الزميل بسام تحية طبية،
تقول: "لا يبدو لي ما طرحه الزميل عبد الواحد أكثر من ولع بالمصطلحات".. والحقيقة يا زميلي أن الناس أعداء ما جهلوا، ووضعك لكل المصطلحات في سلة واحدة ربما يرجع سببه الى عدم ضبطك لتعريف التناقض، وهو كالتالي:
• تعْرف التناقض -في جدول الحقيقة- عندما تحصل في جميع الحالات على النتيجة (خطأ) أي FFFF ، وهذه حالة واحدة فقط من بين 16 حالة هي جميع التوليفات التي باختلافها تختلف العلاقة المنطقية بين الجملة P والجملة Q. ولأن جميع مداخل خانة التناقض هي خاطئة.. إذاً (احتمال تحقق التناقض) يساوي صفر.. ومن هنا أتى (مبدأ عدم التناقض) الذي يفيد استحالة ظهور التناقض في أرض الواقع.
• وإذا كان التناقض هو علاقة بين boolean expressions أي (جمل مفيدة تقبل الصح أو الخطأ) ، فإن التضاد يكون بين (عناصر أو قوى في فضاءاتها)! ولذلك توجد في الطبيعة (قوة مضادة) لكن لا يوجد شيء اسمه (قوة مناقضة) فهذه العبارة لا معنى لها ولن تجدها في الفيزياء. ولو قلتُ لك: "قوة الجاذبية" وسكتُ! فماذا ستفهم؟ لا شيء! لأن القوة في حد ذاتها ليست جملة مفيدة يمكن تقييمها في جدول الحقيقة. بل لا بد أن تُدخلها في جملة لها معنى قبل أن تبحث لها عن نقيض! وهذا يكفيك للتمييز بين التناقض من جهة وبين التضاد الذي ليس له أصلاً خانة خاصة به في جدول الحقيقة! فتأمل مدى الخلط الذي تغرق فيه!
• ومن الخطأ القول: "مادام الذي له ضد عندما يدخل في الجملة يصبح له نقيض، إذاً الضد والنقيض وجهان لعملة واحدة".
في هذا القول مغالطة تتضح في المثل التالي:
(الجيش الأول قام بالهجوم1) و (الجيش الثاني قام بالهجوم2) ... إذاً هناك هجوم وهجوم مضاد.
- لكن: نقيض ( الجيش الأول قام بالهجوم1 ) ليس ( الجيش الثاني قام بالهجوم2 )
- بل: نقيض ( الجيش الأول قام بالهجوم1 ) = هو ( الجيش الأول لــــــم يقم بالهجوم1 ) أصلاً!
والصورة التالية توضح الأمر أكثر وتساعدك على "ضبط البوصلة"..
• وكما قال الأستاذ الحبيب ناصر الشريعة: ("لا يلزم من إثبات الضد نفي الشيء ولا إبطاله، والتفريق بين النقيض والضد مهم جدا في هذه المسالة").
والتفريق مهم في هذا الموضوع أيضاً يا سيد بسام حتى تميز بين (الممكن) وبين (المستحيل)، وتميز بالتحديد بين (إمكانية التضاد) وبين (مبدأ عدم التناقض).
- فالتناقض لا يعرفه الواقع لأنه: يلزم من إثبات صحة أية حقيقة إبطال نقيضها.
- أما التضاد فممكن عقلاً لأنه: لا يلزم من إثبات وجود الشيء نفي وجود ضده.
• أيضاً يجب التمييز بين (أساليب اللغة والبلاغة والإيجاز والإطناب .. ) وبين (القواعد والتعريفات المنطقية "الصارمة") التي لا تتغير بتغير اللغات والألسن. يمكن في تعبيراتنا اليومية القول مثلاً أن (الموت) هو نقيض (الحياة) ولا مشكلة في ذلك أبداً ما دام المقصود -بعيدا عن أي مجاز- أن صفتي الموت والحياة لا تجتمعان في نفس الكائن.. أي أنك في الحقيقة تقارن بين الجملة P = (شخص ميت) وبين الجملة Q = (نفس الشخص حي)! أما إن كان فهمك من الصيغة المختصرة أنه يجوز الحكم منطقيا على الصفة مجردة من موصوفها.. فإعلم أنه لا يُتصور عقلاً قيام الصفة بذاتها دون موصوف، وبالتالي لا يمكن تقييم (الصفة) في جدول الحقيقة دون تحديد الموصوف ، لأنه لا معنى للقول أن (الحياة خطأ) أو ( الحياة صح)!
التلاعب بهوية الموصوف هو تلاعب بجدول الحقيقة
لو قارنت بين الجملة Q =(عدنان حي الآن) وبين الجملة P =(عباس ميت الآن).. فستحصل في جدول الحقيقة على النتيجة (TFFF) وهذه تفيد Logical conjunction وليس Contradiction ! وهذا الأخير أي التناقض تحصل عليه عندما تفترض أن (عدنان) هو (عباس)! ومن يعلم هذه الأمور الأساسية- بالدراسة أو حتى بالفطرة- لا يدعي أن القول بأن (الخروف النباتي) يناقض القول بأن (الذئب الغير نباتي). التناقض الحقيقي هو أن يكون الخروف نفسه غير نباتي، وليس حيوان آخر. أما المقارنة بين (الصفة) و (نقيضها) دون تحديد الموصوف..لن يقودك الى نتجية واحدة، لان النتيجة تتغير بتغير هوية الموصوف! وبيني وبين جدول الحقيق.. أتحداك أن تشرح كيف حصلت على النتيجة (FFFF) بمقارنتك بين (الخروف النباتي) وبين (الذئب الغير نباتي). دعك من الكلام الفلسفي بل أرسم الجدول نفسه وضعه هنا!
• أما الخلط بين النقيض والسالب فقصة أخرى.. حيث تقول أن "النقائض قد تتعايش كالسالب والموجب"! ولا أدري من أخبرك يا زميلي أن (للقيمة) نقيض أصلاً؟ هنا أيضاً عليك أن تُدخل (القيمة) في جملة مفيدة قبل أن تبحث لها عن نقيض. وحينها أسألك متى كان (عدم امتلاكك لــ5$) = (دليل أنه عليك دين قيمته 5$)؟ ومتى كان (نفي وجود خمسة شحنات موجبة) دليل على (وجود خمسة شحنات سالبة)؟ ومتى كان (نفي سير النيزك في الاتجاه الفلاني) دليل على (سيره في الاتجاه المعاكس بالتحديد دون بقية الإتجاهات)؟
• ومصيبة أخرى أن تدعي أن التنوع داخل النسق هو تناقض! لو كان الأمر كما تقول، لكان كل كلامك سلسلة من التناقضات بعدد جملك المختلفة التي تتطرق الى مواضيع متنوعة. ولكان لزاما على من يرغب في الحفاظ على نسقه الفكري أن يكتب جملة واحد فقط يكررها طوال حياته. أما إن قال (التوت أحمر) و (النعناع أخضر) ثم قال (السلام عليكم).. حينها وحسب منطقك العجيب عليك أن تتهم الرجل بأنه ناقض نفسه ثلاث مرات. لماذا؟ لان التنوع عندك تناقض!
كيف يُدرك العقل مفهوم التناقض؟
بدون فهم المقاربة التي يلجأ إليها العقل لإدراك التناقض لن تصل الى أية نتيجة سليمة.
فعلاوة على قدرة العقل على التفكر في الصفات بتجرد
فإنه يستطيع أيضاً إدراك التناقض بعد تجريد الكون من أحد أبعاده الزمكانية.:
• التجرد من البُعد المكاني:
لا يوجد تناقض بين (المصباح يضيء المكان الأول الآن) وبين (المصباح لا يضيء المكان الثاني الآن)...
لكن بإلغاء عامل المكان.. تحصل على تناقض بين (المصباح يضيء الآن) وبين (المصباح لا يضيء الآن)
• التجرد من البُعد الزمني:
لا يوجد تناقض بين (المصباح يضيء الغرفة الآن) وبين (المصباح لا يضيء الغرفة البارحة)...
لكن بإلغاء عامل الزمن تحصل على تناقض بين (المصباح يضيء الغرفة) وبين (المصباح لا يضيء الغرفة)
إذاً في جميع الأحوال التناقض الذي يدركه الإنسان لا وجود له إلا في كون نظري مجرد من بعض أبعاده.
وبصفة أعم يمكن في أي فضاء رياضي إظهار التناقض بإلغاء بُعد أو أكثر، وتحييد التناقض بإضافة بُعد أو أكثر!
• وإذا لم تستوعب يا زميلي حقيقة الإشكال الى الآن.. .
السؤال عن قدرة العقل على إدراك التناقض، هو سؤال عن قدرته على التجرد من أبعاد الكون.
فهل المادة تستطيع الخروج من واقعها والتجرد من الأبعاد الزمكانية التي تحكمها؟
أصل الخلل في كل كلامك.
أصل الخلل يمكن في خلطك بين (الواقع كما هو حيث لا توجد صفات قائمة بذاتها) وبين (الصفة المجردة من موصوفها)! أي أنك حكمتَ على حالة مجردة في الذهن متوهما أنك تحكم على حقيقة الحالة كما هي في الطبيعة! وهذا خير مثال على عدم فهم الملحد لتلك "الموضوعية المادية" التي ينادي بها!. ونفس الخلل يتكرر عندما تصف (الكون مجرداً من أحد أبعاده) متوهما أنك تصف (الكون بكل نسيجه الفيزيائي). وما دمتَ تنسب التناقض "للحركة".. إذاً أنت متناقض لأنك تارة تقول (أنك في العمل) وتارة تقول (أنك في البيت).. فكيف ستدافع عن نفسك؟ المتوقع أنك ستنفي عن نفسك التناقض وتقول أنك تعمل في الصباح ثم تذهب للبيت في المساء! إذاً يمكنك أن تنفي التناقض عن نفسك بالإشارة الى عامل الزمن الذي هو جزء من النسيج الكوني، ويمكنك أن تنسب "للحركة" تناقضاً وهمياً بتحريفك للواقع وإلغائك لعامل الزمن رغم أنه جزء من النسيج الكوني.
النظرة "المطلقة" للتناقض
الطريفة في الأمر يا زميلي أنك تنصح أن يُنظر الى التناقض "بنظرة مطلقة". وغفلتَ أن تلك النظرة التي تدعو إليها تتعارض مع النظرة الموضوعية التي يُفترض أن تصف الكون كما هو بكامل نسيجه الفيزيائي بما في ذلك الزمكان الذي يدخل في المعادلات التي تحكم المادة. ولا عيب في تجريد المادة من أحد أبعادها ما دمتَ تدري أن تلك النظر لا تمثل الحقيقة! لكن مشكلتك أنك لا تدري! لا تدري أن تلك "النظرة المطلقة" كما شرحتَها تتعارض مع النظرة الموضوعية للواقع! لأنه في الواقع لا توجد أحداث دون زمن حتى تنسب للحركة التناقض!
ماذا لو سلمت لك بتعريفك الخاص للتناقض؟
الترجمة السليمة لــ the unity and struggle of opposites هي {وحدة وصراع الأضداد} وليست {وحدة وصراع المتناقضات}! فالأضداد تتصارع في الواقع ولا تفيد الاستحالة أما المتناقضات فتتصارع فقط في الذهن كما تم إثباته بالتفصيل الممل! فأنظر هل العيب في هيجل الذي ربما لم يكن يميز بين الخانات الـ16 في جدول الحقيقة أم العيب في من ترجموا عنه من الألمانية الى لغة أخرى الى أخرى الى العربية، وفي جميع الأحوال لستَ مضطرا للدخول في دوامة شبيهة "بتفسير الترجمات المختلفة للإنجيل".. فلن ينقلب الباطل حقاً تبعا لهوية من لم يقتني مصطلحاته بعناية! فأنت حر في القول أن لك تعريفك الخاص للتناقض وأن لصاحبك توظيفه الفلسفي الخاص للمصطلحات، وأنه حتى أفهم كلام أي كاتب لا بد أن أفهم تعريفاته. هذا صحيح إذا كنت تريد دراسة منهج شخص بعينه وتفهم أسلوبه وقصده. لكن السؤال لم يكن عن كيفية إدراك دماغك لما قصده "هيجل".. بل سألتك كيف أدرك دماغك التناقض كما هو معرّف في (الرياضيات/والمنطق) بالتحديد، لأنه المجال الوحيد الذي تتفق حوله مع من يختلف معك في العقيدة والفلسفة وفي الأخلاق..! أسألك بالتحديد كيف أدرك دماغك (مبدأ عدم التناقض) المرتبط بماشرة بالتعريف التالي:
يُتبع....
Bookmarks