بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين , اللهم صلى على محمد و آله و أصحابه و تابعيه بإحسان إلى يوم الدين.

قال تعالى "إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ" - الأعراف:٥٤

و قال تعالى "قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِين * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ" - فصلت: ٩-١٢

و قال تعالى "أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا" - النازعات: ٢٧-٣٢

إن قضية خلق السماوات و الأرض قضية كبرى و تستحق التأمل و قد حثنا تبارك و تعالى على ذلك فقال تعالى "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" - آل عمران: ١٩٠-١٩١

و هذه القضية تفكر فيها كثير من المفسرين كما هى أيضا كثيرا ما يجادل فيها الذين يحاولون التشكيك فى القرآن العظيم و يحاولون بطرق شتى و بالحسابات الخاطئة أن يلبسوا على الناس سواء فى عدد أيام خلق السماوات و الأرض أو فى ترتيب الخلق ليتوهم البعض أن هناك إختلافا أو تناقضا فى بعض الآيات و حاشى لله جل و علا و تنزه كتابه عن ذلك فبالتحقيق فى المسألة كما سأوضح إن شاء الله تعالى الآن نجد أن هذه الآيات متفقة مع بعضها تماما بل إن الحقيقة واضحة فيها كبدر التم فى ليلة صافية.

لقد دعتنى الحاجة إلى التأمل فى هذه القضية خصوصا قضية تفصيل عدد أيام الخلق أن ما وجدت فى كتب التفسير التراثية كإبن كثير و القرطبى و الطبرى فى تفسير آيات سورة فصلت السابق ذكرها لم يكن شافيا لإعطاء الجواب الفصل فى هذه القضية فحقيقة ما ورد فى تفسيرها لم أراه مقنعا بالقدر الكافى فبالرغم من أنها محاولات تفسير طيبة إلا أننى وجدت فيها محاولة لإقحام فكرة التأويل و التى تبنى على معنى بعيد متكلف فيه علاوة على أنها تنافى النص القرآنى الصريح.

و لقد هدى الله سبحانه و تعالى عبده إلى تأويلها فكم أنها واضحة ظاهرة فالحمد الله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه حمدا ملئ السماوات و الأرض و ما بينهما و ما شاء من بعد ذلك.

الحمد لله الذى هدانا لهذا و ما كنا لتهتدى لولا أن هدانا الله.


فالنستعرض أولا ما هى المسألة و ما هى التفاسير التى جاءت فيها و ما هو التأويل الذى هدانى الله سبحانه و تعالى إليه.

المسألة:

الجمع بين أن عدد خلق السماوات و الأرض جميعا ستة أيام كما ورد فى آيات كثيرة منها ما ورد سالفا الأعراف:٥٤ و أيضا يونس:٣ و هود:٧ و الفرقان:٥٩ و السجدة:٤ و بين آيات سورة فصلت: ٩-١٢ السالف ذكرها و قد جاء فيها:


"قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ " : يومين

"وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ " : أربعة أيام

فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ" : يومين"

هنا يكون السؤال إذا جمعت عدد الأيام السابقة فى آيات سورة فصلت ستكون:
إثنين + (أربعة) + إثنين فيكون حاصل الجمع (الخاطئ) ثمانية و ليس ستة و هذا ما يحاول بعض المشككين أن يقولوه.


ما جاء فى بعض التفاسير:

تفسير بن كثير:

وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ثم دحى الأرض ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والرمال والجماد والآكام وما بينهما في يومين آخرين فذلك قوله تعالى دحاها وقوله" خلق الأرض في يومين " فخلق الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام وخلق السماوات في يومين. إنتهى كلام بن كثير"


تفسير القرطبى:

فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ

يعني في تتمة أربعة أيام . ومثاله قول القائل : خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام , وإلى الكوفة في خمسة عشر يوما ; أي في تتمة خمسة عشر يوما . قال معناه ابن الأنباري وغيره. إنتهى كلام القرطبى

نجد أن المستخلص من التفاسير السابقة ما يلى:

- أن الأرض خلقت فى أربعة أيام و السماوات فى يومين

- أن الأربعة أيام المذكورة فى قوله تعالى "وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ" تشمل اليومين المذكورين فى قوله تعالى ""قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ" فاليومان داخلان فى الأربعة أيام المذكورة و بالتالى يكون الجمع هو أربعة أيام للأرض و يومان للسماوات

هذا التفسير فيه نظر و ذلك للآتى:

القول بأن الأرض خلقت فى أربعة أيام يناقض صريح النص القرآنى فى قوله تعالى "خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ" فإذا كان الله تعالى يقول أنه خلق الأرض فى يومين فكيف يقال أنها خلقت فى أربعة أيام؟

كذلك فإن قول بن كثير "فخلق الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام" لا يبدوا واضحا فما المقصود ب"الأرض و ما فيها" إن كان "ما فيها" هو داخل فى خلق الأرض فيكون عدد أيام خلق الأرض أربعة إذن فهو يعارض نص الآية كما أسلفنا و إن كان منفصلا عن خلق الأرض إذن فلا إعتبار لهذه الأيام الأربعة فى عدد أيام الخلق.


كذلك قول "يعني في تتمة أربعة أيام . ومثاله قول القائل : خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام , وإلى الكوفة في خمسة عشر يوما" فالمثال لا يناسب الآية لأن إستخدام لفظ "إلى" فى "إلى بغداد" و "إلى الكوفة" يجعل المستمع يعرف أن كلا منهما يعود على مكان الخروج الأصلى و هو "من البصرة" و لكن المثال الذى يناسب الآية و لله المثل الأعلى هو أن يقول أحد "بنيت بيتا فى عشرة أيام و وضعت الأبواب و النوافذ و الفرش فى خمسة عشر يوما" فهنا المعنى الظاهر هو أن الخمسة عشر يوما هى فقط لوضع الأبواب و النوافذ و الفرش و ليس يدخل فيها بناء البيت. فالقول أنها تشمل العشرة أيام الأولى غير مشهور فى كلام العرب و هو ما يجعل هذا التأويل فيه تكلف و إقحام لفكرة المفسر

إذن يبدوا أن الصحيح هو:

أن الأرض خلقت فى يومين فقط و ذلك بنص الآية و بالتالى فإن السماوات خلقت فى أربعة أيام

هنا يظهر تساؤلان

التساؤل الأول: ما بال الأربعة أيام إذن المذكورة فى قوله تعالى "وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِين"؟

الجواب: أن هذه الأربعة أيام ليست داخلة فى خلق الأرض أصلا بل هى أعمال أجراها الله سبحانه و تعالى فى الأرض بعدما خلقها و يؤكد هذا قوله تعالى "وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا" فإحلال البركة و تقدير الأقوات لا يدخل فى الخلق و حتى لو أخذنا ببعض التأويلات لهذه الآية مثل ما جاء فى تفسير القرطبى:

وَبَارَكَ فِيهَا

بِمَا خَلَقَ فِيهَا مِنْ الْمَنَافِع . قَالَ السُّدِّيّ : أَنْبَتَ فِيهَا شَجَرهَا.


فحتى لو المراد إنبات الشجر فالشجر ينبت حتى الآن فلو كان داخلا فى خلق الأرض لكانت الأرض ما زالت تخلق حتى الآن و هذا بالطبع غير صحيح

بل الصحيح أن هذه الأعمال "إخراج المرعى و جعل الجبال فيها رواسى" هى داخلة فى عملية الدحى و ليس الخلق.

و يؤكد هذا المعنى و يبينه ما جاء فى تفسير بن كثيرلآيات سورة النازعات " أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم " قال بن كثير:

ففي هذه الآية أن دحو الأرض كان بعد خلق السماء فالدحو هو مُفَسَّر بقوله " أخرج منها ماءها ومرعاها " وكان هذا بعد خلق السماء فأما خلق الأرض فقبل خلق السماء بالنص , إنتهى كلام بن كثير.



و يتضح من هذا أن الخلق شئ وجعل الرواسى و إحلال البركة و تقدير الأقوات شئ آخر فالأخير هو عمل أو تغيير ما يجرى على الشئ المخلوق مثله مثل أى تغيير يجرى حتى الآن فحتى الآن شجر ينبت و جزر تغمر و تندثر و بحار تتمدد حتى أن خريطة الأرض تتغير مع الزمن فلا يقال أن هذا كله من تمام الخلق.


التساؤل الثانى: كيف يكون عدد خلق السماوات أربعة أيام مع قوله تعالى "فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ"

الجواب: إذا نظرت إلى الآية ستجد أن السماء كانت موجودة بالفعل قبل أن يجعلها الله تعالى سبع سماوات فقوله تعالى

"ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ"

"فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ"

فهذا معناه أن السماء كانت موجودة و موجودة معناه أنها خلقت و مدة خلقها لابد أن تكون يومين فعلى هذا تكون السماء خلقت أولا فى يومين ثم بعد ذلك خلق الله منها سبع سماوات فى يومين كما دل على ذلك قوله تعالى "فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ" فيكون مجموع أيام خلق السماوات من بداية خلقها إلى نهايته أربعة أيام.

لاحظ هنا أن الله تعالى قال "فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ" و لم يقل أنه خلق السماوات فى يومين كما ذكر فى خلق الأرض و ذلك أن "فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ" هى إستكمال لخلق السماوات و ليس خلقهن من العدم حيث كما سلف أنها كانت موجودة و لكن كانت سماء واحدة من دخان أكمل الله خلق سبع سماوات منها.

دليل آخر على هذا قوله تعالى "أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ" - الأنبياء: ٣٠ ففى هذه الآية يخبر الله تعالى أن السماء كانت ملاصقة للأرض فى بداية الأمر ثم فصلها الله عنها و رفعها كما أوضح فى قوله تعالى "رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا".

لاحظ أن التى كانت ملاصقة للأرض هى السماء قبل أن يجعلها الله تعالى سبعا و مع ذلك أشار إليها تعالى بلفظ "السماوات" فى قوله تعالى "السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا" و هذا دليل واضح على أن السماوات فى لفظها و معناها تشمل السماء فى شكلها الأول و بالتالى فعدد أيام خلق السماوات يشمل أيام خلق السماء فى شكلها الأول.



الخلاصــــة:-

عدد أيام و ترتيب خلق السماوات و الأرض كما يلى:


- خلق الله تعالى الأرض فى يومين - قال تعالى "خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ"


- خلق السماء فى صورتها الأولى و كانت ملاصقة للأرض فى يومين - قال تعالى "السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا"


- رفع السماء و فصلها عن الأرض - قال تعالى "رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا"


- دحى الأرض فأخرج منها الماء و المرعى و جعل فيها الجبال رواسى و ذلك فى أربعة أيام (ليست داخلة فى أيام الخلق) - قال تعالى "وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا"

- إستوى إلى السماء الواحدة و قضى منها سبع سماوات فى يومين - قال تعالى "ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا"


و لله الحمد و المنة.