بيت حسدا (1:5-14) حيث تُشفى الطبيعة البشرية، وخلال تفتيح عيني المولود أعمى (1:9-7) بغسله في بركة سلوام التي تعني المُرسل.

    نزول الدم والماء من جنب السيد المسيح المصلوب (34:19) يشير إلى وحدة السرّين، أي المعمودية والأفخارستيا، وتكاملهما.

    تحدث عن سرّ الكهنوت (20: 22-23).

    8 4. في الأناجيل السابقة تُقسَّم البشرية إلى صالحين وأشرار، أما هنا فيكتب عن "مسيح الكنيسة"، مميزًا بين مؤمنين وغير مؤمنين. بالإيمان لا نُدان (18:3)، بل ننال الحياة الأبدية (36:3)، وننتقل من الموت إلى الحيـاة، لكنه ليس الإيمان النظري المجرد (34:13، 35)، بل الإيمان الحي المرتبط بالحب وحفظ وصايا الرب (14:21-24).

    5. الوعد بالروح القدس في حديث السيد المسيح الوداعي، بكونه معزي الكنيسة وشفيعها والقائد لها (ص14-17).

    6. قدم المسيح نفسه تكرارًا "أنا هو"، بكونه موضوع حياة ومجد ورجاء في الحياة العتيدة، كما في حياة كنيسته الحاضرة.

    إنجيل يوحنا وجامعية الكنيسة

    إذ كُتب هذا السفر للكنيسة في العالم كله، حمل فكر "الكنيسة الجامعة"، ولم يحدّها بجماعة اليهود. يظهر هذا الفكر واضحًا خلال السفر كله، إذ نجد على سبيل المثال:

    1. يقدم المسيح بكونه:

    "حمل اللَّه الذي يرفع خطية العالم" (29:1).

    "كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتيًا إلى العالم" (9:1).

    "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد اللَّه، أي المؤمنون باسمه" (12:1).

    "هكذا أحب اللَّه العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية" (16:3).

    "وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليّ الجميع" (32:12).

    "أن يسوع مزمع أن يموت عن الأمة، وليس عن الأمة فقط، بل ليجمع أبناء اللَّه المتفرقين إلى واحد" (51:11، 52).

    "لأن هذه هي مشيئة الذي أرسلني: أن كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير" (40:6).

    "لي خراف أخر ليست من هذه الحظيرة، ينبغي أن آتي بتلك أيضًا، فتسمع صوتي، وتكون رعيّة واحدة وراعٍ واحدٍ" (16:10).

    "لست أسأل من أجل هؤلاء فقط، بل أيضًا من أجل الذين يؤمنون بي بكلامهم، ليكون الجميع واحدًا" (20:17، 21).

    "طوبى للذين آمنوا ولم يروا" (19:20).

    2. ظهرت جامعية الكنيسة من رفض اليهودية، وطن المسيح، لمخلصها، ورغبتها في قتله (3:4، 44، 1:7-8؛ 7:11-16). لقد صارت أورشليم عاصمة إسرائيل ومدينة المسيّا (12:12-19)، مدينة عدم سلام (19:1 الخ، 23:5). الرب يرفض هيكلها (59:8)، وينطلق من أسوارها إلى الجلجثة (17:19).

    3. عوض "هيكل أورشليم" بيت أبيه (16:2) المجيد (14:12)، والذي يأتي منه الخلاص (22:4)، يعلن مجد هيكل جسده (23:2 الخ) المقدم سرّ قيامة لكل البشرية.

    4. تحول المدينة الهرطوقية "السامرة" إلى موضع للعبادة بالروح والحق (4: 23 الخ).

    5. الحقول المبيضة للحصاد تشير إلى الحصاد المقبل، رمز العالم غير اليهودي.

    6. إذ يكتب الإنجيلي للكل حتى غير اليهود يقدم تفسيرًا للكلمات: Rabbi 38:1، مسيا (41:1)، قيافا (42:1). كما يوضح طرق اليهود في التطهير (6:2)، وفي الدفن (40:9)، وعلاقتهم بالسامريين (9:4)، والفصح كعيدٍ يهودي (4:6). نجده أيضًا يقدم شرحًا جغرافيًا لبيت حسدا (2:5) وبلاط بيلاطس بنطس الذي يدعى بالعبرانية جباثا (13:19)... هذا كله يكشف أنه يكتب للناطقين باليونانية في أفسس سواء كانوا من أصل يهودي أو أممي، مؤمنًا بالكنيسة الجامعة التي لا تحد بالشعب اليهودي.

    إنجيل يوحنا والحياة الإنقضائية (الأخروية)

    بينما توجه الأناجيل الإزائية إلى ملكوت الله الذي يتحقق بالأكثر في الأيام الأخيرة حيث مجيء المسيح الثاني القريب، إذا بالإنجيلي يوحنا يؤكد أن المؤمن يدخل إلى الحياة الأبدية خلال حياته اليومية.

    لم يصف لنا هذا الإنجيل انقضاء الدهر ونهاية العالم، أو مجيء السيد المسيح الأخير للدينونة، لكنه كشف عن الحياة الإنقضائية خلال العمل الخلاصي الذي نتمتع به بالصليب، فنتذوق الحياة الأبدية خلال عربونها هنا، ونختبر أمجادها كحياة تمارس هنا:

    إعلانه عن مجد المسيح (1: 14؛ 2: 11؛ 11: 4، 40)، إنما يدخل بالكنيسة إلى تذوق عربون الحياة الأبدية التي فيها نرى السيد في كمال مجده ونتعرف على أسراره.

    الخلاص في حقيقته هو ارتفاع فوق الزمن، وغلبة على الموت، خلال الإيمان العامل، إذ يقول: "الحق الحق أقول لكم إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة" (24:5).

    تتحقق الحياة الإنقضائية بالنسبة لنا خلال ما نلمسه من الآتي:

    أ - أن رئيس هذا العالم قد دين (18:3، 19).

    ب- أن رئيس هذا العالم يطرح خارجًا (31:12؛ 33:16).

    يعلن الإنجيلي أن ملء الزمان قد جاء والتاريخ قد تم خلال موت السيد المسيح على الصليب.

    6 من يتذوق "إنجيل يوحنا" يجد نفسه قد ارتفع إلى الحياة الإنقضائية فعلاً - خلال عربونها - فيشاهد في أعماقه المسيح الممجد، ويختبر الغلبة الحقيقية على الموت كما على محبة هذا العالم، وعلى عدو الخير إبليس الذي تسلط على العالم زمانًا، والآن قُيّد وطرح خارجًا، ليس له موضع في داخلنا. صليب ربنا يسوع المسيح دخل بنا إلى هذه الخبرة السماوية الحية.

    v ألا ترون أنه ليس بدون سبب يتحدث هذا الإنجيلي إلينا من السماء؟ انظروا كيف أنه منذ البادية يسحب نفوسنا ويهبها أجنحة ويصعد بأذهان سامعيه معه. إذ يصعد بها إلى ما هو أعلي من كل المحسوسات، أعلي من الأرض والسماء، ويمسك بيدها ويقودها فوق الملائكة أنفسهم، فوق الشاروبيم والسيرافيم، فوق العروش والرؤساء والسلاطين؛ وفي اختصار يقودها إلى رحلة تعبر فوق كل المخلوقات.

    القديس يوحنا الذهبي الفم

    ظنC.H. Dodd أن يوحنا أراد تصحيح مفهوم النظرة الكنسية الاسخاتولوجية (الإنقضائية)، فقدم "إسخاتولوجي محقق realized eschatology "، بمعنى أن الاسخاتولوجي هو حقيقة حاضرة أكثر منه مجرد رجاء مستقبلي. لكن الدارسين رفضوا هذا كغاية رئيسية للإنجيل، خاصة وأن السفر مع تقديمه للحياة الأخروية كحياة تُختبر في الحاضر خلال عربونها لم يتجاهل الحياة الأبدية الأخروية المستقبلية (25:5-29)، إنما يسير الاتجاهان جنبًا إلى جنب.

    إنجيل يوحنا والآيات

    نجد في الأناجيل السابقة فيضًا من الآيات التي صنعها السيد المسيح، خلالها يعلن حنانه الإلهي ومحبته الفائقة للبشر، والرسول هنا بالرغم من معرفته لآياتٍ كثيرة صنعها رب المجد لكنه انتقى منها سبع آيات (والبعض يعتبرها ثمان آيات) ليعرضها في إنجيله، فنتقبل الإيمان بالسيد المسيح. إذ يقول: "وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب، وأما هذه فقد كُتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن اللَّه، ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياه باسمه" (30:20، 31). "وأشياء أُخر كثيرة صنعها يسوع إن كُتبت واحدة واحدة، فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة" (25:21).

    واضح إذن أن السيد قدم آيات ليدخل بنا إلى الإيمان، فننعم بالحياة الأبدية، الأمر الذي لمسه نيقوديموس، فقال: "ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل إن لم يكن اللَّه معه" (2:3). كما أكد السيد المسيح نفسه: "لا تؤمنون إن لم تروا آيات وعجائب" (48:4). فقد أشهد هذه الآيات ضد الجاحدين، قائلاً: "لو لم أكن قد عملت بينهم أعمالاً لم يعملها أحد غيري لم تكن لهم خطية" (24:15).

    لقد أدرك رؤساء الكهنة والفريسيون دور هذه الآيات في حياة الناس، إذ قالوا: "ماذا نصنع، فإن هذه الإنسان يعمل آيات كثيرة، إن تركناه هكذا يؤمن الجميع به؟!" (47:11، 48).

    المعنى


    المعجزة

    تجديد الطبيعة البشرية واتسامها بالفرح الأبدي.


    1- تحويل الماء خمرًا 1:2-11.

    الإيمان شرط الحياة الأبدية.


    2- شفاء ابن الغني 47:4-54.

    قوة الحياة الجديدة.


    3- شفاء مفلوج بيت حسدا 1:5-9.

    المسيح الخبز الحي.


    4- إشباع الجموع 14:6-1 (مـت 13:14-21؛ مر 32:6-44؛ لو 10:9-17).

    المسيح قائدنا في الطريق الملوكي.


    5- المشي على المياه 15:6-21 (مت 22:14-36، مر 45:6-56).

    المسيح نور الحياة.


    6- شفاء المولود أعمى 1:9-41.

    المسيح قيامتنا غالب الموت.


    7- إقامة لعازر 1:11-44.

    الشركة الكاملة في الحياة الجديدة.


    8- صيد السمك 1:21-14.

    قانونية السفر

    قبلت الكنيسة الجامعة هذا الإنجيل سفرًا قانونيًا منذ البداية ولم يلحق ذلك أدنى شك. فقد جاءت الشهادات الكنسية، حتى من الهراطقة والوثنيين تنسب السفر للقديس يوحنا الرسول، منذ بدء القرن الثاني، أي بعد كتابته بفترة وجيزة، ولم يشذ عن ذلك سوى جماعة الألوجين "Algi" كما أشار القديس أبيفانيوس، الذين رفضوا السفر لتعارضه مع عقيدتهم في اللوغوس Logos. ولا يُعرف إن كان الألوجيون هؤلاء هم جماعة أم مجرد شخص، لكن على أي الأحوال لم يكن لهم صوت مسموع في العالم أو في الكنيسة.

    أولاً: شهادة الكنيسة الجامعة والهراطقة

    جاء إنجيل يوحنا ضمن المخطوطات اليونانية القديمة الخاصة بالعهد الجديد كالنسختين السينائية والفاتيكانية، المنسوختين عن أقدم منهما. كما جاءت المخطوطات الخاصة بالترجمة للعهد الجديد والتي ترجع أحيانًا للقرن الثاني أو الثالث مثل السريانية واللاتينية تضم هذا السفر. أما عن شهادة آباء الكنيسة الأولي، فلا نجد بينهم صوتًا يتشكك في قانونيته أو نسبته لغير القديس يوحنا، نذكر على سبيل المثال:

    v القديس إيرينيؤس أسقف ليون في القرن الثاني، بنى دفاعه ضد الغنوسيين على إنجيل يوحنا، وشهد أن الأناجيل القانونية أربعة، كما شهد أن القديس يوحنا قام بنشره في أفسس.

    v اقتطف بعض الآباء عبارات مباشرة من هذا السفر، أو استخدموها دون ذكر النص، كما جاء في رسالة برناباس، كتاب الراعي لهرماس، وفي بابياس، واكليمنضس الروماني، والقديس يوستين الشهيد، وثاوفيلس الأنطاكي، والقديس أغناطيوس الأنطاكي، والقديس بوليكربس، والعلامة ترتليان، والعلامة أوريجينوس، والقديس اكليمنضس الإسكندري.

    v جاءت شهادة وثيقة موراتورى Muratorian Canon في القرن الثاني (حوالي 170 - 200 م) عن كاتب السفر أنه القديس يوحنا، لها قوتها.

    v اقتبس تاتيان تلميذ القديس يوستين الكثير من هذا السفر، وبدأ عمله "الدياتسرون Diatessaron" بافتتاحية إنجيل يوحنا.

    v اقتبس منه الكثير من الهراطقة مثل هيراكليون ومعلمه فالنتينوس وباسيليدس (سنة 125 م)، وأيضًا الكتابات الغنوسية مثل إنجيل الحق.

    ثانيًا: شهادة الوثنيين

    استمد الفيلسوف الوثني صلسس، عدو المسيحية، في كتابه ضدها حوالي سنة 178م المادة التي هاجم بها من الأناجيل الأربعة، ويذكر تفاصيل لم ترد إلا في إنجيل يوحنا.

    اعتراضات على نسبته للقديس يوحنا

    ناقش كثير من النقاد والدارسين موضوع نسبة هذا السفر للقديس يوحنا بن زبدي، وقدموا نظريات كثيرة ومعقدة، إذ حاول البعض نسبة هذا السفر للكنيسة الرسولية ككل وليس لشخصٍ معينٍ، وافترض البعض أن السفر بصورته هذه من وضع كاتب في القرن الثاني كما لاحظنا في تعليقنا على مدى ارتباط السفر بالغنوسية، وحاول البعض تأكيد أن الكاتب ليس يهوديًا. وقد قدم لنا E. Haenchen ملخصًا للمشاكل النقدية الخاصة بهذا الأمر منذ عام 1929 حتى الخمسينات.

    فيما يلي موجز للرد على المعترضين على نسبة هذا السفر للقديس يوحنا:

    تلميحات في السفر عن شخصية كاتبه

    إن كان الإنجيلي لم يذكر اسمه في السفر، لكنه قدم تلميحات عن شخصيته منها يمكن التعرف عليه، ألا وهى:

    أ- انه شاهد عيان

    في مقدمة السفر يقول الإنجيلي: "رأينا مجده" (14:1). حاول البعض تفسير صيغة الجمع "رأينا" بمعنى أنه يقصد المسيحيين جميعًا، وليس الكاتب، فتكون الرؤيا هنا بالمعنى الروحي لا المادي، بهذا يكون كاتب السفر هو "الكنيسة الرسولية" وليس شاهد عيان. هذا الفكر لم يقبله كثير من الدارسين، خاصة وأن الفعل اليوناني يعني الرؤيا الجسدية لا الروحية، حتى وإن فسرت بالرؤيا الروحية. في أكثر من موضع يؤكد أنه شاهد عيان يكتب ما هو حق:

    "الذي عاين شهد وشهادته حق، وهو يعلم أنه يقول الحق لتؤمنوا أنتم" (19: 35).

    "هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا، ونعلم أن شهادته حق" (21:24).

    واضح أن كاتب السفر "تلميذ"، "شاهد عيان"، هذا ينطبق على القديس يوحنا، الذي حمل ذات اللهجة في مقدمة رسالته الأولى: "الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه، ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة، فإن الحياة أُظهرت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية…" (1 يو 1).

    ب. التلميذ المحبوب

    من الشهادات الداخلية في السفر أن الكاتب هو القديس يوحنا تلقيب نفسه في تواضعٍ، بعدم ذكر اسمه: "التلميذ الذي كان يسوع يحبه" (20:21، 26:19). حاول البعض النقاد المحدثين التشكيك في هذا الأمر، وقد اختلفوا في تحديد شخصية هذا التلميذ، إذ قيل:

    الشاب الغنى، الذي قيل عنه إن يسوع نظر إليه وأحبه (مر 21:10). وإذ ليس لدينا أية أدلة إنجيلية أو تقليدية أنه عاد وآمن بعد تركه للسيد المسيح، يُحسب هذا الرأي بلا قيمة.

    نثنائيل: يُرد على ذلك أننا لا نعرف عنه إلا القليل، هذا ومن جانب آخر حين تحدث عنه الإنجيلي ذكره بالاسم (2:21) في نفس الإصحاح الذي قيل فيه: "التلميذ الذي كان يسوع يحبه" (20:21). فما قيل أخيرًا قُصد به تمييزه عن نثنائيل.

    لعازر، إذ أرسلت أختاه إلى رب المجد تقولان: "يا سـيد هوذا الذي تحبه مريض" (3:11). يرد على ذلك بأن لعازر لم يكن مع السيد المسيح في العلية ليتكئ على صدره، إذ قيل: "ونظر التلميذ الذي كان يسوع يحبه يتبعه، وهو أيضًا الذي اتكأ على صدره وقت العشاء" (20:21). واضح من الأناجيل الثلاثة الأخرى أن السيد انفرد برسالة وقت العشاء. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن الإنجيلي قد كرر اسمه في الإصحاحين 11، 12، فلماذا يعود ويخفي اسمه؟!

    رأى البعض أن هذا اللقب لا يعني شخصًا معينًا بل يحمل رمزًا، وبهذا يكون الكاتب للسفر هو الكنيسة كجماعة وليس فردًا. هذا الفكر غير مُشبِع ويصعب قبوله، وإذ يجعل من هذا التلميذ ليس شخصية تاريخية شاهدة عيان، الأمر الذي يتنافى مع ما قدمه السفر عنه.

    6 هذا عن الاعتراضات أما الدلائل الإيجابية على أن التلميذ الذي كان يسوع يحبه هو القديس يوحنا فهي:

    جاءت كتابات آباء الكنيسة منذ القرن الثاني تتحدث عن التلميذ الذي كان يسوع يحبه أنه يوحنا بن زبدي، كأمرٍ لا يحتاج إلى تساؤل، وأنه هو واضع السفر، وقد لاحظ M.F. Wiles أن العلامة أوريجينوس والقديس يوحنا الذهبي الفم وجدا في هذا الوصف: "التلميذ الذي كان يسوع يحبه" مفتاحًا للكشف عن غاية السفر.

    أنه أحد تلاميذ السيد المسيح كما يشهد السفر نفسه ملقبًا إياه "التلميذ" (20:21)، خاصة وأنه اتكأ على صدر السيد المسيح وقت العشاء (20:21).

    يرى بعض الدارسين أنه أحد ثلاثة من التلاميذ الذين كانوا من خاصة السيد، رافقوه دون البقية في مواقف كثيرة، ولما كان يعقوب قد استشهد في سنه 44 م، يبقى بطرس ويوحنا، وإذ قيل عنه أنه كان في رفقة بطرس (2:20 الخ.) إذن لن يكون إلا يوحنا.

    ذُكر القديس يوحنا بالاسم في الأناجيل الأخرى: مرتين في متى، 9 في مرقس، 6 في لوقا، ولم يذكر بالاسم قط في هذا السفر. واضح إذن أنه شخص يوحنا، وقد امتنع عن ذكر اسمه من قبيل التواضع.

    كان هذا التلميذ ملاصقًا للقديس بطرس كما جاء في (7:21؛ 2:20). المرة الوحيدة التي ظهر فيها في هذا السفر دون بطرس الرسول هي عندما تسّلم من السيد المسيح المصلوب والدته أمًا له (26:19)، فمن هو هذا التلميذ المرافق للقديس بطرس؟ بلا شك هو يوحنا بن زبدي، إذ وُجد معه ومع يعقوب دون سائر التلاميذ في مواضع كثيرة كما سبق فرأينا (راجع مر 37:5؛ 2:9؛ 33:14). اختارهما السيد المسيح ليعدا له الفصح (لو 8:22). وكانا ملازمين بعضهما البعض حتى بعد قيامة السيد المسيح (أع 1:3؛ 13:4). أُشير إليهما في أع 14:8 كمندوبين مُرسلين من أورشليم إلى السامرة. إذ أشار الرسول بولس إلى أعمدة الكنيسة ذكر يعقوب وصفا (بطرس) ويوحنا (غلا 9:2). هذه دلائل على أن التلميذ الذي كان يسوع يحبه، وكان مرافقًا للقديس بطرس هو القديس يوحنا.

    لاحظ بعض الدارسين أن هذا السفر حين تحدث عن القديس يوحنا المعمدان، اكتفى بذكر اسمه "يوحنا" دون ذكر أي لقب آخر له، وهذا يسند بقوة الفكر الكنسي بأن الكاتب هو القديس يوحنا بن زبدي، الذي أصرّ ألا يذكر اسمه في السفر فلم يجد حاجة ليميز بين نفسه وبين يوحنا المعمدان بلقبٍ معين.

    7 ج- الخلفية الفلسطينية

    يتساءل البعض، إن كان الكاتب يوحنا بن زبدي، فهل يحمل السفر دلائل على أن الكاتب يهودي عاش في فلسطين، وكان شاهد عيان للسيد المسيح، أم أنه أحد رجال القرن الثاني من أنطاكية أو الإسكندرية؟

    جاءت إجابة الدارسين أن السفر يحمل دلائل كثيرة وشهادات على أن كاتبه عاش في فلسطين في القرن الأول، وأنه يهودي، منها:

    معرفته للعادات والتقاليد اليهودية

    2 كثيرًا ما يقدم لنا تفاصيل دقيقة عن الحياة اليهودية وتقاليدها في فترة ما قبل خراب أورشليم، مثل:

    طقوس التطهير (6:2).

    طقوس عيد المظال (37:7؛ 12:8 (الإنارة)).

    التطهير في عيد الفصح (28:18؛ 31:19-42).

    تعاليم اليهود الخاصة بهم، كالشريعة الخاصة بالسبت (10:5؛ 21:7-23،14:9 الخ.).

    معرفته انتظار اليهود لنبي بروح إيليا (19:1-28)، وإدراكهم أن المسيح يبقى إلى الأبد (34:12).

    معرفته للتاريخ اليهودي

    3 يعرف بوجه الدقة السنوات التي تم فيها بناء الهيكل (20:2)، والعداوة التي كانت قائمة بين اليهود والسامريين (9:4)، وأن رئيس الكهنة عن نفس السنة التي صُلب فيها السيد (49:11،13:18 الخ) هو قيافا وحماه هو حنَّان.

    معرفته لجغرافية فلسطين

    4 للكاتب معرفة دقيقة بفلسطين، فيعرف الاسم العبراني لبركة بجوار باب الضأن، ويعرف أن لها خمسة أروقة. يعرف وجود قريتين باسم "بيت عنيا" (12: 1؛ 28: 1)، و"عين نون" بقرب ساليم (23:3)، وأن بحر الجليل هو بحيرة طبرية (4: 21)، ومدينة أفرايم بالقرب من البرية (54:11).

    حمل طابع اللغة العبرية

    5 وإن كان قد كتب إنجيله باليونانية لكنه حمل طابع اللغة العبرية. إذ لا يقدر الكاتب أن يتخلص من لغته الأصلية. يظهر ذلك في الألفاظ التي استخدمها والعبارات نفسها، واهتمامه بالأرقام.

    ذكره تفاصيل لم ترد في الأناجيل الثلاثة الأخرى، لا يذكرها إلا من كان شاهد عيان وتعرّف على الأشخاص بأسمائهم، مثل:

    الحديث التفصيلي مع نيقوديموس (ص3).

    الحديث مع مريم ومرثا (ص11).

    حديثه عن ملخس (10:18).

    الحديث مع حنَّان وقيافا (19:18-32).

    الحديث مع النسوة عند القبر (15:20-17).

    الحديث مع القديسة مريم عند تسليمها له عند الصليب (26:19،27).

    الحديث مع بطرس ويوحنا نفسه بعد القيامة (5:21-23).

    8 أيضًا سجل تفاصيل دقيقة للأحداث لا يكتبها إلا من كان شاهد عيان، كذكر عدد الأجران أنها ستة (6:2)، وانطلاق التلاميذ بعيدًا عن البر نحو مائتي ذراع (21: 8)، وكان عدد السمك مئة وثلاثًا وخمسين (11:21). وأيضًا ذكره أن الخبز كان من الشعير (9:6)، وأن الرائحة ملأت البيت (3:12)، وتأثر الجند عند القبض على السيد (6:18)، ووزن الحنوط التي استخدمت في التكفين (39:19).

    وصفه بدقة انفعالات التلاميذ (11:2 الخ؛ 27:4؛19:6؛16:12؛22:13 الخ) وتأثر السيد المسيح (11:2،24،15:6،61،1:13)…

    هذه وغيرها من تفاصيل كثيرة تؤكد أنه كان شاهد عيان لما كتبه في السفر.

    الإنجيل بحسب يوحنا وصياد السمك

    يعترض بعض الدارسين على نسبة هذا السفر للقديس يوحنا بالقول: هل من المعقول أن يكتب صيّاد أمي مثل هذا الإنجيل، وهو من أرفع ما كتب الفلاسفة الصوفيون، بإعجاز من "السهل الممتنع" الذي لا مثيل له!

    يُرد على ذلك:

    أولاً: إن كان الرسول أميًا، فإننا نؤمن بأن الكتاب المقدس كله مُوحى به من الروح القدس (2 بط 21:1)، الذي وإن كان لا يفقد العنصر الإنساني لكنه يقدسه ويرفعه ويهبه إمكانيات فائقة، ويحوط به كي لا يخطئ.

    ثانيًا: أن القديس يوحنا الرسول كان بالحق أهلاً لكتابة هذا "الإنجيل الروحي" الفائق، من جهة:

    لم يكن أميًا كما ظن كثيرون، إذ لم يكن مجرد صيّاد سمك، لكنه كان تاجر سمك ولدى والده أجراء يعملون لحسابه. كإنسان غني، في ذلك الحين، فالاحتمال الأكبر أنه كان محبًا للعلم والمعرفة، وكعادة اليهود يمارسون حرفة معينة كصيد السمك، إذ كان لكل يهودي حرفته، كما كان شاول الطرسوسي يمارس حرفة صنع الخيام (أع 3:18).

    نحن نعلم أن كلمة الله مقدمة للبشرية كلها للمبتدئين كما للكاملين، كما يظهر من كلمات الرسول بولس: "نتكلم بحكمة بين الكاملين" (1 كو 6:2)، "وأما الطعام القوي فللبالغين" (عب 14:5). إن كان الإنجيليون الثلاثة القديسون متى ومرقس ولوقا قدّموا كلمة الله للبسطاء، يمكننا القول بأن الإنجيلي يوحنا أحد الثلاثة المقربين للسيد الذين اختارهم ليصحبوه في الأحداث الجسام التي تكشف عن سرّ شخصيته وسرّ رسالته، التلميذ الذي "كان يسوع يحبه"، الذي تمتع بالاتكاء على صدر الرب (20:21) أن يختص بالكتابة للكاملين. كأن الأناجيل الثلاثة الأولى تمثل الدعوة الأولى لقبول الإيمان بالسيد المسيح بكونه المسيا المخلص، خادم البشرية، وصديقها الإلهي، أما هذا الإنجيل فيمثل التعليم التكميلي للبالغين في الإيمان. إنه "الإنجيل الروحي" مُُقدم للمؤمنين الذين تأصلوا في المسيحية، يرتفع بهم لينعموا بالأسرار الإلهية الفائقة.

    3 ثالثًا: رأينا مدى ارتباط هذا السفر بالعهد القديم، فقد أبرز أنه حمل الله الحقيقي، لا الفصح الرمزي، فيه تحققت النبوات. كما أبرز حوار السيد المسيح مع اليهود ليعلن عن نفسه انه أعظم من إبراهيم وموسى... هذا يناسب يوحنا كرجلٍ يهودي دخل إلى الأسرار الإلهية، مشتاقًا أن يتمتع كل يهودي كما كل أممي بمن هو "موضوع النبوات".

    رابعًا: رأينا أيضًا أن هذا السفر لا يحمل غنوسية هيلينية كما ادّعى كثير من الدارسين قبل اكتشاف المكتبة الغنوسية بنجع حمادي، إنما في أسلوبه يتشابه مع كتابات الجماعة الأسينية Essene أو رهبان أهل قمران اليهود كما كشفت ذلك مخطوطاتهم التي ظهرت إلى النور حوالي عام 1947. هذا يناسب شخصية القديس يوحنا الرسول الذي تتلمذ على يدي القديس يوحنا المعمدان ساكن البرية، وقد عرف الكثير عنهم بحكم الجوار. كان الأسينيون يتطلعون إلى الدين بنظرة روحية صوفية (باطنيّة mystical ) رمزية أكثر منها حسية، تدور حياتهم حول الصراع بين النور والظلمة، وبين الحق والباطل... وكأن القديس يوحنا جاء يعلن لهم أنه قد وجد من يحقق لهم شهوة قلوبهم، لا من يدخل بهم إلى معرفة النور والحق، وإنما يقدم نفسه لهم بكونه "النور الحقيقي"، و"الحق"، خلاله نستنير وننعم بالحق!

    أقسامه

    اتفق الدارسون على أن هذا السفر يمتاز بتقسيمه الدقيق الهادف، وإن كانوا قد اختلفوا فيما بينهم بخصوص التقسيم، نذكر على سبيل المثال التقسيم الذي رآه D. Mollat، وهو أن السفر بعد المقدمة ينقسم إلى تسعة أقسام حسب الليتورجيات الخاصة بالأعياد اليهودية الرئيسية:

    أ- مقدمة السفر ص 1:1-18.

    ب- الأقسام التسعة

    الأسبوع الأول من الخدمة المسيانية ص 19:1 - ص 11:2.

    الفصح الأول ص 12:2 - ص4.

    السبت ص 5.

    الفصح الثاني ص 6.

    عيد المظال ص 7 - ص 10: 21.

    عيد التجديد ص 22:10 - ص 54:11.

    الفصح الثالث ص 55:11 - ص 42:19.

    القيامة ص 20.

    ظهورات المسيح المقام ص 21.

    10 غير أن التقسيم السائد بالأكثر هو الذي رآه A. Feuillet ، C.H. Dodd، R.E. Brown، وهو عبارة عن قسمين رئيسيين مع مقدمة وخاتمة:

    أ- المقدمة ص 1:1-18.

    ب- كتاب الآيات ص 19:1 - ص 12.

    ج- كتاب الآلام ص 13 - ص 20.

    د- الخاتمة ص 21.

    يرى Feuillet أن السفر في مجمله يحمل أمرين، هما إعلان السيد المسيح، واحتماله الآلام حتى الموت من أجل هذا الإعلان، بهذا يمكن تقسيم السفر هكذا:

    الكتاب الأول: كتاب الآيات

    إقامة عهد جديد بالمعمودية وإرسال الروح القدس ص 19:1 - ص 42:4.

    إعلانه عن نفسه أنه مع الآب مصدر الحياة ص 43:4 - ص 47:5.

    3 وأنه خبز الحياة ص 6.

    وأنه نور العالم ص 7-12.

    الكتاب الثاني: كتاب الآلام

    إعلانه عن نفسه لتلاميذه بالحب والتعزية والاتحاد ص 13 - ص 17.

    الآلام طريق تأسيس الكنيسة ص 18 - ص 19.

    القيامة وارتباطها بحلول الروح القدس ص 20،21.

    4 يمكننا تقديم التقسيم التالي لتسهيل الدراسة:

    أولاً: مقدمة: الكلمة المتجسد ص 1:1-18.

    ثانيًا: آياته وأعماله تعلن عن لاهوته ص 19:1- ص 12.

    ثالثًا: إعلانه عن ذاته لخاصته ص 13- ص 17.

    رابعًا: ابن الله الذبيح ص 18- ص 19.

    خامسًا: قيامته تشهد للاهوته ص20.

    سادسًا: خاتمة ص 21.





    من وحي إنجيل يوحنا

    هب لي أن أُحلّق مع نسورك في سمائك!

    v اسمح لي مع حبيبك يوحنا أن أتكئ على صدرك،

    وأرافقك حتى الصليب.

    وأتسلّم منك أمك أمًا لي.

    نعم، هب لي جناحيّ الروح فأصير معه كالنسر،

    أطير في سمائك، فأتمتع بشركة أمجادك.

    أعيش مع ملائكتك،

    فأتعرف على أسرارك الإلهية خبزًا سماويًا مشبعًا لأعماقي!

    v هب لي أن أنطلق بفكري إلى الأزلية،

    هذه التي لن يدركها كائن سماوي أو أرضي.

    أقف لأتمتع بسرّ ولادتك الأزلية،

    تشرق عليّ يا كلمة اللَّه مع أبيك وروحك القدوس،

    فتمتلئ نفسي من بهاء الثالوث.

    أطأ ظلمة العالم حتى قدميّ،

    وأحلق في هذا البهاء العجيب!

    v تجسدت من أجلي يا من وهبتني الحياة،

    وأنرت عليّ فلا أعود بعد أُحسب من هذا العالم،

    بل أتمتع بالبنوة الإلهية بنعمتك،

    أصير ابنًا للَّه، فلا يجد العالم له موضعًا في داخلي!

    v ليحملني روحك القدوس إلى أسرار إنجيلك.

    أراك ملكًا معلقًا على الصليب!

    لست أطلبك لتملك كما طلبتك بقية الجماهير،

    وإنما تُقيم عرش ملكك في أعماقي فأعتزّ به.

    لن أدخل بعد في مجادلات فلسفية،

    فقد عرفتك أنت المسيح الملك واهب الملوكية.

    أراك ملك الملوك تهب الحياة الملوكية.

    v أنت حمل اللَّه حامل خطايا العالم!

    ارتفعت على الصليب، فصالحتنا مع أبيك.

    اجتذبتنا إليك، لنحمل برَّك عِوض خطايانا.

    بسطت يديك، لتضم اليهود والسامريّين والأمم معًا فيك.

    بصليبك سكبت الحب فينا، يا أيها الحب الحقيقي،

    صرنا أيقونة لك لن نقدر أن نفارق الحب ولا هو يفارقنا.

    نلنا شركة طبيعتك، فجرى الحب في عروقنا.

    لن تستطيع الكراهية أو الحقد أو الحسد أن يتسلل إلينا.

    v هب لي مع عروسيّ قانا الجليل أن أشرب خمر حبك.

    هب لي مع نيقوديموس أن اكتشف سرّ الميلاد الجديد.

    هب لي مع السامرية أن أشرب من ينابيع روحك القدوس.

    هب لي مع المولود أعمى البصيرة فأراك داخلي.

    هب لي مع مريض حسدا أن أثبّ متهللاً،

    أذهب إلى بيتي الحقيقي، أحضانك الإلهية.

    v لأسمعك وأنت تكشف لي عن ذاتك.

    لكلمتيك "أنا هو" عذوبة خاصة، فأنت يهوه الكائن فيّ!

    حسب وعودك اسمعني صوتك، قائلاً:

    أنا هو الخبز السماوي، من يأكلني يتمتع بالوليمة الأبدية.

    أنا هو الحياة، بدوني لا وجود لك.

    أنا هو نور العالم، أشرق عليك فتختبر نور الأبدية.

    أنا هو الحق، أدخل بك إلى الأسرار الإلهية.

    أنا هو القيامة، لن يقدر الموت أن يسبيك بعد!

    أنا هو الباب، أدخل بك فيّ لتبلغ إلى أحضاني.

    أنا هو الراعي الصالح، أحملك على منكبيّ بكل ضعفاتك!

    أنا هو الكرمة الحقيقية، لتثبت فيّ وأثبت فيك!

    v اسمح لي أن أرافقك في العُليّة، كما في بستان جثسيماني،

    وانطلق معك حيث تُحاكم وتُصلب،

    واجلس عند القبر أترقب قيامتك.

    لتُظهر ذاتك لي، وتُشرق بقيامتك في داخلي!

    نعم أبقى كل أيام غربتي أتأمل كل لحظة من لحظات عملك العجيب.

    تبقى هذه الأحداث موضوع تسبيحي مع كل صفوف السمائيين.

    لك المجد يا أيها الحب الحق، والحق واهب الحب والحرية!

  3. #3

    افتراضي

    الإنجيل بحسب القديس متّى

    القمص تادرس يعقوب ملطي

    كنيسة الشهيد مار جرجس بإسبورتنج



    بسم الآب والابن والروح القدس

    الله الواحد

    آمين

    الإنجيل المقدّس هو البشارة المفرحة التي يقدّمها لنا الروح القدس ليدخل بنا إلى الاتّحاد مع الآب في المسيح يسوع مخلّصنا. حقًا ما أعذب للنفس أن تتذوّقه، وللقلب أن ينفتح له، وما أصعب على القلم أن يعبّر عنه، واللسان أن ينطق به.

    إنّني إذ أُقدّم هذا العمل المتواضع أودّ ألا ندخل في دراسات عقليّة بحتة، ولا في معرفة نظريّة لأقوال الآباء الأوّلين فيه، إنّما أن نتمتّع بخبرة آبائنا الحيّة والمفرحة وسط ضيقات هذا العالم، فنعيش إنجيلنا، ويلتهب قلبنا بناره المقدّسة، فندخل إلى أعماق جديدة لملكوت الله المفرح.

    إبريل 1982م

    القمص تادرس يعقوب ملطي



    سرّ الكلمة المكتوبة

    كان الإنسان فكرة في عقل الله حين خلق العالم كلّه من أجله، وإذ أقامه في الفردوس كان يلتقي به خلال أحاديث مشتركة سرّيّة. كان آدم يسمع "صوت الرب الإله ماشيًا في الجنّة" (تك 3: 8)، فينجذب إليه ليناجيه، يسمعه ويتكلّم معه، يتقبّل الحب بالحب!

    أمّا بعد السقوط فصارت كلمة الله بالنسبة للإنسان مرهبة ومخيفة: "سمعت صوتك في الجنّة فخشيت" (تك 3: 10). كان الله يتكلّم والإنسان لا يقدر أن يسمع، وإن سمع فلا يقدر أن يتجاوب معه! تحوّل قلب الإنسان عن الحب المملوء حنانًا إلى حجر بلا إحساس، وأمام هذا التحوّل تقدّم الله إلى الإنسان ليهبه كلمته منقوشة بإصبعه على لوحي الحجر، وكأنها على قلبه الحجري. لقد أراد أن يخترق القلب الحجري ليسجّل بإصبعه أيضًا روحه القدّوس كلماته لعلّ الإنسان يقدر أن يتذوّقها ويتجاوب معها؛ وكأن الكلمات الإلهيّة المكتوبة إنّما جاءت كعلاج لضعفنا البشري، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [أن نعمة الله كانت كافية أن تعمل في قلوبنا ككتاب حيّ نقرأه، لكنّنا إذ لم نتجاوب مع نعمته التزم من أجل محبّته أن يقدّم كلمته مكتوبة.] إنه يقول: [يا له من شرّ عظيم قد أصابنا! فإنه إذ كان ينبغي علينا أن نعيش بنقاوة هكذا فلا نحتاج إلى كلمات مكتوبة إنّما نخضع قلوبنا للروح ككتب! أمّا وقد فقدنا هذه الكرامة صرنا في حاجة إلى هذه الكتب.]

    إن كان من أجل ضعفنا قدّم لنا الله كلمته مكتوبة لكي نحفظها، فإن الله يهبنا نعمته لكي تتحوّل الكلمة إلى حياة فينا وعمل، فُتُسجّل بالروح في قلوبنا وتُعلن في تصرفاتنا. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [حقًا يليق بنا لا أن نطلب معونة الكلمة المكتوبة فحسب، وإنما أن نظهر حياتنا نقيّة هكذا، فتكون لنا نعمة الروح عِوض الكتب بالنسبة لنفوسنا. فكما كُتب بالحبر في الكتب هكذا تُسجّل بالروح في قلوبنا.]

    ويرى القدّيس أغسطينوس أن الله قدّم لنا كلمته المكتوبة كمصابيح مضيئة تشهد للنهار الأبدي، قدّمها من أجل ضعفنا لتنير لنا نحن الذين كنّا قبلاً في الظلمة وأمّا الآن فنور في الرب (أف 5: 8). بالكلمة المكتوبة صرنا أبناء للنور لكي ندخل إلى بهاء النور الكامل في يوم الرب العظيم، ونلتقي بالكلمة الإلهي ذاته وجهًا لوجه.



    مقدّمة

    في

    إنجيل متّى

    الكاتب

    القدّيس متّى الإنجيلي، هو أحد الاثنى عشر تلميذًا، كان عشّارًا اسمه لاوي واسم أبيه حلفى. رآه السيّد المسيح جالسًا عند مكان الجباية فقال له: اتبعني، فقام وتبعه (مت9: 9؛ مر2: 14؛ لو5: 29). ترك لاوي الجباية التي كان اليهود يتطلّعون إليها ببغضة، لأنها تمثل السلطة الرومانيّة المستبدة، وعلامة إذلال الشعب لحساب المستعمر الروماني المستغلّ. وقد سجّل لنا معلّمنا لوقا البشير الوليمة الكبرى التي صنعها لاوي للسيّد في بيته، ودعا إليها أصدقاءه السابقين من عشّارين وخطاة حتى يختبروا عذوبة التبعيّة للسيّد المسيح بأنفسهم (لو5: 29)، الأمر الذي أثار معلّمي اليهود، قائلين للتلاميذ: لماذا يأكل معلّمكم مع العشّارين والخطاة؟ أمّا هو فأجاب: "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى، لم آت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة" (مت9: 11-12).

    أما كلمة "متّى" فتعني "عطيّة الله"، وبالعبرانيّة "نثنائيل"، وباليونانيّة "ثيودورس"، والتي عُرِّبت "تادرس". وكأن الله بدعوته لمتّى أشبع قلبه كعطيّة إلهيّة فانتزعت نفسه من محبّة المال وأخرجت قلبه خارج الجباية.

    لغة الكتابة

    يقول بابياس أسقف هيرابوليس عام 118م أن متّى حوى التعاليم باللسان العبري، وكل واحد فسّرها (ترجمها) كما استطاع. هذا أيضًا ما أكّده القدّيس إيريناؤس والعلاّمة أوريجينوس والقدّيسان كيرلّس الأورشليمي وأبيفانيوس. ويروي لنا المؤرخ يوسابيوس أن القدّيس بنتينوس في زيارته إلى الهند وجد إنجيل متّى باللسان العبري لدى المؤمنين تركه لهم برثولماوس الرسول.

    تاريخ كتابته

    استقرّ رأي غالبيّة الدارسين أنه كُتب بعد إنجيل معلّمنا مرقس الرسول ببضع سنوات، وقبل خراب الهيكل اليهودي حيث يتحدّث عنه كنبوّة لا كواقعة قد تمت. لهذا يقدرون كتابته بالربع الثالث من القرن الأول.

    مكان كتابته

    يرى التقليد أن الإنجيل كُتب في فلسطين، الأمر الذي لم يشك فيه أحد من آباء الكنيسة الأولى، وإن كان بعض الباحثين رأوا أنه كُتب في إنطاكيّة أو فينيقيّة.

    غرض الكتابة

    1. كتب القدّيس متّى إنجيله لليهود الذين كانوا ولا يزالوا ينتظرون المسيّا الملك الذي يُقيم مملكة تسيطر على العالم. فالكاتب يهودي تتلمذ للسيّد المسيح يكتب لإخوته اليهود ليُعلن لهم أن المسيّا المنتظر قد جاء، مصحّحًا مفهومهم للملكوت، ناقلاً إيّاهم من الفكر المادي الزمني إلى الفكر الروحي السماوي.

    لقد كرّر كلمة "ابن داود" لتأكيد أن "المسيّا" هو الملك الخارج من سبط يهوذا ليملك، لكن ليس على نفس المستوى الذي ملكوا به في أرض الموعد، إنّما هو ملكوت سماوي (مت13: 43؛ 25: 34)؛ (7: 21؛ 8: 11؛ 16: 28). حقًا لقد كان اليهود ينتظرون بحمية شديدة مجيء المسيّا المخلّص ليملك. وقد جاء وملك لكن ليس بحسب فكرهم المادي!

    2. حمل هذا الإنجيل أيضًا جانبًا دفاعيًا عن السيّد المسيح، فلم تقف رسالته عند تأكيد أن فيه تحقّقت نبوّات العهد القديم، وإنما دافع ضدّ المثيرات اليهوديّة، لهذا تحدّث بوضوح عن ميلاده من عذراء، ودافع الملاك عنها أمام خطيبها، وروى تفاصيل قصّة القيامة والرشوة التي دفعها اليهود للجند. لهذا دعا R. V. G. Tasker هذا الإنجيل بالدفاع المسيحي المبكّر.

    3. يرى G. D. Kilpatrick أن هذا الإنجيل في أصوله كتب بهدف ليتورجي، لتُقرأ فصوله أثناء العبادة المسيحيّة. وقد اعتمد في ذلك على ما اتسم به الإنجيل من وضوح واختصار ومطابقات وتوازن في اللغة. لكن البعض يرى أن مثل هذه السمات لا تعني أن هذا الإنجيل كتب بهذا الهدف، إنّما هي سمات الكاتب الأدبيّة، وأنه بسبب هذه السمات استخدم الإنجيل بطريقة واسعة في الأغراض الليتورجيّة.

    سماته

    استخدم هذا الإنجيل في الاقتباسات الواردة في كتابات الكنيسة الأولى أكثر من غيره. ولعلّ نشره للموعظة على الجبل بطريقة تفصيليّة كدستور للحياة المسيحيّة كان له أثره على المؤمنين. أمّا سماته فهي:

    1. إذ كتب متّى الإنجيلي هذا الإنجيل لليهود أوضح بطريقة عميقة العلاقة الأكيدة بين المسيحيّة والعهد القديم، موضّحًا كيف كانت الكنيسة مُبتلعة في التفكير في نبوّات العهد القديم التي تحقّقت روحيًا في المسيح يسوع ربنا. لقد أشار إلى حوالي 60 نبوّة من العهد القديم، كما تكرّرت كلمة الملكوت حوالي 55 مرّة، وذُكر السيّد المسيح كابن لداود ثمان مرّات، معلنًا أنه الموعود به. لقد حمل هذا الإنجيل جوًا يهوديًا أكثر من غيره، فيفترض في القارئ معرفة العبريّة (5: 19)، يستعمل التعبيرات المفضّلة عند اليهود كدعوة أورشليم بالمدينة المقدّسة (4: 5؛ 27: 52-53)، والهيكل بالمكان المقدّس (24: 15). يتحدّث عن أسس الأعمال الصالحة الثلاثة عند اليهود، أي الصدقة والصلاة والصوم (6: 1-8، 16-18)، وعن واجبات الكهنة في الهيكل (12: 5) وضريبة الهيكل (17: 24-27)، والعشور (23: 23) وغسل الأيدي علامة التطهير من الدم (27: 24) الخ.

    أوضح أن السيّد لم يأتِ ليحتقر العهد القديم، بل ليدخل به إلى كمال غايته، من جهة الناموس والوصيّة وتحقيق ما جاء به من وعود خاصة بالخلاص. هذا التحقيق لم يتمّ فقط خلال تعاليم السيّد المسيح، وإنما أيضًا خلال شخصه كمخلّصٍ وفادٍ.

    هذا ما دفع بعض الدارسين إلى التطلّع إلى هذا الإنجيل كدراسة حاخاميّة مسيحيّة تكشف عن إعلان السيّد المسيح المخفي في العهد القديم.

    2. إذ يكتب متّى الإنجيلي لليهود لم يغفل عن مصارحتهم بأخطائهم، فيقول عن قائد المائة الروماني: "لم أجد ولا في إسرائيل إيمانا بمقدار هذا، وأقول لكم إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتّكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السماوات، وأما بنو الملكوت فيُطرحون إلى الظلمة الخارجيّة" (8: 10، 12). وقوله: "ابن الإنسان يُسلّم إلى رؤساء الكهنة والكتبة، فيحكمون عليه بالموت" (20: 18)، وأيضًا: "ملكوت الله ينزع منكم ويعطي لأمّة تعمل أثماره" (21: 43). منتقدًا تفسيرهم الحرفي لحفظ السبت (12: 1-13)، واهتمامهم بالمظهر الخارجي للعبادة (6: 2، 5، 16)، وانحرافهم وراء بعض التقاليد المناقضة للوصيّة (15: 3-9)، مؤكدًا لالتزامهم بالوصايا الشريعيّة حتى تلك التي ينطق بها الكتبة والفرّيسيّون مع نقده الشديد لريائهم (ص23) الخ.

    3. إن كان هذا الإنجيل قد حمل جوًا يهوديًا أكثر من غيره من الأناجيل لكنّه لم يغفل القارئ الأممي، فيشرح له بعض الألفاظ المعروفة لدي اليهود كقوله: "عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا" (1: 23)، "موضع يقال له جلجثّة، وهو المُسمّى موضع الجمجمة" (27: 33). وشرح بعض النواحي الجغرافيّة، كقوله: "وأتى وسكن في كفرناحوم التي عند البحر في تخوم زبولون ونفتاليم" (4: 13). وشرح المعتقدات التي يعرفها اليهودي مثل: "جاء إليه صدّيقيّون، الذين يقولون ليس قيامة" (22: 23)، وأيضًا عادات يهوديّة مثل "كان الوالي معتادًا في العيد أن يطلق لهم أسيرًا واحدًا من أرادوه" (27: 15).

    4. مع اهتمام الإنجيلي بالشئون اليهوديّة ليس فقط بالالتجاء إلى نبوّات العهد القديم، وإنما أيضًا بالالتزام بالوصايا الناموسيّة (5: 8)، وتعاليم الكتبة والفرّيسيّين الجالسين على كرسي موسى (23: 2)، بطريقة روحيّة عميقة وجديدة، أعلن السيّد أنه مُرسل لخراف إسرائيل الضالة (15: 24)، ويرجع نسبه إلى إبراهيم أب اليهود، وينقسم إلى ثلاثة أقسام تتكون من 14 جيلاً عن كل قسم بطريقة حاخاميّة، وأنه ابن داود المنتظر الذي يدخل المدينة المقدّسة كغالبٍ. هذه جميعها تُشير إلى تحقيقات أمنيات اليهود لكن الإنجيلي لم يقف عند هذا الحد؛ أيضًا عند الخصوصيات اليهوديّة بل انطلق بفكرهم إلى الرسالة الإنجيليّة الجامعيّة، معلنًا ظهور إسرائيل الجديد الذي لا يقف عند الحدود الضيقة. فقد ورد في نسب السيّد أمميّات غريبات الجنس، وفي طفولته هرب إلى مصر كملجأ له، معلنًا احتضان الأمم لملكوته (2: 13)، وفي لقاءاته مع بعض الأمميّين والأمميّات كان يمدحهم معلنًا قوّة إيمانهم، وفي نفس الوقت هاجم الكتبة والفرّيسيّين في ريائهم وضيق أفقهم (23)، وفي مثل الكرم تحدّث عن تسليم الكرم إلى كرّامين آخرين (21: 33)، وكأنه انطلق بهم من الفهم الضيّق المتعصّب إلى الفهم الروحي الجديد وإعلان الرسالة العظيمة الممتدة إلى جميع الأمم، حيث ختم السفر بكلمات السيّد الوداعيّة: "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم" (28: 19).

    5. الجانب اللاهوتي

    إنجيل متّى هو "إنجيل الملكوت"، مركزه "ملكوت السماوات" الذي يُعلن بوضوح في الأحاديث التعليميّة للسيّد المسيح كما في أمثاله ومعجزاته. هذا الملكوت هو ملكوت المستقبل (25: 34؛ 7: 21؛ 8: 11؛ 16: 28)، لكنّه يبدأ من الآن في حياتنا كحقيقة حاضرة (12: 28؛ 4: 17؛ 5: 3؛ 11: 3). كأن ملكوت السماوات قد بدأ فعلاً بمجيء السيّد المسيح وسكناه في قلوبنا ليُعلن بكماله في مجيئه الأخير.

    أما رب الملكوت فهو "المسيّا" المخلّص الذي كشف الإنجيل عن سلطانه الملوكي، موضّحًا أنه فيه تمّ المكتوب، وتحقّقت المواعيد الإلهيّة، وتمتّعت الشعوب بمشتهى الأمم! إنه موسى الجديد على مستوى فريد وفائق، يصوم أربعين يومًا، ويجرّب على الجبل ليغلب باسم شعبه وتخدمه الملائكة، يكمّل الشريعة الموسويّة لا بتسلّم وصايا على حجر منقوش بل يتكلّم بسلطان من عنده، يُشبع الجموع التي في القفر، ويتجلّى أمام تلاميذه مستدعيًا موسى وإيليّا ومتحدّثًا معهما! إنه ابن الله، لكنّه هو أيضًا ابن الإنسان، إذ حلّ في وسطنا ليدخل بنا إلى أمجاده. لهذا يدعوه "ابن الإنسان" في مواقف المجد الفائق.

    6. الجانب الكنسي

    لما كان إنجيل متّى البشير هو إنجيل الملكوت لهذا فهو أيضًا إنجيل الكنيسة بكونها سرّ ملكوت الله. إنه الوحيد بين الإنجيليّين يسجّل لنا تعاليم خاصة بالكنيسة بطريقة صريحة وواضحة على لسان السيّد المسيح، الذي نُسب إليه استخدام كلمة "إككليسيّا" مرّتين في عبارتين غاية في الأهمّية: فتحدّث عن أساس الكنيسة: صخرة الإيمان، قائلاً لبطرس الرسول حين أعلن إيمانه به، "على هذه الصخرة ابني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها" (مت16: 18). كما تحدّث عن سلطان الكنيسة. "وإن لم يسمع منهم فقُل للكنيسة، وإن لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني والعشّار. الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطًا في السماء، وكل ما تحلّونه على الأرض يكون محلولاً في السماء" (18: 17-18).

    هذا يكشف لنا عن اهتمام الإنجيلي متّى بالأمور الكنسيّة. والملاحظ أنه يؤكّد سرّ الكنيسة كحضرة الله وسط شعبه، وفي قلوبهم بطريقة وبأخرى عَبْر السفر كله، فيفتحه بحديث الملاك للقدّيس يوسف عن السيّد المسيح: "ويدعون اسمه عمّانوئيل الذي تفسيره الله معنا" (1: 23). وينقل إلينا حديث السيّد مع تلاميذه مقدّمًا لنا صورة مبسّطة للكنيسة المحليّة، بقوله: "لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم" (18: 20). كما أوضح السيّد الكنيسة الخفيّة في قلب الشاهد للحق، خاصة خلال عمله الرسولي بقوله: "من يقبلكم يقبلني" (10: 40)، "من قبِل ولدًا واحدًا مثل هذا باسمي فقد قبلني" (18: 5). كما يظهر معيّته مع شعبه المحتاج والمتألّم بقوله في اليوم الأخير: "بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي الأصاغر فبي فعلتم" (25: 40). ويرى العلاّمة ترتليان أن الإنجيلي متّى في عرضه لملاقاة السيّد مع تلاميذه داخل السفينة وسط الرياح الثائرة صورة حيّة للكنيسة التي تستمد سلامها من السيّد المسيح الساكن فيها والمتجلّي داخلها بالرغم ممّا يثيره الشيطان من اضطرابات ومضايقات. أخيرًا فإن الإنجيلي يختم السفر بكلمات السيّد لتلاميذه أن يتلمذوا جميع الأمم ويعمّدوهم ويعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصاهم به (28: 19، 20) مؤكدًا معيّته معهم كل الأيام إلى انقضاء الدهر (28: 20)، وكأن الكنيسة ممتدة من حيث المكان لتشمل الأمم ومن حيث الزمان إلى مجيئه الأخير لتعيش معه وجهًا لوجه!

    7. الجانب الإسخاتولوجي (الأخروي)

    إذ هو سفر الملكوت السماوي الذي ينطلق بمجيء المسيح الأول ليعد الكنيسة لملاقاته في مجيئه الأخير أكّد الإنجيلي الفكر الإسخاتولوجي (الأخروي) بصورة واضحة خاصة في الاصحاحين (24، 25). ففي الأول تحدّث عن علامات انقضاء الدهر، لا لمجرد المعرفة، وإنما بقصد الاستعداد بالسهر الدائم لمجيئه الأخير. وفي الأصحاح التالي قدّم لنا أمثلة رائعة عن الملكوت السماوي وملاقاتنا مع السيّد على السحاب.

    8. الأرقام

    إذ يكتب الإنجيلي متّى لليهود يهتمّ بالأرقام المحبّبة لهم خاصة أرقام 3، 5، 7. فمن جهة رقم 3 نجده يقسّم نسب السيّد المسيح إلى ثلاثة مراحل (1: 17)، والتجارب التي واجهها السيّد ثلاثة (4: 1-11)، وأركان العبادة ثلاثة (6: 1-18)، ويقدّم ثلاث تشبيهات للصلاة: السؤال والطلب والقرع (7: 7-8)، وفي التجلّي أخذ السيّد معه ثلاث تلاميذ (17: 1)، وأيضًا في بستان جثّسيماني (26: 37)، وهناك صلي ثلاث مرّات (26: 39-44) وبطرس الرسول أنكر السيّد ثلاث مرّات (26: 75). وسنحاول الحديث عن معنى الأرقام أثناء عرضنا لتفسير الإنجيل.

    9. من أهم ملامح هذا السفر أنه يتكون من خمس مقالات كبرى يلحقها أو يسبقها بعض القصص، حتى رأى البعض أن السفر يمثّل خمسة كتب جاءت مقابل أسفار موسى الخمسة بكون السيّد المسيح هو موسى الجديد. أمّا المقالات الخمسة فهي:

    أ. الموعظة على الجبل ص 5 - 7.

    ب. العمل الرسولي ص 10.

    ج. أمثال الملكوت ص 13.

    د. تعاليم متنوّعة ص 18.

    هـ. أحاديث إسخاتولوجيّة ص 23 - 25.

    محتويات السفر

    إذ يتحدّث السفر عن المسيح الملك، جاءت محتوياته هكذا:

    1. نسب الملك وميلاده ص 1-2

    لقد أكّد متّى البشير خلال نسب السيّد المسيح حسب الشريعة اليهوديّة، أنه ابن داود من سبط يهوذا آخِر ملك من السبط الملوكي، بمجيئه انتهت سجلاّت الأنساب، إذ تحقّق هدفها ولا يمكن حاليًا أن يعرف يهودي أنسابه حتى آدم كما كان في أيام السيّد المسيح.

    2. السابق للملك ص 3

    كانت العادة الشرقية أن يوجد للملك سابق يهيئ له الطريق. هكذا جاء يوحنا المعمدان الملاك الذي يهيئ الطريق للملك السماوي.

    3. اختبار الملك ص 4: 1-11

    دخول السيّد مع الشيطان في معركة على الجبل ليغلب، فيهب كل شعبه روح الغلبة والنصرة.

    4. إعلان الملك ص 4: 12-25

    أعلن ملكه السماوي مُقامًا على الأرض.

    5. دستور الملك ص 5-7

    "الموعظة على الجبل"، الدستور الذي يعيش على أساسه الشعب ليتهيّأوا للحياة السماويّة، ويتمتّعوا بالملكوت.

    6. خدمة الملك ص 8-11: 9

    إذ أعلن دستوره لشعبه مارس خدمته مع كل المحتاجين، مبتدئًا هنا بتطهيره الأبرص ولمسه ليؤكّد أنه جاء من أجل المرذولين والمنبوذين، وأن الأبرص لن ينجس السيد. ثم شفي خادم قائد المائة ليُعلن أنه جاء بالأكثر من أجل الخدم والعبيد لا يحتقّر إنسانًا لسبب أو آخر.

    7. رفض الملك ص 11: 10 - ص 20

    خاب أمل اليهود فيه إذ كانوا ينتظرون فيه ملكًا بمفهوم زمني يسيّطر ويملك ويُقيم دولة صهيونيّة تحكم العالم. اختلفت خدمته عمّا في أذهانهم ليفتح الباب للأمم.

    8. دخول الملك ص 21-25

    دخوله الرسمي إلى العاصمة ليملك على الصليب بعد كشفه عن المفهوم الإنجيلي للملكوت.

    9. موت الملك وقيامته ص 26-28

    ملك الرب على خشبة، وقام لكي يُقيم المؤمنين أعضاء في مملكته السماويّة.

    أقسام السفر

    إذ يتحدّث هذا السفر عن المسيّا كرب الملكوت السماوي، يمكننا تقسيم السفر هكذا:

    1. نسب الملك وميلاده 1-2.

    2. رسول الملك 3.

    3. اختبار الملك 4: 1-11.

    4. إعلان ملكوته 4: 12-25.

    5. دستور الملك 5-7.

    6. خدمة الملك 8-11: 19.

    7. رفض الملك 1: 20- ص 20.

    8. دخوله العاصمة 21-25.

    9. موت الملك وقيامته 26-28.

    ===================



    الإنجيل بحسب مرقس


    القمص تادرس يعقوب ملطي

    كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج

    بسم الآب والابن والروح القدس

    الله الواحد. آمين.

    اسم الكتاب: الإنجيل بحسب مرقس

    اسم المؤلف: القمص تادرس يعقوب ملطي

    رقم الإيداع بدار الكتب: 5062 / 1984

    في دراستنا لإنجيل معلمنا متى البشير نتذوق بشارة ربنا يسوع المسيح المفرحة التي سبق فأعد لها الله بواسطة أنبيائه القديسين حتى نتقبلها كدخول إلى ملكوته الأبدي، والآن في إنجيل معلمنا مرقس البشير نتمتع بذات البشارة المفرحة من جانب آخر، إذ نرى ربنا يسوع المسيح العامل لحسابنا، خلال خدمته العملية، خاصة قبوله الآلام والصلب أكثر من كلماته وعظاته.

    كُتب هذا السفر للرومان المعتزين بالذراع البشري والسلطة الزمنيّة مع العنف وحب التسلط، لذلك جاء هذا السفر يبرز شخص السيد المسيح كصاحب سلطان حقيقي خلال تواضعه وحبه بالآلام والصلب. وكأن روح الله يود أن يسحبنا لكي نسلك بروح ملكنا، فنحمل روح القوة والعمل بالحب والبذل.

    هذا وأود أن أشير أننا في تفسير هذا السفر، إذ نلتقي بأحداث تمس حياة السيد المسيح وأعماله سبق الحديث عنها في تفسير "الإنجيل بحسب متى" مستشهدًا بأقوال الكثير من الآباء وددت عدم التكرار، مشيرًا إلى الرجوع إلى التفسير السابق متى اقتضى الأمر، مع عرض مفاهيم جديدة في هذا الكتاب ما استطعت.

    القمص تادرس يعقوب ملطي

    القديس مار مرقس

    نشأته

    v وُلد القديس مرقس في القيروان إحدى المدن الخمس الغربية بليبيا، في بلدة تُدعى ابرياتولس، من أبوين يهوديين من سبط لاوي، اسم والده أرسطوبولس، ووالدته مريم، سيدة تقيّة لها اعتبارها بين المسيحيّين الأولين في أورشليم.

    v حمل مار مرقس اسمين (أع 12: 12، 25، 15: 37): يوحنا وهو اسم عبري يعني "يهوه حنان"، ومرقس اسم روماني يعني "مطرقة".

    v كان القديس مرقس يمت بصلة قرابة لبرنابا الرسول بكونه ابن أخته (كو 4: 10)، أو ابن عمه، كما كان والده ابن عم زوجة القديس بطرس الرسول أو ابن عمتها.

    v تعلم اليونانيّة واللاتينيّة والعبريّة وأتقنها.

    v إذ هجمت بعض القبائل المتبربرة على أملاكهم تركوا القيروان وذهبوا إلى فلسطين، حيث تمتع مع والدته بالسيد المسيح، فقد كانت أمه مريم من النساء اللواتي خدمن السيد من أموالهن. فتحت بيتها ليأكل الفصح مع تلاميذه في العُليّة، وهناك غسل أقدام التلاميذ، وسلمهم سرّ الإفخارستيا، فصارت أول كنيسة مسيحيّة في العالم دشنها السيد بنفسه بحلوله فيها وممارسته سرّ الإفخارستيا. وفي نفس العُلية حلّ الروح القدس على التلاميذ (أع 2: 1-4)، وفيها كانوا يجتمعون.

    v كان القديس مرقس أحد السبعين رسولاً الذين اختارهم السيد للخدمة، وقد شهد بذلك العلامة أوريجينوس والقديس أبيفانيوس.

    v كان القديس مرقس حاضرًا مع السيد في عرس قانا الجليل، وهو الشاب الذي كان حاملاً الجرة عندما التقى به التلميذان ليُعدا الفصح للسيد (مر 14: 13-14؛ لو 22: 11). وهو أيضًا الشاب الذي ترك إزاره وهرب عاريًا عند القبض على السيد (مر 14: 52).

    القديس مار مرقس والأسد

    يُرمز للقديس مار مرقس بالأسد، لذلك نجد أهل البندقيّة وهم يستشفعون به جعلوا الأسد رمزًا لهم، وأقاموا أسدًا مجنحًا في ساحة مار مرقس بمدينتهم. ويعلل البعض هذا الرمز للأمور الآتية:

    أولاً: قيل أن القديس مرقس اجتذب والده أرسطوبولس للإيمان المسيحي خلال سيرهما معًا في الطريق إلى الأردن حيث فاجأهما أسد ولبوة، فطلب الأب من ابنه أن يهرب بينما يتقدم هو فينشغل به الوحشان، لكن الابن طمأن الأب وصلى إلى السيد المسيح فانشق الوحشان وماتا، فآمن الأب بالسيد المسيح.

    ثانيًا: بدأ القديس مرقس إنجيله بقوله: "صوت صارخ في البرية"، وكأنه صوت أسد يدوي في البريّة كملك الحيوانات يهيئ الطريق لمجيء الملك الحقيقي ربنا يسوع المسيح. هذا وإذ جاء الإنجيل يُعلن سلطان السيد المسيح لذلك لاق أن يُرمز له بالأسد، إذ قيل عن السيد أنه "الأسد الخارج من سبط يهوذا" (رؤ 5: 5).

    ثالثًا: يرى القديس أمبروسيوس أن مار مرقس بدأ إنجيله بإعلان سلطان لاهوت السيد المسيح الخادم "بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله" (1: 1)، لذلك بحق يرمز له بالأسد.

    كرازته

    v بدأ الرسول خدمته مع معلمنا بطرس الرسول في أورشليم واليهوديّة.

    v انطلق مع الرسولين بولس وبرنابا في الرحلة التبشيريّة الأولى، وكرز معهما في أنطاكية، لكنه على ما يظن أُصيب بمرض في برجة بمفيليّة فاضطر أن يعود إلى أورشليم.

    v إذ بدأ الرسول بولس رحلته التبشيريّة الثانية أصر برنابا الرسول أن يأخذ مرقس، أما بولس الرسول فرفض، حتى فارق أحدهما الآخر، فانطلق بولس ومعه سيلا، أما برنابا فأخذ مرقس وكرزا في قبرص (أع 13: 4-5)، وقد ذهب إلى قبرص مرة ثانية بعد مجمع أورشليم (أع 15: 39).

    v اختفت شخصيّة القديس مرقس في سفر الأعمال، إذ سافر إلى مصر وأسس كنيسة الإسكندرية بعد أن ذهب أولاً إلى موطن ميلاده "المدن الخمس" بليبيا، ومن هناك انطلق إلى الواحات ثم صعيد مصر ودخل الإسكندرية عام 61 م من بابها الشرقي.

    يروي لنا التاريخ قصة قبول إنيانوس الإيمان المسيحي كأول مصري بالإسكندرية يقبل المسيحيّة. فقد تهرأ حذاء مار مرقس، وإذ ذهب به إلى الإسكافي إنيانوس ليصلحه دخل المخراز في يده فصرخ: "يا الله الواحد"، فشفاه مار مرقس باسم السيد المسيح وبدأ يحدثه عن الإله الواحد، فآمن هو وأهل بيته. وإذ انتشر الإيمان سريعًا بالإسكندرية رسم إنيانوس أسقفًا ومعه ثلاثة كهنة وسبعة شمامسة. هاج الشعب الوثني فاضطر القديس مرقس أن يترك الإسكندرية ليذهب إلى برقة (بليبيا) ومنها إلى روما، حيث التقى بالقديسين بطرس وبولس وبقي معهما حتى استشهادهما عام 64 م.

    عاد إلى الإسكندرية عام 65 م ليجد الإيمان المسيحي قد ازدهر، فقرر أن يزور المدن الخمس، وعاد ثانية إلى الإسكندرية ليستشهد هناك في منطقة بوكاليا.

    v تعتقد لبنان أن القديس كرز بها، هذا وقد كرز أيضًا بكولوسي (كو 4: 10)، وقد اتخذته البندقيّة شفيعًا لها، واكويلاً من أعمال البندقيّة.

    نختم حديثنا عن كرازته بكلمات الرسول بولس وهو يواجه لحظات الاستشهاد: "خذ مرقس واحضره معك لأنه نافع لي للخدمة" (2 تي 4: 11).

    مقدمة في

    الإنجيل بحسب مرقس

    تاريخ ومكان كتابته

    أجمع الدارسون على أن إنجيل مار مرقس هو أقدم ما كُتِبَ في الأناجيل، بل وحسبه كثير من الدارسين المصدر الرئيسي الذي استقى منه الإنجيليان متى ولوقا في كتابتهما إنجيليهما.

    يرى القديس إيريناؤس أنه كُتب بعد استشهاد القديسين بطرس وبولس. وقد اتجه غالبيّة الدارسين إلى القول بأنه كتب ما بين عام 65 م وعام 70 م.

    يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أنه كُتِبَ في مصر، بينما نادى البعض بأنه كُتِبَ في روما.

    إنجيل مرقس وبطرس الرسول

    حاول بعض الدارسين أن ينسبوا إنجيل مرقس إلى بطرس الرسول، متطلعين إلى القديس مرقس ككاتب أو مترجم للقديس بطرس قريبه، وأن هذا الإنجيل ليس إلاَّ مذكرات للرسول بطرس أو عظات سمعها مار مرقس عنه أثناء إقامته معه في روما، سجلها بعد استشهاد القديسين بطرس وبولس.

    هذا الرأي ترفضه الكنيسة القبطيّة تمامًا، وقد قام قداسة البابا شنودة الثالث بتفنيده في دراسته التي قدمها عن "القديس مرقس الرسول" بمناسبة مرور 16 قرنًا على استشهاده، لذلك رأيت هنا الاكتفاء بإبراز العناصر الرئيسيّة تاركًا للقارئ أن يرجع لكتاب قداسة البابا.

    أولاً: اعتمد هذا الرأي على قول للقديس بابياس عن القديس مرقس وقد ذكر عنه أنه لم يسمع الرب ولا عاينه، إنما تبع الرسول بطرس الذي آمن على يديه. وإن كان قد نقل بعض الآباء هذا الفكر عن بابياس، لكنه رأي خاطئ، فقد شهد كثير من الآباء كما أكّد دارسو التاريخ الكنسي أن مار مرقس عاين الرب وتبعه.

    ثانيًا: لم يكن مار مرقس كاتبًا ولا مترجمًا لبطرس الرسول في خدمته في روما كما ادَّعَى البعض، بل إن بطرس الرسول لم يكرز في روما وإنما بولس الرسول هو الذي كرز بها كما يظهر من رسالته إلى روما معلنًا اشتياقه للعمل بينهم (رو 1: 10-11) وفي نفس الرسالة يؤكد أنه لا يبني حيث وضع آخر أساسًا (رو 15: 20)... وكأن بولس وهو كارز للأمم - بينما بطرس كارز لأهل الختان - أراد أن يكون له هذا العمل في روما.

    ثالثًا: لو أن مار مرقس سجّل مذكرات بطرس أو عظاته بعد استشهاده لما كان هناك دافع لإخفاء هذه الحقيقة، وكان يجب أن يشير القديس مرقس إلى ذلك، على الأقل من قبيل أمانته وتواضعه.

    رابعًا: علل البعض أنها مذكرات بطرس بحجة أنها تحوي ضعفات بطرس وتغفل ما يمجده، وأن بطرس الرسول فعل هذا من قبيل تواضعه. ويُرد ذلك بالآتي:

    1. أن كاتبي الأسفار فوق المستوى الشخصي عند كتابتهم للأسفار، لذلك نجد موسى النبي يسجل بيده: "وأما الرجل موسى فكان حليمًا جدًا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض" (عد 12: 3). وقد ذكر في أسفاره المعجزات التي صنعها الله على يديه، وظهور الله له، وأحاديثه معه، وقبول الله شفاعته، ومديح الله له، ولم يمنعه تواضعه من ذكر هذه الأمور. وفي نفس الوقت ذكر أيضًا ضعفاته كيف كان ثقيل الفم واللسان (خر 4: 10)، وذكر خطيّته ومنع الله له من دخول أرض الموعد... إنهم كتبوا "مسوقين من الروح القدس" (2 بط 1: 21).

    وفي العهد الجديد نجد القديس يوحنا الحبيب لم يغفل وقوفه عند الصليب، ومخاطبة الرب له، وتسليمه أمه له (يو 19: 25-27)، ملقبًا نفسه "التلميذ الذي يسوع يحبه"، والذي "يتكئ في حضن يسوع" (يو 13: 3، 25).

    2. لم يغفل مار مرقس الرسول مديحه لبطرس الرسول، فذكر دعوة الرب له كأول دعوة (1: 16-20)، ووضع اسمه في مقدمة أسماء الرسل (3: 16)، وذكر أن الرب دخل بيته وشفي حماته كأول معجزة ذكرها مار مرقس للرب (1: 29-31)... وذكر قول بطرس الرسول: "ها قد تركنا كل شيء وتبعناك" (10: 28)، وذكره في مناسبات كثيرة مع يعقوب ويوحنا (5: 37، 9: 2-8، 14: 32).

    خامسًا: علل بعض الدارسين أنها مذكرات بطرس لما حملته من شواهد داخليّة أن الكاتب شاهد عيان لكثير من الأحداث، فإن عرفنا القديس مار مرقس أحد السبعين رسولاً الذين اختارهم الرب ومركز والدته بين تابعي المسيح لأدركنا أن كثيرًا من الأحداث عرفها الرسول بنفسه أو خلال التلاميذ والرسل أو والدته أو من كانوا محيطين بالسيد.

    سماته

    أولاً: عرف المسيحيون الأُوَل كلمة "إنجيل" بمعنى "أخبار مفرحة للعالم"، وقد سبق لنا الحديث عن كلمة "إنجيل" في دراستنا للإنجيل حسب معلمنا متى البشير، أما القديس مرقس فكما يرى غالبيّة الدارسين هو أول من استخدم هذا التعبير ليقصد به السفر نفسه الذي يعرض حياة السيد المسيح كأخبار مفرحة للعالم. ويبدو أن هذه الكلمة كانت محببة جدًا لنفس هذا القديس، فنجده يضعها عنوانًا للسفر بقوله: "بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله" (1: 1). كما كرَّر التعبير في أكثر من موضع، فحين تحدث عن حمل الصليب ذكر قول السيد: "من يهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل فهو يخلصها" (8: 35)، بينما لم يذكر الإنجيليان متى ولوقا تعبير "الإنجيل" في نفس الموضع (مت 16: 25؛ لو 9: 24). وأيضًا حين أورد حديث السيد المسيح عن الترك، قال: "ليس أحد ترك بيتًا أو إخوة أو أخوات أو أبًا أو أمًا أو امرأة أو أولادًا أو حقولاً لأجلي ولأجل الإنجيل إلاَّ ويأخذ مائة ضعف الآن في هذا الزمان... وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية" (10: 29)، وأيضًا لم يذكر متى الإنجيلي تعبير "إنجيل" في نفس الموضع (مت 19: 29).

    كثيرًا ما كرر كلمة "إنجيل (بشارة)" (1: 14-15، 14: 9)، فإذ كرز بين الأمم الوثنيين والفلاسفة خاصة في مدينة الإسكندرية كان لهذه الكلمة طعمًا خاصًا لديه، فقد شعر بالفرح الحقيقي الذي انفتح بابه على الأمم بمجيء السيد المسيح وتقديمه ذبيحة الصليب كسّر مصالحة الأمم والشعوب مع الله.

    ثانيًا: إذ كتب القديس مرقس إنجيله للرومان نجده يتبع الآتي:

    1. يترجم الكلمات الآرامية التي لا يفهمها الرومان مثل "بوانرجس" (3: 17)، "طليثا" (5: 14)، "قربان" (7: 14)، "أفثا" (7: 34)، "إلوي، إلوي، لما شبقتني" (15: 34)، "جلجثة" (15: 21)... فلو أنه كان يكتب لليهود لما كانت هناك حاجة لشرح معنى هذه الكلمات، إذ هي معروفة ودارجة عندهم.

    2. يشرح العادات اليهوديّة وأماكنهم وطوائفهم، الأمور التي يعرفها اليهود دون الرومان، فيوضح مفهوم النجاسة عند الفريسيّين واهتمامهم بالغسالات الخارجيّة (7: 2-4)، وعادة ذبح الفصح في اليوم الأول من الفطير (14: 12)، ومعنى كلمة "الاستعداد" (15: 42)، وإنكار الصدوقيّين للقيامة (12: 18). كما يسبق كلمة "الأردن" بكلمة "نهر" (1: 5)، ويوضح أن جبل الزيتون هو تجاه الهيكل (13: 3)، وأن بيت فاجي وبيت عنيا قريبتان من أورشليم (11: 1).

    3. إذ كتب البشير متى لليهود اقتبس الكثير من العهد القديم، أما البشير مرقس فلم يقتبس الكثير إذ هو يكتب للأمم.

    4. لم يكتب القديس مرقس لليهود كرجال متدينين ولا لليونان كرجال فلسفة وفكر، وإنما للرومان وهم رجال عمل، لذلك جاء السفر صغيرًا في حجمه بلا مقدمات، اهتم بإبراز السيد المسيح في أعماله المستمرة أكثر منه في عظاته أو خطاباته.

    5. آمن الرومان بالقوة والسلطة كأصحاب سيادة في العالم في ذلك الحين، لذلك حدثهم الإنجيلي مرقس عن السيد المسيح كصاحب سلطان حقيقي، وقد ظهر هذا الخط واضحًا في السفر كله من بدايته حتى نهايته، فيظهر سلطانه على الشياطين (1: 27) وعلى الأمراض (1: 42) وعلى الطبيعة (4: 39-41) وعلى النباتات (11: 12-20). له سلطان في الهيكل (11: 33)، وأيضًا على السبت كرب السبت (2: 28). بسلطانه الحق يعرف أسرار الأفكار(2: 8) ويعلن عن أسرار المستقبل (ص 13)، قادر بسلطانه أن يشبع الجماهير (6: 33-44، 8: 1-9).

    آمن الرومان بالسيادة خلال العنف والكبرياء مع الاغتصاب، أما الإنجيلي فيعلن سلطان السيد المسيح خلال التواضع وخدمة الآخرين (9: 33، 10: 35، 45)، وقد جاءت فكرة الألم والصليب تسود السفر كله، فقد استوعبت آلام السيد حوالي ثلث السفر، وإن كان السفر ككل هو تهيئة للنفس لقبول المسيح الملك خلال الألم!

    6. قدم الإنجيلي مرقس هيرودس كعينه لملوكهم الذين يجتمع حولهم المتملقون للهو والرقص مع اتسامه بالعنف والقتل ظلمًا، بينما يقدم السيد المسيح الذي يملك ببشارة الملكوت، يجتذب النفس ويرويها فتبهر به. لذلك كثيرًا ما يُعلن الإنجيلي عن التفاف الجماهير حول السيد (1: 28، 33، 45؛ 2: 1-2؛ 3: 7-9؛ 4: 1-2؛ 6: 32-34؛ 7: 24؛ 9: 15؛ 5: 24). الكل يجري إليه حتى إن انفرد في موضع خلاء (6: 32-34) أو أراد أن يختفي في بيت (7: 24). ما أكثر المواضع التي أعلن فيها الإنجيلي أن الجماهير قد بُهتت إلى الغاية (1: 22، 27؛ 4: 41؛ 6: 51؛ 10: 24-26). إنه لا يفرض نفسه على الغير إنما يجتذب بحبه وتواضعه قلوب الكثيرين.

    7. ربما ركز الإنجيلي على إبراز الصراع بين السيد المسيح واليهود بطوائفهم ليشجع الرومان على قبول ذاك الذي رفضه اليهود، خاصة وأن السيد المسيح لم يقف ضعيفًا أمام مقاوميه من اليهود، بل كان يفحمهم. وحين صلبوه لم يفعلوا هذا عن ضعف من جانبه، إذ سبق فأعلن لتلاميذه عن صلبه، مؤكدًا ذلك ثلاث مرات (8: 31؛ 9: 31؛ 10: 33-34)، موضحًا أنه يقوم من الأموات ويأتي بمجد أبيه مع الملائكة القديسين (8: 38)، ويأتي على سحاب السماء (14: 62).

    ومن جانب آخر أوضح اتجاه السيد نحو الأمم (7: 24-30، 11: 17، 13: 10، 16: 15). وقد جاءت الوصيّة الأخيرة: "اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها" (16: 15).

    8. إذ وجه القديس مرقس إنجيله للرومان كشف عن جامعية رسالة الإنجيل لتضم الأمم أيضًا، لذلك كثيرًا ما يستخدم التعبيرين "كل"، "جميع" (1: 5، 28، 33، 39؛ 2: 13؛ 4: 1؛ 6: 33، 39، 41، 55؛ 13: 10).

    أخيرًا نردد ما قاله أحد الدارسين: "يظهر مرقس كلاهوتي خلاّق عاش وسط جماعة مسيحيّة من أصل أممي، لكنها لم تكن معتزلة عن اليهوديّة تمامًا، لها ثقافتها الخاصة النامية".

    ثالثًا: إن كانت كلمة "إنجيل" محببة للغاية لدى القديس مرقس الإنجيلي، فإن الإيمان هو طريق التمتع بالإنجيل. وقد أبرز السفر بقوة كيف أن الإيمان هو طريق التمتع بالبركات الزمنيّة والروحيّة، وأن عدم إيمان الشعب حجب عنهم عمل السيد المسيح (6: 1-6). ويرى بعض الدارسين أن السيد المسيح يظهر في هذا السفر كمن كرس حياته لإيقاظ إيمان الناس.

    رابعًا: السفر الذي بين أيدينا هو "إنجيل المسيح المتألم" يهيئ النفس لقبول إنجيل المسيح المتألم، لذلك احتلت أقوال السيد المسيح عن الألم مركزًا أساسيًا. فقد تحدث السيد عن آلامه بوضوح وفي صراحة في ثلاثة مواضع.

    1. في قيصريّة فيلبس (8: 31).

    2. في تحركه نحو الجليل (9: 31).

    3. في طريقه إلى المدينة المقدسة (10: 33-34).

    قوبل السيد المسيح في كل مرة، إما بالانتهار كما من سمعان بطرس، أو بالخوف وعدم الفهم من جانب التلاميذ، فقد كان سرّ الصليب غير مدرك بعد، بالرغم من أن السيد مهّد له مبكرًا في أكثر من موضع (راجع 2: 20؛ 3: 6؛ 6: 1-6؛ 6: 14-29).

    ويلاحظ أن إعلانات السيد المسيح عن الآلام ضمنت ثلاثة عناصر:

    1. دعوته نفسه أنه "ابن الإنسان" (8: 31، 9: 31، 10: 45). فإن كان الإنجيلي قد افتتح السفر بإعلان أن السيد المسيح هو "ابن الله" (1: 1)، فقد صار ابن الله ابن الإنسان ليُسلم نفسه في أيديّ بني الناس حتى تتحقق فيه إرادة أبيه (صلبه).

    2. تأكيد أنه يُقتل (8: 31؛ 9: 31؛ 10: 34)، فقد جاء إلى العالم متجسدًا لهذه الغاية... تسليم نفسه ذبيحة، إذ هو الطريق الوحيد لإعلان محبته الخلاصيّة.

    3. تأكيد أنه بعد 3 أيام يقوم، فإنه لا يموت عن ضعف بل ليقيمنا معه.

    في دراستنا لصُلب السفر سيظهر بمشيئة الله الألم واضحًا للغاية عبر السفر كله، فإن تحدث عن مثل الكرم والكرامين أبرز أن الكرامين يضمرون قتل الوارث (12: 7)، كما يعلن السيد عن نفسه أنه حجر الزاوية المرفوض (12: 10)، وإن قدمت امرأة قارورة طيب ناردين تسكبه على رأسه إنما ليُعلن السيد: "قد سبقت ودهنت بالطيب جسدي للتكفين" (14: 8) الخ.

    رأي بعض الدارسين السفر كله يدور حول آلام السيد المسيح وتذوقه مرارة الموت، فعلق أحدهم، قائلاً: "الإنجيل في كُليته هو شرح كيف جُرب يسوع"، وقال آخر أنه في مجمله عرض لآلام المسيح، إما خلال تجارب مباشرة من الشيطان أو خلال مصادر بشريّة.

    هذه السمة دفعت البعض للاعتقاد بأن القديس مرقس كتب السفر لجماعة مسيحيّة متألمة، تقع تحت نير الاضطهاد، فقد هدف به إلى الكشف عن التزامها بممارسة شركة الآلام مع مسيحها المتألم والذي يدعو تلاميذه لقبول الآلام. لقب البعض هذا السفر "إنجيل الشهيد"، أي الإنجيل الذي وُضع لمساندة المسيحي وهو يواجه الاستشهاد وتشجيعه على ذلك. حقًا إنه لم يشرح فلسفة الألم، لا في حياة السيد المسيح، ولا في حياة تلاميذه كما في رسائل معلمنا بولس الرسول، لكنه أكَّد الالتزام بقبول الألم حسب المقاصد الإلهيّة.

    خامسًا: إن كان معلمنا مرقس في إنجيله يكشف عن شخص ربنا يسوع بكونه العامل بلا انقطاع لحسابنا، فيورد 16 قصة عن معجزاته بخلاف تأكيده أنه شفي كثيرين وأخرج شياطين كثيرة (1: 34-39؛ 3: 10-11) لكن السفر في كُليته جاء يعلن ما قاله السيد: "لماذا يطلب هذا الجيل آية؟ الحق أقول لكم لن يُعطى هذا الجيل آية" (8: 12).

    يميز البعض بين عمل المعجزات سواء خلال الأشْفِية وإخراج الشياطين وبين تقديم آية أو علامة من السماء. فالمعجزات قدمها السيد من قبيل حبه وترفقه إذ رأي شعبه في حاجة لمن يسندهم، فما قدمه السيد إنما هو حنانه، وقد أبرز القديس مرقس الإنجيلي مشاعر السيد المسيح نحو شعبه، إذ كثيرًا ما يقول "تحنن عليهم" أو احتضن الأولاد الخ. أما الآية التي كان الفريسيون يطلبونها وأيضًا هيرودس حين وقف أمامه إنما يقصد بها تحقيق عمل خارق بقصد الاستعراض، الأمر الذي رفضه السيد المسيح تمامًا، إذ يلاحظ في هذا السفر الآتي:

    1. تبع رفضه عمل آية حديثه مع تلاميذه أن يتحرزوا من خمير الفريسيّين وخمير هيرودس (8: 15)، ففكروا قائلين بعضهم لبعض: ليس عندنا خبز، مع أن الإنجيلي يقول "لم يكن معهم في السفينة إلاَّ رغيف واحد" (8: 14). وكأن الآية كانت بين أيديهم ولم يدركوها، إذ كان السيد المسيح هو "الرغيف الواحد" المكسور لأجلهم وهم لا يعلمون. لذا وبخهم السيد على عدم فهمهم (8: 17-21). فالآية الحقيقيّة غير المنظورة هي "العمل الإفخارستي" أو الخبز المكسور الذي قدمه لهم .

    2. يرى بعض الدارسين أن السيد رفض تقديم آية من السماء، إذ يريد أن يركز أنظارهم عليه، فيقول أحدهم: "يسوع نفسه هو الآية الوحيدة للإنجيل... يليق بنا ألا نطلب معجزة أو آية منفصلة عن يسوع نفسه". لعل هذا الفكر جاء مستندًا على قول النبي: "ولكن يعطيكم السيد نفسه آية: ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل" (إش 7: 14). هذه الآية التي اشتهى أن يتمتع بها الأنبياء: الالتقاء مع كلمة الله المتجسد ربنا يسوع!

    3. رفض تقديم آية استعراضية، إذ جاء يطلب "الإيمان"، وكما رأينا أن إنجيل مار مرقس يدور حول الإيمان الذي يقوم على الثقة في المسيح القادر أن يشبع احتياجاتنا الداخليّة، لا الإيمان القائم على علامات وآيات منظورة. وإن كانت الجموع التي تعجب به وتُبهر منه (6: 2)، سرعان ما تقاومه قائلين: "من أين لهذا هذه؟ وما هذه الحكمة التي أُعطيت له حتى تجرى على يديه قوات مثل هذه؟ أليس هذا هو النجار ابن مريم...؟" (6: 2-3). فالإيمان إذن لا يقوم على مجرد أن يُبهر الإنسان بآية أو معجزة، وإنما يقوم على اتكاء صادق على صدر الرب المشبع للنفس.

    4. طلب رؤساء الكهنة مع الكتبة آية في لحظات الصلب، قائلين: "لينزل الآن المسيح ملك إسرائيل عن الصليب لنرى ونؤمن" (15: 32) طلبوا آية منظورة أن ينزل عن الصليب، خلالها يؤمنون به، ولم يدركوا أنه لو فعل ذلك لبهرهم كما لو كان إنسانا فائقًا للطبيعة "سوبرمان" ولكن ما كان يحقق عمله بكونه المسيح ملك اليهود روحيًا! رفض السيد أن يتمم آية منظورة بنزوله عن الصليب، فإذا به يجتذب خلال مجد الصليب قلب اللص اليمين وأيضًا قائد المائة ويشق حجاب الهيكل. أضاء مجد الصليب، لا ليبهر الناس، إنما ليجتذب ملايين النفوس إلى الإيمان، وكأن الصليب قد صار الإعلان الحقيقي والعلامة أو الآية التي تمت لا بنزوله عنه، وإنما بإعلان حبه وتواضعه وبذله حتى الموت ليقيمنا من موتنا.

    ما فعله هنا رؤساء الكهنة والكتبة، إنما هو امتداد لحديث عدو الخير مع السيد المسيح الذي طلب منه أن يلقي بنفسه من جناح الهيكل ليبهر الجماهير فتؤمن به. لكن طريق السيد المسيح هو طريق الصليب لا إبهار الناس بعلامات فائقة!

    5. حقًا قبيل صلبه قدَّم لتلاميذه آية هي تجليه أمامهم، لكنه حتى في هذا العمل لم يهدف نحو تقديم آية باهرة وإنما كشف حقائق إيمانيّة تمس حياتهم معه، فلو أراد إبهار الناس لحقق التجلي، لا أمام ثلاثة من تلاميذه أو حتى جميع تلاميذه ورسله، وإنما بالحري كان يتجلى أمام الجماهير غير المحصيّة ليبهرهم بمجده. بمعنى آخر ما قدمه في التجلي ليس آية ليبهر الناظرين إنما عطيّة وإعلان إلهي وكشف. أمور تُقَدَّم لمن يلتقي معه في حياة سريّة خفيّة داخليّة، ينعم بها ليمارس الحياة السماويّة الفائقة. في كلمات أخرى لم يقدم التجلي لينال السيد دهشة الغير وإعجابهم، وإنما ليسحب قلوبهم إلى حياة الشركة مع الآب في ابنه بالروح القدس كحياة عمليّة وخبرة صادقة.

    وحين التقت المرأة نازفة الدم بالسيد تمتعت بقوة خرجت منه (5: 30)، لا خلال علامة أو آية ظاهرة تمتعت بها، وإنما خلال إيمانها بالقادر أن يشفي.

    6. أخيرًا إن كان السيد قد رفض تقديم آية من السماء أو علامة يؤكد بها شخصه، فإن أضداد المسيح والأنبياء الكذبة على العكس يقدمون الآيات ليخدعوا إن أمكن حتى المختارين (13: 21-23).

    سادسًا: استدعى نظر بعض الدارسين أن الإنجيلي مرقس عبَّر عن اعتقاده بأن السيد المسيح قد أراد أن تبقى طبيعته بكونه المسيح ابن الله سرًا لا يود إعلانها حتى قيامته. فقد جاء تحليل W. Wrede لإنجيل مرقس يرتكز على أربعة أمور رئيسيّة هي أن السيد رفض الإفصاح عن سره أنه المسيح مدة خدمته على الأرض، وإنه أعلن هذا السرّ لتلاميذه دون الجماهير. مع ذلك حتى التلاميذ لم يستطيعوا إدراكه، وأن الشياطين قد عرفته، لكنه كان ينتهرها، ولم يدعها تشهد له، وأن أعمال الشفاء التي صنعها كانت تعلن عن هذا السرّ، لهذا كثيرًا ما كان يطلب من المتمتعين بالشفاء ألاَّ يُعلنوا ذلك.

    رأى دارس آخر إن عقيدة الإنجيلي مرقس بخصوص سريّة طبيعة السيد المسيح وإخفاء السيد لها تظهر من العلامات التالية:

    أ. إذ عرفته الشياطين منعها من الإخبار عنه (1: 25، 34؛ 3: 12).

    ب. كان السيد المسيح يتجنب الإعلان عن معجزاته وأشفيته (1: 44؛ 5: 43؛ 7: 36؛ 8: 26) إلاَّ في حالة واحدة إذ كان المتمتع بالشفاء غالبًا أمميًا أو يسكن بين الأمم (5: 19-20).

    ج. يميل السيد في الغالب إلى الانسحاب من الجماهير (1: 35؛ 3: 7؛ 4: 35؛ 6: 31؛ 7: 24؛ 8: 27؛ 9: 30).

    د. رفضه تقديم آية لذلك الجيل (8: 21).

    ه. في أكثر من مرة كان يقدم تعليمًا خاصًا لتلاميذه على انفراد (4: 33-34؛ 7: 17-23؛ 9: 28-31)، أما أمثاله التي يقدمها للجماهير، فكانت تحمل معانٍ سريّة غير مدركة (4: 10-13).

    و. عدم إدراك الجماهير لأمثاله سره قسوة قلب الشعب اليهودي أو على الأقل قسوة قلب قادتهم (3: 5؛ 7: 6-7).

    ز. رفض السيد المسيح الإعلان عن طبيعته حتى يقوم ابن الإنسان من الأموات (8: 30؛ 9: 9).

    ولعل سرّ إخفائه لطبيعته يقوم على أساس روحي، وهو أن السيد المسيح صاحب السلطان الحقيقي لا يطلب أمجادًا زمنيّة، بل سلك في تواضع، حتى متى قام يكشف عن طبيعته، لا ليتمجد ظاهريًا، وإنما لكي يمجد الذين يؤمنون به، ويتمتعون بقوة قيامته أو بحياته المقامة عاملة فيهم. ومن جانب آخر، لعل إخفاءه الأمر كان لكي تتم مقاصده الإلهيّة من جهة صلبه، إذ يقول الرسول بولس عن اليهود أنهم لو عرفوا لما صلبوا رب المجد (1 كو2: 8).

    سابعًا: إن كان هذا السفر قد أبرز شخص السيد المسيح كخادم البشريّة فقد جاء كمعلم لا بالعظات والوصايا فحسب وإنما بالحب العملي والحنان الإلهي في قوة وسلطان، يجتذب النفوس إليه. وردت كلمة "يُعَلِّم" باليونانيّة "ديدسقلون" في هذا السفر أكثر من أي سفر آخر في العهد الجديد، إذ تكرر هذا الفعل 15 مرة، كما دُعي السيد المسيح معلمًا 12 مرة، ليس فقط من السيد نفسه (14: 14) ومن تلاميذه وجموع الشعب، وإنما حتى من المقاومين له كالفريسيّين والهيرودسيّين والصدوقيّين والكتبة.

    قدَّمه لنا هذا السفر معلمًا يتحرك في كل اتجاه تارة يعلم في المجمع والهيكل (1: 21؛ 6: 2؛ 11: 7؛ 12: 35؛ 14: 39)، وثانية نحو الجموع (2: 13-14؛ 6: 34؛ 10: 1)، وثالثة نحو تلاميذه (6: 30).

    في تعليمه لم يستخدم النظام الخاص بالحاخامات، فيتبعه تلاميذه كحاخام أو رباني جديد يسمعون له، وإنما يعيشون معه ويصاحبونه في شركة عمليّة.

    أما موضوع تعليمه الرئيسي فهو ليس مجموعة من التعاليم والوصايا بقدر ما هي تقديم نفسه ليقبلونه، وان كانوا لم يتعرفوا عليه حقًا إلاَّ بعد قيامته. لقد قدم نفسه كمتألمٍ، وحثَّهم على الشركة معه في آلامه (8: 34؛ 9: 31؛ 10: 32 الخ.). هذا هو موضوع تعليمه لهم، وهو المكافأة، يقبلونه في حياتهم بصليبه وآلامه.

    أخيرًا فإنه كمعلمٍ جاء فريدًا في سلطانه، فإن كان اليهود كما الأمم قد اعتقدوا أن صراعًا مرًا يقوم بين الخالق وقوى الشر الخفيّة الفائقة، جاء السيد يطرد بسلطان الأرواح الشريرة، مطهرًا الخليقة التي استخدمها عدو الخير مراكز عمل له. لقد غلب قوى الشر الخفيّة، وطردها من خليقته، أما غلبته على القيادات اليهوديّة المقاومة وإفحامهم، إنما لكونها وكالات عمل لحساب قوى الشر.

    بهذا يكون هذا السفر في جوهره ليس عرضًا لحياة المعلم، بل هو إنجيل الغلبة على قوات الشر وخلاص الخليقة من سلطانها خلال التمتع بالمعلم شخصيًا كغالبٍ ومنتصرٍ!

    ثامنًا: إن كان الإنجيل بحسب مرقس قد اتسم بالاختصار الشديد، لكنه في نفس الوقت اتسم بالتدقيق والتوضيح، فيذكر أن متى العشار هو ابن حلفي (2: 14)، وبارتيماوس الأعمى ابن تيماوس (10: 46)، وسمعان القيرواني هو أبو الكسندروس وروفس (5: 21). وعندما يصف معجزة إشباع الجموع يدقق أنهم اتكأوا مئة مئة، خمسين خمسين (6: 39-40). كما دقق في إعلان مشاعر السيد المسيح كمن كان معاينًا لتصرفاته مدركًا أنه محب البشر. يكشف عنه إنه يشاركنا عواطفنا وأحاسيسنا كمن هو قريب منا جدًا، فيقول عنه أن تحنن (1: 2)، وأشفق (8: 2)، وانتهر (1: 43)، ونظر إلى الشاب وأحبه (10: 21)، واحتضن الأولاد (9: 36، 10: 16).

    تاسعًا: كان مغرمًا باستخدام التعبيرين: "للوقت" و"في الحال"، ليضع في نفس القارئ ذات الأثر الذي يشعر هو به. كما استخدم صيغة المضارع في سرد بعض الأحداث ليجعل منها واقعًا يحمل حركة مستمرة.

    عاشرًا: انفرد بذكر معجزتين هما: شفاء الأصم الأعقد (7: 31-37)، وتفتيح عيني أعمى بيت صيدا (8: 22-26)، كما انفرد بذكر مثل الحقل الذي ينمو زرعه دون أن يدري الزارع كيفيّة نموه (4: 26-29).

    أقسامه ومحتوياته

    1. بدء الخدمة 1: 1-13.

    2. خدمته في الجليل 1: 14- 6: 30.

    3. انسحابه من الجليل 6: 31- 9: 50.

    4. خدمته في بيرية 10.

    5. خدمته في أورشليم 11-13.

    6. آلام السيد وقيامته 14-16.
    ================



    إنجيل لوقا

    لوقا البشير


    v كلمة "لوقا" غالبًا اختصار للكلمة اللاتينية "لوقانوسLucanus " أو "لوكيوس" وتعني "حامل النور"، أو "المستنير". غير أنه يجب التمييز بين لوقا الإنجيلي ولوكيوس المذكور في (أع 13: 1)، وأيضًا لوكيوس المذكور في (رو 6: 21).

    v هو الوحيد بين كتَّاب العهد الجديد الذي كان أمميًا ولم يكن يهوديًا بل، غالبًا من إنطاكية سوريًا؛ قَبِل الإيمان المسيحي دون أن يتهوّد. ويعلّل الدارسون ذلك بأن الرسول بولس حين أشار إليه في رسالته إلى كولوسى (كو 4: 14). لم يضمُّه إلى من هم من أهل الختان (4: 10-11) مثل أرسترخس ومرقس ابن أخت برنابا ويسوع المدعو يسطس .

    v رأى البعض أنه كان أحد السبعين رسولاً، بل وأحد التلميذين اللذين ظهر لهما السيد بعد قيامته في طريقهما إلى عمواس (لو 24: 12)، وأن الرسول لم يذكر اسمه بروح التواضع؛ غير أن الرأي الغالب بين الدارسين المحدثين أنه لم يكن من الرسل، بل قَبِل الإيمان على يديّ الرسول بولس، مدلّلين على ذلك أولاً بافتقار السند التاريخي، وثانيًا لأن هذا الفكر يبدو متعارضًا مع مقدمة الإنجيل، إذ يقول الكاتب عن الأمور المختصة بالسيد المسيح: "كما سلّمها إلينا الذين كانوا من البدء معاينين وخدامًا للكلمة" (لو 1: 2)، وكأن الكاتب لم ينظر السيد المسيح بل سجّل ما تسلمه خلال التقليد بتدقيقٍ شديدٍ وتحقق من الذين عاينوا بأنفسهم. ولعلّه لهذا السبب يُعلق أحد الدارسين على هذا الإنجيل بقوله: "إنه عمل وليد إيمان الجماعة، قام على التقليد، وليس عملاً فرديًا".

    v كان القديس لوقا طبيبًا (كو 4: 14)، ورسّامًا، جاء في التقليد أنه رسم أيقونة السيدة العذراء.

    v ارتبط القديس لوقا بالقديس بولس رسول الأمم بصداقة قوية، ففي سفر الأعمال أقلع الإنجيلي لوقا مع الرسول بولس من تراوس إلى ساموتراكي ثم إلى نيابوليس، ومن هناك إلى فيلبي (أع 16: 10-39 الرحلة التبشيرية الثانية). مرة أخرى في رحلة الرسول بولس التبشيرية الثالثة عند رجوعه تبعه الإنجيلي لوقا من فيلبى إلى أورشليم (أع 20: 5-21: 18). كما نراه مرافقًا له في روما عند الأسر (28: 30). وكان معه في لحظاته الأخيرة، إذ يقول في رسالته الوداعية: "لوقا وحده معي" (2 تي 4: 11).

    v هكذا ارتبط الاثنان معًا، فسجل لنا الإنجيلي لوقا الكثير من عمل الله الكرازي خلال الرسول بولس في سفر الأعمال؛ ودعاه الرسول بولس: "الطبيب الحبيب" (كو 4: 14)، كما دعاه بالعامل معه (فل 24).

    v قيل أنه عاش بتولاً، عمل في أخائية (باليونان)، استشهد في الرابعة والثمانين من عمره وأن الإمبراطور قسطنطينوس الثاني نقل رفاته إلي القسطنطينية عام 357م، وفي عام 1177م نقلت إلى Padau بإيطاليا.

    نسبة السفْر إليه

    1. جاءت شهادة الكنيسة في القرون الأولى واضحة أن الكاتب هو لوقا البشير، كاتب سفر الأعمال ورفيق الرسول بولس، كما يظهر من كتابات الآباء يوستين الشهيد وإيريناؤس وأوريجينوس وترتليان.

    2. بجانب هذه الأدلة الخارجية، السفر نفسه يحمل دلائل علي أن كاتبه هو معلمنا لوقا. فمنها أن هذا السفر موجّه إلى "ثيؤفيلس" نفس الشخص الذي وُجّه إليه سفر أعمال الرسل، بل وجاءت مقدمة سفر الأعمال تكمل خاتمة إنجيل لوقا، فالكاتب واحد. والسفران متشابهان في اللغة والأسلوب والأفكار. هذا والتعبيرات الدقيقة التي استخدمها في وصف الأمراض التي شفاها السيد المسيح تدل على أن الكاتب طبيب، فكطبيب احترامًا منه لمهنة الطب لم يقل ما ذكره مرقس الرسول عن نازفة الدم: "قد تألمت كثيرًا من أطباء كثيرين وأنفقت كل ما عندها، ولم تنتفع شيئًا، بل صارت إلى حال أردأ" (مر 5: 26)، إنما اكتفى بالقول: "قد أنفقت كل معيشتها للأطباء، ولم تقدر أن تُشفي من أحد" (لو 8: 43).

    تاريخ كتابته

    لا يوجد تقليد ثابت بخصوص تاريخ كتابته أو مكان كتابه، فالقديس إيريناؤس يرى أنه كُتب قبل استشهاد القديس بولس، بينما القديس جيروم معتمدًا على المؤرخ يوسابيوس القيصري يراه كتب بعد استشهاد الرسول بولس.

    لما كان هذا الإنجيل قد كُتب قبل سفر الأعمال، و كُتب الأعمال قبل استشهاد الرسول بولس حتى أنه لم يشر إلى هذا الحدث، لهذا اعتقد كثير من الدرسين أنه كتب ما بين عام 63 و67م. كتبه غالبًا في روما، وإن كان قد رأى البعض أنه كُتب في أخائية أو في الإسكندرية.

    غايته

    إن كان معلمنا متى البشير كيهودي كتب لليهود ليعلن أن يسوع هو المسّيا الملك، الذي طالما ترقّب الآباء والأنبياء مجيئه، ليكون لهم نصيب في ملكوته الروحي الأبدي، فإن مار مرقس كتب للرومان ليُعلن أن يسوع هذا هو الخادم العامل، لا بروح السلطة الزمنية والتشامخ والعنف، بل بروح البذل، فيخلص بأعمال محبته لا بجيوش وقوات زمنية. أما معلمنا لوقا البشير فكأممى طبيب مثقف أراد أن يخدم أصحاب الفكر الهيليني، فكتب لليونان عن السيد المسيح بكونه "صديق البشرية كلها"، يقدم لها أعماله الإلهية الخلاصية، لتحقيق ما عجزت عنه الفلسفة اليونانية والحكمة البشرية.

    لهذا يُدعى هذا الإنجيل: "إنجيل الصداقة الإلهية" أو "إنجيل المسيح المخلص". كما دُعي بالإنجيل المسكوني بكونه يمثّل دعوة للبشرية كلها لتقبل نداء صديقها السماوي، لتتجاوب مع عمله الخلاصي خلال الحب. هذه الغاية سنراها واضحة خلال حديثنا عن سمات هذا السفر.

    كتب القديس لوقا هذا الإنجيل لصديقه العزيز ثاؤفيلس (1: 3). لقَب "العزيز" وهو لقب شرف، لهذا جاء الرأي الغالب أنه أحد أشراف الإسكندرية، من أصل إنطاكي كلوقا البشير نفسه، فكتب إليه كأممى مثله، لا لينتفع منه وحده، وإنما كما قال العلامة أوريجينوس لينتفع به المنتصرون من الأمم بوجه عام.

    لقد ظن البعض أن لوقا هذا كان عبدًا لسيده ثاؤفيلس الأممي، وإذ عالجه كطبيب وشُفي كافأه بالعتق من العبودية، فبعث إليه الطبيب لوقا هذا الإنجيل علامة امتنانه وشكره. وآخرون قالوا أن كلمة "ثاؤفيلس" وهي تعني "المحب لله" إنما هو اسم استنكاري لأحد أشراف الإسكندرية لم يفصح عنه الإنجيلي حتى لا يتعرض لمتاعب بسبب مسيحيته. على أي الأحوال، فإن هذا السفر موجه للأمم بوجه عام ليتمتعوا بصديقهم السماوي كمخلص لنفوسهم.

    سماته

    1. إذ قدّم لنا الإنجيلي السيد المسيح بكونه "المخلص صديق البشرية"، كثيرًا ما حدثنا عن "ابن الإنسان" جاء إلينا يحمل إنسانيتنا لكي يهبنا شركة الطبيعة الإلهية. فإن كانت الفلسفات اليونانية قدمت أفكارًا مجردة، لكنها لا تستطيع أن تحتل القلب وتُغير الأعماق، أما ابن الإنسان فجاء صديقًا للإنسان حتى يقبله في داخله، فيهبه خلال هذه الصداقة الفريدة إمكانيات فائقة تعمل في أعماقه وتنعكس على تصرفاته. دعوته للسيد "ابن الإنسان" تحطّم شعورنا بغربتنا عن الله، أو غربته عنّا إذ نزل إلينا ليرافقنا طريقنا.

    2. أهم سمة لهذا الإنجيل إنه إذ يقدم "المخلص الصديق" يقدمه للبشرية كلها، فهو إنجيل مسكوني. هو دعوة للجميع وليس لليهود فقط. لهذا نلاحظ فيه الآتي:

    أ. إذ كان اليهود يتطلعون إلى أنفسهم أنهم أبرار وبقية الشعوب خطاة، يعلن الإنجيلي أن السيد المسيح هو "صديق الخطاة"، فانفرد بقوله أن ابن الإنسان، قد جاء يطلب ويخلص ما قد هلك (19: 10)، كما قدّم لنا مجموعة كبيرة من أقوال السيد وأمثاله توضح صداقة يسوع المسيح وحنوّه على الخطاة، مثل المثل الخاص بطول الأناة على شجرة التين العقيمة (13: 6-9)، مثل الخروف الضال، والدرهم المفقود، والابن الضال (15)؛ كما قدّم لنا قصة المرأة الخاطئة (7: 36-50)، وتوبة زكا العشار (19: 1-10)، والوعد للّص التائب على الصليب (23: 40-43) الخ.

    ب. اقتبس العبارات والأحداث التي تفتح أبواب الرجاء للأمم، كقول إشعياء النبي: "كل جسد يرى خلاص الرب"، ورسالة إيليا النبي إلى أرملة صرفة صيدا الأممية (4: 25)، ورسالة إليشع إلى نعمان السرياني الوثني الأممي (4: 27).

    ج. ذكر إرسالية السبعين رسولاً، فإن كان الإثنا عشر تلميذًا يمثلون دعوة اليهود (الإثني عشر سبطًا) فإن رقم 70 يشير إلى ملء الأمم.

    ء . في نسب السيد المسيح لم يبدأ بإبراهيم بل بآدم أب كل البشرية (3: 38).

    3. إذ هو سفر الصداقة الإلهية المتّجهة نحو الإنسان، فإن هذه الصداقة مقدّمة أيضًا للأطفال والنساء، مقدسًا الطفولة، ورافعًا من شأن المرأة ودورها الإيجابي، كما أعطى اهتمامًا خاصًا بالفقراء والمعوزين والمطرودين والمنفيين:

    من جهة الأطفال انفرد بذكر ميلاد يوحنا المعمدان وطفولته، وأيضًا بشارة العذراء بميلاد الطفل يسوع في شيء من التفصيل، وابتهاج الجنين في أحشاء أليصابات عند دخول القديسة مريم وسلامها على اليصابات، وختان الطفل يسوع، ودخوله الهيكل مع القديسة مريم في يوم الأربعين، وذهابه الهيكل في الثانية عشر من عمره الخ.

    من جهة المرأة فقد لاحظ بعض الدارسين أن لوقا البشير إذ قدّم إنجيله المسكوني (الجامعي) أعطى اهتمامًا خاصًا بالمرأة أكثر من بقية الإنجيليين. ففي العالم الهيلينى يبدو أن مركز المرأة اجتماعيًا وقانونيًا أفضل منه عند اليهود في ذلك الحين، لذلك أراد الإنجيلي إظهار أن الرسالة الإنجيلية لا تحدّها التقاليد اليهودية. انفرد الإنجيلي بذكر حنّة الأرملة المتعبدة في الهيكل (2: 36)، كما سجّل لنا خدمة مرثا وجلوس مريم أختها عند قدميّ المخلص تنعم بكلماته.

    اهتم الإنجيلي بالفقراء والمعوزّين والمطرودين والمنفيين. فأُرسلت البشارة إلى فتاة الناصرة الفقيرة، واهتمت الملائكة بالرعاة البسطاء، وحدّثنا السيد عن الغني ولعازر المسكين، ووليمة العُرج والعُمي والعُسم، ومثل السامري لصالح، ومثل العشار، وقصة الزانية في بيت سمعان الفريسي، ومثل الابن الضال، وقصة مريم المجدلية، وقبول اللص التائب على الصليب الخ. يقول أحد الدارسين: [لقد ظهر اهتمامًا بالأقلّيات والجماعات المعزولة والمنبوذة، مثل السامريين والبرص والعشارين والجنود، وعامة الخطاة الذين في خزي، والرعاة الأممين والفقراء، وهؤلاء جميعًا يجدون تشجيعًا في هذا الإنجيل].

    4. يرى البعض مثل Leon-Dufour أنه يمكن إطلاق تعبير "الإنجيل الاجتماعي" على إنجيل معلمنا لوقا البشير في شيء من التحفظ، معلّلاً ذلك بأنه قد عرض الكثير عن الالتزام بالعطاء للفقراء (3: 10؛ 14: 12-14)، معلنًا عقوبة من لا يساهم في احتياجاتهم (16: 25)، كما أبرز الالتزام بعدم الظلم أو الوشاية (3: 10-14).

    يصعب أن ندعو إنجيلاً بأنه اجتماعي وآخر أنه روحي، فإن الحياة الإيمانية وحدة واحدة لا تتجزأ. إن قُدّم العمل الروحي فلا يتجاهل الجانب الاجتماعي، والعكس إن قُدّم عمل اجتماعي فمن واقع روحي. فما أبرزه الإنجيل بخصوص الاهتمام بالفقراء والمعوزين والمتألمين والمظلومين، إنما هو ثمر طبيعي لتذوقنا صداقة السيد المسيح لنا، بكونه الصديق المهتم بالجميع خاصة المحتاجين روحيًّا أو ماديًّا أو اجتماعيًّا أو نفسيًّا. فيليق بنا كأصدقاء للسيد المسيح أن نردّ حبه بالحب، ونحمل سماته فينا، فما يُقدمه لنا يحملنا أن نقدّمه بصورة أو بأخرى لإخوتنا.

    5. كصديقٍ لنا ليس فقط يقدم لنا السيد المسيح الخلاص على الصليب، إنما خلال هذا الحب الذي يدخل إلى حياتنا اليومية، نراه يشاركنا حتى في ولائمنا ويدخل بيوتنا. فنجده يتناول العشاء في بيت سمعان الفريسي، ويقبل وليمة زكا العشار، ويستجيب لدعوة تلميذي عمواس واستضافتهما له.

    وكصديق لنا لا يطلب العنف ولا يقبل التعصب، فنراه يوبِّخ يوحنا لأنه طلب نارًا تأكل أهل السامرة (9: 54)، وزجر التلاميذ قائلاً: "من ليس علينا فهو معنا" (9: 50). إنه "إنجيل الرحمة" أي "إنجيل الغفران العظيم".

    وكصديق لنا يشتاق أن نقبل صداقته ونتجاوب مع حبه، لذا كثيرًا ما يثيرنا لقبول هذه الصداقة بتقديم مقارنات مثل:

    * سمعان الفريسي والمرأة الخاطئة، فقد قدّم الأول بيته ومائدته دون قلبه، أما المرأة بالرغم من عطاياها الكثيرة لكنها عرفت بالحب أن تتمتع بالصداقة والغفران.

    * الفريسي والعشار، الأول دخل الهيكل وله أعمال ناموسية يعتز بها، لكن في كبريائه لم يقدر أن يصادق الرب، بينما استطاع العشّار وهو في آخر صف أن يدخل إلى قلب الصديق الأعظم خلال التواضع.

    * السامري الصالح واللاوي والكاهن، تمتع الأول بالدخول في هذه الصداقة والتجاوب معها خلال اتساع قلبه للبشرية، بينما خسر رجلي الدين الصداقة خلال ضيق قلبيهما.

    * الابن الضال والابن الأكبر، نال الأول البركة وتمتع بالصداقة خلال التوبة والرجوع، بينما فقد الابن الأكبر علاقته بالأب بسبب كبريائه.

    * اللص التائب واللص الهالك، اغتصب الأول الملكوت في اللحظات الأخيرة.

    * التطويبات والويلات.

    6. إن كان الفكر اليوناني قد ساد العالم في ذلك الحين، لكنه لم يقدّم للبشرية شعبًا صادقًا، وفرحًا حقيقيًا، وعاش الإنسان يطلب كل يوم فلسفة جديدة أو فكرًا لم يُسمع عنه من قبل. لذلك كتب الإنجيلي لوقا هذا السفر ليعلن أن المسيح صديق البشرية، هو واهب الفرح الداخلي والتسبيح. فقد ضمّ الكثير من التسابيح التي تعتز بها الكنيسة وتستخدمها في عبادتها وليتورجياتها، مثل تسبحة الميلاد الملائكية (2: 14)، وتسبحة زكريا (1: 68-79)، وتسبحة القديسة مريم (1: 46-55)، وتسبحة سمعان الشيخ (2: 29-32).

    مجيء الصديق المخلص خلق جوًا من الفرح. فقد افتتح السفر بحديث الملاك لزكريا الكاهن عن القديس يوحنا السابق لهذا الصديق المخلص، قائلاً: "ويكون لك فرح وابتهاج وكثيرون سيفرحون بولادته" (1: 14). كما يروي أن ولادته قد أصبغت فرحًا على الكثيرين (1: 58). أما ميلاد السيد فرافقه انفتاح السماء على الأرض للكرازة بها: "ها أنا أبشركم بفرحٍ عظيمٍ يكون لجميع الشعب" (2: 10). وعندما عاد الرسل السبعين من كرازتهم يقول: "فرجع السبعون بفرح قائلين: يا رب حتى الشياطين تخضع لنا باسمك" (10: 17)، بل قيل: "وفي تلك الساعة تهلل يسوع بالروح، وقال: "أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض، لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال، نعم أيها الآب هكذا صارت المسرة أمامك" (10: 21). وكأن الكرازة بهذا الصديق الفريد قد هلّلت قلب المخلص نفسه من أجل البسطاء، وهي موضع سرور الآب، بل أعلن أنه يكون فرح حتى في السماء عند توبة الخطاة (15: 7، 10، 32).

    إنه فرح داخلي يملأ قلب الخاطئ التائب، عندما يجد في صديقه كل الشبع، إذ قيل عن زكا: "فأسرع ونزل وقبله فرحًا" (19: 6). وفرح للجماعة كلها، إذ قيل: "وفرح كل الجمع بجميع الأعمال المجيدة الكائنة منه" (13: 7). كما قيل عن دخوله أورشليم: "ابتدأ كل جمهور التلاميذ يفرحون ويسبحون الله بصوت عظيم لأجل جميع القوات التي نظروا" (19: 37). وقد ختم السفر بالفرح بالصديق القائم من الأموات والصاعد إلى السماوات، إذ قيل عن التلاميذ حين ظهر لهم صديقهم العجيب: "وبينما هم غير مصدّقين من الفرح ومتعجبون..." (24: 41). وأيضًا بعد صعوده مباشرة: "رجعوا إلى أورشليم بفرحٍ عظيمٍ" (24: 51).

    هكذا جاء السيد المسيح يحقق سرور الآب، ويفرح هو بالبشرية المخلََّصة بدمه، وتفرح معه السماء، كما ملأ تلاميذه ورسله فرحًا وسكب على كنيسته بهجته، وأيضًا على الخطاة التائبين. ولكي يميز بين هذا الفرح وفرح العالم المؤقت ضرب لنا مثل الغني الغبي الذي قال لنفسه: "استريحي وكلي واشربي وافرحي" (12: 19)؛ لكنه لم يستطع أن يفرح، إذ سمع الصوت الإلهي: "يا غبي هذه الليلة تُطلب نفسك منك" (12: 20). هذا كله دفع البعض إلى تلقيبه "إنجيل الفرح المسيحاني".

    7. إذ جاء السيد المسيح صديقًا لنا، قدّم لنا نفسه مثالاً، فظهر كمصلّي في مواقف كثيرة منها عند عماده (3: 21)، وبعد تطهير الأبرص، وقبل دعوة الإثني عشر تلميذًا (6: 12)، وعند التجلي (9: 28)، وعلى الصليب من أجل صالبيه، وفي اللحظات الأخيرة من حياته على الأرض. لقد أراد أن يعلن "الصلاة" كسِرّ لصلتنا بالله وصداقتنا معه. ظهور السيد كمصلّي إنما يعني أيضًا أنه حملنا فيه لننعم بالاتصال بالآب.

    في هذا السفر يحدثنا السيد عن الصلاة أكثر من بقية الأسفار، فوَرد فيه الصلاة الربانية، وشدّد على ضرورة الاستمرار في الصلاة والمثابرة فيها، مقدمًا مثَل الصديق المحتاج لثلاثة أرغفة يذهب إلى صديقه ويطلب بلجاجة، ومثَل قاضي الظلم الذي استمع للأرملة من أجل لجاجتها.

    8. يرى البعض أن الأناجيل بوجه عام، وإنجيل لوقا بوجه خاص، لم تهدف إلى مجرد عرض لحياة السيد المسيح أو تاريخه، قدر ما هدفت إلى تقديم الكنيسة التي عاش فيها السيد المسيح حيًّا يعمل لأجلها. فهي تتحدث عن مسيح الكنيسة كما تتذوقه بالتفافها حوله وثبوتها فيه. فالقديس لوقا في إنجيله يعرض بوحي الروح القدس حياة الكنيسة خلال وجوده على الأرض بالجسد، بينما في سفر الأعمال يعرض حياتها بعريسها خلال وجوده عن يمين الآب بعد الصعود، واهبًا إيّاها روحه القدوس. إنه الصديق العامل بلا انقطاع، كان يعمل حين وُجد بالجسد هنا، ولا يزال يعمل بعد صعوده حتى يلتقي بنا على السحاب.

    ساد في الكنيسة الأولى إحساس بأن قدوم السيد المسيح اقترب جدًا، وأنه يتحقق في العصر الرسولي، الأمر الذي عالجه الرسول بولس في رسالته الثانية إلى أهل تسالونيكي، مؤكدًا أن السيد لن يأتي إلا بعد ظهور إنسان الخطية، وتحقق حركة الارتداد. فإن معلمنا لوقا حمل ذات الاتجاه معلنًا في هذا السفر كما في سفر الأعمال أن موت السيد وقيامته وصعوده المجيد، لا يعني مجيئه الثاني في الحال. ولا بعد خراب أورشليم مباشرة، إذ أساء البعض فهم كلمات الإنجيلي مرقس (14: 62؛ 9: 1)، فقد أعلن أن ملكوت المسيا حقيقة واقعة تتم أولاً في الكنيسة هنا، وتتحقق في القلب، وينضم إلى الكنيسة كل يوم الذين يخلصون. كأن مجيء السيد يتحقق أولاً بحلوله في قلوب المختارين، وإذ يكمل عمله هنا في العالم يأتي على السحاب.

    10. يرى بعض الدارسين أن إنجيل لوقا جاء مطابقًا للأسفار الستة الأولى من العهد القديم هكذا:

    ا. سفر التكوين الجديد يصف ميلاد السيد المسيح وطفولته، هذا الذي به تتحقق الخليقة الجديدة، فبظهور آدم الثاني انطلقت البشرية إلى عالم جديد.

    ب. الخروج الجديد تحقق بتجربة السيد المسيح في البرية أربعين يومًا، حيث غلب لحسابنا، مقابل تيه شعب إسرائيل أربعين سنة بعد خروجهم وسقوطهم المستمر في التذمر.

    ج. سفر اللاويين الجديد هو إقامة الإثني عشر تلميذًا، وتقديم العظة الخاصة بسيامتهم كسفر اللاويين آخر (6: 20).

    د. سفر العدد الجديد هو إرسالية السبعين رسولاً.

    هـ. القسم الخاص بسفر التثنية يمثل النصيب الأكبر من الإنجيل حيث يضم أجزاء كثيرة من تعاليم السيد خاصة في (9: 51- 18: 14).

    و. سفر يشوع الذي قدمه معلمنا لوقا هو قصة آلام السيد المسيح وقيامته، فقبول راحاب الزانية يقابله زكا العشار (لو 19: 1-2).

    11. أبرز الإنجيلي لوقا دور الروح القدس، فأعلن الملاك عن يوحنا المعمدان أنه يمتلئ من الروح القدس من بطن أمه (1: 15). كما أبرز عمل الروح القدس في التجسد الإلهي (1: 35)، وعمله أيضًا في الأحاديث النبوية (1: 67؛ 2: 25-27)، وفي المعمودية (3: 16)، وظهوره في عماد السيد (3: 22). هكذا يربط عمل السيد المسيح بعمل روحه القدوس (4: 1، 14، 18؛ 10: 21؛ 11: 13؛ 10: 12).

    12. دُعي هذا السفر بإنجيل الشمول، إذا حوى الكثير من القصص التي لم ترد في الأناجيل الأخرى وأيضًا الأمثال، يسنده في هذا علاقته الوثيقة بالقديسة مريم.

    انفرد بذكر المعجزات التالية: صيد الأسماك (5: 4-11)، إقامة ابن أرملة نايين (7: 11)، المرأة التي بها روح الضعف (13: 11-17)، الرجل الأبرص (14: 1-6)، العشرة برص (17: 11-19)، شفاء أذن ملخس (22: 50-51).

    انفرد أيضًا بذكر الأمثال التالية: المديونان (7: 41-43)، السامري الصالح (14: 25-37)، الصديق اللجوج (11: 5-8)، الغني الغبي (12: 16-20)، شجرة التين غير المثمرة (13: 6-9)، الدرهم المفقود (15: 8-10)، الابن الضال (15: 11-32)، الوكيل الخائن (16: 1-13)، الغني ولعازر (16: 19-31)، الفريسي والعشار (18: 10-14).

    كما انفرد بذكر أحداث معينة مثل إجابة يوحنا المعمدان على الشعب، بكاء المسيح على أورشليم، موضوع حديثه مع موسى وإيليا عند التجلي، العرق الذي نزل من جبينه كقطرات الدم، خطابه لبنات أورشليم، لقاء السيد مع تلميذيّ عمواس، وأيضًا تفاصيل خاصة بصعوده.

    12. من جهة الأسلوب فكما سبق فتحدثنا في أكثر من موضع أن الروح القدس إذ يعمل في الكاتب ويلهمه بالكتابة لا يفقده شخصيته، بل يستغل قدراته ويلهمه ويحصّنه من الخطأ. وقد ظهرت قدرات معلمنا لوقا البشير من جهة الأسلوب، فكطبيبٍ اتسم بالفحص الدقيق، فجاء محققًا للأمور. وأيضًا كطبيبٍ ورسام في نفس الوقت جاء رقيقًا في أسلوبه، يحمل لمسات شعرية لطيفة وعذبة، حتى صار إنجيله مصدرًا للفنانين يستوحون منه أيقوناتهم.

    وأيضًا كصديق ورفيق للقديس بولس في كثير من أسفاره أوجد شيئًا من التشابه بين كتاباتهما، مما جعل العلامة ترتليان يقول بأن الإنجيلي لوقا قد استنار بالرسول بولس.

    (راجع لو 4: 22 مع كو4 : 6؛ لو 4: 32 مع 1 كو2: 4؛ لو6: 36 مع 2 كو 1: 3؛ لو 6: 39 مع رو 12: 19؛ لو 9: 56 مع 2 كو 10: 18؛ لو 10: 8 مع 1 كو 10: 23؛ لو 11: 41 مع تي 1: 15؛ لو 18: 1 مع 2 تس 1: 11؛ لو 21: 36 مع أف 6: 18؛ لو 22: 19-20 مع 1 كو 11: 23-29؛ لو24: 34 مع 1 كو 15: 5).

    أقسامه

    1. صديقنا صار مثلنا 1-3.

    2. صديقنا يجرَّب مثلنا 4.

    3. صديقنا يشعر بآلامنا 5-18.

    4. صديقنا المخلص 19-23.

    5. صديقنا القائم من الأموات 24.
    ===================



    رؤيا يوحنا اللاهوتي

    القمص تادرس يعقوب ملطي

    كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج

    بسم الآب والابن والروح القدس،

    الإله الواحد، آمين.

    مقدمة

    أهمية السفر

    بدأ الكتاب المقدس بسفر التكوين الذي أعلن حب الله اللانهائي تجاه الإنسان، إذ خلق لأجله كل شيء وأودعه سلطانًا ووهبه كرامة هذه قدرها! لكن سرعان ما تبدل المنظر وتشوهت الصورة وظهر الإنسان الخارج من الفردوس مطرودًا، مهانًا، يحمل على كتفيه جريمة عصيان مرة، يخاف من لقاء الله، ويهرب من وجه العدالة الإلهية.

    لكن شكرًا لله الذي لم يترك الإنسان يعيش في هذه الصورة التي بعثتها الخطية، بل ختم كتابه بسفر الرؤيا مقدمًا لنا صورة مبهجة: بابًا في السماء مفتوحًا، وفردوسًا أبديًا ينتظر البشرية، وأحضانًا إلهيّة تركض مسرعة تجاه البشر، و قيثارات سماويّة و فرحًا وعُرسًا سماويًا من أجل الإنسان!

    يا له من سفر مبهج ولذيذ، يليق بكل مؤمن أن يمسك به ويحفظه في قلبه، ويسطِّره في أحشائه ويلهج فيه ليلاً ونهارًا، فهو سفر الرجاء، سفر النصرة، سفر التسبيح، سفر السماء!

    1. سفر الرجاء

    من يلهج في سفر الرؤيا يتكشف حقيقة العبادة المسيحية، إنها ليست مجرد واجبات تنفذ أو طقوس تؤدى، أو أوامر ونواه تراعى، لكنه يرى خلال هذا كله أيدٍ إلهيّة خفيّة تسرع نحوه لتستقبله وتحوطه وتنشله، وترتفع به نحو السماويات ليعيش شريكًا في المجد الأبدي!

    من يتذوق سفر الرؤيا تتحول أصوامه مهما كثرت، وصلواته مهما طالت، وسجوده مهما زاد، وزهده وحرمانه وتركه وآلامه وصلبه كل يوم، إلى فرح وبهجة وسرور لا ينطق به. إذ خلال هذا السفر يهيم في الحب الذي يربط الخالق بخليقته، والمنتصرين بالمجاهدين، والسمائيين بالبشريين، عندئذ ينسى كل ألم وكل ضيق من أجل هذا الحب الخالد!

    2. سفر النصرة

    وحينما تدخل النفس في سفر الرؤيا كعروس تزور جنة عريسها ترى فيه فردوسًا مبدعًا ومجدًا مذهلاً معدًّا لأجلها. هناك تصادق عريسها، وتصطحب خدامه السمائيين، وتهيم في جو السماويات في عذوبة وحلاوة. عندئذ لا تخاف دهاء عدوها "إبليس"، ولا تضطرب منه، إذ تدرك قوة عريسها وتخطيطاته وتدابيره ومقاصده تجاهها.

    3. سفر التسبيح

    وإذ يختلس القلب وقتًا هاربًا من الأصوات الداخلية والخارجية، ليدخل مع العريس في داخل السفر في هدوء وصمت، هناك يسمع أصوات تسبيح وترنيم! فيتعلم لغة السماء: لغة الحب والفرح، لغة التسبيح غير المنقطع.

    والجميل أنه لا يسمع تسابيح غريبة، بل يحس أنه سبق أن تعلمها في بيت أمه "الكنيسة" إذ يسمع "تسبحة موسى، وتسبحة الحمل، وتسبحه الثلاث تقديسات". وهذه وغيرها لا تكف الكنيسة عن أن تدرب كل قلب على اللهج بها كما سنرى.

    4. سفر السماء

    وعندما ينسى القلب كل ما يدور حوله وينسحب من بين كنوز العالم ليدخل إلى سفر الرؤيا يُبهر مما يرى فيه من كنوز. يرى أمجادًا سماويّة قدر ما تحتمل الألفاظ أن تعبِّر: يرى حجارة كريمة وأكاليل ذهب وثياب بيضاء. فيربض القلب هناك، ولا يقبل أن ينحط مرة أخرى إلى الأرضيّات. يبيع كل لآلئه ليقتني اللؤلؤة الكثيرة الثمن.

    كاتب السفر

    أجمعت الكنيسة الأولى على أن كاتب السفر هو القديس يوحنا الحبيب الإنجيلي، ويظهر صحة ذلك من الآتي:

    1. ما ورد في كتابات الكنيسة الأولى إذ نسبت السفر إليه.

    2. أنه هو الرسول الذي كان معتبرًا في كنائس آسيا الصغرى المذكورة في السفر.

    3. يؤكد لنا التاريخ أن يوحنا الحبيب نفاه الإمبراطور دومتيانوس إلى جزيرة بطمس التي شاهد فيها الرسول رؤياه (1: 9).

    4. بالرغم من اختلاف موضوع هذا السفر عن إنجيل يوحنا، لكن وردت ألفاظ خاصة بالسفرين دون غيرهما مثل "الكلمة، الحمل، الغلبة..." وتكررت فيهما كلمة "الحق".

    5. ذكر الرسول اسمه صراحة أربع مرات في هذا السفر ولم يخفِ اسمه، وذلك لأنه يتحدث عن نبوات. فمن أجل الثقة فيها يلزم معرفة الكاتب الذي أوحى إليه بها الله، أما الإنجيل والرسائل الثلاث فلم يذكر اسمه فيها تواضعًا.

    مكان كتابته

    في جزيرة صغيرة على بعد حوالي 25 ميلاً من شواطيء آسيا الصغرى (تركيا الحديثة) تُسمى بطمس أو بتمو، وتدعى حاليًا "بتينو"، كتبها الرسول وهو منفي (1: 9).

    وترى قلة من العلماء أنه سجل رؤياه التي رآها في المنفي عندما عاد إلى أفسس. إلاّ أن هذا الرأي لا يستند على دليل، خاصة وأنه أمر بكتابة ما يراه بغير تأخير (1: 10-11).

    ويوجد في هذه الجزيرة كهف يقول عنه سكانه أنه مسكن الرسول أثناء نفيه.

    زمان كتابته

    ترى الأغلبية أنها كُتبت بعد خراب أورشليم حوالي سنة 95م، ويقول القديس إيريناؤس عن هذه الرؤيا أنها أُعلنت في نهاية حكم دومتيانوس.

    اهتمام الكنيسة به

    بالرغم مما أثاره بعض الهراطقة مثل مرقيون من جهة قانونية هذا السفر، لكننا نجد الكنيسة منذ القرون الأولى تعطيه اهتمامًا خاصًا، لذلك قام بعض الآباء بتفسيره أو بكتابة مقالات عنه منهم: الشهيد يوستينوس إيريناؤس، أيبوليطس، ميلتون، فيكتوريانوس، ديوناسيوس الإسكندري، ميثوديوس، باسيليوس الكبير، غريغوريوس النزينزي، كيرلس الكبير، جناديوس.

    صعوبته

    يعتبر تفسير سفر الرؤيا أمرًا عسيرًا للأسباب:

    1. بكونه سفر نبوي (رؤ 22: 7) وهو السفر النبوي الوحيد في العهد الجديد.

    2. يتنبأ عن حقائق روحيّة سماويّة، لا يعبر عنها بلغة بشريّة، لهذا جاءت في أعداد ورموز وألوان وتشبيهات.

    3. تحدث عن أمور لا شأن للمؤمن أن يدرك دقائق أسرارها، ولا غنى له عن التعرف عليها فلو عرف الأزمنة أو الأوقات لأصابه الخمول أو اليأس، ولو لم يعرف ما سيتعرض له من ضيقات أثناء جهاده لأصابه يأس وقنوط. لهذا يقدم لنا سفر الرؤيا الأحداث بالقدر الذي به يلتهب القلب غيرة ويمتليء رجاء دون أن يبحث عن أزمنة أو أوقات أو يهتم بمجرد حب الاستطلاع للحوادث المقبلة.

    4. حملت كلماته معانٍ عميقة، وقف آباء الكنيسة في دهشةٍ أمامها! فقد كتب القديس إيرونيموس إلى الأب بولينوس أسقف نولا يقول: [إن أسرار سفر الرؤيا كثيرة قدر ألفاظها. فكل لفظ يحمل في طيَّاته سرًا. وهذا قليل بالنسبة لسمو شرف هذا السفر، حتى ليحسب كل مديح له قليلاً. لأن كل كلمة فيه تحمل معانٍ كثيرة. وإنني أمتدح فيه ما أفهمه وما لا أفهمه.]

    ويقول عنه البابا ديوناسيوس السكندري: [مع أنه يحمل فكرًا يفوق إدراكي إلا إنني أجد فيه الحاوي لفهم سري عجيب في أمور كثيرة... وبالرغم من عجزي عن فهمه غير إنني لا أزال أؤمن أن هناك معانٍ عميقة وراء كلماته. فإنني لا أقيس عباراته ولا أحكم عليها حسب قدرة إدراكي بل أتقبلها بالإيمان وببساطة. أنظر إليها أنها حلوة ولذيذة لفهمي. فلا أرفض ما لا أفهمه بل بالأكثر أقف مندهشًا أمامه.]

    مفتاح السفر

    في هذا السفر يرافق الروح القدس النفس البشرية في طريق الأبدية، كاشفًا لحواسها الداخلية أن ترى وتسمع وتتلامس وتتقوى حتى تبلغ إلى العرس الخالد!

    1. فيبدأ بإظهار "باب مفتوح في السماء"، لنصعد إليه بالرب يسوع الحمل القائم كأنه مذبوح. وماذا نرى؟

    2. نرى أولاً "حال الكنائس السبع" التي تكشف عن مقدار الضعف البشري وقوة عمل النعمة في الكنيسة. وهنا يتقدم ربنا يسوع ليُعلن أنه هو العلاج الوحيد لكل ضعف فينا.

    3. ثم يرتفع بها كما بجناحيّ حمامة تجاه الأبدية في طريق الصليب، طريق الألم، لترى الخروف يفتح "الختوم السبع"، معلنًا عن حالة حرب دائمة بين الله المهتم بأولاده والشيطان الذي لا يكف عن محاربة أولاد الله.

    4. ونسمع "الأبواق السبعة" معلنة إنذارات الله تجاه البشر حتى لا يقبلوا أضاليل إبليس، بل يكونوا مرتبطين بالرب، كما تعلن عن قوة المرأة الملتحفة بالشمس ضد عدوّها التنين ومن يثيره "الوحش البحري والوحش البري".

    5. وترى "الضربات السبع" لتأديب الأشرار لعلهم يتوبون، كاشفًا عن الخراب الذي يحدق بالزانية وعُشَّاقها. وفي كل مرة تتكشف النفس على مرارة تعم البشرية، أو ضيق ينتاب المؤمنين، للحال يظهر شخص الرب يسوع في صورة أو أخرى يشجع ويعزي ويقوي أولاده حتى يتمموا جهادهم بسلام.

    6. وأخيرًا يدخل الروح بالنفس إلى "أورشليم السماوية" لترى وتُبهر مما لا بد أن يكون من أجلها، ما أعده الله للبشر، كما ترى بعينيها إبليس عدو البشرية منطرحًا في البحيرة المتقدة بالنار.

    أقسام السفر

    أولاً: الكنائس السبع 1 -3.

    ثانيًا: الرؤى النبوية 4 - 20.

    ثالثًا: مجد أورشليم السماوية 21 - 22.



    ملاحظة هامة: كثيرون شوَّهوا سفر الرؤيا بتحويل تفسيره إلى البحث عن تفاصيل حوادث مقبلة، وأمور ليس لنا أن نبحث فيها، تاركين المعاني الروحية السامية، التي يريد الرب أن يُعلنها لنا لنحيا بها وننمو روحيًا، لا أن نقيم من أنفسنا أنبياء، لنرى أو نعلن ما لا يمس حياة الإنسان وخلاصه، حتى لا نسمع ذلك التوبيخ "أعلِمونا المستقبلات، أخبروا بالآتيات فيما بعد فنعرف أنكم آلهة" (إش 41: 22-23).

  4. #4

    افتراضي

    أعمال الرسل

    2003

    الجزء الأول

    الأصحاحات 1 - 12

    القمص تادرس يعقوب ملطي

    كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج

    بسم الآب والابن والروح القدس

    الله الواحد، آمين

    اسم الكتاب: أعمال الرسل.

    المؤلف: القمص تادرس يعقوب ملطي.

    الطبعة: الأولى 2003.

    الناشر: كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج.

    الجمع التصويري: ماجدة حنا باستيت إن آيلاند، وصفوت فرج بأورانج كاليفورنيا.

    المطبعة: الأنبا رويس (الأوفست)، بالعباسية القاهرة.

    الكنز المخفي!

    قدم القديس يوحنا الذهبي الفم رئيس أساقفة القسطنطينية سلسلة من العظات على سفر أعمال الرسل في السنة الثانية أو الثالثة من سيامته، افتتحها بقوله: [جعلت من هذه القصة (قصة أعمال الرسل) موضوعي، حتى أقدم ما لا تعرفوه عنها، فلا يبقى مثل هذا الكنز مخفيًا عن البصر. فإنها بالحق تنفعنا ليس بأقل من الأناجيل، إذ هي مشحونة بالحكمة المسيحية والتعليم الصحيح، خاصة فيما يخص الروح القدس. ليتنا لا نعبر عليها سريعًا، بل نفحصها بدقةٍ. نرى ما نطق به المسيح من نبوات في الأناجيل يتحقق على مستوى الواقع. ونلاحظ في الوقائع ذاتها الشهادة البهية للحق المشرق فيها، والتغيير القدير الذي حلَّ بالتلاميذ حيث حلَّ الروح عليهم.]

    إن كانت الأناجيل تسحب قلوبنا بالشوق نحو الالتقاء بالسيد المسيح المصلوب، الملك الروحي (إنجيل متى)، وخادم البشرية (إنجيل مرقس)، وصديقها (إنجيل لوقا)، ابن الله الوحيد الجنس القادر وحده أن يخبرنا عن الآب ويكشف لنا الأسرار الإلهية (إنجيل يوحنا)، فقد جاء سفر الأعمال ليقدم لنا روحه القدوس الذي قاد البشرية في أورشليم واليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض. نراه يلهب القلوب ويجتذبها نحو المخلص، يعمل في الرسل، كما في الشعوب، ليشَّكل كنيسة المسيح الحاملة أيقونة عريسها السماوي، ويهيئها للعرس الأبدي.

    إلهنا الصالح قادر أن يعمل بروحه الناري حتى يبقى سفر الأعمال مفتوحًا على الدوام، فتصير الأرض وملؤها للرب ومسيحه، ويتمتع الكل بقلوب متسعة لا تكف عن الشهادة لإنجيل الخلاص بروح الحب الباذل، فيكمل السفر بمجيء السيد المسيح على السحاب، ليضم كنيسته إلى مجده الأبدي.

    ليفتح روح الله القدوس كنز هذا السفر حتى تغتني كل نفس بالخيرات السماوية، وتفيض على من حولها، فيحمل الكل السمات السماوية الفائقة.

    مقدمة في

    سفر أعمال الرسل

    يقدم لنا هذا السفر قصة الكنيسة في بدء انطلاقها بعد صعود السيد المسيح وحلول روحه القدوس ولقرابة ثلاثين عامًا. قدمها الإنجيلي لوقا ملهمًا بالروح القدوس، ليكشف لنا عن الكنيسة في العصر الرسولي: سرّ مولدها ونموها وعبادتها وشهادتها للسيد المسيح وقوتها بعمل الروح القدس، ويكشف عن تحقيق ما سبق فوعد به السيد تلاميذه: "ها أنا معكم كل الأيام وإلي انقضاء الدهر". وأيضًا وعده الإلهي: "لكنكم ستنالون قوة متى حلّ الروح القدس عليكم، وتكونون لي شهودًا في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض" (أع 1: 8).

    سفر أعمال الرسل هو سفر كنيسة المسيح في عصر الرسل، التي قبلت إنجيله، ومارسته عمليًا في حياتها اليومية كما في العبادة والكرازة.

    هو إنجيل الروح القدس الذي أنعم على الكنيسة بالوجود في يوم العنصرة، واستلم كنيسة المسيح ليقودها ويجتذب إليها النفوس فتتمتع بالمخلص، واهبًا إياها قدسية الحياة المستمرة.

    هو سفر انفتاح الكنيسة بالحب على العالم لتخدمه وتغسل قدميه.

    هو سفر الكنيسة الفقيرة الغنية، تفتقر مع عريسها وتغتني به.

    هو سفر القوة الداخلية التي لا تضعف ولا تشيخ.

    هو سفر الكنيسة المقدسة التي لا تطيق الشر لكنها تترفق بالخطاة.

    الإنجيل العملي

    افتتحه لوقا الإنجيلي بقوله: "الكلام الأول أنشأته يا ثاوفيلس عن جميع ما ابتدأ يسوع يفعله ويعلم به" (أع 1:1). وكأن الأناجيل الأربعة هي "الكلام الأول" الخاص بأعمال السيد وتعليمه، وهذا السفر هو تكملة لهذا الكلام، فما ابتدأ به السيد حين كان حاضرًا بالجسد على أرضنا يكمله الآن بروحه القدوس وحضوره السري في وسط كنيسته. هكذا يكشف السفر عن حقيقة إنجيلية هامة، وهي أن السيد المسيح الصاعد إلى السماء حي، حاضر، وعامل، ومتكلم في كنيسته، ويبقى هكذا إلى يوم ظهوره الأخير حيث تكمُل كنيسته، وتتمتع بشركة مجده. سفر الأعمال هو إنجيل حي يشهد عن حضور المسيح عاملاً ومتكلمًا في كنيسته ومن خلالها ولحسابها.

    v توجد تعاليم واردة هنا ما كنا نستطيع أن نعرفها بالتأكيد كما نحن عليه الآن لو لم يوجد هذا السفر؛ كان يبقي تاج خلاصنا مخفيًا من جهة الحياة العملية كما التعليم.

    القديس يوحنا الذهبي الفم

    سفر أعمال الروح القدس

    يقدم لنا هذا السفر أعمال الروح القدس، المعزي، الذي وعد به السيد تلاميذه. إذ نراه وراء تاريخ الكنيسة، فهو القائد الحقيقي والمرشد والمعلم القادر أن يجتذب النفوس لتختبر عمل السيد المسيح الخلاصي. يُشرق على الكنيسة بنوره، فيملأها وسط الضيقات ببهاءٍ إلهيٍ خفي جذَّاب، ويعمل بناره المتقدة، فيلهب القلوب بنار الحب الإلهي. إنه النهر الإلهي الذي ينساب من السماء ليقيم علي الأرض مدينة الله، الفردوس الإلهي المثمر، عوض البرية القاحلة بالجفاف الروحي.

    v الأناجيل هي تاريخ ما فعله المسيح وما قاله، وسفر الأعمال ما قاله المعزي الآخر وما فعله. لكن هذا الروح صنع أمورًا كثيرة، وردت في الأناجيل أيضًا، والمسيح لا يزال يعمل في سفر الأعمال في البشر كما عمل في الأناجيل. فقط عمل الروح هناك في الهيكل، والآن يعمل خلال الرسل. هناك عمل، إذ جاء إلى رحم البتول وشكَّل الهيكل، والآن يعمل في نفوس الرسل. هناك جاء على شكل حمامة، وهنا على شكل نارٍِ.

    القديس يوحنا الذهبي الفم

    سفر كنيسة المسيح المصلوب المتهللة

    يكشف لنا هذا السفر عن طبيعة كنيسة المسيح المصلوب منذ نشأتها، فقد تشكلت بالروح القدس وسط الأنين والضيق، لتحمل شركة الآلام والصلب مع عريسها المتألم. لكن حضوره في وسطها يحول الأنين إلي فرحٍ مجيدٍ، والضيق إلي تعزياتٍ سماويةٍ، فتحيا مسبحة لله وسط أتون الاضطهادات.

    v يليق بالمسيحي أن يكون "هلليويا" من رأسه إلى قدمه.

    v لنفرح ونشكر، ليس لأننا صرنا مسيحيين، وإنما لأننا صرنا المسيح! أتدرك ذلك؟ أتفهم النعمة العظيمة التي يهبنا الله إياها؟ قف في خشية وفرح. لقد صرنا المسيح!

    v "من يخرج باكيًا، حاملاً البذور للغرس، يعود بتراتيل الفرح، حاملاً السنابل معه" (مز ١٢٦: ٦).

    هذا المزمور الذي يتحدث إلى روح الذين هم مصممون على الاستمرار في الرحلة الروحية إلى الله، يناسبنا تمامًا ليعنيننا في أوقات الحزن والكآبة. هذا العالم دون شك هو وادي الدموع الذي فيه يزرع الإنسان وهو باكٍ.

    إنه يسندك لتستمر في إيمانك.

    على أي الأحوال، إن شرحت ما يعنيه هذا السفر بالبذور التي نغرسها الآن، فهي الأعمال الصالحة التي خلقها الله لكل واحدٍ منا لكي نفعلها (أف ٢: ١٠)، وقد خطط لنا أن نمارسها بقوة روحه في وسط أتعاب هذه الحياة المضطربة.

    من يتعلم أن يمارس عمل الله في هذا العالم - وادي الدموع والأتعاب هذا - يصير متهللاً مثل المزارع المجتهد الذي يغرس البذور حتى في موت الشتاء، فهل تقدر الرياح الباردة والجو القاسي أن يمنعها عن العمل؟ حتمًا لا!

    هكذا يليق بنا أن نتطلع إلى متاعب هذه الحياة كما هي. تُلقي الملاهي في طريقنا بواسطة الشرير، بقصد أن ننحرف عن الأعمال الصالحة التي خُلقنا لكي نعملها. تطلعوا ماذا يقول المرتل: "من يخرج باكيًا..." بالحق يجد علة للبكاء، يجد كل واحدٍ منا ذلك. ومع هذا يلزمنا أن نسير، ممارسين أعمال الله الصالحة في طريقنا.

    يا لبؤسنا إن كنا قد دُعينا للعمل بجدية فقط لكي نبكي دون التطلع إلى أية ثمرة لعملنا. يا لبؤسنا إن كنا لا نجد أحدًا يمسح دموعنا.

    لكننا نعرف أن الروح القدس يعمل لكي نستمر في الغرس وسط دموعنا، لأن الروح يعدنا خلال المرتل أننا نعود مندهشين بالفرح! نحمل ثمر تعبنا كتقدمة له.

    القديس أغسطينوس

    وضع السفر بين أسفار العهد الجديد

    حتى نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني كان يُنظر إلى هذا السفر كتكملة للإنجيل بحسب معلمنا لوقا. وقد جاءت بداية السفر متناسقة مع نهاية الإنجيل. غير أنه بعد تسجيل الإنجيل بحسب القديس يوحنا جمعت الكنيسة الأناجيل الأربعة معًا، وصار هذا السفر هو الرابطة بين الأناجيل كلها ورسائل الرسل، فكما تكشف الرسائل عن كتابات الرسل، جاء السفر يكشف عن أعمالهم بروح الله القدوس، أو أعمال المسيح فيهم وبهم ولحسابهم. سفر الأعمال هو حلقة الوصل بين الأناجيل ورسائل الرسل، فإنه ما كان يمكننا التمتّع بفهم هذه الرسائل كما ينبغي ما لم تُقرأ خلال خلفيّة هذا السفر. هذا والسفر يساهم بطريقة حيويّة في دراسة الربط بين تعليم السيّد المسيح والتعليم الرسولي.

    جاء هذا السفر في بعض المخطوطات بعد رسائل القديس بولس، بكونه يقدم الأحداث الخاصة بخدمة القديس بولس والتي وردت في رسائله.

    فيما يلي مقارنة بين هذا السفر والأناجيل المقدّسة.

    1. تقدم لنا الأناجيل السيّد المسيح بكونه المسيّا المخلّص، وجاء سفر الأعمال ليُظهر أن المسيّا حاضر في كنيسته التي تترقّب مجيئه.

    2. قدّمت لنا الأناجيل ما ابتدأ يسوع يفعله من أجلنا، وجاء سفر أعمال الرسل يعلن أنه لا يزال بروحه القدّوس في كنيسته.

    3. تُحدّثنا الأناجيل المقدّسة عن المخلّص المصلوب القائم من الأموات، ويصوّره لنا سفر الأعمال أنه الصاعد إلى السماء والممجّد، هو رب الكنيسة وقائدها.

    4. في الأناجيل المقدّسة نسمع تعاليم السيّد المسيح التي تقودنا للخلاص بدمه، وفي الأعمال نتلامس مع عمله الخلاصي في كنيسته المقدّسة لاجتذاب الأمم إلى المجد.

    كاتب السفر

    لم يذكر كاتب السفر اسمه، لكن يؤكد التقليد الكنسي أن كاتبه هو لوقا الإنجيلي، يدعم ذلك الشواهد الداخلية في السفر والخارجية:

    الشهادات الداخلية

    1. يعلن الكاتب انه رفيق الرسول بولس في أسفاره حتى سفره الأخير إلي روما (أع16: 10-40 ؛ 20: 5-6؛ 21: 1-8؛ 27: 1-28: 16).

    2. يتشابه مع انجيل لوقا من جهة الشخص المُوجه له السفر (لو 1: 1-4؛ أع1: 1)، وهو ثاوفيلس، غالبًا من أشراف الإسكندرية. كما يتشابهان في اللغة والأسلوب.

    3. وحدة الفكر في السفرين، نذكر على سبيل المثال:

    v يشتركان في الدوافع الأساسية: الاهتمام بالجانب التاريخي، وأيضًا الجغرافي، وتأكيد دور الروح القدس في خدمة المسيح (انجيل لوقا) وفي خدمة الرسل (أعمال الرسل).

    v الاهتمام بخلاص العالم كله (لو 2: 32؛ أع 10: 34).

    v الاهتمام بخدمة المرأة (لو 7: 37-38؛ أع 9: 36).

    v الاهتمام بالصلاة (لو 11: 13؛ أع 1: 24).

    v ذكرت كلمة النعمة (Xapic) في إنجيل لوقا 9 مرات، وسفر الأعمال 17 مرة، بينما لم ترد في إنجيل متى أو مرقس.

    v الاهتمام بمغفرة الخطايا (لو 2:38؛ أع 5: 31).

    v لا يحملان روح التعصب تجاه الحكومات الأجنبية (لو 20: 20-26؛ أع 16: 36-39).

    v استخدام مصطلحات طبية دقيقة، واهتمام السفرين بالمرضى، والعناية بهم، ومعجزات الشفاء، حيث أن الكاتب هو لوقا الطبيب.

    الشهادات الخارجية

    1. وثيقة ترجع إلى حوالي عام 160 م، عبارة عن مقدمة لإنجيل لوقا، وقد أضافت أن لوقا كاتب سفر الأعمال، كٌتبت هذه الوثيقة ضد مرقيون Anti-Marcionite.

    2. القانون الموراتوري للأسفار المقدسة (ما بين 170 و200 م) يضع سفر "أعمال جميع الرسل" ضمن الأسفار القانونية (لأن مرقيون كان يحسب القديس بولس وحده رسولاً دون غيره).

    3. يقول القديس إيرينيؤس إن لوقا "زميل بولس" هو كاتب الإنجيل والأعمال.

    4. جاء في إكليمنضس السكندري (حوالي 190 م): [يشهد لوقا في سفر الأعمال أن بولس قال لرجال أثينا: "أنا أرى أنكم متدينون في كل شيء".]

    5. جاء أيضًا في القديس إكليمنضس السكندري: [معروف أن لوقا هو الذي كتب بقلمه أعمال الرسل.]

    6. جاء في العلامة ترتليان (حوالي سنة 200 م)، في حديثه عن حلول الروح القدس على الرسل في العلية وهم يصلون أنها حقيقة واردة في "تسجيل لوقا"، أي في سفر الأعمال.

    7. جاء في يوسابيوس القيصري: [لوقا من جهة جنسه مواطن من إنطاكية، مهنته طبيب، اشترك أساسًا مع بولس، ومع بقية الرسل، ولكن بصورة أقل. وترك لنا أمثلة لشفاء النفوس التي اكتسبها وذلك في سفرين ملهمين: الإنجيل وأعمال الرسل.]

    8. اقتباس كثير من الآباء والكتابات منذ القرن الأول من هذا السفر وقد خصّص الخوري بولس الفغالي فصلاً كاملاً عن اقتباسات الآباء الأوّلين من سفر الأعمال، مثل القديس إكليمنضس الروماني، ورسالة برناباس، والديداكية، والراعي لهرماس، ورسالة الشهيد إغناطيوس إلى ماغنزيا، والقديس بوليكربس أسقف سميرنا، واستشهاد بوليكاربوس، والرسالة إلى ديوغنيتس، ومخطوطة وصايا رؤساء الآباء الاثني عشر، والشهيد يوستين، وأعمال بولس (حوالي سنة 160م)، وخطاب من جنوب الغال سنة 177 ورد في يوسابيوس.

    اسم السفر

    حمل هذا السفر أسماء كثيرة، منها:

    1. أعمال الرسل praxeiv twn apostolwn كما جاء في Res Gestae وفي نسخة Codex Bezae.

    2. أعمال الرسل القديسين praxeiv twn agiwn apostolwn كما جاء في النسخة الإسكندرانية Codex Alexandrinus، ونسخ أخرى، وفي كثير من كتابات الآباء اليونانيين واللاتين.

    3. دعاه البعض "الإنجيل الخامس"، ودعاه Oecumenius "إنجيل الروح القدس".

    4. دعاه القديس يوحنا الذهبي الفم "الكتاب to biblion"، و"الدليل على القيامة apodeixiv anastasewv".

    تاريخ كتابة السفر

    يظن البعض أن السفر قد كُتب في الإسكندرية، لكن غالبية الدارسين يرون أنه كُتب في روما أثناء سجن الرسول بولس بعد وصول القديس لوقا إليها مع القديس بولس (أع 28: 16).

    يرى كثير من الدارسين أن سفر الأعمال كُتب حوالي سنة 63م حيث نهاية ما ورد في السفر. في هذه الفترة بدأت حرب شنعاء ضد المسيحيين، وربما استشهد القديس لوقا بعد فترة وجيزة. وإذ أُحرقت روما وتعرض المسيحيون للذبح والحرق تأخر ظهور إنجيل لوقا وسفر الأعمال (ككتابٍ واحدٍ)، ولم يظهر إلا بعد الحرب السبعينية (حرق الهيكل علي يد تيطس) وهدوء الموقف واستعادة الكنيسة شيئًا من الحرية.

    يبرّر بعض الدارسين كتابة السفر قبل عام 64م بالآتي:

    1. يظهر اهتمام القدّيس لوقا في إنجيله بأورشليم أكثر من الإنجيليّين متى ومرقس، فقد دُعي "راوي الرحلات Travel-narrative (لو9: 51-16: 15). حيث ركّز على تحرّكات يسوع المسيح نحو أورشليم. ويظهر اهتمامه بالمدينة المقدّسة في عرضه للقصص الخاصة بالقيامة. فقد ركّز على أورشليم. فلو أنّه سجّل السفر بعد أحداث خراب أورشليم عام 70م لما تجاهل هذا الحدث.

    2. إذ يسجّل السفر ما عانته الكنيسة الأولى من متاعب ما كان يمكن تجاهل الاضطهاد الذي أثاره نيرون عام 64م، حيث استشهدت أعداد كبيرة من المسيحيّين من بينهم القدّيس بطرس وبولس. حتمًا سُجّل هذا السفر قبل ثورة نيرون العارمة، خاصة وأن السفر روى استشهاد كل من يعقوب بن زبدي واستفانوس، فلماذا لم يشر إلى استشهاد القدّيسين بطرس وبولس؟

    3. يقدّم لنا السفر طبيعة اللاهوت المسيحي في صورته البدائيّة كما يناسب بدء عصر الرسل. فلغة السفر اللاهوتيّة تكشف إلى حد ما عن تاريخ كتابته، مثل دعوة المسيحيّين "تلاميذ" والإشارة إلى يوم الأحد بأول الأسبوع، كما جاء الوصف لكثير من الأحداث تكشف أن الكاتب شاهد عيان له علاقة قويّة بالرسل ويعيش في جوّ الكنيسة في عصر الرسل.

    4. اتجاه الدولة نحو الكنيسة: يلاحظ في السفر أن الحكّام الرومان والقادة لم يثيروا اضطهادات ضد الكنيسة، وإن وُجدت فهي بوازع من اليهود. وفي بعض المواقف وقف الحكّام في صف بعض الرسل مثل القدّيس بولس حيث أنقذوا حياته من الخطط التي وضعها اليهود لقتله. هذا الاتّجاه كان سائدًا قبل اضطهاد نيرون للكنيسة عام 64م.

    5. لم يشر سفر الأعمال إلى رسائل القدّيس بولس وغيره من الرسل ممّا يظهر أنّه كتب قبل جمع هذه الرسائل.

    غاية السفر

    1. سجل لنا الإنجيلي غاية كتابة الإنجيل، وهو تحقيق ما ابتدأ يسوع أن يعمله ويعلم به إلى يوم صعوده (لو 1:1-4)، وجاء هذا السفر يحمل ذات الهدف منذ لحظة صعوده إلى قرابة ثلاثين عامًا ليحقق عمل السيد المسيح خلال كنيسته بعد صعوده. أي تحقيق سفر أعمال المسيح بروحه القدوس في كنيسته الشاهدة له. فهو العامل فيها، وهو الذي أرسل إليها روحه القدوس.

    v يبدو أعمال الرسل أنه يروي قصة غير مزخرفة تصف ببساطة طفولة الكنيسة الحديثة الولادة، لكن إذ نتحقق أن كاتبها لوقا الطبيب يمتدحه الإنجيل، نرى أن كل كلماته هي دواء للنفس المريضة.

    القديس جيروم

    2. تحقيق الوعد الإلهي الخاص بانتشار المسيحية في أورشليم واليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض (أع 1: 8)، أي انفتاح باب الإيمان لجميع الأمم، وهذا يحسبه الرب معجزة المعجزات التي صنعها ربنا يسوع بروحه القدوس خلال تلاميذه ورسله. العامل الأساسي في نشر الإيمان هو حلول الروح القدس الذي قدم للتلاميذ موهبة التكلم بالألسنة ليجتذب الأمم ويُبكم أفواه المتعصبين من اليهود، كما سندهم بعمل الآيات والمعجزات باسم يسوع المسيح، وقام بتوجيههم وجذب النفوس إلي الكلمة.

    إلى فترة طويلة لم يكن من السهل على اليهود أن يتقبلوا دعوة الأمم للإيمان، خاصة إن دخلوا مباشرة دون تهودهم. هذا ما نلمسه من بعض كتابات الآباء وحوارهم مع اليهود، مثل كتابات العلامة ترتليان، الذي أبرز نبوات العهد القديم في قبول الأمم مثل ما جاء في المزمور: "أنا اليوم ولدتك. اسألني فأعطيك الأمم ميراثك" ( مز2: 7؛ 8)؛ وأيضًا "في كل الأرض خرج منطقهم، وإلى أقصي المسكونة كلماتهم" (مز 19: 4)

    هذا وقد اشتركت القوات السمائية في العمل، فظهرت خدمة الملائكة بقوة لحساب انتشار ملكوت الله خلال الكنيسة.

    لقد أعلن السيد لتلاميذه أنهم يُقدمون لملوك وولاة ويُحاكمون أمام مجامع (مت 10: 18)، هذا كله لن يقف عائقًا للكرازة في العالم كله (مت 24: 14).

    3. سفر تاريخي لاهوتي: ينقل لنا الفكر اللاهوتي خلال أحداث تاريخية، معلنًا في بساطة أن السيد المسيح هو محور التاريخ، وأن تاريخ الخلاص جزء لا يتجزأ من التاريخ العام.

    سجل لنا هذا السفر أعمال بعض الرسل مثل القديسين بطرس ويوحنا وبولس وغيرهم. لكنه ركز على عمل الروح القدس فيهم كقائدٍٍ ومدبرٍ لحياة الكنيسة الأولى، وعن عمله لكي تمتد الكرازة إلى أقصى المسكونة. لهذا ما أن وصل القديس بولس إلى روما، وشهد للسيد المسيح في عاصمة الدولة الرومانية التي كانت تسود العالم، حتى انتهى السفر دون إشارة إلى استشهاد القديس بولس في أيام نيرون. لأن غاية السفر هي أن البشارة بالخلاص قد بلغت بكل جرأة حتى قصر الإمبراطور.

    يكشف هذا السفر عن استمرار قصد الله من التاريخ، فإن كانت أحداث الخلاص التي تمّت بالمسيح يسوع مخلّص العالم دخلت التاريخ كأحداث تاريخيّة، لكنّها يبقى هذا العمل الإلهي الفائق حسب "مشورة اللَّه المحتومة وعلمه السابق" (2: 23). هكذا أيضًا أحداث الكرازة المسجّلة في سفر الأعمال، هي أحداث تاريخيّة ووقائع زمنيّة، لكنّها تبقى شاهدة على استمرار تنفيذ خطّة اللَّه في العالم حتى تتحقّق كنيسة المسيح بكمالها، فتتأهّل للميراث الأبدي وشركة المجد. أحداثها هي تحقيق لنبوّات وردت في العهد القديم يقوم الروح القدس نفسه بتحقيقها عبر الأزمنة إلى يوم مجيء الرب الأخير.

    4. إنجيل الروح: إذ كثيرًا ما يشير هذا السفر إلى الروح القدس، فواضح أن غاية السفر ليس الكشف عن المتاعب التي واجهتها الكنيسة في بدء انطلاقها، وإنّما تأكيد أن اللَّه بروحه القدّوس هو الموجّه لكل حركة في تاريخها. فنمو الكنيسة لم يتحقّق خلال مجهودات الرسل الذاتيةومواجهتهم للمصاعب، إذ بحسب الفكر البشري كان يستحيل قبول العالم للإيمان، لكنّه هو ثمرة تحرّك اللَّه نفسه محب البشر، العامل في حياة الرسل كما الشعب... يعطي الروح القدس الرعاة قوة للكرازة، ويهبهم مواهب للرعاية. هو عطية الله لأولاده في المعمودية، يهب حكمة روحية، ويقدم كلمة وقت الضيق (6: 10)؛ مواهبه لا تقتني بمال (أي بالسيمونية أعمال 8). كما يظهر قوة الروح القدس في مواجهة المقاومين من اليهود، وفي وقوف التلاميذ والرسل أمام ولاة وملوك والسلطات. إنه حصن الكنيسة المحيط بها، وسرّ قوّتها ومجدها. وكما جاء في سفر زكريّا: "وأنا يقول الرب أكون لها سور نارٍ من حولها، وأكون مجدًا في وسطها" (زك 2: 5).

    5. دفاع عن رسولية القديس بولس رسول الأمم. فقد تعرضت شخصيته للنقد الشديد، وأُتهم بمقاومة موسى "الناموس"، وأنكرت بعض الجماعات رسوليته. إنه وثيقة دفاعية، توفق بين الفكرين البولسي والبطرسي إن صح التعبير، بين الرغبة في كسب الأمم وبين الالتزام بحفظ الناموس.

    تشابه الرسولان: فكلاهما ابرأ معوقين (أع 3؛ 14)، وشفيا المرضى بطرق غريبة (أع5؛ 19)، وحُسبا ساحرين (أع 8؛ 13)، وأعادا إنسانا للحياة (أع9؛ 20)، وخرجا من السجن بطريقة معجزية (أع 12، 16)، وقاما بثلاث رحلات تبشيرية. هذا التماثل بين الشخصيّتين قُدّم بطريقة رائعة ومثيرة بهدف تأكيد أن القدّيس بولس كان رسولاً على ذات المستوى مع القدّيس بطرس.

    أبرز السفر مواقف لبطرس الرسول في خدمته للأمم، ومواقف للرسول بولس فيها يحرص ألا يكسر الناموس (أع 16؛ 18).

    6. وثيقة لاهوتية تعليمية: يحوى 18 مقالاً أو خطابا يمثلون رُبع السفر، أغلبها تقدم صورة حية لتعليم الكنيسة الأولى وفكرها اللاهوتي. يمكننا القول أن سفر أعمال الرسل قدّم بذار قانون الإيمان المسيحي، خاصة الإيمان بعمل اللَّه الخلاصي، والتعرّف على الآب والروح القدس يسوع المسيح والروح القدس، وعملهم في حياة الكنيسة كما في حياة المؤمن كعضو حيّ في الكنيسة. غير أنّه لا يمكننا القول بأن ما ورد في السفر هو المنهج الكامل لكل تعاليم الكنيسة. فمع تناغم ما ورد في السفر مع رسائل الرسل، إلاّ أن الرسائل قدّمت في شيء من التوسّع العقائد الإيمانيّة والتعاليم المسيحيّة والسلوك اللائق بالمؤمن في حياته الخاصة وبيته والكنيسة والمجتمع الذي يعيش فيه.

    7. مرشد للكنيسة: يقدم هذا السفر الخطوط الرئيسية لكنيسة السيد المسيح، كمرشدٍ لها عبر الأجيال، حتى تنمو بلا انحراف، وسط الضيق.

    8. لم يكن يشغل ذهن الإنجيلي لوقا تسجيل تاريخ الكنيسة الأولى، أو عرض لتاريخ الرسل وأعمالهم المجيدة، لكن غايته كرازيّة. فالسفر عمل تبشيري ينادي بالخلاص لكل إنسان أين كان موقعه، وأيّا كانت ظروفه. فالسيّد المسيح نفسه يقدّم بروحه القدّوس الخلاص للجميع دون تفرقة عنصريّة. يقدّم إنجيله لليهودي كما لليوناني والروماني... للرجل كما للمرأة، للولاة والحكّام وقوّاد الجيش كما للفقراء وعامة الشعب، للأغنياء كما للفقراء.

    سمات السفر

    1. الدقة التاريخية مع العرض في شيء من التفصيل بحيوية.

    2. البلاغة الأدبية العالية في اليونانية.

    3. سفر موضوعي، يقدم عمل الله الفائق خلال حقائق واقعية، مع عدم تجاهل الضعف البشري حتى بالنسبة للقيادات الكنسية (أع 15: 39).

    4. قلب هذا السفر وعموده الفقري هو "تكونون لي شهودًا" (1: 8) وقد وردت كلمة "يشهد" أكثر من 30 مرّة. ما تشهد به الكنيسة هو أنه باسمه وحده يتحقّق الخلاص للعالم (4: 21). يلزم أن تصدر هذه الشهادة عن القلب، لأنّه من فضلة القلب يتكلّم اللسان (مت 12: 34). هكذا لم يكن ممكنًا تحقيق هذه الشهادة إلاّ بحلول الروح القدس في الكنيسة، فيحمله المؤمن في قلبه ويتمتّع بما يخبره به عن السيّد المسيح خلال حياته الجديدة المقامة. فالشاهد الحقيقي هو الروح القدس الساكن في القلب والعامل فيه وبه. الروح أيضًا هو العامل في قلوب السامعين ليجتذبها لا للمؤمن المتكلّم بل للَّه المخلِّص الساكن فيه.

    5. هذا السفر هو سفر القّوة: "تنالون قوّة" (1: 8)، تتحدّى قوّات الظلمة وفساد العالم وخطط الشرّ، ليُعلن النور في حياة المؤمنين.

    الكرازة في العالم

    رأينا في إنجيل يوحنا (14: 12) السيد المسيح يعد بأن من يؤمن به يعمل الأعمال التي يعملها السيد نفسه وأعظم منها. وأما سرّ عظمتها فهي أنها تتم باسمه بعد صعوده وتحقق غاية مجيئه، انتشار الكرازة بين الأمم بصورة فائقة لم تتم أثناء خدمة السيد علي الأرض. وقد جاء سفر الأعمال يعلن تحقيق هذا الوعد الإلهي، لا كتاريخِ يسجله لنا الإنجيلي لوقا بوحي الروح القدس، وإنما كبدء انطلاقة حية لكي ينفتح باب الرجاء أمام الكنيسة لتعمل عبر الأجيال، متكئة علي هذا الوعد، حتى تصير الأرض وملؤها للرب ولمسيحه.

    v الآن قد تحققت تمامًا كل هذه الأمور بكل دقة، بل ونرى في هذا السفر أنه تحقق ما هو أكثر كما أخبرهم (السيد المسيح) حين كان معهم. بجانب هذا نرى الرسل أنفسهم يسرعون في طريقهم كمن هم محمولين على أجنحة فوق البر والبحر. هؤلاء الذين كانوا قبلاً جبناء وبلا فهم صاروا فجأة أشخاصًا غير ما كانوا عليه؛ صاروا أناسًا يحتقرون الغنى، ويسمون فوق المجد (الباطل) والهوى والشهوات، وباختصار فوق كل النزعات.

    علاوة على هذا، صاروا يعملون بروح الإجماع، فلا وجود للحسد كما كان قبلاً، ولا للشوق القديم نحو التعالي، بل تحققت فيهم كل الفضائل في لمساتها الأخيرة؛ تشرق المحبة فيهم جميعًا ببهاءٍ فائقٍ، هذه التي أمرهم بها الرب قائلاً: "بهذا يعرف الجميع إنكم تلاميذي، إن كان لكم حب بعض لبعض" (يو 13: 35).

    القديس يوحنا الذهبي الفم

    عنصرة كل الدهور

    مع كل قداس للموعوظين في كل أحدٍ أو في أيام الأسبوع، تلتزم الكنيسة بقراءة فصلٍِ من سفر أعمال الرسل "الأبركسيس"، ليس لأنه يذكرنا بانطلاقة الكنيسة في العنصرة وتكوين الجماعات المسيحية الكنسية الأولى وفكرها وحياتها في الرب، وإنما يمثل مرآة عملية للكنيسة الأصلية، تكشف اليوم عن مفاهيم الكنيسة في أحداث العنصرة، فتمارس العنصرة عبر كل الدهور.

    سفر أعمال الرسل ووديعة البشارة

    يكشف سفر الأعمال عن وديعة البشارة المفرحة، التي تسلمها الرسل والتزموا بها هم والأساقفة والقسوس والشمامسة، بل والشعب. يجدون لذة داخلية وفرحًا فائقًا بتسليم هذه الوديعة وسط مضايقات العدو واضطهاده لاسم يسوع وكنيسته. هكذا تشعر الكنيسة أن رسالتها الأولى هي تلمذة الأمم للتمتع ببهجة خلاص الله وأن يكونوا هم بدورهم شهودًا له حتى تبلغ البشارة إلى أقصى الأرض. هذا الالتزام المفرح تحققه الكنيسة على مستوى الجماعات المقدسة كما على مستوى كل عضوٍ فيها شخصيًا.

    يسوع المسيح في سفر الأعمال

    1. اسم يسوع المسيح

    يقول القديس باسيليوس الكبير إن اسم "يسوع المسيح" هو ملخص الإيمان كله. فهو اعتراف به كابن للآب، وهو من مسح بالروح القدس. فالاسم يضم الآب والروح ويعلن ألوهية الرب، أي يضم أسماء أقانيم الثالوث فيه.

    v النقطة التي ركز عليها المسيح جدًا هي أن يُعرف أنه جاء من عند الآب، فقد كان هدف الكاتب الرئيسي أن يعلن أن المسيح قام من بين الأموات، وصعد إلى السماء وأنه عاد إلى الله (الآب) وجاء من عنده.

    القديس يوحنا الذهبي الفم

    2. يسوع المسيح حاضر في كنيسته

    يبدأ سفر الأعمال بصعود السيد المسيح إلى السماء، ووقوف التلاميذ في دهشة أمام هذا المنظر، مع أنهم كانوا عاجزين عن العبور معه بأجسادهم إلى حيث هو صاعد. وظهر لهما ملاكان مجيدان ليبشرانهم بأنه كما صعد من المشارق ليحمل قلوبهم إلى سمواته، سيأتي من المشارق ليحملهم مع كافة مؤمني العهد القديم والجديد إلى حضن الآب، يشاركون العريس مجده الأبدي! وانتهى السفر بالرسول بولس الأسير في روما يشهد في العاصمة بيسوع المسيح مخلص العالم. أما بين الأصحاحين فكأن قائد موكب الكنيسة على الأرض هو الروح القدس الذي يعلن حضور المسيح في الكنيسة التي تشاركه آلامه وتختبر عربون مجده. وكأن السيد الذي صعد إلى السماء جسديًا هو حاضر في كنيسته التي تكمل آلامه حتى ينعم العالم كله بالخلاص خلال كرازة الكنيسة بعريسها، وقبولها الاضطهاد بمسرة قلبٍ.

    3. يسوع الرب والمسيح

    غاية حلول الروح القدس هو التمتع بعمل الثالوث القدوس. فبعد حلوله يتحدث القديس بطرس عن أن الله قد برهن بآيات وقوات أن يسوع الذي قتله اليهود هو المسيح الذي تنبا عنه داود أنه قائم من الأموات وجالس عن يمين كرسي مجده في السماوات (أع 2: 22-35). وختم عظته هكذا: "الله جعل يسوع، هذا الذي صلبتموه أنتم، ربًا ومسيحًا" (2: 36).

    هكذا يؤكد الروح القدس أن قتل المسيح على الخشبة ليس غضبًا إلهيًا عليه بل إعلان لربوبيته، حيث يبيد الموت عنا، ويملك في القلوب كربٍ وملكٍ سماويٍ. كانت كرازة الرسل في الهيكل والبيوت هي البشارة بيسوع المسيح (5: 42). وكأن غاية الرسل المُضطهدين هو بث روح الفرح بمجيء المسيح الذي طالما اشتهى الآباء والأنبياء رؤيته والالتقاء معه.

    جاء لقب "المسيح" ليس لقبًا سياسيًا وطنيًا بل لقب سماوي يمس خلاص العالم كله (3: 21). ففي السامرة كان فيلبس "يكرز لهم بالمسيح" (8: 5-8). وفي تسالونيكي كان الرسول بولس يحاجج اليهود "أن هذا هو المسيح يسوع الذي أن أنادي لكم به" (17: 3). وفي كورنثوس كان الرسول بولس "يشهد لليهود بالمسيح يسوع" (18: 5)، وهكذا في أخائية (18: 28) وفي قيصرية (26: 23).

    4. يسوع القدوس البار (3: 14- 15)

    ارتبط اسم يسوع بالقدوس والبار: "لا تدع قدوسك يرى فسادًا" (2: 27). "فأنبأوا بمجيء البار الذي أنتم صرتم مسلميه وقاتليه" (7: 52)

    أراد اليهود الخلاص منه بتسليمه للأمم وقتله وهو القدوس البار، من يحمله فيه يحمل قداسته وبرَّه. وكما يقول الرسول بولس: "صار لنا برًا وقداسة" هكذا قدم لنا فهمًا جديدًا للقداسة والبرّ لا يقدر الناموس بحرفيته أن يحققه.

    5. يسوع العبد والخادم

    "إن إله إبراهيم واسحق ويعقوب، إله آبائنا، مجد فتاه (أو عبده) يسوع الذي أسلمتموه أنتم. أنكرتموه… أنكرتم القدوس البار… رئيس الحياة قتلتموه" (3: 13-15).

    "أقام الله فتاه (عبده) أرسله يبارككم يرد كل واحدٍ منكم من شروره" (3: 26).

    في طلبة الكنيسة بعد إطلاق القديسين بطرس ويوحنا من السجن: "لتُجر آيات وعجائب باسم فتاك (عبدك) القدوس يسوع" (4: 30).

    لقد سبق فقدم لنا إشعياء النبي الكثير من تسابيح العبد المتألم (إش 53). إنه الخادم الحقيقي الذي مسحه الآب ليعلن الحب الإلهي الباذل والعملي، "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 3: 16).

    6. المسيح والدعوة للتوبة

    جاء السفر كله دعوة للتوبة ####noia (2: 37-40)، ففي المسيح وحده أمكن بروحه القدوس تغيير الاتجاه الداخلي وتجديد الطبيعة، لكي ما يعطي المؤمن وجهه لله أبيه، ويقدر أن يعطي القفا للشر مهما كانت اغراءاته.

    7. اسم يسوع المسيح والمعمودية

    في هذا السفر نلاحظ أن التوبة يرافقها نوال العماد باسم يسوع المسيح الذي فيه ننال الميلاد الجديد، والشركة في جسد المسيح لنحمل صورته، ويمكننا بالروح القدس الساكن فينا أن نجدد العهد الذي تمتع به موسى في سيناء. هذا الذي قتلوه هو إله سيناء الذي طالما يعتزون به. وقد قام، لا لحاجة خاصة به، بل لكي نُدفن في المعمودية ونقوم معه، ونختبر قوة قيامته في حياتنا اليومية. هذه شهادة عملية لقيامته: "ونحن شهود له بهذه الأمور والروح القدس أيضًا الذي أعطاه الله للذين يطيعونه" (5: 32).

    في اختصار، الكرازة بالمسيح المصلوب القائم من الأموات ليس موضوع مناقشات جدلية فلسفية، لكنها خبرة القيامة، وتحول إلى أشخاص أحياء، كأعضاء في جسده القائم من الأموات، الجسد الواحد، لنحيا بروحٍ واحدٍ ونفسٍ واحدةٍ. بهذا تتحول حياتنا إلى حياة فصحية، عيد لا ينقطع، وفرح دائم بالمسيح فصحنا الحقيقي!

    الروح القدس في سفر الأعمال

    يُدعى سفر الأعمال "سفر الروح القدس"، فقد بدأ السفر بوعد السيد المسيح لتلاميذه بحلول الروح القدس عليهم ليهبهم قوة الشهادة له في أورشليم واليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض. وجاء السفر كله يعلن قيادة الروح القدس للكنيسة بكل وسيلة لتحقيق هذا الوعد الإلهي.

    إن تطلعنا إلى الكتاب المقدس ككل نرى الروح القدس دائم العمل منذ الخلقة وإلى مجيء السيد المسيح الأخير ليقدم للإنسان كل الإمكانيات، ويهيئه للدخول في الأمجاد الأبدية. ويمكننا الكشف عن عمله الإلهي في المراحل التاريخية الأربع التالية:

    1. عمل الروح قبل خلقة آدم وحواء.

    2. عمل الروح بعد السقوط (زمن الإعداد لمجيء المسيح).

    3. عمل الروح في زمن المسيح.

    4. عمل الروح في زمن كنيسة العهد الجديد.

    لم يتوقف معلمنا لوقا البشير عن الكشف عن عمل الروح غير المنقطع خلال الثلاث المراحل الأخيرة.

    أ. عمل الروح قبل خلقة آدم وحواء: يبدأ سفر التكوين بالحديث عن الروح القدس الذي كان يرف على وجه المياه حيث كانت الأرض خالية وخاوية، بلا شكل ولا جمال ولا نفع، ليقيم من هذه الأرض عالمًا جميلاً رائعًا، يمثل قصرًا ملوكيًا يعيش فيه آدم وحواء كملكٍ وملكةٍ في قصرهما، تعمل كل الطبيعة بكل إمكانياتها وجمالها لسعادتهما. هذا الروح عينه يبقى يعمل عبر كل الزمن ليقيم من كل مؤمنٍ عالمًا جميلاً، بل عروسًا مقدسة مهيأة للعرس السماوي الفريد المفرح.

    ب. عمل الروح القدس بعد سقوط الإنسان: ركز الرسل في أحاديثهم الواردة في هذا السفر على دور الروح القدس في تهيئة شعب الله لقبول عمل السيد المسيح الخلاصي. ففي أول حديث للقديس بطرس بعد الصعود يقول: "ينبغي أن يتم هذا المكتوب الذي سبق الروح القدس فقاله بفم داود" (16:1). فالروح القدس كان يقود رجال الله ليتنبأوا عن أحداث الخلاص، لكي يتمتع العالم كله بالحياة الجديدة. كانت الفترة من سقوط الإنسان إلى مجيء السيد المسيح فترة إعداد للبشرية لقبول السيد، خاصة خلال النبوات، فلا نعجب إن قال موسى النبي لتلميذه يشوع: "يا ليت كل شعب الرب كانوا أنبياء إذا جعل الرب روحه عليهم" (عد 29:11). لقد غار يشوع على الشيخين ألداد وميداد لأنهما تنبأ في المحلة وليس داخل الخيمة، أما موسى النبي فاشتهى أن يعمل الروح القدس في حياة الشيوخ القادة كما في الشعب دون حدود مكانية.

    ج. عمل الروح القدس في زمن المسيح: الروح القدس الذي لم يكف عن أن يعمل، خاصة في الأنبياء، لتهيئة الشعب لقبول المخلص، عمل أيضًا في زمن السيد المسيح. فيذكر لوقا البشير كيف هيأ الروح القدس القديس يوحنا ليكون السابق للسيد المسيح: "ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس... لكي يهيئ للرب شعبًا مستعدًا" (لو 15:1، 17). كما كشف عن دور الروح القدس في تجسد الكلمة المخلص: "الروح القدس يحل عليكِ، وقوة العلي تظللكِ، فلذلك أيضًا القدوس المولود منكِ يُدعى ابن الله" (لو 35:1).

    د. عمل الروح القدس في زمن الكنيسة: جاء سفر الأعمال يكشف بفيضٍ عظيمٍ عن تحقيق الوعد الإلهي: "ومتى جاء المعزى الذي سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي" (يو 26:15)".

    منذ العنصرة والروح القدس يقود بنفسه الكنيسة خلال الكهنة كما من خلال الشعب، ليكون لكل عضوٍ دور حيٌ للشهادة السيد المسيح. لقد انطلق بالكنيسة يدشن الشهادة للسيد المسيح في أورشليم فاليهودية والسامرة ثم إلى الأمم، حتى بلغ بها إلى القصر الإمبراطوري في روما عاصمة العالم في ذلك الحين.

    v الروح القدس العامل في أورشليم: حلٌ الروح القدس على التلاميذ في العلية (أع 2) هذا الذي وهب الرسل والمعلمين والأنبياء... كل منهم دوره. بل هو الروح العامل في الكنيسة كلها. هذا ما تحقق حسب نبوة يوئيل النبي: "يقول الله ويكون في الأيام الأخيرة أني أسكب من روحي على كل بشر، فيتنبأ بنوكم وبناتكم، ويرى شبابكم رؤى، ويحلم شيوخكم أحلامًا، وعلى عبيدي أيضَا وإمائي أسكب من روحي في تلك الأيام فيتنبأون... ويكون كل من يدعو باسم الرب يخلص" (أع 17:2 -21). هكذا حلٌ الروح القدس على الكنيسة ليحول كل قلبٍ إلى نبي، ليشهد للأمجاد المقبلة خلال خبرة عربونها. يعمل في الرجال والنساء، كما في الشباب والشيوخ، مقدمًا الخلاص لكل من يدعو باسم الرب، سواء كان يهوديًا أو سكيثيا أو بربريًا... كما أقام الروح القدس أنبياء في أورشليم، من بينهم أغابوس الذي تنبأ عن الجوع العظيم العتيد أن يصير على جميع المسكونة (أع 27:11-28 ).

    v الروح القدس العامل في السامرة: لم يُحصر الروح القدس بمدينة أورشليم ولا بهيكل سليمان كما يتوقع اليهود. فإذ قبلت السامرة كلمة الله أرسلت الكنيسة القديسين بطرس ويوحنا، اللذين "وضعا الأيادي عليهم، فقبلوا الروح القدس" (أع 17:8). لقد قاد الروح القدس القديس فيلبس ليتقدم ويرافق مركبة الرجل الأثيوبي خصي وزير لكنداكة ملكة أثيوبيا (أع 29:8)، بل ونراه يخطفه ويأتي به إلى أشدود (أع 39:8 -4).

    v الروح القدس يعمل في كل الأرض: لم يكن ممكنًا لآخر غير الروح القدس أن يقتحم العالم الأممي، ليحرك القلوب ويجتذبها إلى الإيمان بالمصلوب، ولكي يهبهم الميلاد الجديد في المعمودية، ويجدد على الدوام أفكارهم لينموا بغير انقطاع، فيصيروا أيقونة العريس السماوي. لم يكن ممكنًا لرسولٍِ ما أن يتجاسر ويعمد أممي دون أن يتهود أولاً، لذا بادر الروح القدس وحلٌ على كرنيليوس وأهل بيته وكل الحاضرين من الأمم قبل أن ينهي القديس بطرس حديثه معهم (أع 44:10)، عندئذ فقط استطاع القديس أن يقول: "أترى يستطيع أحد أن يمنع الماء حتى لا يعتمد هؤلاء الذين قبلوا الروح القدس كما نحن أيضا؟" (أع 47:10). وفى كل مدينة إذ وضع القديس بولس يديه على المؤمنين حلّ الروح القدس عليهم (أع 6:19).

    الروح القدس هو الذي يقيم الخدام العاملين في هذا الكرم. "قال الروح القدس: افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتها إليه" (أع 2:13). أما قوله "لي" فيكشف عن حرص الروح القدس أن ينسب هذا العمل له، فهو يختار العاملين، وهو العامل فيهم وبهم حتى يحقق عمله الإلهي خلال الكنيسة التي يقدسها. ويبقى سفر الأعمال يؤكد هذه الحقيقة كما سنرى أثناء دراستنا للسفر.

    كان الروح القدس يكشف للرسول بولس حتى ما سيحل به من شدائد أثناء خدمته: "غير أن الروح القدس يشهد في كل مدينة قائلاً إن وثقًا وشدائد تنتظرني" (أع 23:20).

    وفي حديث القديس بولس مع كهنة أفسس يقول: "احترزوا لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه" (أع 28:20).

    أخيرًا إذ بلغ الأسير بولس روما، دخل متهلل، الروح فقد حقق الروح القدس ما سبق أن أنبأ به على لسان إشعياء النبي، إذ قال: "حسنًا كلم الروح القدس آباءنا بإشعياء النبي، قائلاً: اذهب إلى هذا الشعب وقل... فليكن معلومًا عندكم أن خلاص الله قد أُرسل إلى الأمم، وهم سيسمعون" (أع 28: 25-28).

    سفر الأعمال والبرهان علي القيامة

    الكرازة هي دعوة للإيمان بالسيد المسيح المصلوب القائم من بين الأموات، لكي يختبر المؤمن عربون القيامة في حياته اليومية. ولما كان الإيمان بالقيامة من الأموات يكاد يكون مستحيلاً في ذلك الوقت، لذلك أغدق الله على الرسل والتلاميذ بآيات وعجائب غير المعتادة باسم السيد المسيح كما ورد في هذا السفر لتأكيد حقيقة القيامة.

    v المعجزات الرسولية هي البرهان علي القيامة، وأما عن المعجزات الرسولية فهذا السفر هو مدرستها.

    القديس يوحنا الذهبي الفم

    سفر الأعمال والحياة الكنسية

    أينما انطلق المؤمن، لعلة أو أخرى، فإن ما يشغله أن يرى تكوين جماعة مقدسة، جسد المسيح المقدس، لها سماتها وإمكانياتها لبنيان ملكوت الله، مهما كان العدد قليلاً أو الإمكانيات المادية بسيطة. فإن الروح القدس يغني الكنيسة، ويقودها بإمكانياته الإلهية.

    أما أهم ملامح الكنيسة الأولى فهي:

    1. كنيسة فرح: في كل جوانب حياتها التعبدية والكرازية، ووسط الضيق في الحياة اليومية... حيث يدرك المؤمنون أن النبوات قد تحققت، وأن عمل الفداء تم، منتظرين مجيء المسيا الأخير وقيامة الأموات.

    2. إسرائيل الجديد الروحي البعيد عن الفكر الصهيوني المادي المتعصب، إذ تحقق ملكوت المسيح بواسطة عمل روحه القدوس.

    3. كنيسة متفتحة على الأمم... لكي يفتح قلوب اليهود على الأمم استخدم الله كل وسيلة لانتزاع روح التعصب منهم: مثل إرسال ملاك لفيلبس كي يكرز للأثيوبي (أع 8)؛ وظهور السيد المسيح نفسه لشاول الطرسوسى رسول الأمم (أع 9)؛ وإلزام الروح القدس بطرس أن يتحرك نحو كرنيليوس الأممي (أع 10).

    4. كنيسة صداقات عاملة في الرب: في هذا السفر نتلامس مع صداقة الرسولين بطرس ويوحنا (أع 3؛ 4؛ 8)؛ وصداقة برنابا وبولس الرسولين (أع 11؛ 13؛ 15)؛ صداقة الرسولين برنابا ومرقس (أع 16)، وأيضًا الرسول بولس وسيلا ومع لوقا البشير ومع تيموثاوس وأيضًا مع أكيلا وبريسكلا الخ.

    سفر الأعمال والعبادة

    في كلمات قليلة عبَّر الإنجيلي لوقا عن الحياة الكنسية بقوله: "وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات" (أع 2: 42). كانت الحياة الكنسيَّة هي فكر إيماني رسولي، مع شركة حب عمليَّة، وعبادة جماعيّة وشخصيّة لا تنقطع. وجاء السفر كلّه يؤكد أن الجماعة المقدّسة كنيسة صلاة دائمة، فحين تحدّث الرسول بولس أمام أغريباس قدّم الآباء الأوّلين أنهم كانوا "عابدين بالجهد ليلاً ونهارًا" (أع26: 7). هكذا جاءت كنيسة العهد الجديد تكمل ذات المسيرة "الصلاة بلا انقطاع". وإن كان السفر هو إعلان عن الشهادة للسيد المسيح حتى تبلغ إلى أقصى الأرض، فإن هذا لن يتحقّق إلا بروح الصلاة كنداء السيد المسيح: "اطلبوا من رب الحصاد أن يرسل فعله لحصاده".

    الكنيسة الأولى كما يصوّرها لنا الإنجيلي لوقا مجتمع صلاة دائم، تجد في الصلاة شركتها مع إلهها، وممارستها لحياة التسبيح الملائكيّة، وسندها في الكرازة، وعونًا في الضيق! تصلّي أينما اجتمعت، ويمارس كل عضو صلواته أينما حلّ، وتحت كل الظروف، لا يحدّ الصلاة مكان ما، ولا زمن معيّن.

    1. كانت تصلّي في الهيكل كل يومٍ بنفسٍ واحدة] (أع 2: 46)، وحينما كان رسول أو مؤمن من أصل يهودي يأتي إلى أورشليم يصلّي في الهيكل كما فعل الرسول بولس (أع 21: 26؛ 22: 17). وكان للمسيحيّين صلواتهم في البيوت حيث لم تكن بعد قد نشأت مبانٍ كنسيَّة (أع 2: 46)، يمارسون فيها سرّ الإفخارستيّا والصلوات الليتورجيّة وغيرها. كما كانوا يصلّون في مخادعهم كما فعل شاول (أع 9: 11)، أو على السطوح كما فعل القديس بطرس (أع 10: 9). ولا يكفّ المؤمن عن التسبيح والصلاة حتى في السجن الداخلي كما فعل القدّيسان بولس وسيلا (أع 16: 25). وفي توديع رسول إذ كانت الكنيسة تجتمع ولو على الشاطئ ليركع الكل ويصلّون (أع 21: 5؛ 20: 26).

    2. كانت الكنيسة تجتمع في اليوم الأول من الأسبوع (أع 20: 7-10). ففي ترواس نجد التلاميذ مجتمعين من مساء السبت حيث يبدأ الأسبوع، ويطيل الرسول بولس حديثه إلى نصف الليل، انتهى الاجتماع بالاحتفال بسرّ الإفخارستيا أو كسر الخبز.

    3. التزم المؤمنون بممارسة صلوات السواعي، فقد اعتاد اليهودي التقي أن يمارس الصلاة ثلاث مرّات يوميًا، كما كان يفعل داود النبي ودانيال النبي. فقد صعد القديس بطرس على السطح نحو الساعة السادسة لكي يصلّي (أع 10: 9).

    4. الصلاة هي سرّ اختيار خدّام مقدّسين للرب، فعند اختيار التلميذ الثاني عشر (متياس) صلّت الكنيسة كلّها (أع 1: 15-26). وعند تكريس بولس وبرنابا للكرازة بين الأمم (أع 13: 2) صلّوا، وأيضًا عند سيامة قسوس للرعاية (أع 14: 23).

    5. الصلاة هي سند الخدّام في الرعاية، فصلّى القديس بطرس عند إقامة طابيثا (أع 9: 40)، وصلّى بولس الرسول عند شفاء بوبليوس (أع 28: 8).

    6. الصلاة حتى من أجل المقاومين والمضطهدين، فركع القديس إستفانوس ليصلّي من أجل راجميه في لحظات رجمه (أع 7: 60).

    7. أما غاية الصلاة فهي تمتع كل نفسٍ بشريّةٍ بعذوبة الحياة الجديدة، فلا نعجب من قول الرسول بولس أمام المحفل: "كنت أصلّي إلى اللَّه، أنه بقليل وبكثير ليس أنت فقط، بل أيضًا جميعً الذين يسمعونني اليوم، يصيرون هكذا كما أنا، ما خلا هذه القيود" (أع 26: 19).

    سفر الأعمال وروح الحب والوحدة

    يكشف لنا سفر الأعمال عن التباين بين أعضاء الكنيسة، حتى بين الرسل، فلكل منهم شخصيته المستقلة ومواهبه وقدراته، لكنه يشعر باحتياجه إلى الآخرين ليفكر الكل معًا، ويتشاورون، ويعملون بروح الحب والوحدة.

    1. لعل مجمع أورشليم (أع 15) هو أروع مثل لذلك، حيث لم ينشغل أحد قط فيمن يقود المجمع ويرأسه، بل كل يقدم الآخر في الكرامة. هذا وقد اشترك أيضًا العاملون مع الرسل في المجمع بروح الحب والوحدة.

    2. مساندة كنيسة أورشليم العاملين في مناطق أخرى، فأرسلت القديسين بطرس ويوحنا لمساندة القديس فيلبس في السامرة (أع 14:8). وكأن الكنيسة كلّها تعمل معًا بغية خلاص كل نفسٍ، دون التطلّع إلى طلب مراكز للقيادة على مستوى الأفراد أو حتى الكنائس المحليّة.

    3. بحث برنابا عن شاول لكي يخدم معه سنة كاملة في أنطاكية (أع 25:11) لتصير مركز خدمة للأمم في بلاد كثيرة. فلم يحتكر القدّيس برنابا الخدمة هناك، بل يجد مسرّته أن ينتفع بمواهب القدّيس بولس دون تتطلّع إلى من تُنسب خدمة الأمم.

    4. فرز الروح القدس برنابا وشاول للكرازة (أع 2:13)، فقد قام روح اللَّه نفسه باختيار الخدّام وتوزيع العمل حيث كانت الكنيسة مجتمعة معًا بروح الحب والوحدة.

    5. مع تخصيص القديس بطرس لخدمة الختان اختاره الروح ليكرز لباكورة الأمم، قائد المائة كرنيليوس (أع 10)، حتى لا يشعر أنه غريب عن كنيسة الأمم. كما بدأ القديس بولس رسول الأمم بالخدمة بين اليهود. وبهذا تخف الفجوة بين اليهود والأمم الذين قبلوا الإيمان بالسيد المسيح، ويتمتّع الكل بروح الحب والوحدة.

    سفر الأعمال والتحرر من حركة التهود

    مجيء المجوس إلى اليهودية يبحثون عن مخلص العالم يكشف عن التزام الأمم أن يبحثوا عنه في أسفار العهد القديم. لكن يلزمهم ألا يُستعبدوا لحرفية الناموس، مع الاحترام المتبادل للمقدسين من الفريقين. كان يلزم التحرر من العوامل السياسية.

    سفر الأعمال وملء الزمان

    منذ نال آدم وحواء الوعد بمجيء المخلص الذي يردهما إلى حياة فردوسية منتصرة ومجيدة وهما يترقبان تحقيق هذا الوعد الإلهي كأنه يتم حالاً دون انتظارٍ لملء الزمان. وورث أبناؤهما هذه الرغبة المتقدة، فكان عند ظهور نبيٍ يتساءل الشعب إن كان هو المسيا المنتظر أم يترقبون آخر. وإذ جاء ملء الزمان وجاء يسوع المسيح ظنوا أنه يملك زمنيًا على الأرض، ولم يكونوا قادرين على انتظار ملء زمان مجيئه الأخير، لهذا إذ وعد بروحه القدوس تساءل التلاميذ: "هل في هذا الوقت ترد المُلك إلى إسرائيل؟" (أع 1: 6)

    سجل القديس لوقا الإنجيل بإعلان الروح القدس، فنقل سامعيه إلى أحداث الخلاص من صلب وموت وقيامة ثم صعود إلى السماء، وختم السفر بقوله: "وأخرجهم خارجًا إلى بيت عنيا، ورفع يديه وباركهم؛ وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأُصعد إلى السماء، فسجدوا له ورجعوا إلى أورشليم بفرحٍ عظيمٍ، وكانوا كل حين في الهيكل يسبحون ويباركون الله. آمين" (لو 24: 50-53).

    هكذا ضم القديس لوقا البُعد السماوي إلى تاريخنا الخلاصي. قدم حركة تصحيح للفكر اليهودي، وهو أن لكل عملٍ ملء زمان، فقد مرت آلاف السنوات يترقب آدم وبنوه مجيء المسيا الملك... وقد جاء في ملء الزمان، لكن لا ليملك على الأرض، بل ليصعد إلى السماء ويصعدهم معه، فقدم لمسات أخروية سماوية للحياة البشرية. لقد جاء غير الزمني وخضع للزمن، لكي يحملنا إلى ما وراء الزمن. هذا التصحيح جزئي، إذ ظن حتى التلاميذ والرسل أنه بإنهاء حضور المسيح المنظور على الأرض يأتي فورًا ليحمل مؤمنيه بروحه القدوس إلى العالم غير المنظور!

    التزم القديس لوقا أن يسجل سفر الأعمال ليؤكد الحقيقتين التاليتين:

    1. مجيء السيد المسيح وصعوده إلى السماء لم ينزع حضوره فينا ونحن نخضع للزمن حتى يضم معنا البشرية إلى أقاصي الأرض، فترتفع معنا إلى الحياة الإنقضائية (الإسخاتوليجية)، فالكنيسة كجسد المسيح تُعلن حضوره غير المنظور حتى يحمل كل الأمم إلى مجده.

    2. مع ترقبنا لمجيئه الأخير الإسخاتولوجي فإننا نخضع في واقعنا للزمن، بينما ترتفع قلوبنا فوق الزمن. فمجيئه له ملء الزمان حتى تحقق الكنيسة رسالتها وسط الاضطهادات من الخارج والضيقات من الداخل، تواجه الكنيسة العالم وتتحداه بالروح القدس. فتضم إليها كل يوم الذين يخلصون، هؤلاء الذين يبدو واقعهم السماوي حاضرًا منذ الآن وهم عابرون التاريخ، طال أم قصر، حتى يبلغوا إلى اللقاء مع السيد المسيح في مجيئه الأخير، لقاء الوجه للوجه.

    سفر الأعمال هو دعوة لخبرة الحياة الأخروية في حاضر شعب الله أو في تاريخ كنيسته، مدركين أن مجيئه قادم حتمًا، لكن في ملء الزمان. لهذا سجل القديس لوقا في الاصحاح الأول كلمات السيد المسيح قبيل صعوده: "ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه" (أع 1: 7).

    الآيات والعجائب والرؤى في سفر الأعمال

    اتّسم سفر الأعمال بإبراز صورة حيّة للكنيسة في عصر الرسل، فيقدّم لنا أمثلة ليست بقليلةٍ من الآيات والعجائب والرؤى التي تمتّعت بها الكنيسة، لا لاستعراض إمكانيّاتها، وإنّما لخدمة النفوس، واجتذاب القلوب للتمتّع بعمل اللَّه فيها.

    أهم هذه الأعمال هي:

    1. حلول الروح القدس في يوم الخمسين (ص 2) تحقيقًَا للوعد الإلهي (يؤ 2: 28-32)، غايته التمتّع بقوة الشهادة للسيّد المسيح.

    2. التكلّم بالألسنة (ص 2)، غايته ردّ الأمم إلى الحضن الإلهي، حيث يسمع كل إنسان إنجيل الخلاص بلغته التي وُلد فيها.

    3. موت حنانيا وسفيرة لأنّهما كذبا على الروح القدس (5: 1-11)، لبثّ روح المخافة مع الحب الإلهي الفائق، فلا تمتد يد المؤمن لتفسد مقدّسات اللَّه وتستخف بحبّه.

    4. انفتاح أبواب السجن أمام الرسل (5: 19-20)، إذ لا يمكن للعالم بكل طاقاته أن يكتم كلمة اللَّه.

    5. رؤيا إستفانوس للسماوات المفتوحة أثناء رجمه (7: 55)، تعلن مساندة السيّد المسيح نفسه للشهود الأمناء له.

    6. ظهور السيّد المسيح لشاول الطرسوسي وهو في طريقه إلى دمشق (9: 1-6)، ليشهد له أمام الأمم، ويُسرّ بشركة الآلام مع مخلّصه للتمتّع بقوّة قيامته.

    7. إعادة البصر لشاول (9: 15-22)، ليُدرك تمتّعه بالبصيرة الداخليَّة ويعتزّ بها.

    8. رؤيا كرنيليوس (10: 1-8)، ليصير شاهدًا على محبّة اللَّه لكل الأمم بلا محاباةٍ.

    9. رؤيا بطرس الرسول (10: 9-48)، ليحرره من حرفيّة الناموس التي تقف حجابّا حاجزًا للخدمة بين الأمم.

    10. نبوّة أغابوس عن المجاعة (11: 28)، لكي يشترك المؤمنون بالحب العملي في مساندة إخوتهم المحتاجين.

    11. انطلاق الرسول للخدمة بعد رجمه مباشرة (14: 19-20)؛ لا توجد قوّة ما تعوق الشهادة للقائم من الأموات.

    12. رؤيا بولس الرسول عن المكدوني الذي يطلب العبور إليه (16: 9)، لكي يعبر الإنجيل إلى قارة أوربّا.

    13. الزلزلة وفتح أبواب السجن وسقوط القيود في سجن فيلبّي (16: 25-31)، غايتها الإعلان عن استجابة السماء للمسبحين، وقبول السجّان وأهل بيته الإيمان.

    14. سقوط أبناء سكاوا اليهودي السبعة في خزي وفضيحة عندما أرادوا إخراج الروح الشرّير باسم يسوع الذي يكرز به بولس (19: 13-16)، لإعلان عدم إساءة استخدام اسم يسوع، فإنّه يعمل خلال المؤمنين به، الصادقين في إيمانهم.

    15. نبوّة أغابوس عمّا سيحلّ بالرسول بولس في أورشليم (21: 10-14)، ليكشف اللَّه عن تسليم بولس الرسول حياته، وعن استعداد الرسول أن يموت من أجل المسيح، كما تكشف عن مشاعر الحب المتبادل بين الخدّام والشعب في المسيح يسوع.

    16. لم تصب لدغات الحيّة حياة الرسول بولس (28: 3-5)، لكي يؤمن أهل الجزيرة بالسيد المسيح الحافظ خدّامه.

    17. يسند الرب رسله وخدّامه بالآيات لا لهدف سوى الشهادة لعمل المسيح الخلاصي.

    خلال بطرس الرسول شًفي الأعرج (ص 3)، وبظلّه شُفي مرضى كثيرون (5: 15-16)، كما شفى المفلوج إينياس (9: 33-34)، وأقام طابيثا من الموت (9: 36-40).

    صنع القدّيس إستفانوس عجائب وآيات (8: 6-7، 13)، وأيضًا القدّيسان بولس وبرنابا (14: 3).

    وأورد السفر بعض المعجزات والآيات التي تمّت على يديّ بولس الرسول، مثل ضرب عليم الساحر بالعمى لمقاومته للكلمة (13: 11)، وشفاء المُقعد من بطن أمّه في لسترة (14: 10)، وإخراج روح شرّير من عرّافة في فيلبّي (16: 18). وفي أفسس "كان اللَّه يصنع على يديّ بولس قوّات غير المعتادة (19: 11-12). وفي ترواس أقام الشاب أفتيخوس من الموت (20: 10-12)، وفي جزيرة مليطة شفى أبا بوبليوس مقدّم الجزيرة (28: 8-9).

    أقسام السفر

    1. الإعداد لقيام الكنيسة ص 1-2.

    2. الشهادة في أورشليم ص 3-7.

    3. الشهادة في اليهودية والسامرة ص 8-9.

    4. الكرازة إلى أقصى الأرض ص 10-28.

    أولاً: رحلات القدّيس بولس الكرازيّة:

    ا. رحلة القدّيس بولس التبشيريّة الأولى (1400 ميلاً) 13-15.

    ب. رحلة القدّيس بولس التبشيريّة الثانية (2800 ميلاً) 16-18.

    ج. رحلة القدّيس بولس التبشيريّة الثالثة (2800 ميلاً) 18: 24-21: 16.

    ثانيًا: أسر القدّيس بولس:

    ه. أسره في أورشليم 21: 17-23: 35.

    و. أسره في قيصريّة 24-26.

    ز. أسره في روما 27-28.

    العظات والكلمات الواردة في السفر

    الرسول بطرس (أع 1 ؛2 ؛ 3؛ 4) ؛ الرسولان بطرس ويعقوب (أع 15)؛ غمالائيل (أع 5) استفانوس الشماس (أع 7)؛ الرسول بولس (أع 13؛ 14؛ 17؛ 20؛ 22؛ 24؛ 26؛ 28)؛ كاتب مدينة أفسس (أع 19)، ترتلوس (أع 24).

    أما الخطوط العريضة لأهم هذه الكلمات فهي:

    1- السيد المسيح مركز النبوات، يقيم خيمة (مملكة) داود الساقطة

    2- صلب المسيح وقيامته وصعوده كسر خلاص للعالم.

    3- دعوة للتوبة والرجوع إلى المسيح الذي صلبوه.

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2005
    المشاركات
    982
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    ما الغرض من هذا الموضوع؟؟

  6. افتراضي

    ما الغرض من هذا الموضوع؟؟
    2
    شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

  7. #7

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مشرف 4 مشاهدة المشاركة
    ما الغرض من هذا الموضوع؟؟
    توضيح عقيدة النصارى في كتبهم

    وكشف مايخفون من اسرار كتبهم حول كتابتها وغيرها من هالامور

    معلومات عامة
    التعديل الأخير تم 10-25-2010 الساعة 09:31 PM

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. مقدمة في علم الحديث
    بواسطة أبحاث أحمد في المنتدى قسم السنة وعلومها
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05-01-2014, 05:02 PM
  2. قرآني... ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همّي...
    بواسطة $&@$$@@ في المنتدى قسم الحوار العام
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 09-15-2012, 09:13 AM
  3. مقدمة في دراسة الأديان
    بواسطة بكار في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 03-10-2010, 07:59 AM
  4. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 01-06-2009, 01:43 AM
  5. مقدمة تعارف
    بواسطة The Lost في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 15
    آخر مشاركة: 08-09-2008, 09:51 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء