لم يتفق المهتمون بالحداثة على تعريف لها مما يولد لدينا تصورا بأن الحداثة مفهوم غامض يفسره كل شخص أو كل مجموعة أشخاص حسب ميولهم واتجاههم ورغم ذلك سوف أعمد إلى عدد من التعريفات والتعليقات المتعلقة بالحداثة في نظر المهتمين بها إيجابا وسلبا. يقول الدكتور جابر عصفور - وهو أحد المحسوبين على الاتجاه الحداثى - : الحداثة تعني الصياغة المتجددة للمبادئ والأنظمة التي تنتقل بعلاقات المجتمع من مستوى الضرورة إلى الحرية، ومن الاستغلال إلى العدالة، ومن التبعية إلى الاستقلال ومن الاستهلاك إلى الإنتاج، ومن سطوة القبيلة أو العائلة أو الطائفة إلى الدولة الحديثة، ومن الدولة التسلطية إلى الدولة الديموقراطية. والحداثة تعني الإبداع الذي هو نقيض الاتباع، والعقل الذي هو نقيض النقل.
ويُعَرّفها أحد الباحثين بأنها : مفهوم متعدد المعاني والصور، يمثل رؤية جديدة للعالم مرتبطة بمنهجية عقلية مرهونة بزمانها ومكانها. ويذكر بعض الحداثيين أن " معالم الحداثة تتحدد بعلاقتها التناقضية مع ما يسمى بالتقليد أو التراث أو الماضي، فالحداثة هي حالة خروج من التقاليد وحالة تجديد " ومن أهم خصائص الحداثة في نظر الحداثيين ما يلي:
1. أنها تعني سيادة العقل.
2. أنها تتعارض مع كل ما هو تقليدي، فهي تنفي كل الثقافات السابقة عليها.
3. أنها تعني التغيير المستمر، وإن كان هذا التغيير يؤدي في كثير من الأحوال إلى أزمات داخل المجتمعات التي تجد نفسها مضطرة إلى مراجعة القديم على أساس من العقلانيّة، والعقلانية هي التي تؤدي إلى الحداثة وليس العكس.
4. تقرر الحداثة أنّ الحقائق تستمد قيمتها من كونها نتاجاً للعقل البشري، وتقرر أيضا حرية الاختيار للقيم والأساليب، ومن ثم فهي تُحل العلم محل الإله.
والحاصل أن الحداثة تبرز في أهم خصائصها في الثورة على القديم الموروث أيًا كان مصدره وأيًّا كانت قيمته ، ولو كانت هذه الثورة انتقائية لقلنا: مرحبا بالحداثة لكن الحداثيين أساءوا إليها حين مَسُّوا بفكرهم ثوابت الأمة وهويتها وأرادوا أن يطبقوا أفكارهم الحداثية على القرآن الكريم حيث نظروا إليه على أنه مجرد نص لغوي لهم أن يفهموه في ضوء حداثتهم فهما يناقض فهم الأولين له ، ويتعارض مع الأسس الإسلامية الثابتة ، ولا يتفق ومقاصد الشريعة ، وذلك لأن الحداثة تمخضت حتى اشتد أوارها في بلاد الغرب التي تختلف عنا تمام الاختلاف عقديا واجتماعيا وأخلاقيًّا....إلخ
بين الحداثة وتفسير القرآن الكريم:
بين الحين والآخر ينبري من يطالب بإعادة قراءة التراث مُخفيا حول مطالبته بذلك أهدافه أو معلنا بها ، وهي في أكثر أحوالها تنطوي على نوايا سيئة تتعدى البحث المجرد والدراسة إلى مهاجمة التراث عامة بما يحويه من موروثات دينية يفعلون ذلك تقليدا للغرب ونسوا أنه ليس كل ما يصلح للغرب تجاه موروثاتهم يصلح لنا لأن موروثنا يندرج فيه الكتاب والسنة الصحيحة ، ومن ثَم فليس من حقنا التعامل معه على إطلاقه كما يتعامل الغرب مع موروثه، فالموروث الغربي لا قدسية له لأنه من صنع البشر والتراث الإسلامي يحتاج إلى تفصيل فما كان مصدره الوحي فله كامل التقديس وما كان من عند غير الله فليست له قدسية ويمكن إخضاعه لقوانين الحداثة.
وفي مجال التفسير يزعم الحداثيون أنّ النص القرآني ليس حكراً على الإسلاميين، وأن بإمكان كل إنسان أن يفسر القرآن، وأن يجتهد في الدين.
ولهم في النظريات الغربية التي افترضت موت المؤلف ، وما يعرف بالنص المفتوح ما يجترئون به على دراسة النص القرآني بمعزل عن القواعد التي مضى عليها علماء التفسير والتي تعتمد إلهية النص القرآني.
ويزعم الحداثيون أيضا أن النص القرآني جاء لزمن معين، ومن ثم فإنه ينبغي أن نفسره على ضوء الواقع التاريخي، هكذا يزعمون ولا شك أنهم يقصدون بذلك أن يترك لهم مطلق الحرية لإسقاط آرائهم ووجهات نظرهم على النص، فيكون لهم حرية تأويله بعيداً عن دلالات النصوص القطعيّة والظنيّة ، فإذا ما كانت هذه نظرتهم إلى النص القرآني الذي هو في نظرهم مجرد نص لغوي ، فكيف يؤتمنون على تفسيره ؟ وكيف نقبل منهم انحرافاتهم في تفسير القرآن الكريم.
وإذا ما بان لنا سوء نية الحداثيين في إقحامهم آراءهم في تفسير القرآن الكريم وبان لنا أيضًا فساد منهجهم الذي يعتمد على أصول لا تتفق وقدسية القرآن الكريم أقول:إذا ما بان لنا ذلك وضح أن هذا المنهج الحداثي لا يصلح لتفسير القرآن الكريم فما فسد أصله فسد فرعه.
ولا يعني رفضنا لإقحام الفكر الحداثي في التفسير أن ننحى بعيدا عن كل محاولة لتجديد التفسير وتحديثه في ضوء الأصول الإسلامية فهناك فرق بين حداثة التفسير التي تعني استعمال الفكر الحداثي الغربي في تفسير القرآن الكريم ، وبين تحديث التفسير الذي يؤكد حقيقة أن القرآن الكريم صالح لكل زمان ومكان ، وأن كلَّ مؤهل في كل عصر يستطيع أن يستنبط من آيات القرآن الكريم ما لم يسبقه به من قبله. وقد دلّل على ذلك أيما تدليل أولئك المخلصون من علماء الطبيعة والفلك والطب والجيولوجيا وغيرهم ممن اشتغلوا بالتفسير العلمي للقرآن الكريم ، وبإبراز هذا الجانب الذي لم يكن الأوائل يعرفون عنه شيئا ،وإن كنا نمقت في هذا الجانب تلك المغالاة التي بدأت تضيع معها هيبة كلمة " إعجاز " حيث راح كل مانبرت له فكرة أو طرأ على ذهنه فهم يطلق عليه إعجازا.

تساهل كتب التراث الإسلامي
" دعوة لنقد الذات "

حق على كل مسلم غيور على دينه أن تثور ثائرته وتغلي دماغه ويتزلزل كيانه حينما يقف على تجاوزات الحداثيين في نظرتهم التجريدية للقرآن الكريم من كينونته المقدسة ومصدره الإلهي وهم وإن كانوا ينطلقون من مفهوم قد استقر لديهم هو بشرية القرآن وكونه – على حد زعمهم وتعبيرهم – نصا ثقافيا تاريخيا قد تجاوزه حاضر الناس وتفوق عليه التقدم الذي نالته البشرية الحديثة بابتعادها عن قيود الدين وتخلصها من تأثير تخديره للعقول .
غير أننا لا نتسامح مطلقا عندما نجد في كتب التراث من الأقوال ما يشتم منه من قريب أو بعيد رائحة تسلب القرآن الكريم شيئا من مكانته فضلا عن أن توحي للآخر بما يؤيد نظريته ونظرته للقرآن المجيد.
ولست أكتم سرا كما لا أبوح بجور عندما أعلن إعجابي بكتابات بعض الحداثيين والجهد المبذول في خدمة قضيتهم وكيف أنهم يتعبون وينظرون ويستنتجون حيث يديرون المسائل ويسوسنها للوصول إلى غاية هم يريدونها بينما نرى في كتابات الإسلاميين فرارا واستسهالا فكل ما يرجوه كثيرون من كتابنا هو وصولهم إلى قال فلان وارتأى علان ورد عليه فلان آخر وأين كاتبنا من ذلك كله ؟
لقد اكتفى من القافلة بجرعة ماء وكسرة خبز.
{ وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً } النساء: 104
إن تراثنا غال عال لكنه بحاجة إلى تنقية ، وعلماؤنا أجزل الله مثوبتهم لم يقصروا لكنهم في كثير من أفكارهم راعوا عصورهم وزمانهم وأعيانهم وجغرافيتهم وأين نحن من ذلك كله ؟
هل يعقل على سبيل الثال أن يُستمَر في التمثيل للوطء بشبهة ويُكتفَى بهذا المثال الذي يتردد من لدن بدايات كتابة الفقه حتى عصرنا الحاضر وهو دخول رجل غرفة نومه فوجد امرأة أخرى نائمة فظنها زوجته فجامعها فهل يعد هذا زنا أم وطئا بشبهة؟
هل يعقل أن يظل هذا المثال جاثما على الصدور وقد تجاوزه الزمن حيث صار الضوء يشعل بالغرفة بمجرد الضغط على زر ؟
وكأنه قد عدمنا فقها من التمثيل بأمثلة فرضية يقبلها العقل ويستسيغها الذوق في عصرنا هذا.
لماذا نصر على أن نعيش في زمن غير الزمن وعصر غير العصر ؟
وذات الأسى يعتريني عندما أقرأ هذا المثال الرئيس لفقه الضرورة وهو أنه لو تاه أحد في الصحراء وفقد الماء ولم يجد إلا خمرا فهل يشربه ليقيم حياته أم يحجم فيهلك ؟
هذه أمثلة موجودة في كتب التراث وكانت مقبولة لزمانه لأنها تتلاءم مع ظروف المجتمع الذي قيلت فيه وله ، لكن أن تعقم العقول عن افتراض أمثلة تمضي مع نفس الفكرة على صورة تتلاءم مع زماننا فهذا قصور لا يغتفر لعلماء المسلمين في عصرنا.
أقول هذا لأنني استمعت منذ عدة أيام لعالم كبير ومفت لدولة إسلامية يتناول بعض هذه الأحكام ممثلا بنفس الأمثلة التي كتبت قبل ما يزيد على ألف سنة .
وفي مجال علوم القرآن نقرأ في أهم كتب التراث عبارات لا تتفق وقدسية القرآن الكريم تحتاج إلى مراجعة الباحثين للتنبيه عليها وأكتفي هنا ببعض الأمثلة التي أهدف من ورائها إلى لفت الأنظار إلى ضرورة مراجعة كتب التراث لتنقيتها مما لا يتفق وقدسية القرآن الكريم .
1- قال صاحب الإتقان وهو بصدد الحديث عن نزول القرآن الكريم على النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤدي إلى سلب القرآن أخص خصائصه وهو كونه منزلا من عند الله لفظا ومعنى قال:
في المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقوال:
أحدها:أنه اللفظ والمعنى وأن جبريل حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به.
وذكر بعضهم أن أحرف القرآن في اللوح المحفوظ كل حرف منها بقدر جبل قاف وأن تحت كل حرف منها معاني لا يحيط بها إلا الله. ( جبل قاف هو الجبل الأسطوري الذي نقلت لنا سقيم الروايات أنه يحيط بالأرض قال القرطبي : قال ابن زيد وعكرمة والضحاك: هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء أخضرت السماء منه، وعليه طرفا السماء والسماء عليه مقبية، وما أصاب الناس من زمرد كان مما تساقط من ذلك الجبل. )

والثاني: أن جبريل إنما نزل بالمعاني خاصة وأنه صلى الله عليه وسلم علم تلك المعاني وعبر عنها بلغة العرب وتمسك قائل هذا بظاهر قوله تعالى " نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ " الشعراء: 193 ، 194

والثالث: أن جبريل ألقى غليه المعنى وأنه عبر بهذه الألفاظ بلغة العرب وأن أهل السماء يقرءونه بالعربية ثم إنه نزل به كذلك بعد ذلك.
والسيوطي ينقل ذلك متابعا البرهان للزركشي فهل يليق أن يدون هذا الكلام في أهم كتب التراث ؟ ثم هل يليق بنا أن نقرأ هذا الكلام ولا ننبه على ما فيه من خطورة ثم نعلمه لطلابنا وهم بدورهم سيعلمونه لطلابهم وهلم جرا ؟
2- ونقل السيوطي وهو بصدد الحديث عن الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض سور القرآن الكريم عن الخويبي ما يوحي بأن هذه الحروف ليست مقصودة لذاتها بل قصد بها إيقاظ النبي صلى الله عليه وسلم وتنبيهه لسماع القرآن والتهيؤ له وقال في ذلك:
وقال الخويبي: القول بأنها تنبيهات جيد لأن القرآن كلام عزيز وفوائده عزيزة فينبغي أن يرد على سمع متنبه فكان من الجائز أن يكون الله قد علم في بعض الأوقات كون النبي صلى الله عليه وسلم في عالم البشر مشغولًا فأمر جبريل بأن يقول عند نزوله: الم ، والر ، وحم ، ليسمع النبي بصوت جبريل فيقبل عليه ويصغي إليه قال: وإنما لم يستعمل الكلمات المشهورة في التنبيه كألا ، وأما لأنها من الألفاظ التي يتعارفها الناس في كلامهم والقرآن كلام لا يشبه الكلام فناسب أن يؤتى فيه بألفاظ تنبيه لم تعهد لتكون أبلغ في قرع سمعه أ.هـ
ناهيكم عن موضوعات أخرى تحتاج إلى إعادة قراءتها من جديد بفهم ووعي مستساغ ينزه القرآن الكريم عما لا يليق به ، ويقصي عنه ما لا فائدة فيه ككلام العلماء عما تكرر نزوله وما تأخر حكمه عن نزوله ، والمبالغة الواضحة في عرض قضايا النسخ ، والإسهاب المفرط في سرد المنسوخ من الآيات حتى ألفينا في هذا الباب كتبا ضخمة تحمل عنوان " الناسخ والمنسوخ في القرآن " ، وكذلك تلك الروايات السقيمة التي يأباها إيماننا وثقتنا بالكتاب العزيز التي ذكرها العلماء في باب جمع القرآن ، وسقوط بعض العلماء في القول بالسجع المقصود ونحو ذلك.
كل هذا يحتاج إلى مراجعة من الباحثين المتخصصين .