قال لي أحد المشتبهين متسائلا:
لماذا لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم مصحفا ؟ ألا يدل ذلك على أن كتابة القرآن لم تكتمل في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ومن ثم ينعدم الدليل على كون القرآن الموجود الآن هو ذاته الذي كان يقرأه الرسول؟
فأجبته بقولي:
أوافقك في بعض كلامك الذي انطوت عليها مقدمتك لكني أخالفك في النتيجة التي ترمي إليها وهي إثبات أن هذا القرآن الذي بين أيدينا الآن ونحفظه كما نحفظ أسماءنا هو قرآن ناقص.
نعم أوافقك الرأي بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات ولم يترك مصحفا مجموعا في مكان واحد ولكنه كان عبارة عن مواد أولية كتب عليها القرآن وضع بعضها في حجرات رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعضها كان موزعا على الصحابة نظرا لأنه لا يوجد مكان واحد يتسع لهذا الكم الهائل من الجلود والرقاع وكرانيف النخل وجريده ورقائق الحجارة وغير ذلك من المواد التي كتب عليها القرآن. ومن حقك يا عزيزي أن تسأل أما كان من الأوْلى أن يوضع المكتوب في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن يا عزيزي لو أنك قرأت عن بيوت النبي صلى الله عليه وسلم لعرفت أنها كانت عبارة عن حجرات صغيرة بجوار المسجد لكل زوجة من زوجاته حجرة واحدة فيها تنام وفيها تأكل وتشرب وفيها تحفظ كل خصائصها بل فيها كل حياتها فأين يوضع هذا الكم الهائل من المواد المذكورة وأنَّى لغرفة صغيرة مليئة بما يشغلها أن تستوعب هذا الكم الهائل من المواد التي كتب عليها القرآن؟!
على أننا إذا مضينا مع مبدأ " الحاجة أم الاختراع " بان لنا أنه لم تكن ثمت حاجة إلى جمع القرآن في مكان واحد في وقت كان أكثر الصحابة يعتمدون فيه على الحفظ في الصدر ومن أراد الرجوع إلى شيء من القرآن فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه حيث كان موجودا بينهم وهو الذي ضمن الله تعالى له حفظ القرآن في صدره بقوله تعالى: { لا تحرك به لسانك لتعجل به *إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه } ( سورة القيامة:16 – 19 ) وعلى ذلك فإنه لم يوجد مقتضي يدفع إلى جمع القرآن في مصحف واحد في العهد النبوي ، بل وجد ما يمنع منه وهو كون القرآن الكريم قد نزل مُنَجَّما في زهاء ثلاث وعشرين سنة هي كل عمر البعثة المحمدية فلو جمع المقرآن في مصحف واحد لكان عرضة للتغيير والكشط والمحو مع كل جديد ينزل لأنه بالطبع سيضاف في محله.
ومن الأدلة الدالة على عدم وجود مصحف جامع لكل ما كتب في عهده صلى الله عليه وسلم ما يلي:
1- استنكار أبي بكر وزيد لفكرة الجمع التي أرشد إليها عمر بن الخطاب والتردد في قبولها متذرِّعَيْن بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك فكيف يفعلانه؟ فقد قال كل منهما: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله ؟
2- قول زيد بن ثابت فيما نقل عنه: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن في شيء
3- قول زيد بن ثابت فقدت آيتين من آخر سورة التوبة وقوله في محل آخر فقدت آية من سورة الأحزاب حتى وجدتا عند أحد الصحابة يدلنا على أن القرآن الكريم لم يكن مجموعا في مكان واحد بل كان مفرقا بين الصحابة
4- لو كان القرآن مجموعا في مصحف فيعهد الرسول صلى الله عليه وسلم لما كانت هناك حاجة إلى الجمع الذي تم في عهد أبي بكر الصديق.
نعم هذه حقيقة لابد من الاعتراف بها لكننا نفرق بين قضية كون المكتوب مجموعا في مكان واحد وبين قضية كتابته أصلا فلا يوجد هناك ما يدل على أن القرآن لم يكتب كله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ لا، لا يوجد ما يدل على ذلك بل الأدلة متوافرة على إثبات أن القرآن كله قد كتب بين يديه صلى الله عليه وسلم ومن ذلك قول عثمان رضي الله عنه الثابت في العديد من كتب السنة : " ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا " لاحظوا كلمة الشيء فإنها ترشدنا إلى حصول الكتابة لكل ما ينزل وإن كان قليلا ، وإليكم هذه الرواية التي أخرجها البخاري وغيره - والتي تدل على كتابة كل مانزل وإن كان قليلا - عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ كُنْتُ إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَغَشِيَتْهُ السَّكِينَةُ فَوَقَعَتْ فَخِذُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَخِذِي فَمَا وَجَدْتُ ثِقْلَ شَيْءٍ أَثْقَلَ مِنْ فَخِذِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ: اكْتُبْ فَكَتَبْتُ فِي كَتِفٍ { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمؤْمِنِينَ وَالْمجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ } إِلَى آخِرِ الآيَةِ فَقَامَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَكَانَ رَجُلاً أَعْمَى لَمَّا سَمِعَ فَضِيلَةَ الْمجَاهِدِينَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ فَكَيْفَ بِمَنْ لا يَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ مِنَ الْمؤْمِنِينَ فَلَمَّا قَضَى كَلامَهُ غَشِيَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم السَّكِينَةُ فَوَقَعَتْ فَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي وَوَجَدْتُ مِنْ ثِقَلِهَا فِي الْمرَّةِ الثَّانِيَةِ كَمَا وَجَدْتُ فِي الْمرَّةِ الأُولَى ثُمَّ سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ اقْرَأْ يَا زَيْدُ فَقَرَأْتُ { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمؤْمِنِينَ } فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } الآيَةَ كُلَّهَا. قَالَ زَيْدٌ: فَأَنْزَلَهَا اللهُ وَحْدَهَا، فَأَلْحَقْتُهَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلى مُلْحَقِهَا عِنْدَ صَدْعٍ فِي كَتِفٍ.) وكما حرصوا على كتابة القليل فإنهم لم يتململوا من كتابة الكثير فقد نقل ابن الجوزي في كتابه زاد المسير عن أبي صالح عن ابن عباس في سورة الأنعام، قال: هي مكية، نزلت جُملة واحدة، نزلت ليلاً، وكتبوها من ليلتهم.
وأيضا فإن من المتفق عليه أن دستور ابى بكر فى الجمع كان ينص على التوثيق بالكتابة والحفظ أي التزاوج بين ما كتب بين يديه صلى الله عليه وسلم وما حفظه الحفظة في صدورهم لتؤيد كل طريقة أختها فهذا دليل على وجود نص مكتوب في عهده صلى اله عليه وسلم.
والأدلة على كتابة جميع القرآن بين يديه صلى الله عليه وسلم كثيرة يغني عن حصرها ما ذكرته منها وقد نقلت الأخت مسلمة ما يبين لك ولغيرك أن الكتابة كانت موجودة منذ العهد المكي وأن هناك عددا من كتبة الوحي قد قاموا بهمة كتابة القرآن بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم كلما نزل شيء من القرآن.
عزيزي يكفينا فخرا أن ينحسر الخلاف بيننا وبينك في زاوية ضيقة وهي العهد الذي جمع فيه القرآن مكتوبا في مكان واحد هل هو العهد النبوي أم العهد البكري وهما عهدان متلاحمان أي أن القرآن كان في أذهان الناس وصدورهم كما تلقوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فماذا تقول يا عزيزي في الأناجيل التي تجهلون كاتبها كما تجهلون تاريخ كتابتها ناهيك عما فيها من تناقض بيِّن في كثير من الموضوعات التي تناولتها هذه الأناجيل ولو شئت أمثلة على ذلك فاطلب مني ذكرها وأنا سأوافيك بجملة يحار فيها عقلك وتفقد من كثرتها صوابك لكني لن أدافع عن كتاب الله الخالد القرآن الكريم على أنقاض الإنجيل الذي تعظمه أنت وأمثالك مع ما فيه من تحريف وتزييف إلا إذا طلبت أنت ذلك.
وأما عن طلبك دليلا على أن هذا القرآن الذي بين أيدينا اليوم هو نفسه القرآن الذي بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيكفيك إجماع ما يزيد على المليار فرد في هذا العالم - هو عدد المسلمين في أرجاء المعمورة - وكثير منهم مما لا نحصيهم عدا يحفظون القرآن كله حرفا حرفا وقد تلقوه خلفا عن سلف وصولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع اختلاف بلدانهم وتعدد مذاهبهم لكنهم يجمعون على نص واحد لا يزيد واحد منهم حرفا ينقصه آخر فلو كان هناك اختلاف لنقل مع حفظ الحفظة ولألفيت اليوم كمًّا مختلفا من القرآن عند أبعاض المسلمين فالواقع يا عزيزي هو أصدق دليل . ولم تجمع أمة ما على شيء كما أجمعت أمة الإسلام على القرآن الكريم وإن شئت الاختبار فحاول أنت وأضرابك أن تزيدوا حرفا أو تنقصوا حرفا من القرآن الكريم واطرحوا ذلك وانظروا النتيجة التي أنتم تعرفونها مسبقا.
وفي المقابل هل تستطيع أن تقنع نفسك بأن هناك عددا من غير المسلمين ممن لهم كتب يحفظونها عن ظهر قلب كما نحفظ نحن القرآن الكريم ؟
هيهات هيهات !!