لا شك أن الفترة المظلمة في حياة الغرب والممتدة من ملحة القرون الوسطي وحتى مطلع القرن الثامن عشر في قد أبرزت العديد من الأفكار المضادة للدين ، نظراً تميز هذه المرحلة بأحداث تمخضت عن نتائج أشبه بالقطيعة الممتدة عبر الزمن بين العلم والدين ، وبين الحضارة الدنيوية ومقتضيات الإيمان الديني ، فقد كانت تصف بكل دقة حالة من الشرود العقدي والتخاصم مع المنطق باسم الدين ، وبالنفور من الإستحقاقات المترتبة على قناعات مفقودة لا ترسخ إلا بنزع الإنسان من سياق القدرة على الفهم والبحث عن أجوبة منطقية لسؤالات مشروعة. علاقة الإنسان بالإله قد بدأت في الإندثار في تلك المرحلة ، ليتفرغ الإنسان بعدها لتحصيل علوم الدينا وبناء الحضارة القائمة على أنقاض الدين ، بعد أن نزع عن كاهله عبء الدين بصورته المسيحية الموغلة في التصادم مع كيانه وعقله ومكوناته.

عقيدة النصارى بلغت من السذاجة مبلغاً عجيباً ، فهى قد بنيت على أسس تنقض وسائل التحصيل المعرفي ابتداءً ، وتزيل الإنسان بأكمله من منظومة التفاعل العقلي مع هذا الدين تاركة له مساحة كبيرة من العاطفة المؤدلجة والتي لا تخضع لأى ضابط عقلي ، ولا تترك له إلا حيز ضيق في الإختيار ، بين قبول لبناء عقدي مهلهل الأركان قد ملئ بالعديد من علامات الإستفهام ، يطلب منه بشكل ايماني ملزم أن يعتنق مجموعة من المتنافرات العقلية والمتضادات الحسية كشرط وحيد للمغفرة والخلود في النعيم الأبدي ، وبين الرفض الكامل دون توضيح أو بيان. فالمؤمن النصراني مطالب بأن يعتقد دون تفسير ، بأن الإله الخالق كان يعاني منذ خلق آدم من صراع مبدؤه (الحاجة) للإتيان برد فعل ملائم لخطيئة آدم الأولى ، وكأن خلق آدم قد (أوجد) للإله النصراني إشكالية كبرى والبسه رداء الحيرة كما تنص على ذلك أدبيات المسيحية في القديم والحديث ، وهو اثبات الصراع الذاتي لصفات الإله وإراداته بين حتمية القصاص وحبه للمغفرة ! ولما كان هذا الصراع حادثاً مستجداً على إله النصارى فقد استغرق في تدويره بين جنبات الحلول طيلة قرون طويلة بحثاً عن الحل (الأنسب) للجمع بين (الحاجتين) ، فعقيدة النصارى لا ترى بأساً في تسيير كل أعمال الإله على نحو يرتبط بحاجته للفعل من خلقه ، وحاجته لرد الفعل من نفسه ، وحاجته لإستقرار الأمر على نحو يحقق به صفاته المتعاركة ، وهذه الحاجة تزيد الأمر إلتباساً خاصة إن كانت في حق (إله) موصوف بالقدرة والعلم ، لأن مفهوم الإله يجب ألا يحمل في وصفه تعارضاً بين صفاته على نحو يفضي إلى الحيرة والتردد بهذا التصور الساذج ، ولا أن تحوله الحوادث المستجدة إلى (حائرٍ) يستجدي الحلول من خلقه ، فالتصور المطروح يتنافى مع أبسط التصورات العقلية عن مفهوم الإله الكامل.

ثم إن إشكالية التعارض بين الإرادات والصفات الذاتية لهذا الإله (أجبرته) بشكل حقيقي على اللجؤ لحلول قد بدا فيها مقهوراً ساقته مقصلة الضرورة إلى سخافة لم يعرفها التاريخ قبل هذا. فقد تعددت حاجات الإله النصراني للدرجة التي اضطر فيها للتحول إلى (ناسوت) انساني بكامل نقائصه البشرية لكي يفهم ويشعر بمعاناة المخلوق الذي أصابه بالحيرة بعد أن خلقه ليحبه ويكرمه فغذا به يصيبه بصداع لا شفاء منه إلا بأن يترك ملكوته ويتلبس بناسوت المخلوق. الإشكالية الجديدة المترتبة على هذا الفعل (الإلهي) أنه أثبت من جهة أخرى قدرة منزوعة الأثر لهذا الإله ، وألبسه تاجاً من الجهل بخفايا المخلوقات التي من المفترض أنه قد خلقها بيديه ، فبعد أن أرهقه المخلوق تكيراً وحيرة ، إذا به يثبت له الجهل بالصنعة والغياب التام عن علمه بمن خلق ، فظهر الإله في علاقته مع الإنسان وكأن المخلوق قد خلقه إله آخر غيره فإذا الإله يجهل معاناته وشعوره ونقائص المخلوق بمعزل معرفي تام ، وغياب أبدي للقدرة على فهم هذا المخلوق للدرجة التي جعلته (يضطر) للهبوط من علياء ألوهيته إلى حضيض بشرية هذا الكائن ، ليشم دنسه ويلمس عيوبه بأدوات حسية قد خلقها لهذا الغرض ،و كأن الإله لا يقدر على الإحاطة بمن خلق علماً إلا بأدوات حسية كالشم واللمس. ثم ياليت حاجته قد وقفت عند عتبة المعرفة المكتسبة والتي كانت مسبوقة بجهل ، بل تعدت (حكمته) هذه العتبة لتختار من بين كافة الأحاسيس الإنسانية والمشاعر البشرية إلا تلك التي تعبر عن الضعف والمذلة والمهانة لتتذوقها وتتلبس بها ، ثم إنه تمادى في سبر غور الثقوب البشرية السوداء .. فاختار من بين مشاعر الإنكسار البشري ما كان مصحوباً بالإهانة ، وتسلط العدو ، واليأس من النصرة ، والتماهي في الشعور بالذنب المفرط ، وتأنيب الضمير الإلهي ، واستحضار رغبته اللحوحة في العفو مع فقدانه القدرة لاصطدام تلك الرغبة مع صفة أخرى اكتشف فجأة أنه يملكها وهى وجوب العدل والقصاص ممن ارتكب الخطيئة الأولى. وهو إذ لم ينس الخطيئة الأولى لأنه فيما يبدو قد جرى تصويره في أدبيات النصارى على أنه مفعم بالإنفعالات الشخصية التي يتصف بها البشر ، ومنها أنه قد يطغى عليه احساسه بأمر على إدراكه لأمور أخرى ، وأن يرهقه الجمع بين صفتين يملكهما على نحو تتجلى فيه القدرة ، فنرى أنه لم يقدر على تصور أي سيناريو أبسط من هذا للجمع بين صفاته المتنافرة ، فلم يقدر إلا على إهانة نفسه ، وأن يمسح بكرامة ابنه أقدام أعدائه ويرفعه على صليب تنكيلاً وتعذيباً ، في مشهد عبثي يدل على حيرة الإله النصراني في التعامل مع هذا الموقف المحير الذي فرضه عليه المخلوق الإنسان فرضاً بخطيئة كانت خارج حسابات الإله !!

(الإله) من المفترض أنه يملك ملكوت السموات والأرض ، يقدر ولا يعجزه شئ ، ويخلق أعداءه قبل أولياءه ، إلا أنه في أعلى أدبيات العقائد النصرانية ظهر وكأنه قد ربط نفسه في تسلسل مازوخي غريب ، مشرب بالجهل ومحفوف بالمغامرة في كل خطوة من خطوات تنفيذ (مخطط) العفو ، وربما كان العنصر المفقود في هذه الحبكة الدرامية الشاذة هو عنصر الحذر والتشويق .. وهو أمر كنا ننتظره من كتبة الكتاب المقدس لكي تكتمل كافة مثالب البشرية في كينونة الإله العاجز. والحقيقة في أبسط صورها أن الأوصاف التي وُصف بها هذا الإله ، وتفسيرها لم يكن إلا محاكاة فاشلة لمفهوم (الحاجة الإنسانية) فخرج الأمر بشئ يشبه (الحاجة الإلهية) ، وهو أمر يبدو لكل متفحص ليس إلا وصفاً دقيقاً وعميقاً لبشرية ناقصة معبأة بالشوائب ، وليست إلا رسماً لإنسان حقيقي يجهل ويمتحن ويطارد ويعذب و يقدر عليه أعداؤه ويصلبوه ويرفعوه دون مقاموة منه ، دون تقديم التفسير العقلي المناسب عن سبب كون هذا الكائن الموصوف إلهاً يجبر على أهانة نفسه ، فلو افترضنا أن خطيئة آدم كانت بمثابة (الإهانة) للخالق ، فإنه قد ألزم نفسه في طريقة حصول العفو وتحقيق المغفرة بناقض ما يصبو إليه ، إذ أنه عرّض نفسه (طواعية هذه المرة) لإهانة جديدة ليتسنى له أن يغفر الإهانة الأولى ، وجثا على ركبتيه وزحف على بطنه تنكيلاً بنفسه رغبة في العفو عن مخلوقه ! ..فإن لم يكن هذا العبث هو التناقض الذي تنفر منه العقول فما هو إذن !!

عناصر الصورة التي رسمت عبر قرون عديدة لإله يحتاج لخلقه ويتوعدهم بالعذاب إن هم لم يعينوه في مهتمه ، فيحققوا له ما أراد ويؤمنوا بعذابه لنفسه فداءً لأرواحهم من عذابه لهم ، فهو يعذب نفسه كي يؤمن خلقه بعفوه ومن لم يؤمن سيعذبه بنفسه ، هذه الحلزونيات اللامنطقية تملؤ عقول المفكرين بالإحباط ، خاصة إن كانت تلك العقائد تروج في كل أرض على أنها مبهمات متبوعة بالكف عن السؤال ، عقائد ينقصها العديد من الربط المنطقي لا تجد له تفسيراً عند أحد ، لا في كتاب مقدس ولا عند عالم لاهوتي ولا قسيس يقود الصلوات ، ولئن فكر شيطان في أن يرسم للإله صورة غاية في القبح في عقول البعض لما استطاع أن يرسم شيئاً أكثر بشاعة وأعلى تناقضاً من عقيدة النصارى ، ولا يقدر على أن يخدعك بتصور يستطيع أن يقدح فيه بهذا الإله أكثر مما فعله الإله بنفسه في نفسه ، طواعية ودون الحاجة لتخطيط من عدوه وخصومه.

ومن الطبيعي أن جمهور النصاري المفكرين والمثقفين منهم خاصة قد عانوا كثيراً من هذا التارث الصادم لعقولهم وملكاتهم الفكرية ، فإذا أراد واحد منهم أن يعقد اختباراً عقلياً نقدياً لمحاور هذا الدين وللأسس التي يقوم عليها ومتطلبات العقيدة المطروحة فإنه لا يقدر على تمرير هذا الفيلم الكارتوني دون رفض لبعض أصوله أو فروعه البارزة ، ودون الدوران حول محور الغامض غير المفسر ، والمتناقض غير المعتبر ، والمبالغة التي لا تقبل ، واقتراف الأمور التي لا يرتضيها البشري لخاصة نفسه وأبنائه ، فضلاً عن أن يتبناها إله كامل موصوف بالجلال كوسيلة وحيدة تفتق عنها ذهنه ولم يملك أن يتصور غيرها ، ولم يقدر على توقيع رحمته ومغفرته إلا من خلال الزحف على بطنه أمام خلقه ، فإن الإنسان لا يرضى أن يمكّن عدوه من نفسه فضلاً عن أهله وولده ، حتى وإن كان ظاهر القول فيه أنه قد يفعل ذلك لضرورة أو حاجة قصوى خارجة عن حدود قدرته قاهرة لذاته وإرادته ولا يملك سواها لتحقيق مأربه أو لدفع الضر عن نفسه وأهله ، فإن كان ذلك أمر قد يتصور حدوثه في المخلوق الذي لا يملك ، وتحقق في الكائن البشري محدود القدرة خاوي الإرادة ، فكيف يعقل ذلك من الخالق الأعظم ، ممن خلق عدوه وحبيبه ، ممن يقدر على تسيير الامور كيفما يشاء ، ومن لا تقهره الحاجة ولا تخرق الضرورة ناموسه. فلا يقول عاقل أن أي انسان لو استطاع أن يتجنب فداء نفسه وإهانة ولده وتعرضه للسخرية والبطش ، خاصة إن كان عدوه أقل منه قدرة وقوة ، بأن يفعل شيئاً آخر ، ويختار القهر لذاته على أي اختيار آخر أبسط من ذلك وأحفظ لكرامته وأكثر صيانة لهيبته ودون الزج بابنه في معركة يهان فيها ويحقر دون طائل من فعل التعذيب ، فالمثير للدهشة أن التعذيب والإهانة التي لحقت بالإله النصراني كانت أمراً (ضرورياً) مطلوباً لذاته مقصود الحدوث لتحقق العفو والغفران ، فلو كان الغفران هو المطلوب لذاته لتحقق دون الحاجة لقصة الصلب والفداء ، فكيف لا يقبل الإنسان أن يحل اشكالاته ويقضى حاجته بأقل كلفة معنوية ومادية إن توفر له ذلك بحسب قدرته ، ويرضى بما هو أعظم شناعة من ذلك رغم أن المطلوب تحقيقه في الحالتين واحد لا اختلاف فيه ..وهو تحقيق العفو والمغفرة ، في الوقت الذي يرضاه الإله النصراني لنفسه وولده ، ويفضل العذاب على يد أعدائه راجياً اياهم أن يطلبوا منه العفو عنهم فيما بعد بعد أن يعود لملكوته ! كيف يستقيم لدى كل ذي عقل أن أعفو عمن أملك أمره بيدي بأن أقوم طواعية بتمليكه أمري ؟ كيف يمكن تمرير فكرة مركبة التعقيد ومليئة بالدهشة في ترك الإله شغله وتدبيره وملكوته ليتفرغ لواحد من خلقه .. صغير لا يذكر في بحر ملكوته .. هو أقرب إلى اللا شئ إذا ما قورن بعظمة الكون وما فيه من آيات ، وياليت التفرغ كان تفرغ إحاطة من منطلق القدرة ، أو تفرغ تدبير ينطلق من العلم ، أو تفرغ قضاء نابع من السيطرة على مجريات الأمور ، معبر عن التفاوت الهائل بين حجم الخالق والمخلوق ، بل كان تفرغ (مغامرة) يفتقر إلى إعداد وتضحية لا تبرير لها من عقل أو منطق إن توفر البديل الذي لا يحتاج لمثل هذه التضحية ، محفوف بالإنكسار الذي لا يعقل وجوده في إله كامل الصفات ، ليخرج علينا بإعلان مفاده محصلة ساذجة ، قد تحقق معها مطلوب يفتقر إلى التفسير ويخلو من الوجاهة ، بأن حصل المطلوب وقد غفرت لكم !

عقدية النصارى لم تحترم عقل القارئ اللبيب ، وصدمته بكم هائل من المبهمات التي لا تقبل التفسير والمتناقضات التي تقبل الجمع ، ووضعت خطوطاً حمراء أكثر كثيراً من تلك الخضراء ، ودعت جمهور المتدينين إلى تغليق العقول وشجب السؤال ووأد مادة التفكر ، وهى مجموعة من القوادح التي تطالب الإنسان بألا يفكر في الحدث ، ثم تترك خياله ليسرح به في منطقة ما وراء الحوادث كيفما يشاء دون ضابط ، لذا تجد أن كل نصرانى يملك رؤية ذاتية نابعة من تصوره الشخصي لهذا الدين ، وكل منهم يمثل رؤية قائمة بذاتها في تصوره لدينه وعقيدته ، ولا إلزام لرؤية على غيرها !

حين رأى نصارى الغرب في قرون الظلام الأوروبي أن فرارهم من التناقض لا يؤدي بهم إلى شئ ، فلا مأوى من عقل يربط ويفسر ويفهم ، ولا ملجأ من نص محكم يجيب على التساؤلات دون حيرة ، وإنما مساحة شاسعة من الفراغ بعد هذه العقائد المطروحة تترك صاحبها بين أمرين ، إما الإستمرار في الإيمان بدافع عاطفي ، يستفز مشاعر المعتنق لهذا الدين ويستدر ايمانه بتهييج مشاعره ، وذلك بحديث عن الفداء والعفو وصورة الإله المطارد المصلوب الذي أتانا لينصرنا ويعفو عنا فخذله أعداؤه وعذبوه ، وهي صورة ولا شك تجعل أولئك الذين يفكرون بعاطفتهم يُستدرجون بعفوية إلى تبني هذه العقيدة وسكب الدموع مع الباكين دون مرور على عقل أو فهم. أما أولئك الذين يملكون عقلاً فكان من الطبيعيفي ظل الإنتصار للعقل والمنطق أن يفروا من تلك العقائد ، والمتابع يرى أن أدبيات الإلحاد التي انتشرت بدءً من القرن الثامن عشر حتى وقتنا هذا كانت تعبر بدقة عن هذه الإشكالية ، حتى تولدت الأجيال التي لم تعقد مثل هذه المقارنات ولم تكن في حاجة إليها ابتداءً ، بل توارثوا الكفر بها والسخرية من مكوناتها بشكل كبير ، وربما الإكتفاء بانتماء صوري للكنيسة لا يفرز عملاً ولا يقوم على قناعة.

حين ترى في إشكاليات الملحدين العرب ، المسلمين منهم على وجه الخصوص ، قضايا مطروحة في كتاباتهم مثل (إشكالية العقل) والتنافر المعرفي بين الدين والعلم ، فاعلم أنه ملحد ناقل عن غيره ولا يملك قضية ذاتية نابعة من تصادم بين ما يعتنق وبين ما يراه صواباً ، بل هو جاهل بدينه أولاً ولا يعرف عنه شيئاً ، ثم هو قرأ قصاصات متناثرة من هنا وهناك ، فعقد لها محاكمة عاجلة مستخدماً في ذلك أدوات وأدلة إلحادية صدرت عن إشكاليات مغايرة ، قد يبدو فيها منطقياً أن يقابل العقل والعلم بخرافات الدين النصراني في الغرب عموماً ، أما مع التمحيص لدعوى تنافر الإسلام مع العقل والعلم فلا ترى أن أدواته يمكن اسقاطها على الإسلام بأى وجه من وجوه النقد.