الجزية: اسم لما يؤخذ من أهل الذمة، نظير حمايتهم والدفاع عنهم مأخوذة من قول العرب: جازيك فلان، أي: كافيك. وعلى هذا فالجزية هي ما تغني وتكفي أهل الذمة عن القتال والحروب للدفاع عن أوطانهم التي يعيشون فيها في ظل دولة الإسلام أو أنها مأخوذة من المجازاة بمعنى المكافأة ، وهي المقابلة من كل واحد من الطرفين ، وهذا المعنى يتوافر في معنى الجزية أيضا لأنها عبارة عن قيمة نقدية تدفع في سبيل قيمة أمنية توفرها الدولة لأبنائها المقيمين فيها أو أنها مأخوذة من الجزاء، لم لا وهي جزاء عن حفظ الأموال والأرواح
وقيل: إن هذا الاسم " معرب عن كلمة كزيت بالفارسية بمعنى الخراج " نقله المفسرون عن الخوارزمي،
( تفسير التحرير والتنوير عند تفسير الآية)

وقد علل أهل اللغة إطلاق اسم خراج على الجزية التي تؤخذ من أهل الذمة بأنها " كالغلة الواجبة على الأرض فيقال: أدى خراج أرضه، والذمى خراج رأسه
" ( تاج العروس للزبيدي مادة: خرج ).

والأصل في تشريع أخذ الجزية من أهل الذمة هو قوله تعالى:
{ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ 29 } ( سورة التوبة: 29 )
من دلالات الآية الكريمة
1- هذه الآية واردة في حق أهل الكتاب المعتدين الذين يعملون على الفت في عضد الدولة الإسلامية بدليل قوله { قاتلوا } ومثل هذا التعبير يفهم منه أن القتال هو واقع من طرفين وليس طرفا واحدا فهو لم يقل { اقتلوا } التي تشعر بالأحادية في إيقاع الفعل وذلك أن صيغة فاعَل تدل على المشاركة وأن معناها يقع عادة من طرفين على الأقل ومن الأمثلة على ذلك ( قاتل ، شارك ، ضارب ، جادل ) فكل ذلك يقع من طرفين في حالة أخذ ورد منهما جميعا وليس من أحدهما دون الآخر
2- وبجانب هذه المعاداة التي برزت إلى حد المقاتلة من قبل أهل الكتاب المذكورين تضيف الآية عددا من الأوصاف والخلال وهي عدم الإيمان بالله ورسوله وفي تصوري أن المراد بالرسول هنا هو رسول أهل الكتاب موسى عليه السلام بالنسبة لليهود وعيسى عليه السلام بالنسبة للنصارى ولا شك أن في اتباعهما اتباعَ الرسول صلى الله عليه وسلم ضرورة أنهما قد بشرا به وأخبرا عن أوصافه كما قال تعالى في سورة البقرة: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ 146 } فمن لوازم الإيمان بهذين الرسولين الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ثم ومن صفاتهم أيضا أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر وهم كذلك يحللون الحرام ولا يلتزمون بالدين الحق الذي ارتضاه الله تعالى لخلقه
3- بعد أن ذكرت الآية مقاتلة أهل الكتاب المعنيين للأسباب المذكورة جعلت لهذه المقاتلة غاية محددة وهي قوله { حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ } فـ " حتى " تفيد الغاية فالآية لم تغي الكلام بغاية أخرى قد تُتَوقع في أثناء الحروب فهي لم تقل مثلا: قاتلوهم حتى تُقطِّعوهم إربا إربا أو حتى تخرجوهم من ديارهم وأموالهم أو حتى تفعلوا بهم ما يفعله الأمريكان بأهل العراق والصهاينة بالفلسطينيين ومن قبلهم الصرب بالمسلمين ولم تقل كذلك: قاتلوهم حتى يُسلموا وإنما جعل الغاية أخذ الجزية.
ويالها من غاية فلعل الجزية المقصودة هي مال وفير قد يساعد على إثراء المسلمين ماديا وعلى الغنى السريع للدولة الإسلامية
بالطبع هذا ما سيدور بالأذهان عندما ننظر إلى تلك الغاية المذكورة وقد يفاجأ البعض عندما نستعرض معا قيمة هذه الجزية ونعرف أنها مقدار زهيد جدا يؤخذ في مقابل بذل عظيم من الدولة الإسلامية

4- لا تؤخذ الجزية إلا من القادر عليها لقوله { عن يد } أي عن قدرة على دفعها ومن ثم شهد التاريخ بأن كل من لم يستطع دفع الجزية من الذين كانت مفروضة عليهم قد أعفي منها كما سنعرف شيئا من ذلك عما قريب إن شاء الله تعالى واليد تطلق عند العرب ويراد بها القدرة على الشيء ومنه قوله تعالى في سورة الذاريات: { وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ 47 } أي بقدرة على بنائها وقيل: إن معنى { عن يد } أي يدفعها في وقتها يدا بيد نقدا غير نسيئة أي بلا تأخير ما دام قادرا على دفعها غير معوز ولا محتاج
5- يجب على من يعيش في دولة الإسلام من أهل الذمة أن يخلص لدولته وأن يخضع لنظامها وأن ينقاد له شأنه في ذلك شأن غيره من أبناء الدين الإسلامي الذين يجب عليهم الإخلاص أيضا لدولتهم ووطنهم ويدل لذلك قوله: { وَهُمْ صَاغِرُونَ } أي وهم خاضعون لسلطان الدولة منقادون له غير خارجين عليها لأن تشريع أي دولة وقانونها هو سلطان فوق الجميع مهما اختلفت الأديان أو الأيديولوجيات قال ابن القيم في كتابه ( أحكام أهل الذمة ) : والصواب في الآية أن الصغار هو التزامهم لجريان أحكام الملة عليهم وإعطاء الجزية فإن التزام ذلك هو الصغار أ.هـ
وعلى ذلك فدفع الجزية هو بمثابة إقامة الدليل على المسالمة من قبل دافعها على قبول العيش في ظل الدولة الإسلامية وعدم الخروج على قواعدها وقوانينها وأنظمتها كما هو حال الأقلية في ظل أي دولة من الدول يجب أن يحترموا دولهم التي يعيشون فيها كما يجب لهم المحافظة على كامل حقوقهم .
وقد أكد القرآن على ذلك بالنص في هذه الآية بقوله: { وَهُمْ صَاغِرُونَ } لئلا يُعتقد أنهم لمخالفتهم للمسلمين في الدين يجوز لهم الخروج على نظامه والتمرد على قوانينه وتشريعاته وقد ذكر اليازجي في كتابه " نجعة الرائد " أن الألفاظ َخَشَعَ ، وَخَضَعَ ، وَاسْتَقَادَ، وَتَصَاغَرَ هي ألفاظ مترادفة
وأما ما ذهب إليه بعض المفسّرين من أنّ المراد من الجزية في الآية هو تحقير أهل الكتاب وإهانتهم والسُخر منهم، فلا يستفاد ذلك من المفهوم اللغوي لكلمة الآية، ولا ينسجم وروح تعاليم الإِسلام السمحة، ولا ينطبق مع سائر التعاليم أو الدستور الذي وصلنا في شأن معاملة الأقليات. وما وقع من ذلك من بعض الولاة فهو خطأ تطبيقي ناتج عن سوء فهم النص القرآني من جهة وعدم الإلمام بالمقاصد العامة للشريعة المبنية على التسامح وقبول الآخر من جهة أخرى.
وهاهو القرآن يقول في سورة الممتحنة: { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ 8 إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 9 }

ممن تؤخذ الجزية؟

لا تؤخذ الجزية إلا من الصحيح المعتمل – أي الذي يعمل - من الرجال
ولذلك قيل في نصراني مرض السنة كلها فلم يقدر على أن يعمل وهو موسر أنه لا تجب عليه الجزية لأنها إنما تجب على الصحيح المعتمل . وكذلك إن مرض نصف السنة أو أكثرها فإن صح ثمانية أشهر أو أكثر فعليه الجزية ولأن المريض لا يقدر على العمل فهو خال من الغنى . وكذلك إذا مرض أكثر السنة أن الأكثر يقوم مقام الجميع . وكذلك إذا مرض نصف السنة أن الموجب والمسقط تساويا فيما طريقه العقوبة وكان الحكم للمسقط كالحدود
ومن ثم نعرف أنه لا جزية على صبي ولا امرأة ولا مجنون وهو مذهب الأئمة الأربعة وأتباعهم . بل قال ابن المنذر: ولا أعلم عن غيرهم خلافهم.
فإن حدث وبذلت امرأة الجزية من تلقاء نفسها وجب إخبارها بأنه لا جزية عليها فإن أصرت وقالت: أنا أتبرع بها قبل منها ولم تكن جزية ولو شرطته على نفسها ولها الرجوع متى شاءت.
وكان عمر رضي الله عنه قد كتب إلى أمراء الأجناد أن يقاتلوا في سبيل الله ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم ولا يقتلوا النساء ولا الصبيان ولا يقتلوا إلا من جرت عليه المواسي وكتب إلى أمراء الأجناد أيضا أن يضربوا الجزية ولا يضربوها على النساء والصبيان ولا يضربوها إلا على من جرت عليه المواسي . قال أبو عبيد يعني من أنبت
وكذلك أيضا لا جزية على شيخ فان ولا زمِن ولا أعمى ولا مريض لا يرجى برؤه بل قد أيس من صحته وإن كانوا موسرين وهذا مذهب أحمد وأصحابه وأبي حنيفة ومالك والشافعي فأما الرهبان فإن خالطوا الناس في مساكنهم ومعايشهم فعليهم الجزية.
ولا جزية كذلك على صحيح عاجز عن دفعها فلا واجب مع عجز ولا حرام مع ضرورة وقد قال الله تعالى: { اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا } ( سورة الطلاق: 7 ) وقال أيضا في خاتمة سورة البقرة: { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا }

مقدار الجزية:
ليت الذين يطبلون ويزمرون متهمين الإسلام بأنه عنصري وأنه مناهض لحقوق الإنسان ويتعللون بأشياء منها قضية الجزية ليتهم أن يتعلموا من تعاليمه السامية وآدابه الراقية فهاهي الجزية التي يثيرون حولها الزوابع قد عرفنا أنها لا تؤخذ إلا من فئة معينة من أهل الكتاب وعلى سبيل الجواز لا الوجوب وقد يزول كثير من سوء النظر عندما نعرف أن مقدار الجزية زهيد جدا ومع ذلك هي تتدرج إلى فئات ثلاث:

1- أعلاها وهي 48 درهماً في السنة على الأغنياء مهما بلغت ثرواتهم. ( وهي تقدر بـ 135.936 جراما من الفضة ) لأن الدرهم يساوي ( 2,832 جراما) وأوسطها وهي 24 درهماً في السنة على المتوسطين من تجار وزرّاع.
2- وأدناها وهي 12 درهماً في السنة على العمال المحترفين الذين يجدون عملاً.
وهذا مبلغ لا يكاد يذكر بجانب ما يدفعه المسلم من زكاة ماله فحسب، ولنذكر هذه المقارنة الواضحة:
لو أن هناك مسلماً غنياً يملك مليون درهم لوجب عليه في زكاة ماله خمسة وعشرون ألف درهم بنسبة اثنين ونصف بالمائة وهو القدر الشرعي لفريضة الزكاة.
ولو أن هناك جاراً له مسيحياً يملك مليون درهم أيضاً لما وجب عليه في السنة كلها إلا ثمانية وأربعون درهماً فقط.. أي أن ما يدفعه المسلم للدولة يزيد أكثر من خمسمائة ضعف على ما يدفعه المسيحي، فأين يكون الاستغلال في مثل هذا النظام؟!
ونعتقد أن في إسقاط الجزية عن الفقير والصبي والمرأة والراهب المنقطع للعبادة والأعمى والمقعد وذوي العاهات، أكبر دليل على أن الجزية يراعى فيها قدرة المكلفين على دفعها، كما أن تقسيمها على ثلاث فئات دليل على مراعاة رفع الحرج والمشقة في تحصيلها. وقد جاء في عهد خالد لصاحب قس الناطف: "إني عاهدتكم على الجزية والمنعة على كل ذي يد، القوي على قدر قوته والمقلّ على قدر إقلاله".
ومع ذلك يجوز أن تخفض نسبة الجزية هذه ويجوز أيضا أن يعفى عنها مراعاة لحال اليسار وعدمه أو لمصلحة أخرى.

الأنموذج الأمثل في علو الأخلاق والتسامح مقارنا بغيره:

1- كانت الجزية عن الأمم – سواء منها قبل الإسلام أو بعده – تفرض على المغلوبين للإذلال والامتهان، فهي بذلك تحمل معنىً بغيضاً من معاني الثأر والانتقام، ولكن الإسلام فرضها لحماية المغلوبين في أموالهم وعقائدهم وأعراضهم وكرامتهم، وتمكينهم من التمتع بحقوق الرعوية مع المسلمين الفاتحين سواء بسواء... ويدل على ذلك أن جميع المعاهدات التي تمت بين المسلمين وبين المغلوبين من سكان البلاد، كانت تنص على هذه الحماية في العقائد والأموال،
وقد جاء في عهد خالد بن الوليد لصاحب قس الناطف: "إني عاهدتكم على الجزية والمنعة.... فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا حتى نمنعكم". وقد ذكر الطبري في تاريخه هذه القصة كاملة فقال: ((ولما صالح أهل الحيرة خالدا خرج صلوبا بن نسطونا صاحب قس الناطف حتى دخل على خالد عسكره فصالحه على بانقيا وبسما وضمن له ما عليهما وعلى أرضيهما من شاطىء الفرات جميعا واعتقد لنفسه وأهله وقومه على عشرة آلاف دينار سوى الخرزة خرزة كسرى وكانت على كل رأس أربعة دراهم وكتب لهم كتابا هذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب من خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا وقومه إني عاهدتكم على الجزية والمنعة على كل ذي يد بانقيا وبسما جميعا على عشرة آلاف دينار سوى الخرزة القوي على قدر قوته والمقل على قدر إقلاله في كل سنة وإنك قد نقبت على قومك وإن قومك قد رضوا بك وقد قبلت ومن معي من المسلمين ورضيت ورضي قومك فلك الذمة والمنعة فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا حتى نمنعكم شهد هشام بن الوليد والقعقاع بن عمرو وجرير بن عبدالله الحميري وحنظلة بن الربيع وكتب سنة اثنتي عشرة في صف )) تاريخ الطبري 2 / 319

والواقع التاريخي لهذه المعاهدات يثبت بجلاء لا يحتمل الشك، أن المسلمين لم يأخذوا الجزية إلا على هذا المبدأ، وكلنا يعلم كيف رد خالد بن الوليد على أهل حمص، وأبو عبيدة على أهل دمشق، وبقية القواد المسلمين على أهل المدن الشامية المفتوحة ما أخذوه منهم من الجزية حين اضطر المسلمون إلى مغادرتها قبيل معركة اليرموك، وكان مما قاله القواد المسلمون لأهل تلك المدن: "إنا كنا قد أخذنا منكم الجزية على المنعة والحماية، ونحن الآن عاجزون عن حمايتكم فهذه هي أموالكم نردها إليكم".
2- إن الجزية عند الأمم السابقة لم تكن تمنع دافعيها من تجنيدهم في جيش الغالبين، وإراقة دمائهم في سبيل مجد الفاتحين وامتداد سلطانهم، فكانوا يدفعون الجزية ويساقون إلى الحرب مرغمين!.. ولكن الإسلام أعفاهم من الخدمة في الجيش ذهاباً منه إلى أن الجيش الإسلامي إنما يحارب لأداء رسالة التحرير الإسلامية إلى العالم، فليس من العدالة أن يجبر شعب لا يؤمن بمبادئ هذه الرسالة على تقديم شبابه وبذل دمائه في سبيلها!.. هذا هو التفسير الصحيح لإعفاء الذميين من الخدمة العسكرية في الجيش الإسلامي، لا كما يزعم بعض المتعصبين من أن ذلك لانتقاصهم وعدم أهليتهم لشرف الجهاد... ودليلنا على ما قلناه أن الذمي لو رضي أن يتطوع في الجيش الإسلامي، قُبل ذلك منه وسقطت عنه الجزية، ففي الجزية إذاً معنى "بدل الخدمة العسكرية" في عصرنا الحاضر.
3- لم تكن الأمم الغالبة تلتزم نحو الأمم المغلوبة بأي حق نحو الفقراء والعاجزين وذوي العاهات، بل كانوا يرهقونهم بالجزية والضرائب، ثم يتركون ذوي الحاجات منهم، بل يتركونهم عند الفقر بعد الغنى فريسة للحاجة والجوع والمرض، ولكن الإسلام أعلن تأمينه الاجتماعي للذميين سواء منهم من دفع الجزية ومن لم يدفع (لفقر أو صغر مثلاً) وهو يعتبرهم رعايا الدولة كالمسلمين سواء بسواء، يجب عليها أن تضمن لهم حياة كريمة لا يحتاجون فيها إلى ذل السؤال ومرارة البؤس.
فنصوص القرآن الكريم التي تحتم إعالة البائسين والمحتاجين هي عامة شاملة لم تقيد بالمسلمين فحسب: ﴿وءات ذا القربي حقه والمسكين وابن السبيل﴾ [سورة الإسراء: 26]، ﴿وفي أموالهم حقٌ للسائل والمحروم﴾ [سورة الذاريات: 19]
وجاء في عهد خالد بن الوليد لأهل الحيرة: "أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنياً فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته وأعيل من بيت مال المسلمين وعياله"
وقد طبق عمر رضي الله عنه هذا المبدأ الإسلامي العظيم حين مر بشيخ كبير يسأل الناس الصدقة، فلما سأله وعلم أنه من أهل الجزية، أخذ بيده إلى بيته وأعطاه ما وجده من الطعام واللباس، ثم أرسل إلى خازن بيت المال يقول له: "انظر إلى هذا وأمثاله فأعطهم ما يكفيهم وعيالهم من بيت مال المسلمين فإن الله يقول ﴿إنما الصدقات للفقراء والمساكين﴾ والفقراء هم المسلمون، والمساكين هم أهل الكتاب".
4- وكانت الجزية تفرض على المغلوبين بأي حال، أما في الإسلام فهي ليست كذلك، بل يجوز للإمام أن يعفيهم منها جميعاً كما فعل أبو عبيدة حين أسقط الجزية عن أهل السامرة بالأردن وفلسطين، وكما أسقط عمر الجزية على ملك شهر براز وجماعته لقاء اتفاقه معهم على قتال العدو، وكما أسقط معاوية الجزية عن سكان أرمينية ثلاث سنوات، كما يجوز إعفاء كل ذمي دخل في الجيش الإسلامي أو قدم خدمة عامة للدولة، وهي أحكام مسلّمة معروفة في الفقه الإسلامي.
5- وكانت الجزية قبل الإسلام تفرض على من لم يكن من الفاتحين عرقاً أو بلداً أو ديناً، سواء حارب أم لم يحارب، أما في الإسلام فلا تفرض إلا على المحاربين من أعداء الأمة، أما المواطنون من غير المسلمين ممن لم يحاربوا الدولة فلا تفرض عليهم الجزية كما فعل عمر مع نصارى تغلب، ولو رجعنا إلى آية الجزية في القرآن لوجدناها تقول: ﴿قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون﴾ [سورة التوبة: 29] فهي كما ترون تجعل الجزية غاية لقتال أهل الكتاب حين نتغلب عليهم، وليس كل أهل الكتاب يجب علينا أن نقاتلهم، بل إنما نقاتل من يقاتلنا ويشهر علينا السلاح ويعرّض كيان الدولة للخطر، وهذا هو صريح الآية الكريمة ﴿وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين﴾ [سورة البقرة: 190] فالأمر بالقتال في آية الجزية ليس إلا لمن قاتلنا، فقتال من لم يقاتلنا عدوان لا يحبه الله تبارك وتعالى، ويؤيد هذا قوله تعالى ﴿لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ¯ إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم﴾ [سورة الممتحنة: 8-9] فلا شك في أن الذين يعيشون في الدولة مع المسلمين من أهل الكتاب ويشاركونهم في الإخلاص والولاء لها، ليسوا ممن يجوز قتالهم فلا تفرض عليهم الجزية التي هي ثمرة القتال بعد النصر.
وهذا ما يفهم من آيات الجزية والقتال من غير تأول ولا تعسف، وإذا كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه قد أخذ من نصارى جزيرة العرب ويهودها الجزية في حياته عملاً بآية الجزية، فذلك لأنهم حاربوا الإسلام وكادوا له وتألبوا مع أعدائه من الفرس والروم عليه، وإذا كان المسلمون حين فتحوا الشام ومصر وفارس قد أخذوا الجزية من أهل الكتاب فيها، فذلك لأنهم رعايا دول أعلنت على دولة الإسلام الحرب، وناصبتها العداء وساهموا مع دولهم في حرب الإسلام، أما استمرار أخذ الجزية بعد عصور من الفتح الإسلامي وبعد أن أصبح أهل الكتاب رعايا مخلصين للدولة كالمسلمين، فذلك لا يسأل عنه الإسلام وإنما يسأل عنه الحاكمون والأمراء من المسلمين، ونحن إنما نتكلم عن نظام الجزية في الإٍسلام لا عن تاريخ الجزية في الدولة الإسلامية.
وإذا كانت الجزية لا تفرض إلا على من قاتل المسلمين، اندفع ما يورده بعض القوميين، والمتعصبون على الإسلام، من أن تنفيذ نظام الإسلام في السلم والحرب يحتم أن تؤخذ الجزية اليوم من غير المسلمين في الوطن العربي أو الإسلامي، وهذا مما لا يتفق مع مفهوم الدولة في العصر الحديث ولا تقبله فئات من المواطنين ترتبط برابطة الولاء للدولة مع مخالفتها لجمهور الشعب في عقيدته، إن ذلك مندفع بما قررناه من أن الجزية لا تفرض إلا على من أعلن عداءه للدولة وهو من غير أبنائها، ومن أن مبدأ الجزية ليس نظاماً أساسياً من أنظمة الدولة في الإسلام بل يتطور بتطور العلاقات والظروف التي تجعل الدولة في حل من إسقاطها حين تكون مصلحة الدولة في ذلك.