يقول الله تعالى "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين" ويقول:"ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا"..قد يلتبس الحق بالباطل عند طائفة من الناس فيظن ما هو من جنس الشبهات: دليلاً, ثم يصوغه في مقام الإشكال على برهانك يتوسل بذلك إلى التوصل لإبطال يقينك بإثارة احتمالات موهومة لضعضعة أركان حجتك (في نظره)
ويضع بعد ذلك رجلاً على رجل مغتبطا بإنجازه العظيم ولا تستبعد أن يخرج معلنا في الأندية أنه أفحم المسلمين..إلخ
وإذا تفحصت كلامهم ألفيته غريبا عن المنطق الدلالي الذي به يركن إلى تحقيق الحق والتعويل عليه ,مما يشي بحقيقة غياب معنى الدليل عند كثير منهم وإن كان بعضهم يروغ تارة ويراوغ أخرى مع علمه أن ليس شيء مما يقوله منسوبا لقبيلة البراهين العقلية أو الحجج المنطقية..فما معنى الدليل؟
هو كمعناه اللغوي ,وقد كانت العرب تستمعل في أسفارها أدلاء عارفين بالطرق لواسع خبرتهم ,يوصلونهم إلى الغاية المنشودة مقابل أجر,كما استعمل النبي صلى الله عليه وسلم وصديقه الصدّيق رضي الله عنه دليلا في رحلة الهجرة هو :عبد الله بن أريقط..
إذا حلّ دين اليحصبيّ فقل له***تزوّد بزاد واستعن بدليلِ ,
ومن المعنى اللغوي أيضاً, قول الله جل ذكره "ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا"
وهو إذن المرشد إلى المطلوب وفق مقدمات صحيحة عند عامة العقلاء..فكما أن الدليل السياحي يوصل للمعالم بسلوكه الطرق المؤدية إليها ولو أنه تنكبها تاه ,فكذلك الدليل المعنوي في الوصول للحقائق :لابد أن يكون مبنيا على طرق مسلمة عند العقل
فإن قيل :هذا العقل كلٌ ينسب نفسه إليه ,كليلى التي يدعي كل وصلاً بها وهي لا تقر لهم بذاك؟
فالجواب أن العقل إذا أطلق فلا يحتمل إلا ثلاثة أشياء:
-أن يكون عقلاً مجرداً هو مرجع إسنادي خارجي يراه الناس ويفيئون إليه في حل معضلاتهم..وهذا الكائن العجيب لا وجود له
-أو أن يكون المقصود عقل المتكلم ..فحين يقول :العقل يقول كذا,فإنما يتكلم باسم عقله هو فحسب وهذا غير حجة اتفاقاً
-أو أن يكون المراد اتفاق جماهير العقلاء على قضية ,بحيث يكون منكرها مناديا على نفسه بالجهل والخبط أو السفسطة والسخف
وهذا هو الذي المعتبر في دلالة العقل عند بناء البراهين
من ذلك مثلاً وحتى تكون الصورة مستبينة: إذا أتيت ملحداً فقلت له:لو أنك جئت بقصاصات ورق على كل ورقة منها حرف أبجدي..ثم وضعتها في صندوق..وجعلت تقلّب فيها آلاف السنين,فلن تستطيع "الطبيعة" أن تغش مثلا من قصيدة امريء القيس ولو بيتا واحدا ليأتلف أمامك مطلع قصيدته:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل *** بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فضلا عن أن تنتظم قصيدة كاملة في الحب أو المدح أو غيرها..
وحين يسلم الملحد "العقلاني"بهذه المقدمة..فلم يبق في بناء الدليل سوى أن تقدم له أي منظومة من صنع الله جل ثناؤه, يتصور العقل بداهة أنها أعقد من ذلك بكثير لدرجة أن العاقل يستنكف أن يعقد مقارنة بينهما, فيكون معنى الأولوية في لزوم فاعل مدبر= مشاهداً رأي العين كالشمس في رابعة النهار...فإذا تنكر لهذا ونكِس على رأسه..قائلا:لماذا يخلقنا الله وهو الغني..أو أنا لا أومن إلا بالمدركات..إلخ,فقد قابل البرهان الدامغ بشبهة مفادها:جهله ببعض الجوابات على بعض السؤالات ,فيتوهم هذا الجهل عائدًا بالنقض على البرهان ومن ثم يزعم أنه لا دليل وأن الدليل في صفه, مع ما تقرر :أن عدم وجدان الدليل لايلزم منه عدم المدلول في كل حال
إذ قد يخفى على بعض الناس لدقة مأخذه,فكيف بصاحبنا وقد عثر على الدليل وتعثر به فلما لم يجد جوابا عنه وكان يأنف الإذعان للحق ..التقط غرباله وصوبه نحو ضياء دليلك وهو يصرخ:انظر الضوء يخرج باهتا من هنا ..!
فالشبهة إذن :ما يكون من جنس المحالات أو الخيالات أو الأوهام أو الجهالات ونحو ذلك ,فلا تصلح لأن تكون أصلا معرفياً يبنى عليها نتائج ..ومثل هؤلاء كمثل مدخن..فإذا جئت تنصحه مبينا له بالدلائل كونه ضاراً لبدنه ,جابهك بقوله:البروفيسور فلان في الطب يدخن,ولو كان التدخين كما تقول لما دخن شخص كهذا..تأمل طريقة الاستدلال عند هذا تعرف طريقة تفكير الملاحدة وأذنابهم
ربما يتبع إن شاء الله تعالى..
Bookmarks