أيها العقل التائه,
أحسنت إذ طرحت السؤال ولم تجزم في هذه القضية, فهي بالفعل من مسائل الأخلاق الإسلامية التي تلتبس على المخالف.
لذا ائذن لي أن أفصل سؤالك لأكشف عن أجزائه ولألج إلى أصله بما يتبين به من لبه ما قد لا يظهر على قشره.
أنت ادعيت أن المؤمن يتميز بالتزام أخلاقي قد يكون سببه الرئيس "الرغبة" و"الرهبة", أي الرغبة في الثواب والخوف من العقاب. وهذا قد يلزم منه أن المؤمن لا يلتزم بالأخلاق من أجل جمال الأخلاق وقيمتها الذاتية, وإنما من أجل ما يترتب عليها من النتائج, فهو لا ينظر إلى الأخلاق بل إلى الجزاء. ولا تهمه البدايات بقدر ما تهمه النهايات.
لعل هذا ما أومأت إليه بقولك إن المؤمن يلتزم بأخلاق دينه. إذن الإلتزام الأخلاقي عند المؤمن قد يكون ثمرة قهر أو ضغط خارجي وليس نابعا من إحساس ووجدان داخلي يحركه, ليتحلى بمكارم الأخلاق. وقد يفهم من كلامك أن المؤمن لا يلتزم بخلق فاضل إلا إذا نص عليه دينه أو اندرج تحت أصل ديني.
أليس معنى هذا الكلام أن أخلاق المؤمن أخلاق نفعية تنظر إلى المصلحة فقط, وتستشرف العاقبة في الأخرى دون أن تتأمل جمال الفضيلة في الدنيا؟
أليس لو كان جواب سؤالك بالإيجاب تكون الأخلاق الإسلامية مجرد أوامر ونواهٍ وزواجر تقهرنا قهرا وتضطرنا اضطرارا للخضوع لها دون التفات إلى قيمتها الأخلاقية الأصيلة؟
أو ليس هذا التصور الناقص للأخلاق إنكارا وهدما ونفيا للأخلاق؟
أوَ ليست هذه الأخلاق غير ذات معنى ولا جدوى ما دمنا نرى الناس لا يزالون يتحلون بقدر من الأخلاق وإن انسلخوا من الدين كله؟ فأي فضل للدين والأخلاق باقية من دونه؟
إن كان هذا كله أو بعضه قد دار بخلدك وأنت تطرح سؤالك فدعنا نمضي خلال هاته المسائل مسألة مسألة حتى نخلص إلى جواب سؤالك. ولتكرر ورود هذه الشبهة فإني سأعدل عن الرد المجمل إلى المفصل. ولك أن تعلق كلما شئت. فأنا سأضع جوابي هنا تباعا إن شاء الله.
قبل أن نبدأ أريدك أن تنظر معي في هذه الكلمة: الإنسان كائن أخلاقي.
فهل ترى هذا وصفا دقيقا للإنسان؟
الذي يظهر لي أن حاجتنا للحكم على أقوالنا وأفعالنا بميزان الأخلاق أمر ضروري لا ننفك عنه أبدا. نحن حقا مخلوقات عاقلة أخلاقية, لذا نحتاج لمن يقول لنا باستمرار: افعلوا ولا تفعلوا. ثم لما نفعل نحن أنفسنا شيئا, نحتاج إلى حكم أخلاقي نصف به عملنا ونحكم عليه من منظور الأخلاق.
مثلا لو رأينا شرطيا يضرب متظاهرا بهرواة على رأسه فيشجها, فهل نبدأ بوصف الواقعة وننتهي دون إصدار حكمنا الأخلاقي؟
هل نملك أن نقول مثلا: قوة اليد وسرعتها وهي تضرب بالهراوة في زاوية كذا, سببت شجا في رأس المضروب, عمقه كذا..., هل نملك أن نقف حيال أفعالنا وأقوالنا موقف الحياد الأخلاقي؟ أم أننا لا بد أن نحكم سلبا أو إيجابا على الواقعة المادية التي شهدناها؟ هل نكتفي بالوصف الذي قد ينفع الطبيب أو القاضي, أم أننا نبدأ بالتخير من قاموس الأخلاق ألفاظا من قبيل: اعتدى, عاقب, ظلم, أنصف, أخطأ, أساء...؟
لماذا لم يشبع قاموس الوصف المادي الواقعي نهمنا الأخلاقي حتى عدلنا إلى إصدار أحكام أخلاقية نزن بها ما شهدناه؟ هل تأملت معي الفرق بين القضيتين: قضية حكم مادي واقعي من جهة وقضية حكم أخلاقي معياري من جهة أخرى.
خلاصة هذه المقدمة التي أراها ضرورية, أن الإستعداد لفهم عالم الأخلاق العجيب ملكة أصيلة في النفس واستعداد فطري يشبه استعدادنا للتفكير وتعلم اللغة, هذا أمر يشترك فيه الناس جميعهم, فهل ترى في ذلك فضلا لمؤمن على ملحد, أو لعربي على عجمي, أو لذكر على أنثى؟
أم أنك تقر معنا على هذا القدر المشترك من الحس الأخلاقي يوجد بشكل ما لا نفهمه , داخل الإنسان, جنس الإنسان؟ فما مصدر هذه الملكة وما منشؤها؟
(يتبع إن شاء الله...)
Bookmarks