هذا وجه من وجوه الدلالة على صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
وهو وجه يغيب عن كثيرين رغم أنه من أقوى ما يؤسس اليقين بهذه النبوة ..
فأنت إن وقع لك الشك في شخص معين ، أنه نبي أم لا ، فلا يحصل اليقين إلا بمعرفة أحواله ..
وهذا يكون إما بالمشاهدة ، أو بالتواتر والتسامع ..
فإنك إذا عرفت الطب والفقه ، يمكنك أن تعرف الفقهاء والأطباء ..
بمشاهدة أحوالهم ، وسماع أقوالهم ، وإن لم تشاهدهم ..
ولا تعجز أيضاً عن معرفة كون الشافعي رحمه الله فقيهاً ، وكون جالينوس طبيباً ، معرفة بالحقيقة لا بالتقليد عن الغير ..
بأن تتعلم شيئاً من الفقه والطب وتطالع كتبهما وتصانيفهما ..
فيحصل لك علم ضروري بحالهما ..
فكذلك إذا فهمت معنى النبوة فأكثرت النظر في القرآن والأخبار ..
يحصل لك العلم الضروري بكونه صلى الله عليه وسلم على أعلى درجات النبوة ..

وسوف أعضد ذلك بتجربة ما قاله في العبادات وتأثيرها في تصفية القلوب ..
وكيف صدق صلى الله عليه وسلم في قوله :
(( من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه ))
وكيف صدق في قوله :
(( من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ومن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عليه وأرضى عليه الناس ))
وكيف صدق في قوله :
(( إن الصدق يهدي إلى البر .. وإن الكذب يهدي إلى الفجور .. ))
وكيف صدق في قوله :
(( وما ظهرت الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها ، إلا وفشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم ))
وكيف صدق في قوله :
(( اتق دعوة المظلوم ، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب ))
وفي قوله :
(( واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ، واعلم أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا ))
وكيف صدق في قوله :
(( من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجًا ومن كل هم فرجًا ، ورزقه من حيث لا يحتسب ))
وغيرها من الأقوال المطابقة بين أحوال القلوب ووقائع الناس ..
فإذا جربت ذلك في ألف وألفين وآلاف ، حصل لك علم ضروري بأن هذا كلامٌ من مشكاة النبوة ..
فهذا دليلٌ قويٌ متينٌ لكن لا يمكنك ذكر مستنده على التعيين ..
لأن العلم به يحصل من اجتماع دلائل وقرائن عديدة ..
كما يحصل اليقين بالخبر المتواتر عن جماعة لا يمكن اجتماعهم على الكذب ..
فإن هذا اليقين لا يمكن أن يذكر أنه مستفاد من قول واحد بعينه ..
بل هو من جملة اجتماعهم على نقل هذا الخبر ..
كذلك في معرفة النبوة من هذا الطريق ..
فإنها تُعلم من اجتماع الدلائل والقرائن على كون كلام محمد صلى الله عليه وسلم من مشكاة النبوة ..
وأن جنس كلامه هو نفس جنس كلام الأنبياء الذي يدعون إلى الخير وينهون عن الشر ..
وأن كلامه فيه من مطابقة أحوال القلوب مع أحوال الناس ما يشير إلى مشكاة النبوة ..
والله أعلم .