المقامة الشنقيطية
حَدَّثَنَا أَبُو النَّوَادِرِ السُّوسِيُّ قَالَ:

امْتَطَيْتُ مَرْكَباً تَمْخُرُ عُبَابَ الْمُحِيط, حَتَّى رَسَتْ بِنَا فِي بِلَادِ شَنْقِيط, فَنَزَلْنَا هُنَاكَ أَرْضاً فَلَاة, وَلَمْ نَلْبَثْ أَنْ رَهَقَتْنَا الصَّلَاة, فَصَلَّيْنَا الظُّهْرَيْنِ جَمْعاً وَقَصْراً, وَأَلَمَّ بِنَا الْكَرَى فَقِلْنَا قَسْراً, ثُمَّ قَصَدْنَا خَاناً كَيْ نَسْتَحِمّ, ومِنْ نَصَبِ الْأَسْفَارِ نَسْتَجِمّ, نَنْعَمُ بِالرُّقَادِ عَلَى أَدِيمِ الْأَرْضِ, فَأَنْعِمْ بَعْدَ فِرَاشِ الْمَوْجِ بِاْلقَضَضِ.

وَلَمَّا أَصْبَحْنَا يَمَّمْنَا السُّوقَ, وَقَدِ اسْتَأْجَرْنَا خَيْلًا وَنُوقا, عَلَيْهَا أَحْمَالُ الْبَزِّ وَالتَّوَابِلِ, فَمَضَيْنَا بَيْنَ رَاغٍ وَصَاهِلِ, نَرْتَجِي مِنْ ذِي الطَّوْلِ الْأَرْزَاقَ, وَمَنْ كَدَّ اغْتَنَى أَوْ أَمِنَ الْاِمْلَاقَ, فَإِنَّ التِّجَارَةَ فِي الدُّنْيَا خَيْرُ الْمَكَاسِبِ, بِهَا نَالَ خُطَّابُهَا أَرْجَى الْمَطَالِبِ, وَلَمْ نَزَلْ بَيْنَ سَوْمٍ وَصَفَق, حَتَّى تَبَدَّى فِي الْأُفْقِ لَوْنُ الشَّفَق, كَأَنَّ السَّمَا فَوْقَنَا تَشَرَّبَتْ دَمَا, ثُمَّ أَضْحَتْ سَقْفاً بَهِيجاً حُلِّيَ أَنْجُمَا.

فَلَمْ أَرَ كَمِثْلِ ذَلِكَ الْمَغِيبِ, لِلشَّمْسِ فِي احْتِجَابِهَا الْمَهِيبِ, تَهُمُّ أَنْ تَلْحَقَ بِالْعَرْشِ فَتَسْجُدَ, لِمَنْ لَهُ كُلُّ مَنْ فِي الْأَكْوَانِ وَحَّدَ, إِلَّا مَنْ خَتَمَ الْإِلَهُ قَلْبَهُ, مِنَ الثَّقَلَيْنِ بِعَدْلِهِ فَأَضَلَّهُ, فَيَا لِلْكَافِرِ يُمْسِي وَيُصْبِحُ ظَالِمَا, وَغَدًا يَعَضُّ يَدَيْهِ وَيَغْبِطُ الْبَهَائِمَ, فَانْفَضَّتِ السُّوقُ كَأَن لَّمْ تَكُنْ, كَدَارِ الدَّنْيَا مَن يُّرِدْهَا يَهُنْ, فَقَفَلْنَا فِي جُمْلَةِ الرُّكْبَانِ, نَسْتَحِثُّ الْمَطَايَا لِلْخَانِ.

فَلَمْ يَرُعْنَا إِلَّا رِيحٌ كَالْأُسْدِ تَزْأَرُ, وَفِي كُلِّ صَوْبٍ لِلِّرمَالِ تَنْثُرُ, فَحِينَذَاكَ جَفَلَتِ الْبَهَائِمُ, وَخَارَتْ مِنَ الصَّحْبِ الْعَزَائِمُ, فَلَا أَدْرِي مَنْ مِنْهُمْ نَجَا وَسَلِمَ, وَأَدْرَكَ الْمَنَازِلَ بَعْدِي وَغَنِمَ, فَإِنِّي رَأَيْتُ بَعْضَهُمْ فِي مَهْلَكِ, فَوْقَ الثَّرَى بَيْنَ ظِلْفٍ وَسُنْبُكِ, وَلَمْ يُمْهِلْنِي الْفَحْلُ لِأَتَفَكَّرَ, فَطَارَ بِي كَفَرَسِ عَنْتَرَ, وَلَوْ كُنْتُ لَهُ حِينَذَاكَ مُكَلِّماً, لَقُلْتُ حَنَانَيْكَ إِنِّي أَرَى اللَّيْلَ مُظْلِماً, وَأَنَا غَرِيبُ الدَّارِ فَلَا تُفَارِقِ, هَذَا الصِّرَاطَ كَالسَّهْمِ الْمَارِقِ, فَهَاجَ دُونِي كَالْيَمِّ بِالْفُلْكِ, بَلْ إِنَّ رَاكِبَهُ أَدْنَى لِلْهُلْكِ, فَقُلْتُ آلَيْتُ الْيَوْمَ إِنْ نَجَوْتُ, فَلَا دَنَوْتُ مِنْ ذِي ظِلْفٍ وَلَا نَحَوْتُ, فَلَسْتُ أَرَى تَحْتِيَ إِلَّا شَيْطَانَا, قَدْ أَرْخَى لِأَظْلَافِهِ الْعِنَانَ, فَلَمْ يَزَلْ يَذْرَعُ بِي كُلَّ فَدْفَدِ, وَكُلَّ أَبْطَحٍ بَعِيدٍ فَرْقَدِ, وَمَا زَالَ يَخُضُّ بِي جَوْفَ اللَّيْلِ الْبَهِيمِ, حَتَّى أَضْحَتْ عِظَامِي كَالطَّلْعِ الْهَضِيمِ, كَأَنَّهُ بَرِيدُ مَلِكٍ يُسَابِقُ الرِّيحَ, وَيَأْبَى قَبْلَ الْبَلَاغِ أَنْ يَسْتَرِيحَ, أَوْ نَذِيرُ قَوْمٍ عَايَنُوا الْعَدُوَّ وَلَمَّا يُصْبِحُوا, فَاسْتَصْرَخُوا مَنْ خَلْفَهُمْ كَيْمَا لَا يُصَبَّحُوا, فَمَا بَرَكَ اللَّئِيمُ إِلَّا قُبَيْلَ الصُّبْحِ, بَعْدَمَا كَلَّتْ أَنْفَاسُهُ مِنَ الضَّبْحِ.

فَفَارَقْتُ لِلتَّوِّ ذَاكَ السَّنَامَ السَّرْهَدَ, وَأَنَا أَخَالُ مُقَامِي عَلَيْهِ سَرْمَدَا, فَمَا أَنْ وَطِئَتْ قَدَمَايَ الثَّرَى, حَتَّى عَدَوْتُ ثُمَّ مَشَيْتُ الْقَهْقَرَى, فَلَبِثْتُ سَاعَاتٍ كَالْأَعْشَى مُتَرَنِّحَا, وَلَوْ رَأَيْتَنِي لَخِلْتَنِي فِي الرَّمْلِ سَابِحَا, أَغُوصُ لِلُّسوقِ فِي تِلْكَ الْكُثْبَانِ, وَأَتَلَمَّظُ تَلَمُّظَ الظَّمْآنِ, تَلْفَحُنِي سِيَاطُ شَمْسٍ مُحْرِقَة, وَلَا أَرَى مِنَ الْآمَالِ بَارِقَة, حِينَهَا وَقَدْ تَقَطَّعَتِ الْحِبَالُ, وَتَفَصَّمَتْ مِنْ أَبِي النَّوَادِرِ الْأَوْصَالُ, وَلَمْ يَبْقَ لِي دُونَ اللهِ مِنْ سَبَبِ, فَمِنْهُ النَّجَاءُ وَقَضَاءُ الْأَرَبِ, فَاسْتَجْمَعْتُ قَلْبِيَ لِلدُّعَاءِ, أَرْجُو رَبَّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ, لَعَلَّهُ يُحْيِينِي فَإِيَّاهُ أَرْجُو, وَبِهِ أَسْتَغِيثُ عَسَايَ أَنْجُو, فَإِنِّي فِي هَذِي الْفَيَافِي هَالِكُ, إِنْ لَمْ يَتَدَارَكْنِي رَبٌّ رَحِيمٌ مَالِكُ, فَقُلْتُ اللَّهُمَّ ضَاقَتْ وَاسْتَحْكَمَتْ حَلَقَاتُهَا, وَذَلَّتْ لَكَ نَفْسِي وَخنَسَتْ خَلَجَاتُهَا, وَأَوْصَدَتْ عَنِّي الدُّنْيَا أَبْوَابَهَا, وَقَطَعَتْ عَنِّي الْخَلَائِقُ أَسْبَاَبَها, فَأَدْرِكَن رَبَّاهُ عَبْدُا لِسَانُهُ بِذِكْرِكَ لَهِجُ, وَأَغِثْهُ فَلَيْسَ يُرْجَى مِنْ سِوَاكَ فَرَجُ, فَأَبْصَرْتُ حِينَذَاكَ فَوَارِسَا, تَشْتَدُّ نَحْوِي سُوداً عَوَابِسَا, فَلَمْ أَدْرِ أَخَيْرٌ ذَاكَ فَأَسْتَبْشِرَ, أَمْ أنَهَّا مَنِيَّتِي فَأَصْبِرَ.

فَأَمَّنِي مِنْهُمْ فَتىً مُلَثَّمُ, ذُو هَيْبَةٍ فِيهِمْ مُقَدَّمُ, فَنَاوَلَنِي رِكْوَةً للهِ دَرُّهُ, بِهَا اللهُ أَحْيَانِي جَلَّ أَمْرُهُ, فَيَا لِبِشْرِي لِرَشْفِ الْمَاءِ, وَيَا لِشُكْرِي لِرَبِّ السَّمَاءِ, وَيَا لَهَا مِنْ شَرْبَةٍ شَفَتْ غَلِيلًا, كَالْبَلْسَمِ الشَّافِي أَحْيَا عَلِيلَا, وَلَقَدْ أَيْقَنْتُ بَعْدَ الشَّرَابِ, أَنَّ الدُّنْيَا مِثْلُ السَّرَابِ.
نَظَرَ الْفَتَى إِلَيَّ مَلِيًّا يَتَفَرَّسُ, وَلَيْسَ لِي مَا بِهِ مِنْهُ أَتَتَرَّسُ, فَلَمَّا تَرَادَّتْ إِلَيَّ بَعْدُ نَفْسِي, وَظَنَنْتُ أَنَّ الْفَلَاةَ لَيْسَتْ رَمْسِي, دَنَا الْفَتَى فَأَرْدَفَنِي عَلَى مَتْنِ الْأَدْهَمِ, فَطَوَى بِنَا بَيْدَاءَ الْقَفْرِ الْأَيْهَمِ, مَفَاِوزُ هَجَرَتْهُنَّ الْقَطَا, يَبَابٌ لَمْ تَرَ قَطُّ أَرْقَطَ, وَبَعْدَ الْجَهْدِ وَلَجْنَا وَاحَة, ظَلِيلةً بَهِيجَةً فَيَّاحَة. ثُمَّ نَزَلْتُ ضَيْفاً عَلَى الْهُمَامِ, مَنْ بِهِ أُنْجِيتُ مِنَ الْحِمَامِ, وَرَأَيْتُهُ دَنَا مِنْ جَزُورٍ عَاقِرَا, فَلَبِثْتُ مُكْرَماً يَأْتِينِي الْقِرَى, ثُمَّ جَاءَنِي كَرِيمُ الْفِعَالِ, يَمْشِي إِلَيَّ بِلَا نِعَالِ, فَقَالَ كَالْهَامِسِ فِي نَفْسِهِ, مُتَفَكِّراً فِيمَا جَرَى فِي أَمْسِهِ, عَجِبْتُ لِهَذَا الْعِلْجِ قَالَ الْفَتَى, وَحِيداً فِي الْفَلَاةِ كَيْفَ أَتَى؟ فَقُلْتُ أَيَا أُخَيَّ إِنِّي مُسْلِمُ, أَحْمَدُ الْإِلَهَ أَنِّي سَالِمُ, وَلَسْتُ عِلْجاً فَإِنِّي بِالْحَقِّ أَشْهَدُ, مُنْذُ عَقِلْتُ وَرَسُولِي أَحْمَدُ, قَالَ فَمَا بَالُ زَيِّ الِأَعَاجِمِ, قُلْتُ فَشَا فِي النَّاسِ فَمَا مِنْ لَائِمِ, بَلْ إِنَّ أَحْرَى النَّاسِ الْيَوْمَ بِالْمَلَامَة, مَنْ تَزَيَّا دُونَهُمْ بِالْقَمِيصِ وَالْعِمَامَة.

قَالَ انْتَسِبْ قُلْتُ أَنَا أَبُو النَّوَادِرِ, مُحَمَّدٌ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنُ عَبْدِ الْقَادِرِ, السُّوسِيُّ مَوْلِداً نَزِيلُ مُرَّاكُشِ, سَلَّمَهَا اللهُ بِالْغُدُوِّ وَالْعَشِي, قَدِمْتُ شَنْقِيطَ فِي رُفْقَةٍ مُتَّجِرَا, فَأَصَابَنَا إِعْصَارٌ بَثَّ رِيحاً صَرْصَرَا, فَجَفَلَ بِي الْفَحْلُ طِوَالَ اللَّيْلِ, كَجُلْمُودِ صَخْرٍ فِي مَصَبِّ السَّيْلِ, وَهَاجَ بِي كَهَيْئَةِ الْكَلِبِ, فَفَارَقْتُهُ اتِّقَاءَ الْعَطَبِ, فَلَمَّا أَنْ تَيَقَّنْتُ الْهُلْكَ, وَلَمْ أَرَ إِلَّا لِذِي الْجَلَالِ مُلْكَا, دَعَوْتُهُ تَضَرُّعاً وَنَجْوَى, وَسَأَلْتُهُ كَشْفَ الضُّرِّ وَالْبَلْوَى, فَبِكُمْ بِلُطْفِهْ أَنْجَانِي, وَبِمَرْآى خَيْلِكُمْ أَحْيَانِي.

قَالَ أَمَّا أَنَا فَأَبُو هَمَّامِ, ابْنُ الْمُخْتَارِ سَلِيلُ الْعِظَامِ, قُلْتُ فَمَا نَأْيُكُمْ عَنِ الْعُمْرَانِ, لَكَأَنَّكُمْ مِنْ غَيْرِ ذَا الزَّمَانِ؟ قَالَ فَعَاهِدْنِي عَلَى الْكِتْمَانِ, فَأَجَبْتُهُ بِأَغْلَظِ الْأَيْمَانِ.
قَالَ نَحْنُ قَوْمٌ اعْتَزَلْنَا, وَلَوْ غَشَيْنَا النَّاسَ لَزَلَلْنَا, أَفْتَى جَدُّنَا وَكَانَ عَالِمَا, أَنْ لَنْ يَبْقَى أَحَدٌ سَالِمَا, إِلَّا مَنْ لَاذَ بِالْبَرَارِي وَالشِّعَابِ, مِنْ سِهَامٍ قَدْ نُثِرَتْ مِنَ الْجِعَابِ, فِتَنٌ لَيْسَ مِنْهَا سِوَى اللهِ مُنْجِ, مُذْ رَمِدَتِ الْعُيُونُ بِمَرْأَى الْإِفْرَنْجِ, فَانْحَازَتْ مَعَهُ هَهُنَا فِئَامُ, وَالْأَرْضُ يُدَنِّسُهَا عُلُوجٌ لِئَامُ, فَلَمَّا أَنْ حَضَرَهُ الْيَقِينُ, أَوْصَى بِالذِّكْرِ فَهْوَ الْحَبْلُ الْمَتِينُ, وَقَالَ اثْبُتُوا فَمَوْعِدُنَا الْحَوْضُ, وَاعْتَصِمُوا وَلَا تَرْكَنُوا وَإِيَّاكُمْ وَالْخَوْضُ, ثُمَّ دَعَا أَلَّا يَهْتَدِيَ الْعِدَى إِلَيْنَا, وَأَنْ نُرْزَقَ السَّدَادَ فِيمَا أَتَيْنَا, فَلَمَّا قَضَى حَفِظَ الْقَوْمُ الْوَصَاة, فَمَا جَانَبُوا نَهْجَهُ قَيْدَ حَصَاة.

قَالَ فَنَبِّئْنِي مَا صَنَعَتِ الرُّومُ؟ فَقَدْ عَلِمْتُ أَنْ لَيْسَ مُلْكٌ يَدُومُ, فَيَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ رَحَلَ عُبَّادُ الصَّلِيب؟ فَحِرْتُ وَمَا دَرَيْتُ كَيْفَ أُجِيب, قَالَ أَمَا زَالَ الْعِلْجُ بِأَرْضِي, يَلْهُو بِمَالِي وَدِينِي وَعِرْضِي؟
قُلْتُ يَا صَاحِ بَلَى وَكَلَّا, رَحَلَ عَنَّا وَمَا أَرَاهُ وَلَّى, بَلْ خَلَّفَ فِينَا خَلْفاً هَجِينَا, فَغَدَا الْإِسْلَامُ لَدَيْهِمْ سَجِينَا, مِنْ بَنِي سَبَإٍ وَبَنِي سَلُولٍ, وَكُلِّ غَوِيٍّ أَفَّاكٍ ضَلُولِ, وَالْحُكْمُ فِينَا حُكْمُ الْفَاجِرِ, وَالشَّرْعُ لَدَيْهِمْ تَحْتَ الْحَافِرِ, قَدْ نَشَبَ الْعِدَى الدِّينَ بِالْمَخَالِبِ, وَأَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى نِحْلَةِ الْغَالِبِ.
قَالَ فَأَيْنَ رَاحَ الْعُلَمَا, وَبِيَدِهِمْ نُورُ وَحْيِ السَّمَا؟ قُلْتُ قَدْ أُلْجِمُوا أَوْ ذُلِّلُوا إِلَّا قَلِيلَا, وَنُحِّيَ الشَّرْعُ مِنْ أَرْضِنَا إِلَّا فَتِيلَا, وَمَا يُغْنِي حِلْمُ الْفَذِّ الْعَارِفِ, وَالْجَهْلُ كَمِثْلِ السَّيْلِ الْجَارِفِ؟

قَالَ فَفِيمَنِ الْأَمْرُ وَقَدِ اسْتَفْحَلَ الشَّرُّ؟ قُلْتُ صَارَ الْأَمْرُ إِلَى بَنِي عَلْمَانِ. قَالَ مَا سَمِعْتُ بِهِمْ فِي الْقَبَائِلِ وَالْبُلْدَانِ. قُلْتُ هُمْ مَسْخٌ مِنْ نَسْلِ الْإِفْرَنْجِ قَدْ نَمَا, اتَّخَذُوا الْعَقْلَ دُونَ اللهِ حَكَمَا.
قَالَ مُتَحَسِّراً فَمَا فَعَلَتِ الشَّامُ؟ قُلْتُ اسْتُبِيحَتْ فَالْمَسْرَى يُضَامُ, بَلْ غَدَتْ فِيهِ لِلْيَهُودِ دَوْلَة, وَلَهُمْ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ صَوْلَة.
قَالَ وَيْحَكَ وَأَيْنَ مِصْرُ؟ فَطَالَمَا جَاءَ مِنْهَا نَصْرُ. قُلْتُ هَيْهَاتَ قَدْ كَبَّلَهَا غِلْمَانُ, كَغَيْرِهَا جَنَّدَهُمْ عَلْمَانَ.
قَالُ فَمَا بَالُ أَهْلِ الْعِرَاقَيْنِ, قُلْتُ هُنَاكَ الرَّفْضُ وَبُغْضُ الشَّيْخَيْنِ, وَقَدْ عَدَوْا عَلَى أَهْلِ السُّنَّة, فَمَا لَهُمْ غَيْرُ السِّلَاِح جُنَّة.

قَالَ أَمَا وَمَا فِي الْوَرَى مِنْ خَيْرِ, فَمَا فِي اعْتِزَالِهِمْ مِنْ ضَيْرِ. قُلْتُ بَلَى إِنَّ الْخَيْرَ بَاقِ, فِينَا أَبَداً إِلَى يَوْمِ التَّلَاقِ, فِي كُلِّ أَرْضٍ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ قِلَّة, قَابِضِينَ بِاْلأَيْدِي جَمْرَ الْمِلَّة, يَدْعُونَ الْخَلْقَ إِلَى الْهِدَايَة, وَيَصْبِرُونَ مِنْهُمْ عَلَى الْإِذَايَة, وَيَدْفَعُونَ صُنُوفَ الْكَيْدِ, بِحِلْمِ الشُّمِّ أُولِي الْأَيْدِ, فَأَمْرُهُمْ كُلَّ يَوْمٍ فِي ظُهُورِ, وَأَمْرُ بَنِي عَلْمَانَ دَوْماً إِلَى ضُمُورِ. وَإِنَّ مِنْ بَنِي الْإِسْلَامِ, أُسْداً مُصْلِتِي الْحُسَامِ, أُبَاةٍ لَا يُغْمِدُونَ السَّيْف, وَلَيْسُوا يَنَامُونَ عَلَى الْحَيْف, , فَأنَعِمْ بِهِمْ فِي الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ, لَوْ تَرَيَّثُوا وَتَضَلَّعُوا مِنَ الْعِلْمِ, بَلْ وَلَغُوا دَماً مَعْصُومَا, فَغَدَا صَفُّ الْإِسْلَامِ بِهِمْ مَفْصُومَا, فَالنَّاسُ فِيهِمْ فَرِيقَانِ, وَسَطٌ سَوِيُّ وَطَرَفَانِ, فَاللَّهُمَّ اجْمَعْ كَلِمَةَ الْإِخْوَانِ, وَاعْصِمْهُمْ مِنْ كُلِّ غِرٍّ فَتَّانِ.

قُلْتُ أَيَا خَلِيلِي أَبَا هَمَّامِ, دَنَا الرَّحِيلُ يَا ابْنَ الْكِرَامِ, فَهَلَّا صَحِبْتَنِي فَكُنْ دَلِيلَا, فِي سَفْرَتِي وَدُمْ خَلِيلَا, فَأَجَابَنِي وَذَاكَ دَأْبُ الْجَواَدِ سَرِيعُ النَّدَى سَلِيمُ الْفُؤَادِ, فَمَضَيْنَا يَهْدِينِي السَّبِيلَ, وَيُسْمِعُنِي حَدِيثَهُ الْجَمِيلَ, فَلَمَّا أَشْرَفْنَا عَلَى الْبُنْيَانِ, قَالَ إِلَى الْمُلْتَقَى عِنْدَ الرَّيَّانِ, قُلْتُ جَزَاكَ رَبِّي بِالْحَوْرَاءِ, فَهَلُمَّ مَعِي إِلَى الْحَمْرَاءِ, قَالَ لَيْسَ الْعَامَ لَكِنْ عُدْ فِي القَابِلِ, صَيْفاً عِنْدَ اصْفِرَارِ السَّنَابِلِ, فَآتِيَ أَرْضَ الْأَمِيرِ الْمُلَثَّمِ, يُوسُفَ بْنِ تَاشَفِينَ الْمُلْهَمِ, فَأَقْتَنِيَ هُنَالِكَ كُتُبَا, بِهَا حَازَ الْأَوَّلُونَ الرُّتَبَ, فَفَارَقْتُهُ بِالدَّمْعِ وَخَلَّفْتُ ثَمَّ رُوحِي, أُعَلِّلُ النَّفْسَ بِلُقْيَا تَشْفِي قُرُوحِي, فَبَلغِّن رَبَّنَا سَلَامِي, لِلْفَتَى الشَّهْمِ الْهُمَامِ.