الحمد لله وحده.
أما بعد، فقد نقل أحد الإخوة في المجلس العلمي كلاما في شبهة الجبر في القدر، فأجبته بجواب رأيت أن أنقله إلى هنا عسى الله أن ينفع به.

يقول كاتب الموضوع المنقول:

"كتب بعضهم:

"وهذه المسألة مما أقض مضجع العبد لله وأقلق باله ، وعلى قدر ما قرأت واطلعت في الكتب والمتون والحواشي والملخصات والمبسوطات على قدر ما ازدت حيرة وعجبا.

وحق لكل إنسان عاقل أن يحتار في المسألة ولا يصل فيها إلى قرار ويسلم بالعجز والقصور وإلا ماذا أبقى الإنسان لربه إن كان قد أحاط بسر القدر والقدر سر الله في خلقه !!

أسئلة كثيرة تتلاطم كموج البحر في خلدي .. هل يريد الإنسان إلا إن أراد الله له أن يريد !!!؟؟؟ وإن كانت إرادته بإردة الله فهو الجبر !! وإن كانت حرة مستقلة عن الله فهو العجز لله - سبحانه !!! أمران أحلاهما مر !!
وهل للإنسان كسب واختيار في غير الخير والشر مع ان كسبه للخير والشر يتأثر بغيرهما مما يحيط بالإنسان!!!؟؟
هل يختار الإنسان من هو وأين ولد والبيئة التي نشأ فيها والدين الذي لقن في صغره !!!؟؟
وأليس لهذه الأمور المحيطة بالإنسان منذ نشأته أثر كبير عميق في اختياراته وطريقة تفكيره ونظرته للحياة والإله ، وهل الإنسان إلا ابن بيئته !!!!؟؟؟
يعني الإنسان لا يختار بيئته تماما مثلما أنه لا يختار لونه وطوله وشكله ، إلا أنه يؤاخذ بكسبه وإرادته المتأثران لا محالة ببيئته التي وجد نفسه مغروسا مجبرا مكرها فيها !!!؟؟؟

وسألت هنا وهناك ولففت ودرت سائلا عباد الله وخلق الله :
هل إرادة الإنسان بإرادة الله أم بغير إرادة الله !!!؟؟
وهل يريد الإنسان إلا ما أراد الله له أن يريد !!!؟؟؟

وكل من سألت يردد عبارات قراها أو سمعها دون ان يسبر لب القضية ، بل هو للأسف لم يتجاوز طبقة القشرة الخارجية !!

ودائما كنت أخرج بنتيجة واحدة مؤداها : الجبر لا محالة ، وإلا فالشرك لا محالة !!!!

ولم تعني وتغني عني كل تلك العبارات المنمقة والجدلية المطولة ، فالأمر يعود إلى مستوى واحد ساذج لا تعقيد فيه ، ودائما ما كنت أسلم لمن أسأل من المشايخ وأنسحب من الحوار لأني أعرف أني بغيتي ليست عنده فأكتفي بالصمت حفظا لمقامه وبعدا عن تكدير صفو المجلس .

حتى أعثرني الله على شيخ وقور جليل يبدو النور في محيا وجهه ، فتوسمت فيه المعرفة وسألته ..

فتبسم وقال : يا ولدي هذا سر مصون لا يبلغ كنهه أحد ، غير أنه يكفيك أن تعرف أن الله حكيم عليم ، وأنك لا تحاسب إلا بما تريده أنت بحريتك واختيارك ، انت تختار وتريد الشيء ولكن ذلك لا يكون إلا بارادة الله سبحانه وتعالى لك ان تريد الشيء وتختاره .

فقلت له : وكيف أحاسب على أمر أردته باراداة الله لي ان أريده !!؟؟

فقال : بل أردته أنت وما أراده الله لك إلا لأنه علم في الأزل أنك تريده باختيارك !!
يا بني .. علم الله محيط بكل شيء في الأزل وهذا هو قدره سبحانه وتعالى الذي لا مفر منه فما علمه يكون وفق علمه ووفق ما أملاه في اللوح.
والله بعلمه الازلي علم أن نفسك بعد ان تخلق وتكون تريد وتختار مثلا في لحظة معينة في مكان معين ان تعصي الله معصية معينة وهذا اختيار منها حر دون املاء ، فكتب الله ذلك في اللوح وفق علمه فلا يكون إلا ما كتبه ، وأراد سبحانه وقوعه فلا يكون إلا ما أراده ، وأراد من نفسك أن تريد ما علم أنها تريده في الأزل فلا تريد الشيء وتوجد الإرادة إلا بارادة الله وجودها ، فأنت الذي اخترت وإن لم تكن عملية اختيار كالتي نعرفها في الدنيا إلا أنك اخترت أصلا كل دقائق حياتك وسكناتك وحركاتك وعلمها الله في الأزل وعلم ما ستختار فأراده وفق علمه فكان ما أراد ، فهو اختيار منك تم قبل أن تكون وعلم الله أن نفسك ستختاره فأراده ، فكل شيء معد سلفا وجاهر كالسيناريو مثلا وأنت تعيد فقط تمثيل كل الخطوات التي سبق لك أن اخترتها وأردتها في علم الله وكلنا نمشي ونعيد تمثيل السيناريو الموضوع لنا سلفا ولكن باختيارنا له قبل أن نوجد ويوجد في علم الله .

فقلت له : وكيف أريد الشيء وأنا لم أخلق بعد في العدم !!؟؟
فتبسم وأجاب : ذلك سر الحكيم العليم الذي هو ليس مثلي ولا مثلك ، هو أدرى بهذه النفوس إذ خلقها وهو أدرى بكوامنها وكنهها ، فبعلمه وحكمته البالغة علم اختيار نفسك الحر قبل ان تكون نفسك .

ولما راى معالم الإعياء على وجهي استطرد قائلا : يا ولدي ليس هذا مما تدركه العقول ولا أنت به مكلف ولا له مجعول ، فلا ترهق نفسك به وسلمه لله سبحانه مع الكف عن الخوض فيه وتنزيه الله عن كل ما لا يليق .
هو سر لله سبحانه وتعالى لا يطلع عليه خلقه ، وآلية عمله لا نعرفها ولا نستيطع التعبير عنها فنكتفي منها بما تصله عقولنا ونلجم العقل عن الخوض فيما لم نملك مفاتحه ، فالله يحاسبنا على كسبنا وأفعالنا الاختيارية وحاشاه عن الظلم ولا نريد شيئا إلا بارادته سبحانه لنا أن نريده ولا يكون إلا ما يريد ، أما كيف ولمَ ولعل وعسى فلن تقدم ولن تؤخر شيئا ومن من الخلق يستطيع أن يزعم أنه قد أحاط بكل شيء علما وفهما !!

أراحني جوابه والتزمت مقاله وآمنت بأن للعبد كسب واختيار يخلق الله بموجبه الأفعال ويحاسب العبد عليه دون أن أستطيع أن أفهم آلية الأمر في نفسه وكيف يكون ويتم ، فقط أعلم أن للعبد إرادة وأن الله أراده مريدا للشيء باختياره وارادته".

فما رأيكم بارك الله فيكم؟"

انتهى النقل.

فأجبته بقولي:

الحمد لله وحده

أما بعد، فإن مسألة القدر من المسائل التي زلت فيها أقدام وانحرفت فيها أفهام، وخاض فيها عتاة الفلاسفة وأذنابهم من أهل الكلام، فلا زالت أفهامهم تتهافت فيها حتى أسلمتهم إلى الإلحاد في صفات الله، ثم إلى الإلحاد عن دينه جملة واحدة ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولا شك أنه إشكال ليس بالهين، وأنه من محارات العقول، ولهذا نهانا رسولنا صلى الله عليه وسلم عن الخوض فيه وأمرنا بالإيمان به، مع علمنا بأنه لا يتعارض مع حرية الاختيار التي جعلها الله للعباد حجة عليهم يوم الحساب. فواجب المسلم الموحد التسليم - بيقين لا يساوره شك - بامتناع هذا التعارض، والامتناع عن مطالعة كلام الفلاسفة في ذلك حتى لا تعلق في نفسه الشبهة وتزل قدمه إلى مهاوي الضلال، نسأل الله السلامة.

ولكن إذا ما أثيرت الشبهة وظهر القول الباطل فإنه يتعين الرد عليه وبيان الخلل فيه.

فسأستعين بالمولى جل وعلا في رد هذه الشبهة التي أوردها صاحب المقال، وأصبحت متكأ للملاحدة وأذنابهم في إبطال الحق الذي جاء به المرسلون، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.

سآتي على ما في مقال الكاتب بالتفصيل - وأشكر للأخ الفاضل نقل الموضوع للتعقيب عليه - ولكن ينبغي التقديم بمقدمة مهمة في الابتداء، أسأل الله التوفيق فيها والسداد.


فنقول إن هذا التعارض المزعوم بين القدر والاختيار مخالف للنقل والعقل والحس جميعا.

فأما مخالفته للنقل فإن الله تعالى قد قرر في محكم التنزيل أن الإنسان مختار لنفسه، وأنه قد ألهم الفجور والتقوى (أي أوتي من التمييز والعقل ما به يرى الحق بدليله والباطل بدليله، فيختار على علم)، فارتهنت نفسه يوم البعث بما كسب وبما عملت يداه، فحق عليه الجزاء وقامت عليه حجة ذلك، واعترف يومها بما اقترف، فلا ظلم ولا بخس، وهذا مستفيض في القرءان، منها على سبيل المثال لا الحصر:

((لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)) [البقرة : 286]

((كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)) [المدّثر : 38]

((فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)) [آل عمران : 25]

((لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)) [إبراهيم : 51]

((يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)) [آل عمران : 30]

((ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ)) [آل عمران : 182]

((هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ)) [الأعراف : 53]

((وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ)) [فاطر : 37]

((وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)) [آل عمران : 145]


فهذا المعنى مستفيض في القرءان، ومع ذلك يقول جل في علاه:

((وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً)) [الإنسان : 30]

((مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)) [الأعراف : 178]

ويقول كذلك جمعا بين المعنيين:

((بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ)) [الروم : 29]

((أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)) [الجاثية : 23]

فانظر كيف أن هذا الكفار قد اختار اتخاذ الهوى إلها، اختيار حرا على علم مسبق، ومع هذا، فقد كان - في نفس الوقت - موصوفا بأن هذا إضلال من الله له، وبأنه لا يهديه أحد من دون الله قطّ إن كان الله قد كتب عليه خاتمة الضلالة (نسأل الله العافية)!

لقد سأل الصحابة رضي الله عنهم - وهم أبر الناس قلوبا وأنقاهم عقولا - رسول الله صلى الله عليه وسلم، في وجه كونهم مطالبين بالعمل والسعي في الحياة الدنيا مع أن آجالهم قد قدرها الله لهم من قبل أن يخلقهم، فقال بأبي وأمي: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له". هذه الكلمات المعدودات، من جوامع الكلم، وفيها فقه المسألة لمن عقلها وتدبرها، نسأل الله الرشاد.

فالنبي عليه السلام يقرر أن أعمالنا هذه قد كتبت وقضي أمرها من قبل أن نخلق، ومع ذلك فقد أوجب الشارع علينا أن نسعى وأن نختار، مع علمنا بأننا مهما اخترنا من أمرنا فلن نخرج عما كتبه الله لنا من قبل خلقنا، ولكننا معاشر المخاطبين بالرسالات لن نصل إلى ذلك الذي كتبه الله إلا من طريق تقوم به حجة الحساب علينا يوم الحساب، ألا وهو خيارنا الذي اخترناه فيما بين أيدينا من الأمر، وعلمنا بالحس والمشاهدة والعقل جميعا أننا قد اخترناه لأنفسنا ولم نجبر عليه، وكان بوسعنا أن نختار خلافه قبل الإقدام عليه ولكننا اخترناه بعلم ورضى. فهذا هو وجه استحقاقنا للأجر أو العقوبة، فيما علمناه من معنى الثواب والعقاب والعدل وتقرر عندنا بموجب اللغة والحس والقياس العقلي المجرد.. وبهذا لا تقوم لأحد حجة يوم القيامة إن أراد الاحتجاج بالقدر، فقد أحياه الله وأبقاه في الأرض ما كان يسعه به أن يختار خلاف ما اختار، وكان يعلم عاقبة ما ارتضاه لنفسه من اختيار، فلما جاءه أجله، خرج من الدنيا على نحو قد اختاره بعلم فاستحق ما قامت عليه الحجة به!

وهذا وجه قولنا إنه لا تعارض في الحس والمشاهدة والعقل كذلك، فنحن نرى أننا مختارون وندرك ذلك ولا نجهله، ولا نرى جبرا من أحد على أفعالنا، ولا نرى "تسييرا" لأفعالنا بقوة خارجية تغلب إراداتنا وتقهرنا فلا نملك لها دفعا! وفي الوقت نفسه فإننا نقرر بضرورة العقل أن هذا الكون لا ينضبط إلا بخالق قد كتب في تقديره لكل ذرة من ذراته مستقرا ومستودعا، على علم مسبق تام بما هو كائن في كل ركن من أركان خلقه، فلا يأتي حدث من الأحداث فيه إلا وقد علمه وقدره تقديرا، وعلم ما كان قبله وما هو كائن بعده، وما كان من سواه من احتمالات أخرى لو كانت كيف يكون الحال، وإلا فإن تخلف هذا الوصف عن الخالق = نقص وجهل تأباه العقول السوية في حقه، ولا حقيقة له إلا خروج ذلك الكون عن حكمه وسلطانه التام، ومصيره إلى ورود الخلل على نظامه المحكم، ثم إلى الفوضى والزوال، وهذا باطل بيّن بالعقل والحس جميعا.

وفي الحقيقة فإن سبب الخلل الذي ساحت فيه عقول الفلاسفة من قبل، ومن تعلق بكلامهم من المتكلمين، إنما هو الخلط في المعاني والمصطلحات، ولا أراه إلا خلطا متعمدا من حيل وألاعيب الشيطان، لتزيين الباطل في أعينهم.

فعندما يسأل أحدهم السؤال: هل الإنسان مخير أم مسير، فإنه ينبغي أن يحرر مراده أولا بهذا التسيير، هل يقصد به الجبر، الذي حقيقته اضطرار الإنسان إلى عمل يخالف اختياره على علم؟ فإن قالوا نعم فقد كذبوا، فإن هذا يخالف الحس والمشاهدة، ويخالف ما جاء به المرسلون! وإن قالوا لا، ليس هذا ما نقصد، فأين التعارض إذن مع كون الإنسان مخيرا؟؟ لا تعارض البتة! لأن القدر المحسوم مسبقا لمصير الإنسان واختياراته لا يتعارض مع حرية تلك الاختيارات والإرادات على وجه من الوجوه! تلك الحرية التي علم الإنسان - بموجب فهمه لمعنى العدل في سائر ألسنة البشر - أنه يستحق من أجلها الجزاء على اختياراته بعد قيام الحجة الرسالية عليه. ونقول نعم أنت ميسر لما تختار ولكنك لست مسيرا (بما ينفي معنى الاختيار نفسه!). فصحيح قد قدر الله لك اختيارك وكتبه عليك من قبل أن يخلقك، ولكن لا حجة لك في ذلك يوم الحساب لأنك قد تحقق العلم والإقرار لديك بمعنى الاختيار - الذي رأيته في الدنيا بالحس والمشاهدة - وبوجوب الجزاء والحساب بناء على ذلك الاختيار! فمن عقل هذا المعنى وتأمل فيه، فإنه ينزل معنى الاختيار ومعنى الجبر ومعنى الجزاء والحساب والعدل، كل منها في منزله الصحيح، بلا إفراط ولا تفريط، ومن ثمّ يزول لديه الإشكال من أساسه! لأنه لم يظهر ذلك الإشكال أصلا إلا من الخلط في المعاني بانسحاب معنى القدر على الجبر، الذي يقابل معنى الاختيار ويناقضه، وليس الأمر كذلك ولله الحمد! فإذا تقرر ذلك لدينا، سهل علينا الرد على كل جاهل من أقزام الإلحاد ورؤوسهم، يقول إن القدر ينافي حرية الاختيار!


أما بعد، فيقول الكاتب:
وإن كانت إرادته بإردة الله فهو الجبر !! وإن كانت حرة مستقلة عن الله فهو العجز لله - سبحانه !!! أمران أحلاهما مر !!
ونقول صحيح إن إرادة الإنسان مشروطة بإرادة لله (كما أن وجوده نفسه كمخلوق مشروط بإرادة خالقه) ولكن هذا ليس جبرا، لأن مطلق نسبة الإرادة إلى الإنسان - وهي حق مشاهد معلوم - تنقض ذلك الجبر المزعوم وتبطله، كما لا يماري في ذلك أحد! وهذه النسبة بمجردها، هي التي عليها ينبني الحساب والثواب والعقاب باللغة والعقل والمشاهدة، بغض النظر عما هو كائن من تقدير لها عند الله تعالى من قبل وقوعها! فليس من شأنك عند الحساب أن الله قد كتب عليك أن تختار ما اخترته من قبل أن يخلقك، ولكن الشأن في أنك قد اخترته اختيارا حقيقيا عن علم وإرادة تعلمها وتشهد بها على نفسك، وتعلم أنها توجب لك ما سمعته في الخبر من استحقاق الثواب أو العقاب! نحن اليوم أحياء نختار، ولا ندري ما كتب الله لنا من اختيارات، ولكننا ندري أننا مستحقون للجزاء عليها لأنها أفعالنا التي اخترناها قبل الشروع فيها، بلا جبر ولا قهر! فإن وقع الاختيار والعمل، تبين لنا ما كان يخفى علينا من تقدير الله المسبق، وبلغنا أجلنا الذي كتب الله لنا ونحن نشهد على أنفسنا باستحقاق الجزاء كما نشهد لله بإحكام تقديره وتمام حكمته وعدله، سبحانه وتعالى.

فهذا حقيقته ومؤداه: العلم بأنك مهما عملت فإنك ميسر إلى ما خلقك الله له أيا ما كان ذلك (وهو اللفظ الصحيح في هذا المقام وليس "مسير" التي ضربها الفلاسفة)! وهذا ما جمعه النبي عليه السلام في كلمات معدودات محكمات تفصل الأمر وتحكم التحرير وتحسن البيان وتبطل ما تهافت به الفلاسفة، ولله الحمد والمنة!

أما قول كاتب الموضوع:
وهل للإنسان كسب واختيار في غير الخير والشر مع ان كسبه للخير والشر يتأثر بغيرهما مما يحيط بالإنسان!!!؟؟ هل يختار الإنسان من هو وأين ولد والبيئة التي نشأ فيها والدين الذي لقن في صغره !!!؟؟
فالجواب نعم ولا شك، له كسب واختيار، ولكن قوله إن كسب الإنسان للخير والشر يتأثر بكذا، فهذا خروج عن أصل موضوع القدر والجبر والاختيار إلى مسألة أخرى وهي مسألة الابتلاء والامتحان! وهو تشغيب وتخليط لا نراه إلا في كلام الملاحدة ولا نستغربه منهم، فهم أهل لكل جحود وعناد!
إن الفرق ظاهر بين أن يكون الاختيار صعبا يحتاج إلى إخلاص وعزيمة وصدق، حتى يقوى الإنسان على مخالفة ما ورثه من البيئة التي ولد فيها (ومن ثمّ يستحق أن يضاعف له الأجر بذلك)، وبين أن يكون الاختيار ممتنعا أصلا بالحس أو بالعقل، وتكليفا بما لا يطاق، على ما يتحصل من معنى الجبر! نعم الاختيار ابتلاء وامتحان في حقيقته ولا شك، فكان ماذا؟ وما علاقة ذلك بمعنى القدر الذي يستشكله الكاتب؟
يقول:
وأليس لهذه الأمور المحيطة بالإنسان منذ نشأته أثر كبير عميق في اختياراته وطريقة تفكيره ونظرته للحياة والإله ، وهل الإنسان إلا ابن بيئته !!!!؟؟؟
ونحن نسأله: وهل هذا الأثر عندك جبر لا يملك فيه الإنسان اختيارا، فلا تقوم عليه حجة الحساب به يوم الحساب، أم أنه كان يملك - بأصل خلقته - أن يترك الباطل مهما كانت تلك الأمور المحيطة به، وأن يلزم ما أمره الله به من بعدما علمه وعلم جزاء من خالفه؟؟

وتأمل قوله:

يعني الإنسان لا يختار بيئته تماما مثلما أنه لا يختار لونه وطوله وشكله ، إلا أنه يؤاخذ بكسبه وإرادته المتأثران لا محالة ببيئته التي وجد نفسه مغروسا مجبرا مكرها فيها !!!؟؟؟
المتأثران لا محالة؟ سبحان الله! هذا عين كلام الملاحدة! هذا ما نراه في حجاججهم قاتلهم الله.

ترى الملحد يدور حول نفسه يسعى بأي طريق من الطرق للوصول إلى تسويغ فلسفي مقنع لما هو عليه من إلحاد عما جاءه من خبر السماء! تراه يبدأ بالكلام عن القدر والجبر وكيف أن عقله لا يستسيغه، ثم تراه يقول إننا مساكين مغلوبون على أمرنا لأننا نولد في بيئة فيها كذا وكذا، فكيف يحسابنا الله على اختياراتنا؟ ثم تراه إن حوجج في ذلك يقول لك إن الإسلام فيه كذا وكذا، ومشكلته كذا وكذا، فإن حوجج قال إن وجود الله ليس ضروريا، وقد قال الفيلسوف فلان كذا وكذا، فما جوابكم؟ إلى آخر ذلك المراء العفن الذي يعلمه من خَبِر جحودهم وعرف حالهم، قاتلهم الله!!

وقول الكاتب:

وكل من سألت يردد عبارات قراها أو سمعها دون ان يسبر لب القضية ، بل هو للأسف لم يتجاوز طبقة القشرة الخارجية !!
وما لب القضية إذن؟ لب القضية كبر وهوى متبع عند أصحاب تلك الشبهات، وتسمية للأشياء بغير أسمائها، تزيينا للباطل وزخرفة للإلحاد! لبها كما يقول الكاتب:

ودائما كنت أخرج بنتيجة واحدة مؤداها : الجبر لا محالة ، وإلا فالشرك لا محالة !!!!
فإن كان الكاتب قد عافاه الله من تلك الشبهات، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ولكن لا يبدو لي ذلك، أسأل الله له الهداية. وكلام الشيخ الذي يزعم أنه سأله فيه تخليط ومخالفات واضحة!

فقوله:

بل أردته أنت وما أراده الله لك إلا لأنه علم في الأزل أنك تريده باختيارك !!
هذا تكلف واضح وهو باطل إذ حقيقته نفي أصل الإرادة عن الله جل وعلا! إن كان الله لم يرد لنا ما اخترناه إلا لأنه علم أنه من إرادتنا، فأين إرادته إذن، وأين سبقها لإرادتنا وتعلقها به تعلق المشروط بالشرط كما قرره القرءان؟ بل الله خلقنا على ما يريد، وأخرج من ظهر آدم خلقا للجنة وخلقا للنار، قدر لكل منهم اختياراتهم وأعمالهم تقديرا، على إرادته هو لا على إرادتهم هم!! فهذا الجواب من صاحبه، حقيقته إثبات العلم لله مع نفي الإرادة والخلق عن عقيدة القدر، والله المستعان!

وأعجب منه قوله:

فأنت الذي اخترت وإن لم تكن عملية اختيار كالتي نعرفها في الدنيا إلا أنك اخترت أصلا كل دقائق حياتك وسكناتك وحركاتك وعلمها الله في الأزل وعلم ما ستختار فأراده وفق علمه فكان ما أراد ، فهو اختيار منك تم قبل أن تكون وعلم الله أن نفسك ستختاره فأراده
فقوله إننا اخترنا من قبل أن نخلق ومن قبل أن نكون، قول باطل يكذبه الحس والمشاهدة كما ينافي المنقول والمعقول! ولو صح لما كان لبعث الرسل وإنزال الكتب من فائدة، ولجاز أن يحاسبنا الله يوم القيامة على أفعال لا ندري أننا فعلناها، لأنها كانت منا قبل أن نكون وقبل أن نخلق!! فكيف يتصور هذا المعنى أصلا؟

ومما يؤكد فساد تصور هذا الشيخ المجيب، قوله:

فكل شيء معد سلفا وجاهر كالسيناريو مثلا وأنت تعيد فقط تمثيل كل الخطوات التي سبق لك أن اخترتها وأردتها في علم الله وكلنا نمشي ونعيد تمثيل السيناريو الموضوع لنا سلفا ولكن باختيارنا له قبل أن نوجد ويوجد في علم الله .
تأمل قوله: "اختيارنا له قبل أن نوجد ويوجد في علم الله!!"

فهل يعقل أن يوجد المعلول قبل علته؟!

فقلت له : وكيف أريد الشيء وأنا لم أخلق بعد في العدم !!؟؟ فتبسم وأجاب : ذلك سر الحكيم العليم الذي هو ليس مثلي ولا مثلك ، هو أدرى بهذه النفوس إذ خلقها وهو أدرى بكوامنها وكنهها ، فبعلمه وحكمته البالغة علم اختيار نفسك الحر قبل ان تكون نفسك .
أما أنا فأتبسم وأقول بل هذا جهل محض، لأن المعدوم لا اختيار له لأنه أصلا لا وجود له، وهذا لا يماري فيه عاقل!!

هو سر لله سبحانه وتعالى لا يطلع عليه خلقه ، وآلية عمله لا نعرفها ولا نستيطع التعبير عنها فنكتفي منها بما تصله عقولنا ونلجم العقل عن الخوض فيما لم نملك مفاتحه ، فالله يحاسبنا على كسبنا وأفعالنا الاختيارية وحاشاه عن الظلم ولا نريد شيئا إلا بارادته سبحانه لنا أن نريده ولا يكون إلا ما يريد ، أما كيف ولمَ ولعل وعسى فلن تقدم ولن تؤخر شيئا ومن من الخلق يستطيع أن يزعم أنه قد أحاط بكل شيء علما وفهما !!
قلت: والله لو أن الرجل اكتفى بهذا في جوابه لكفى وأراح، ولكنه خاض فيما لم يحسن تصوره، وأتى بما ينافي العقل والنقل جميعا، ويبطل معنى الإرادة نفسها، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله!"

انتهى المقصود من الرد، والله أعلى وأعلم، وله الأمر من قبل ومن بعد.