العصرانيون ومنهجهم في تحريف الشريعة (1/3)
محمد بن شاكر الشريف
المجددون العصرانيون لا يجمعهم حزب أو مؤسسة، ولكنهم مجموعة من الناس يختلفون فيما بينهم اختلافًا كبيرًا، فهؤلاء منهم العلمانيون، ومنهم الزنادقة والملاحدة، ومنهم عملاء الصليبيين، كما أن منهم المبتدعين، والمسلمين المخدوعين بدعوة التجديد العصري الذين يظنون أنهم يقولون بما يفعلون أو يقدمون خدمة جليلة لدينهم في ظل هذا العصر الذي بات يسيطر عليه الصليبيون في الحقيقة.
وهؤلاء المجددون العصرانيون قد يوافقهم في بعض أقوالهم من ليس منهم ولا يسلك طريقهم في الجملة، ونحن في هذا المقام لا يعنينا أن نبحث عن الضوابط التي يتحرك من خلالها المجددون العصرانيون فيما يطرحونه من رؤية تجديدية، أو اجتهادات يرونها تمثل التجديد في العصر الحاضر.
والقاسم المشترك الذي اتفق عليه جميع هؤلاء: هو الدعوة إلى ما يسمى بالتجديد العصري، وهو النظر إلى علوم الغرب واجتهاداتهم في أمورهم وأحوالهم على أنها تمثل المعرفة الحقيقية التي ينبغي اتباعها كشرط أساس للتوافق مع هذا العالم، أو إحراز التقدم في مجال العلوم والتقنية، وهذه النظرة يترتب عليها متابعة الغرب وتقليده فيما يطرحه من موضوعات وتصورات وقيم وحلول.
ومن خلال ما هو مطروح في الكتب والمقالات، وما هو منشور على الشبكة العالمية التي يوجد بها عشرات المقالات ومئات الصفحات عن التجديد العصري يتبين أن هناك عدة ملامح واضحة لهذا المنهج نرصدها في هذه السلسلة إن شاء الله تعالى، ومنها:
أولًا: تقدير العقل تقديرًا كبيرًا حتى يتجاوز به حده فيعارضون به الشرع، فإذا دلَّ العقل عندهم على شيء كان هو المقدم، وما خالف العقل عندهم حقه التأخير، ولو كان من نصوص الشريعة الصحيحة الصريحة، ومن هذا الباب وجدناهم يتشككون في معجزات الأنبياء، ويؤولونها بما يخرجها عن ظاهرها، وكذلك تأويلهم للغيبيات: كالجن والشياطين تأويلًا يساوي الإنكار، ورد أحاديث أشراط الساعة أو تأويلها، ونحو ذلك من الأمور التي يظنونها مخالفة للعقل، وليس في ذلك مخالفة للعقل، لأن معنى مخالفة العقل أن تقام الأدلة العقلية على بطلان تلك الأمور ومخالفتها للعقل، وليس عندهم أدلة على ذلك.
كل ما عندهم في ذلك أنهم لا يقدرون على إثباتها بالعقل، فجعلوا عدم القدرة على الإثبات دليلًا على عدم ثبوتها في الواقع، وليس هذا صحيحًا، فإن الواقع المشاهد والحس الذي لا يدفع يكذبهم في ذلك، فإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود, فيقتلهم المسلمون, حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر, فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله, إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)) [رواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل، (5203)]، فأي شيء في هذا يخالف العقل، تكلُّم الحجر والشجر؟ وهل قام دليل عقلي على أن الشجر والحجر لا يتكلم؟ كل ما هناك أنه لا عهد لهم بذلك، ولكن ليس في العقل ما يبطله، ألم يقل الله تعالى: **تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]؟ ألم يقل عن الحجارة: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74]؟ ألم يقل في حق عيسى عليه السلام عندما أشارت أمه إليه، وطلبت ممن يتشكك في طهارتها من قومها أن يستفسروا عن ذلك من عيسى، وهو كان بعد رضيعًا فقالوا مستغربين: **كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: 29]، فقال عيسى عليه السلام فيما ذكره رب العزة في كتابه: **قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 30-31]؟ فأي شيء في ذلك يخالف العقل؟ إلا أن يكون عقلًا منكوسًا.
ثانيًا: العناية الزائدة عن الحد بالمصالح، حتى تجعل المصالح دليلًا شرعيًا مستقلًا بذاته تعارض به النصوص الشرعية، فيجعلون مطلق المصلحة أصلًا يفرعون عليه، والتعامل مع المصلحة بدون قيود هو الذي يساعد في ترويج القيم العصرية المخالفة للشريعة، فهم يرون مثلًا أن من المصلحة اتفاق الناس ونبذ التعصب فيما بينهم فيحملهم ذلك على الدعوة إلى وحدة الأديان، أو على الأقل إلغاء أحكام الولاء والبراء التي تضبط التعامل مع الكفار والمشركين، والنظر إلى الناس كلهم نظرة واحدة لا فرق في ذلك بين موحد وبين مشرك، وأن هذه الأمور تترك إلى الآخرة، وأما الدنيا فالتعامل فيها إنما يكون من منطلق الإنسانية فقط.
ولذا فإننا نجد الكتابات الكثيرة التي تتحدث عن الآخر (الكافر)، وتطالب بقبوله وإذابته في مجتمع المسلمين، وأنه لا يجب استبعاد المشركين، بل ينبغي أن نبحث عما يجمع بيننا وبينهم، ومن هذا المنطلق أيضًا نجدهم يدعون إلى الاقتباس من حضارة الكفر المعاصرة، ليس من حيث المنجز التقني فقط، ولكن من حيث الأفكار والقيم والمؤسسات الاجتماعية المعبرة عنها في صورتها الثقافية العامة من حيث العادات والتقاليد والأعراف.
فالأعراف تابعة للمصالح، ومن ثم فإن المصالح المتجددة تصلح لنسخ الأحكام السابقة التي لا تتلاءم معها.
ثالثًا: تقديم الاجتهاد المقاصدي على الاجتهاد الشرعي التفصيلي، بغرض التفلت من الأحكام الشرعية الواضحة، فتراهم يستنبطون من الحكم الشرعي مقصدًا، ويقولون هذا هو المقصد من تشريع ذلك الحكم، والمطلوب أولًا هو تحقيق القصد، وأما الحكم الوارد في ذلك فما هو إلا طريق من طرق تحقيق المقصد، وعليه فإنهم ليسوا مطالبين باتباع الحكم تفصيلًا، وإنما يلزمهم من ذلك تحقيق المقصد فقط، فيجعلون المقصد الذي استنبطوه هادمًا للحكم الأصلي.
وهذا لا شك ضلال في الفهم وخبل في العقل، فينظر بعضهم مثلًا إلى أن ارتداء المرأة للحجاب المقصد منه حصول العفة وليس خصوص الحجاب، فإذا أمكن تحقيقه بغير ذلك فلا يلزم لُبْس الحجاب، ويقولون مثلًا: إن الحدود وضعت كعقوبة زاجرة، وهذا هو المقصد وليس المقصد العقوبة نفسها، فإذا تحققت العقوبة الزاجرة بالسجن مثلًا لم يلزم إقامة الحدود، وكل هذا وأمثاله إنما هو مسارعة في متابعة الكفار المعترضين على الشريعة في هذه الأمور، فيعمدون إلى أي شيء يمكن من خلاله موافقتهم.
هذا وما زال لحديثنا بقية.
Bookmarks