د. إبراهيم عوض ـ الدوحة
ظهر للدكتور رفعت سيد أحمد فى مجلة "كتابات" الضوئية بتاريخ 22 تموز 2005م مقالٌ عنوانه "عن سيد القمنى والتهديد بقتله"، وذلك بمناسبة الضجة التى أحدثها سيد القمنى مؤخرا بسبب إعلانه اعتزال الكتابة خوفا من أن تنفذ تهديدها الجماعة الإسلامية التى قال إنها أرسلت له رسالة مشباكية تهدده فيها بالقتل جزاء اجترائه فى كتاباته على الإسلام، وقد لفت انتباهى قولُ الدكتور رفعت عن القمنى: "بين أيدينا اليوم قصة طريفة لواحد ممَّن يسمون أنفسهم بالمفكرين الاسلاميين المستنيرين اسمه سيد القمنى، ويتردد أنه حاصل على درجة الدكتوراه (لا أدرى فى أى فرع، أو فى أى جامعة، ولا متى حصل عليها) خرج علينا برواية شديدة العجب والهزل، ولكنها لا تخلو من طرافة ودلالة، فلقد قال الرجل إنه هُدِّدَ بالقتل من قِبَل تنظيم "القاعدة فى بلاد الرافدين" برسالة جاءته على بريده الالكترونى وأمهلته الرسالة خمسة أيام لكى يعلن التوبة مما كتبه ضد الإسلام فى بعض الصحف والمجلات التى لا تُقرأ مثل "روز اليوسف"، وإنه أخذ التهديد بِجّدّية، ومن ثم فهو قد أصدر بياناً نشرته بعض الصحف ومنها "صوت الأمة" يعلن فيه التوبة والتبرؤ مما كتب طيلة حياته. لقد استوقفتنى هذه القصة التى تناولتها بعض الصحف بحيادية، والبعض الآخر صنع منها حدوتة عما أسموها بــ"الارهاب الظلامى الجديد" وأعادوا اجترار نفس "اللبانة" القديمة السخيفة التى صدعوا رؤوسنا بالحديث عنها رغم أنها وبالشكل الذى يقدمونه غير موجودة، وقد تكون كلها من ألفها الى يائها مفبركة مثل قصة الأخ سيد القمنى!! ومن هذه الصحف كانت المعالجات المبالغ فيها والتى تحمل العديد من التزيد والتطير التى قدمتها صحيفتا "القاهرة" و"الأهالى" يومى 19 و20/7/2005". وأود أن تكون وقفتى هنا عند قول د. رفعت إنه لا يدرى فى أى موضوع ولا من أية جامعة ولا متى حصل القمنى على درجة الدكتوراه، فمن الواضح الذى لا يمكن أن تخطئه العين تشكيكه فى حصول سيد القمنى على هذه الدرجة أصلا، إذ جاءت إشارته إليه بأنه "واحد ممَّن يسمون أنفسهم بالمفكرين الاسلاميين المستنيرين اسمه سيد القمنى، ويتردد أنه حاصل على درجة الدكتوراه". وهى عبارة لها ما وراءها، لأن الدكتور رفعت، فيما أعرف عنه من خلال قراءتى له أو سماعى به، ليس بالشخص الهازل ولا بالذى يلقى الكلام على عواهنه، وبخاصة فى مثل هذا السياق، اللهم إلا إذا كنت قد ضُلِّلْتُ فيما فهمتُ من شخصيته، وهو أمر وارد، وإن كنت أستبعده.
كذلك هل يمكن أن يُقْدِم د. محمد عباس (وهو الذى له من الأعداء الكثيرون ممن ينتظرون منه زَلّةً يوقعونه بها فى شر أعمالهم) على وصف ذلك الشخص نفسه فى مقال له بموقعه على المشباك تحت عنوان عام: "ثَبِّتْ قلبى على دينك"، وعنوان جانبى: "أفاعٍ سامَّةٌ"، بأنه "زوَّر لنفسه شهادة الدكتوراه ليسبق اللقبُ اسْمَه، ... لم يركع لله ركعة ويجاهر بقصص ممارساته للزنا والفجور والمخدرات، ... لا يُجِيدُ إلا الكذب وترديد أقوال المستشرقين، ومع ذلك فإن الدولة أفردت له المجلات والصحف وتولى اليساريون الأشرارُ تلميعَه وتقديمَه كمثقف، وجاءته الأموال من حيث لا ندري ليكتب موسوعات كلها كذب وعفن وطعن في الدين تهلل لها النخبة العفنة"، هل يمكن أن يُقْدِم الدكتور عباس على وصفه بهذه الألفاظ ويشكِّك فى حصوله على الدكتوراه على هذا النحو، وبتلك اللغة القوية، دون أن يكون متأكدا من أنه لم يحصل على دكتوراه ولا يحزنون؟
صحيح أن هناك مقالا فى ذات الوقت (ركيكا أبله يقوم على المبالغة الجامحة لواحد لم أسمع به من قبل اسمه عزت أندراوس نشره فى موقع "coptichistory" عن القمنى أيضا، وبعنوان مثير يقطر، مثل سائر المقال، كذبا وسما وحقدا لا على الرئيس مبارك وحده بل على مسلمى مصر أجمعين رغم كل ما فعله المسؤولون فى عهد مبارك لإرضاء الأقباط ومجاملتهم، هذا نصه: "قَتْل الكتّاب والصحفيين فى عصر مبارك") يقول فيه صاحبه: "وُلِدَ سيد القمنى في مدينة الواسطى محافظة "بني سويف" عام 1947م، وحاصل على ماجستير في الفلسفة من جامعة عين شمس، ثم حصل أيضاً على درجة الدكتوراه، وله العشرات من الكتب والمؤلفات التي أثارت جدلاً واسعاً في الشرق الأوسط كله هى: "موسى وآخر أيام تل العمارنة"، (3 أجزاء)، و"الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية"، و"النبي إبراهيم والتاريخ المجهول"، و"رب الزمان"، و"حروب دولة الرسول"، وآخر كتبه المنشورة هو "شكراً بن لادن"، كما ينشر مقالاً أسبوعياًّ بمجلة "روز اليوسف"..."، لكن الملاحظ أنه، فى الوقت الذى عَيَّنَ فيه أندراوس الجامعةَ التى يقول إن القمنى أحرز فيها درجة الماجستير (وإن لم يعين الكلية ولا القسم ولا الموضوع الذى كتب فيه رسالته المذكورة)، فإنه لم يفعل شيئا من ذلك عند حديثه عن الدكتوراه التى يقول إنه حصل عليها، إذ كل ما ذكره هو أنه حصل عليها. فهل هذا مجرد مصادفة؟ أم هل هو تعمية مقصودة بغية التلبيس على القارئ المسكين؟ إن الكرة الآن فى ملعب سيد القمنى، ومن ثم فبيده إذا أراد أن يضع حدا لهذا اللغط وذلك الاختلاف، إن لم يكن من أجل تبرئة ساحته والنَّأْى بسمعته عن أن تكون محلا للتشكيك من قِبَل المخالفين أو للمزايدة من جانب المشايعين، فعلى الأقل من أجل تجلية الحقيقة، تلك الحقيقة التى يعلن دائما أنه إنما يتجشم ما يتجشم فى الكتب التى تحمل اسمه من أجل إظهارها! فهل تراه يفعل وينهى هذا الخلاف الذى أذكر أنه قد ثار من قبل منذ وقت غير قريب، ولم يحاول من يومها فى حدود علمى أن يحسمه، مع أن حسمه فى منتهى السهولة، إذ كل ما هو مطلوب منه أن يحدد القسم والكلية والجامعة التى درس فيها وحصل منها على درجة الدكتوراه، والموضوع الذى كتب فيه رسالته، والمشرف الذى كان يدرس على يديه طوال تلك الفترة، والمكتبة الجامعية التى يمكن المتشككين أن يراجعوها ليَرَوْا نسخ الرسالة التى حصل بها على الدرجة المذكورة، والتاريخ الذى تم فيه ذلك، والزملاء الذين كانوا يدرسون معه تحت توجيه المشرف ذاته، ومدى أهلية الجامعة التى حصل منها على الدكتوراه لإعطاء مثل تلك الشهادة إن كان حقًّا وصدقًا قد حصل عليها، ولماذا لم يطبع رسالته حتى الآن يا ترى؟ بل لماذا لا نرى له مؤلَّفا واحدا فى تخصصه، وهو الفلسفة، فى الوقت الذى نرى عدة مؤلفات (عدة مؤلفات لا عشرات فيما أعلم) تحمل اسمه، كلُّها فى الإسلاميات، وهى ليست من تخصصه ولا هو منها فى شىء؟... مما يستطيع أن يجُبّ به عن نفسه الغِيبَة ويُلْقِم المتَّهِمين له حجرا يُسْكِتهم بل يُخْرِسهم، وفى نفس الوقت يريح ضمائر الباحثين عن الحق والحقيقة، ولا شىء غير الحق والحقيقة؟
إن الأمر، كما نرى، فى منتهى السهولة واليسر، ولا يحتاج لوقت أو جهد أو بحث أو مال أو أى شىء آخر سوى أن يجيب سيد القمنى على الأسئلة السالفة، وكان الله يحب المحسنين! وبغير ذلك فللقارئ الحق فى تصديق اتهام المتَّهِمين للقمنى بأنه لم يحصل على الدكتوراه على الأقل، وبخاصة أنه من غير المفهوم أن يبقى واحد كسيد القمنى له عشرات المؤلفات كما يزعم أندراوس، الذى يعرف تماما مثلما أعرف أن الكلام ليس عليه ضريبة ولا جمرك ولا جزية، على الأقل لأن المسلمين الآن فى أهون حالاتهم وأذل فترات تاريخهم، فهم لا يستطيعون أن يفرضوا شيئا حتى ولا على قطة جرباء (فما بالكم بإنسان يزعم أن القمنى قد وضع عشرات المؤلفات، لا آحادها فقط كما هو الواقع فى حدود ما أعرف؟ على الأقل هناك عدة كتب تحمل اسمه)، أقول إنه من غير المعقول أن يبقى عبقرى مثله خارج الجامعة دون أن يحاول على أهون تقدير أن يتقدم لشَغْل وظيفة مدرس فى إحدى الجامعات المصرية مادام حاصلا على جواز المرور الذى يخوِّل له العبور من بوابة الجامعة إلى حيث يكون دكتورا فيها بدل بقائه دون شغل ثابت فيما أفهم طوال هذا الوقت، أو على الأقل فى وظيفة أقل مستوى من شهادته وخبرته! والطريف أن سيد القمنى يكتب تحت اسمه فى بعض المواقع أنه "باحث أنثروبولوجى وأستاذ جامعى من مصر". فأما "باحث أنثروبولوجى" فنفوّتها له، لكن متى كان سيادته أستاذا فى الجامعة؟ ليس الأستاذ الجامعى بالتمنى، ولكن ما وقر فى كشوف أعضاء هيئة التدريس، وصدّقه العمل فى المحاضرات وقبض المرتبات، "أو كما قال. ادعوا الله"! ومع هذا فالأمانة تقتضينى أن أذكر هنا الآن، وبعد أن كنت قد فرغت من هذا المقال، أن الأستاذ مجدى عبد اللطيف الصحفى بجريدة "آفاق عربية" قد أخبرنى أن واحدا من بلد سيد القمنى أكد له أنه حاصل فعلا على درجة الدكتوراه، ثم أضاف الصديق الصحفى أنه قد اشتغل فترة فى الجامعة. فإن كان هذا صحيحا لقد اقتربنا إذن من حسم المسألة لصالح سيد القمنى، لكن الوثائق بطبيعة الحال هى الفيصل ما دام هناك على الجانب الآخر من يشكك فى كل هذا. ولا شك أن الرجل سيقدم خدمة كبيرة للتاريخ العلمى فى مصرنا الحبيبة لو أجاب على الأسئلة التى طرحتُها عليه فى هذا المقال والتى خطرت لى من خلال ما قرأتُه فى هذا الموضوع!
ومما له مغزاه فى هذا السبيل أيضا أن الدكتور كمال حبيب، فى مقاله الذى نشره مؤخَّرًا فى موقع "المسلم" بعنوان "المشروع العلماني يعلن فشله في صورة القمنى"، لم يستخدم قط لسيد القمنى لقب "دكتور". لقد جاء على لسان ابنة سيد القمنى فى مقال يحمل اسمها (وإن لم يكن بالضرورة من تأليفها) فى نشرة "سورية الغد" الضوئية عنوانه: "فى مجتمع اللئام، الصمت أبلغ من الكلام: حكاية والدى مع روز اليوسف " أن حبيب قد حاز هزيمة منكرة أمام والدها فى برنامج "الاتجاه المعاكس" بقناة "الجزيرة" القطرية، وهو ما يمكن أن يلقى بشىء من ظلال الريبة على موقف حبيب. بيد أننى (لحسن الحظ، لا أدرى، أو لسوئه!) كنت أحد من شاهدوا هذا السجال بين الرجلين، وأشهد أن حبيب كان مهذبا دمثا غاية الدماثة والتهذيب، ولم يحاول على أى نحو أن ينزل إلى السوقية فيلجأ إلى التراقص والتقصع وتلعيب الحواجب والأذرع كما تصنع النسوان البلدى، بَلْهَ الشماتة الرخيصة بالإسلام والمسلمين، فى الوقت الذى كان كلامه مؤيَّدًا بالحجة الناصعة الدامغة المفحمة، ومن ثم لم يكن بحاجة إلى الزعيق العصبى المتوتر الذى يدل على إفلاس صاحبه وشعوره بالخطر وأنه على شفا جُرُفٍ هارٍ يمكن أن ينهار به فى أى حين فى نار جهنم: جهنم الهزيمة فى "الاتجاه المعاكس" على أقل تقدير، إن لم يكن فى جهنم الحمراء التى نعرفها نحن المؤمنين!
قد يقول بعض الناس الطيبين (من أمثالى قبل أن ترينى الحياة بعض عجائبها التى لا تُصَدَّق) أنه من غير المتصور إقدام أحد على تزوير شهادة دكتوراه، لكننى كنت شاهدا فى السنوات الأخيرة على حادثة من هذا النوع بل أشد فجورا، إذ لم يكتف صاحبها بالقول بأنه حاصل على درجة الدكتوراه وكفى، بل قدم لإحدى الجامعات الخليجية شهادة تقول إنه أستاذ مساعد، على حين أنه لم يحصل إلا على الدكتوراه فحسب، ولم يسبق له أن ترقى إلى الدرجة التى تليها. وقد ظل عامين يقبض بكل بجاحة مرتبًا أعلى من المرتب الذى يستحقه دون أن يطرف له جفن، ثم لم يكتف بذلك بل فكر، بعد أن اطمأنّ إلى أنه قد قَرْطَسَ المسؤولين بالجامعة الخليجية المذكورة، فى أن يخطو الخطوة التالية فتَقَدَّم للكلية التى يعمل بها بطلبٍ يعلن فيه عن رغبته فى التقدم لوظيفة "أستاذ" حِتَّةً واحدةً، وأعد لذلك مجموعة من الأبحاث السريعة لا علاقة بينها وبين تخصصه على الإطلاق. وكان من الممكن أن ينجح فى تدليسه هذا أيضا لولا مصادفة عارضة لا مجال هنا للحديث فى تفصيلاتها كشفتْ أمره فاتصلت الجامعة بليبيا حيث كان يشتغل قبل قدومه إليها وتأكدتْ أنه لا يزال مدرسا وأنه لم يسبق له أن ترقى إلى وظيفة "أستاذ مساعد"، وأنه لجأ إلى حيلة خبيثة فى خداع المسؤولين بتلك الجامعة، إذ لعب على الاختلاف فى مسمَّيات الدرجات الجامعية بين الدول العربية، فأوهمهم أن "أستاذ مساعد" الليبية (ومعناها "مدرس") هى هى نفسها "الأستاذ المساعد" فى جامعتهم (وهو اللقب التى يعنى فى ليبيا وفى بعض الدول الأخرى أن صاحبه "أستاذ مشارك"). وقد انتهى أمره إلى الطرد من الجامعة، لكن الأيدى التى تهتم بأمثاله لم تدعه يسقط، بل امتدت فى حنان فانتشلته من الطين وعينته فى الحال، وفى ذات الدولة أيضا، فى وظيفة لا تقل مرتبا عن وظيفته الأولى. وقد كنت فى البداية متعاطفا معه ظنًّا منى أن ما يشيعه فى كل مكان عن اضطهاد بعض زملائه المصريين له ممن كانوا قد سبقونى إلى تلك الجامعة واتهامهم إياه بالإلحاد ظلمًا هو كلام صحيح، وبالذات لأنى كنت أراه حتى بعد معرفتنا بإنهاء الجامعة عقده يمشى فى تؤدة وثقة ورباطة جأش شأن من لم يرتكب مثل هذه الخيانة الخسيسة، أو هكذا كنت أظن بخبرتى الحياتية الضيقة، وإن كان بعض زملائنا ممن يفهمون النفس البشرية أفضل منى كانوا يعلقون على ذلك بقولهم: "مياه مالحة، ووجوه كالحة!"، إلى أن جمعتنى الظروف على انفراد بأحد المسؤولين فى الجامعة، فسألته عن حقيقة الأمر، فأكد لى تأكيدا قاطعا ما حكيته هنا، فسقط الرجل من اعتبارى، إذ أحسست بعد تعاطفى المتسرع معه وكأنه قد خدعنى أنا شخصيًّا قبل أن يخدع الجامعة المذكورة. واسم هذا الزميل، سامحه الله، هو عبد الله إبراهيم، وهو للأسف الشديد من العراق الحبيب بلد البطولة والأبطال والتصدى المُذِلّ لمغول العصر المتوحشين الهمج.
أقول هذا حتى يبادر الزميل المذكور رغم ذلك كله إلى تصحيح ما كتبته هنا إن كان الأمر كما يصوره هو وليس كما يقول الآخرون مما تأكدت بنفسى منه، كما أبادر أيضا على الفور للاعتذار إلى عراق الكرامة ممرّغ أنوف أبناء العم سام فى الأوحال والزفت والقطران وقاهرهم وكاسر شوكتهم ومحطّم أسطورتهم وجاعل الذى لا يشترى يتفرج على خيبتهم القوية والذى ستكون هزيمتهم على أيدى أبطاله بمشيئة الله سببا فى انهيار أمريكا واندحار إمبراطوريتها الشيطانية! ولقد جعلتنى هذه الحادثة أعيد النظر فيما صنعه الإنجليز معى فى المجلس الثقافى البريطانى بالقاهرة حين تقدمت منذ عدة أعوام بطلب لتوثيق شهادة الدكتوراه التى أحرزْتُها من جامعة أوكسفورد، إذ ضاق صدرى ضيقا كبيرا حين أخبرونى أن الأمر سيستغرق عدة أيام قبل توثيق الشهادة لأنهم سوف يرجعون إلى جامعة أوكسفورد لسؤالهم فى الأمر، وكان ظنى أنهم سوف يوثِّقونها فى الحال اعتمادا على خاتم الجامعة الذى لم أكن أظن أن بإمكان أحد الشك فيه، ولم أقتنع بقولهم إنهم قد اكتشفوا أن بعض الأشخاص يزوِّرون أمثال هذا الخاتم. ولكن ها هو ذا أحد الدكاترة المحترمين يصنع ما هو أشنع من هذا وأضلّ سبيلا! ومن يدرى؟ فقد يكتشف أحدهم يوما أن الدكتوراه التى معه مضروبة هى أيضا. ولم لا؟ ألم يُقْدِم ببرودة قلب على تزوير درجته الجامعية؟ ترى هل هناك فرق؟ ألا يمكن أن يكون قد خدع الليبيين من قبل كما خدع القطريين فيما بعد؟ إننى، على المستوى شخصى، أميل إلى استبعاد ذلك رغم ما ظهر لى من أمره، لكن الأيام، كما تَعَلَّمْنا منها هى نفسها، قادرة على أن تذهلنا بين الحين والحين بما فى جَعْبَتها مما تتفوق به حتى على أكثر المؤلفين شطحات خيال! ومما تقدم يرى القارئ كيف أن الباحث سوف يظل حيران مبلبلا فى مسألة سيد القمنى ما لم يتقدم الرجل بما يدل على صدق دعاواه هو ومحبيه ومشجعيه وأن ما يشيعه عنه خصومه كَذِبٌ مائةً فى المائة. ولسوف يستحق حينئذ شكر الباحثين لاهتمامه بتجلية هذه القضية الشائكة ووضعه إياهم على المحجّة البيضاء التى ليلها كنهارها والتى لا يزيغ عنها إلا هالك، وهو ما لا نريد له ولا لنا أن نكونه!
لكن المسألة التى لا يمكن حسمها تماما وإلى غير رجعة ولا مَثْنَوِيّة هى طبيعة الإعلان الذى أذاعه سيد القمنى عن نيته فى اعتزال الكتابة: ترى هل أعلن الرجل ذلك بعد أن تبين له أنه كان على خطإ فيما كتبه عن دين الله فأراد أن يبين للقراء أنه قد كان على ضلال فيما كتب عن سيد الأنبياء ودينه، وها هو ذا الآن يتوب عما جنت يداه؟ لقد قرأت مثلا لكاتب من كتّاب صحيفة "آفاق عربية"، هو الأستاذ عامر شماخ فى عدد الخميس 28 يونيه 3005م تحت عنوان "القمنى يفضح العلمانيين"، حديثه عن سيد القمنى على أساس أنه قد تاب فعلا توبةً نصوحًا وأن هذا هو السبب فى أن عشرات الضالين والملاحدة ممن يعادون الإسلام قد هاجموه هجوما شرسًا، ومن ثم رأينا الأستاذ شماخ يدعو سيد القمنى إلى الثبات فى توبته وألا يبالى بما يقول هؤلاء فى حقه. لكنى حين ذكرت هذا الرأى لبعض من خاطبونى فى الموضوع لم يأخذوا تفسير الأستاذ شماخ مأخذ الموافقة، بل استبعدوه على الفور وبقوة. أم ترى القمنى فعل ما فعل سعيًا لإحداث ضجة من أجل غرض فى نفس يعقوب، أىْ غرض فى نفس سيّدٍ ذاته؟ لكن ما هذا الغرض؟ أهو، كما جاء فى كلام بعض الكُتّاب، الترويج لكتبه التى لا يقرؤها أحد كما قالوا، وهى حيلة يلجأ إليها بعض الكتاب الذين يهاجمون الدين فكانوا، فيما قرأنا، يتفقون مع أمثالهم على أن يتهموهم فى الصحف بأنهم ملاحدة وأن الكتاب الفلانى أو العلانى فيه وفيه وفيه مما يتناقض مع دين الله الحنيف ويسىء له حتى يثيروا الرأى العام ويلفتوا إليهم وإلى كتبهم الأنظار؟ وممن شككوا فى الأمر كله، فيما أذكر، الأستاذ مجدى محرم، الذى أكد وقتها فى تعليق له بجريدة "شباب مصر" الضوئية أن القمنى سوف يلحس كلامه بعد قليل ويعود إلى الكتابة كرة أخرى حين تؤتى الضجة التى أراد إحداثها أُكُلَها فى تنبيه الناس إليه من جديد بعد أن انزلق إلى عالم النسيان. لقد كانت حجة فريق من أصحاب هذا التفسير أنهم لاحظوا على الفور قيام المكتبات التى تنشر للقمنى أو توزع كتبه بالإعلان عن تلك الكتب التى صرّح هو نفسه بتبرؤه منها! وهذه، فى الواقع، ملاحظة مهمة! أم ترى الغرض من وراء ذلك هو التشنيع على المسلمين جريا وراء البدعة الشيطانية الجهنمية السائدة فى العالم الغربى هذه الأيام والتى يتبناها فريق آبقٌ مجرمٌ ممن ينتمون لهذه الأمة مَيْنًا وزُورًا وتصويرهم إياهم هم بصورة المتوحشين الذين لا يطيقون أن يسمعوا رأيا مخالفا، وذلك بغية التغطية على الجرائم البشعة التى ترتكبها أمريكا فى حقنا نحن المسلمين والتى لن يكون المسلمون "بنى آدمين" حقيقيين إذا غفروها لأمريكا وللغرب كله، تلك الجرائم التى يُنْزِلها بنا الغرب منذ قرون دون أن تكون استجابتنا لها على المستوى الذى يليق بأمة حية كريمة عندها نخوة ودم حار يجرى فى عروقها لا ماء مثلج يتلكأ خلالها، وهى جرائم من شأنها أن تحرّك الجماد وتخلق فيه الإحساس والثورة، فما بالنا بالبشر الذين يتحولون، على العكس من ذلك للأسف، إلى جمادات بل إلى جثث هامدة بل متحللة تطيرها هبات النسيم الخفيفة ذراتٍ فى الهواء؟ وفى هذه الحالة فإن الرسالة التى يقول سيد القمنى إنه قد تلقاها على المشباك لن يكون لها أى أساس من الصحة. أم ترى للرسالة وجود حقيقى، لكن مرسلها ليس إلا شخصا عابثا أراد أن يداعب سيد القمنى مداعبة سخيفة كما خمّن أحد الكتاب؟
كلّ ذلك علمه عند الله، الذى لا تخفى عليه خافية من الوقائع الظاهرة أو النيات المستكنة فى الصدور أو المؤامرات المَحِيكَة التى لا تريد أبدا مهما طال الزمن أن تترك المسلمين فى حالهم رغم المستنقع المنتن الذى انغرسنا وانغرزنا فيه والهوان الذى يحاصرنا من كل جانب، اللهم إلا الجانب الذى يقف على ثغره أبطال فلسطين والعراق وأفغانستان ممن لم يَبْلُهم الله بتحول دمائهم كما تحولت دماؤنا نحن إلى ماء ثلجى! يا أمة المسلمين، ما الذى جرى حتى أصبحتِ بهذا التنطع وتلك البلادة والاستكانة لسكين الجزار الغربى والأمريكى بالذات؟ أوقد فَقَدْتِ صلاحيتَك للحياة؟ فلِمَ لا تُقِرّّين بذلك إذن وتعلنين على العالم أنك خرجتِ من التاريخ وتقولين لأمريكا إنك لا تريدين بعد اليوم أن يكون لك أية صلة بمحمد ودينه وتاريخه، على الأقل حتى تتركك أمريكا فى حالك ما دمت ستتحولين إلى أمة من العبيد والإماء بدلا من زنوجها الذين شعروا بأنهم لا يقلّون عن البِيض فى شىء فثاروا لكرامتهم وتمردوا على قيودهم إلى أن أصبح من بينهم عدد من كبار المسؤولين فيها هى نفسها؟ إياك أيتها الأمة الكاذبة الخاطئة أن تزعمى أن السبب فيما أنت فيه هو حكامك! إن هؤلاء الحكام ما هم إلا جزء منك، فيهم ما فيك من حسنات وعيوب. ثم إنك أنت التى صنعتِهم وألَّهْتِهم، ولم يكونوا ليتجبروا عليك ويذيقوك ما تَشْكِين منه كذبا من إذلال ومرمطة لولا أنك على الأقل قد رَضِيتِ بما يصبّونه على دماغك من إهانة واستبداد! والله لو أن ملاكا من ملائكة البشر الأطهار تولى حكم أى بلد مسلم ثم رأى منك هذا الهوان والنفاق والجبن لاستحال فى الحال إلى جبار من أعتى الجبارين، فهذه هى طبائع البشر! إن المال السائب، كما تقولين، يعلّم السرقة، وقياسا عليه فإن الشعوب الذليلة تعلّم ولاة أمورها الاستبداد والغشم والأذى والتجبر على خلق الله المنافقين التافهين البلداء. هل هناك أحد من البشر الذين نعرفهم أو ممن لا نعرفهم يجد تدليلا ثم لا يتدلل ويمدّ قدميه فى وجوهِ بل فى عيونِ عبادِ الله؟ هاتوه لى، وأنا أصدِّقكم وأرجع عن رأيى. لهذا فإنى لم أعد أَحْمِل على الحكام بقدر ما أُحَمّل الأمة المسؤولية، إذ فَرَّطَتْ فى حقوقها، فلم يعد لها الحق فى أن تشكو من حرمانها هذه الحقوق. ثم إن السماء والأرض لا تبكيان على أحد ما دام هذا الأحد لا يبكى على حاله! وانتظرى إذن يا أمتى الذبح والإبادة من أمريكا، وفُضِّيها سيرةً من الآن، وأريحى الآذان من هذه الشكاوى التعيسة المتهافتة الضارعة الذليلة التى لا تصدر من القلب بل تلوكها الشفاه لَوْكًا متبلِّدًا كريهًا إلى أن تصبحى خبرا من أخبار التاريخ الغابر لا يثير حتى المصمصة من الشفاه لأن أصحابه لم يكونوا يستحقون أى قدر من الشفقة، ونحن معك بطبيعة الحال يصدق علينا ما يصدق عليك. ذلك أننا بَضْعَةٌ منك، ولسنا أفضل من غيرنا فتيلا!
على كل حال لا أحب أن أهمل هذه الفرصة لأُورِد نص ما قاله الأستاذ شماخ لتميزه عن سائر الآراء كما ألمحتُ. قال: "عشرات من سيوف العلمانيين سُلَّتْ علي رفيق الأمس سيد القمني، ونسي هؤلاء أنه كان منذ يوم أو يومين سيدهم وحبرهم ورأس الحربة فيهم، فلما تاب اعتبروه خائنًا جبانًا, وهذا منطق العلمانيين –كاليهود، جهلاء، يعبدون مصالحهم، تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتي.
التوبة التي أعلنها القمني سببت صدمة عنيفة لهؤلاء الضالين. تلحظ ذلك فيما كتبته مجلاتهم وصحفهم, وهذا يدفعنا إلي ترجيح الرأي الذي يقول إن توبة القمني حقيقية وإنه بالفعل قد برئ مما قدم, وعاد إلي دينه وربه, وليس كما قالوا إنه أعلن توبته جبنًا وخوفًا من مضمون الرسالة التي تلقاها من إحدي المنظمات (الجهادية), خاصة أن «روز اليوسف» أكدت أنه تلقي تهديدات مماثلة من قبل... لكنه لم يتخذ قرارًا بالتراجع مثل قراره هذه المرة. ونحن لا نستغرب أن يعود علماني أو ملحد إلي ربه, بل إن هناك شواهد عدة لكتاب كبار كانوا رءوسًا للكفر والزندقة, وصاروا الآن أعمدة هدي ومفكرين مرموقين, وبالتالي لا نستغرب أن يعود القمني إلي الحق, وبنفس شجاعته وحماسه في الباطل. والمتأمل لبيان توبته لا يشك لحظة أنه صادق, بخلاف ما يدعيه بعضهم من أن هناك خلافًا بينه وبين رئيس تحرير روز اليوسف الجديد, فإنه قد انقطع عن الكتابة -حسب بيان روزا- قبل التغييرات الصحفية بأسبوعين, كما أن الكتابة في المجلات والصحف تعد جزءًا من نشاطه الفكري الذي يتوزع علي الفضائيات وتأليف الكتب والمساجلات والفعاليات الفكرية. يقول القمني في بيان توبته: «إنني أعلن براءة صحيحة من كل ما سبق وكتبته, ولم أكن أظنه كفرًا, فإذا به يُفهم كذلك. لذلك أعلن توبتي وبراءتي من كل الكفريات التي كتبتها في مجلة روزا اليوسف وغيرها براءة تامة صادقة يؤكدها عزمي علي اعتزال الكتابة نهائيًا من تاريخ نشر هذا البيان».
العلمانيون كانوا يتمنون أن يظل القمني علي فكره المتطرف لأن في ذلك رواجًا لسلعهم البائرة ودعمًا لمصالحهم, لكن الله أخزاهم وفضح سرهم, ولمن أراد أن يعرف من هم العلمانيون فليعد قراءة بيان القمني الذي وصف ما كان يكتبه بالكفر, وهذا يضعنا أمام واقع لابد من مواجهته, فإن مرابط الخيل من صحف ومؤسسات حكومية مخصصة للشيوعيين والملاحدة, آن الأوان لتخليصها من هؤلاء الأبالسة الذين يحاربون الإسلام وأهله, ويشككون في دينه ورسالاته مستخدمين وسائل التضليل وأساليب الخداع كالذي يضع السم في العسل, كما آن الأوان كي يحترم النظام معتقدات الناس ودينهم, فلا يقدم هؤلاء الفساق ويجعلهم قادة المجتمع ورموزه, ويؤخر المسلمين الموحدين.
وللمهتدي سيد القمني نقول: اصبر فإن وعد الله حق, ولا تيأس من رَوْح الله, فإن الإسلام يجُبّ ما قبله, وكُنْ كعُمَر, فما أقعده ما فعله في الجاهلية عن الذود عن الإسلام وحب الله ورسوله, فرزقه الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة, ولا تلتفت إلي الجاهلين الملحدين فإنما هم سدنة الشيطان وعبدته. اللهم إن كان صادقًا -وأنت تعلم ذلك منه- فثبته وارزقه اليقين والحجة, واجعله يا ربنا لسان صدق واختم له بخير. اللهم آمين".
وقد انقسم التيار الذى على شاكلة القمنى فى أفكاره وكتاباته (على شاكلته على الأقل قبل أن يعلن اعتزاله الكتابة وندمه على ما فَرَط منه) فريقين: فريق يثنى عليه ويجد له العذر فيما أعلنه من انتواء التوقف عن الكتابة نهائيا، وربما كذلك فى التفكير فى اللجوء إلى دولة غربية حسبما قرأت فى أحد المقالات، ويشنّ على مناوئيه هجومًا طاغيًا يبدو وكأنه كان مدبَّرًا بلَيْل، لكنه ينتظر فقط المناسبة لكى ينطلق مجلجلاً بل هادرًا مصمًّا، وفريق آخر ينتقده ناعتًا إياه بأنه بئس المفكر الجبان، ويمثلهم الدكتور شاكر النابلسى، الذى كتب فى موقع "إيلاف" بتاريخ 17 يوليه 2005م تحت عنوان: "سيّد القمني: بئس المفكر الجبان أنت!" ما يلى:
"1- الساقط في بئر الخوف
قال الباحث والكاتب المصري سيّد القمني ، عبر مكالمة هاتفية تلقتها منه (إيلاف،16/7/2005)، أنه قرر التوقف عن الكتابة والحديث لوسائل الإعلام والنشر في الصحف، والمشاركة في الندوات. ليس هذا فحسب، بل و أعلن "براءته" من كل ما سبق له نشره من كتب ومقالات وبحوث، قائلاً إنه تلقى تهديدات جدية بقتله إذا لم يقدم على هذه الخطوة، ولأنه "ليس راغباً في الموت بهذه الطريقة"، فقد قرر الامتثال للتهديدات التي تلقاها عبر عدة رسائل في بريده الإليكتروني، ومن هنا فقد قرر أن يتوقف عن الكتابة والإدلاء بأية تصريحات صحافية، ويرجو الذين هددوه أن يقبلوا موقفه، ويعدلوا عن تهديدهم إياه.
2- المفكر الجبان
بمرارة وحسرة وألم شديد، نقول أنه كان بودنا، وكنا نرحب، بأن يتخلّى سيّد القمني عن افكاره السابقة عن قناعة شخصية ومعطيات فكرية جديدة تثبت لنا وله أنه كان على خطأ، لا أن يكون هذا التراجع وهذه "التوبة" تحت ضغط وتهديد الجماعات الأصولية الإرهابية. والتراجع والمراجعة الفكرية عن قناعة ونتيجة لفكر جديد وتصوّر جديد، عمل محمود ومشروع وخطوة مباركة. وعبد الخالق حسين سبق وساق عدة أمثلة على ضرورة التغير الفكري. حيث لا يتغير إلا الحجر الذي هو بدوره يتغير أيضاً بفعل عوامل الطبيعة. فالفيلسوف الألماني نيتشه يقول: "الحية التي لا تغيِّر جلدها تهلك، وكذلك البشر الذين لا يغيِّرون أفكارهم يهلكون." والفيلسوف البريطاني برتراند راسل يقول: " أنا لست مستعداً أن أموت في سبيل أفكاري لأنها قد تتغير." (يا ليت القمني غيرّ أفكاره لأنها تغيرت من ذاتها فعلاً، لا لأنه تحت تهديد الإرهاب الأصولي، لكنا رفعنا له القبعة تبجيلاً). والمفكر الاجتماعي العراقي علي الوردي يقول : "الأفكار كالأسلحة تتبدل بتبدل الأيام. والذي يريد أن يبقى على آرائه العتيقة هو كمن يريد أن يحارب الرشاش بسلاح عنترة بن شداد".
3- سيّد القمني: بئس المفكر الجبان أنت
سيّد القمني: لقد كنت مثالاً للمفكر الجبان، وتركت لدى الإرهابيين الأصوليين المجرمين انطباعاً كاذباً، بأنهم انتصروا على الليبراليين، ولو شددوا علينا التهديد فمن الممكن أن نتخلّى عن أفكارنا وآرائنا كما تخلّيت أنت جبناً وضعفاً وحباً في الحياة. وهذا من حقك الشخصي ومن حق عائلتك وأطفالك عليك. ولكنك بهذا نصرت الإرهاب الأصولي على الفكر العقلاني الشجاع بتصرفك هذا. لقد انتصر الإرهاب على التنوير. انتصرت الغوغاء على الفكر العربي الحر. ولكن لا بأس، فلست أول وآخر من تخلّى عن أفكاره في مصر المحروسة، تحت التهديد والوعيد الغوغائي من خفافيش الظلام، ومن كارهي التنوير، وأعداء المستقبل من السلفيين الارهابيين. الشيخ علي عبد الرازق صاحب الكتاب القنبلة المدوية ( الإسلام وأصول الحكم، 1924) الذي قطع فيه، أن لا دولة في الإسلام، قال محمد عمارة بأن عبد الرازق قد ندم على كتابة هذا الكتاب. وأن ابنه (محمد علي عبد الرازق) قد شهد أمام محمد عمارة بأن أباه كان قد قرر قبل موته 1970 أن يكتب كتاباً ينكر فيه كل ما جاء في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) ولكن الموت لم يمهله. وهذا مثال على "عقدة الذنب الدينية" التي تميّز بها الفكر المصري في القرن العشرين. كذلك فعل طه حسين في كتابه (في الشعر الجاهلي، 1926) حين استجاب لتهديد الغوغاء من الإرهابيين السلفيين، وألغى فصلاً كاملاً من كتابه التنويري، وأعاد نشره من جديد تحت اسم (الأدب الجاهلي). وكتب بعدها مجموعة من الكتب الدينية: (الفتنة الكبرى)، (علي وبنوه)، (على هامش السيرة)، و( في مرآة الإسلام) .. الخ. تكفيراً عن "ذنبه" وإرضاءً للغوغاء وتخلصاً من شرورهم كما فعل الآن سيّد القمني. وهذا مثال ثانٍ لـ "عقدة الذنب الدينية" التي تميّز بها الفكر المصري في القرن العشرين. كذلك فعل الشيخ خالد محمد خالد حين أصدر كتابه (الدولة في الإسلام، 1981) واعتبر ذلك مراجعات وليس تراجعات، عمّا كتبه من انكار للدولة الدينية في كتابـه التنويري (من هنا نبدأ ،1950) تحت تهديد الجماعات الإسلامية التي قتلت السادات 1981، وهو نفس عام صدور (الدولة في الإسلام)، كما كان مثالا ثالثاً على "عقدة الذنب الدينية" التي تميّز بها الفكر المصري في القرن العشرين. وكنت أنت يا سيّد الرابع في هذه القائمة للأسف الشديد، ولن تكون الأخير في مصر، في ظني واعتقادي نتيجة لتحكم "عقدة الذنب الدينية" في الفكر المصري.
4- سيّد: لست وحدك
هل تعتقد يا سيّد بأنك أنت الوحيد، الذي يتلقى تهديدات بالقتل والسحل كل يوم. كلنا نحن معشر المفكرين الليبراليين، نتلقى كل يوم مثل هذه التهديدات. بل انهم حاولوا قتلنا فلم نخبر ولم نكتب ولم نخف ولم نتراجع. وأنا أكشف هنا سراً لأول مرة. لقد سبق للارهابيين أن كسّروا لي بيتي ليلاً على مدار يومين كاملين 3- 4/7/2003، واضطررت أن أرحل منه إلى بيت آخر. والبوليس الأمريكي في دينفر لديه سجل كامل بهذه الحادثة. وقد سبق وهُدد من قبلنا طوابير من المفكرين الليبراليين، فلم ينثنوا، ولم يخافوا، ولم يجزعوا، واستمروا في رسالتهم حتى النهاية. فرج فودة المفكر المصري، لم يتخلَّ عن أفكاره، وقضى نحبه شهيداً للفكر الليبرالي على يد الإرهابيين السلفيين.
حسين مروة المفكر اللبناني، لم يتخلَّ عن أفكاره، وقضى نحبه شهيداً للفكر الليبرالي على يد الإرهابيين السلفيين. مهدي عامل المفكر اللبناني، لم يتخلَّ عن أفكاره وقضى نحبه شهيداً للفكر الليبرالي على يد الإرهابيين السلفيين. محمود طه المفكر السوداني، علّقه حسن الترابي على مشنقة جعفر النميري (أمير المؤمنين)، ولم يتخلَّ عن أفكاره. صادق جلال العظم المفكر السوري، لم يتخلَّ عن أفكاره، ولم ينكر ما كتبه في (نقد الفكر الديني)، ولم يستجب لتهديد الإرهابيين السلفيين.
أحمد البغدادي المفكر الليبرالي الكويتي، لم يتخلَّ عن أفكار في (تجديد الفكر الديني) وسُجن وعوقب من قبل الإرهابيين السلفيين. العفيف الأخضر المفكر التونسي الليبرالي، لم يتخلَّ عن أفكاره، وطُرد من جريدة "الحياة"، وكاد أن يموت جوعاً ومرضاً، ويتعرض كل يوم للتهديد حتى الآن على يد الإرهابيين السلفيين ، وكان آخر تهديد جاءه من راشد الغنوشي زعيم "حركة النهضة" التونسية.
نصر حامد أبو زيد المفكر الليبرالي المصري، لم يتخلَّ عن أفكاره وكتبه، وهرب من مصر إلى هولندا، خوفاً من تهديد الإرهابيين الأصوليين بتطبيق الحسبة عليه وعلى زوجته.
5- لماذا لا تكون شهيداً يا سيّد؟
لماذا لا تسير يا سيّد على خطى شهداء الفكر والرأي الحر كأبي ذر الغفاري، وابن المقفع، والجعد بن درهم، وغيلان الدمشقي، والسهروردي الإشراقي، وفرج فودة، وحسين مروة، ومهدي عامل، ومحمود طه، وأحمد البغدادي وغيرهم؟ لماذا أعدت سيرة المتراجعين عن أفكارهم التائبين عن قيمهم الليبرالية من المصريين، كعلي عبد الرازق، وطه حسين، وخالد محمد خالد، ومحمد عمارة وغيرهم؟
كلنا يا سيّد نطلب الشهادة في سبيل فكر الحرية الآن، في هذا الزمن المالح التعيس، وفي مدن الملح القاحلة من الحرية والديمقراطية والكرامة التي نعيش فيها؟
كلنا ينتظر الساعة التي يقطع فيها الإرهابيون السلفيون رؤوسنا جزّاً كالشياه ، كما سبق أن جزَّ الوالي خالد القسري في عهد الخليفة هشام بن عبد الملك رأس الجعد بن درهم صباح عيد الأضحى في أسفل منبر المسجد. أو الشواء في الفرن كما شوى الخليفة المنصور ابن المقفع. أو الذبح كما ذبح الملك الظاهر الأيوبي (ابن صلاح الدين الأيوبي) الفيلسوف الإشراقي السَّهْرُوَرْدِيّ في حلب. أو التعليق شنقاً على بوابة المدينة كما تمَّ تعليق غيلان الدمشقي. أو الموت في الصحراء جوعاً وعطشاً كما مات أبو ذر الغفاري في "الربذة" قرب المدينة المنورة، حين سجنه الخليفة عثمان بن عفان. كيف لنا أن نبني عصر النهضة دون هذه الشهادة، يا سيّد؟ كيف لفجر التنوير العربي أن يبزغ دون دماء المفكرين الليبراليين فداءً له، يا سيّد؟ فلننظر الى شهداء الفكر في أوروبا الذين فجروا عصر التنوير الأوروبي ماذا فعلوا، يا سيّد؟
6- العرب الآن في القرن الثامن عشر
يعيش العرب الآن في القرن الثامن عشر الذي عاشته أوروبا، ولكن بوجهه القبيح المظلم، وليس بوجهه الجميل المنير المشرق. فهذا القرن الذي كان عصر التنوير الأوروبي، لم يكُ طريقاً ثقافياً مفروشاً بالحرير والزهور، بل كان طريقاً شاقاً دفع فيه فلاسفته ومفكروه حياتهم ثمناً غالياً. ولا بُدَّ أن نعلم أن عدم استمرارية عصر السحرة والمشعوذين والدراويش وتكاياهم وزواياهم في أوروبا في القرن الثامن عشر (وهو العصر العربي الآن، حيث يصرف العرب مليارات الدولارات سنوياً على السحر والشعوذة) وسيادة عصر العلم والعقل، جاء نتيجة للتضحية الكبرى والمقاومة العنيفة التي أبداها رجال الفكر والعقل في عصر النهضة. فلم تكن أنوار عصر النهضة كلها أنواراً بهية مُرحباً بها. ولم تكن طرقات ومعارج هذه النهضة مفروشة بالحرير وفرو السمّور الذي كان يتدثر به شيوخ الإسلام في العهد العثماني، بل تخلل عصر النهضة هذه، دماء أُريقت، ومجازر نُصبت، وأبرياء قُتلت، وفرسان فكر سُحقت، وكل هؤلاء كانوا فداءً لعصر العقل المنير. صحيح أن الكنيسة في القرن الثامن عشر، كفّت يدها عن حرق المفكرين وشوائهم على السفود (السيخ) كما فعلت في الماضي مع جاليلو وسافونارلاو، إلا أنها لم تكُ متهاونة مع المفكرين والفلاسفة. فظلت تلاحقهم من حين لآخر (كما يفعل الأزهر الآن) وتقوم بحرق كتبهم ومصادرتها ومنع تداولها. فكانت كتب فولتير وروسو وديدرو وهلفتيوس ودولباخ وغيرهم، من أحرار الفكر في قائمة الكتب المحرمة التي لا يُسمح بقراءتها إلا بإذن من البابا نفسه (ول ديورانت، قصة الحضارة، جزء40، ص 170). ولم يقتصر الاعتداء على حرية الفكر من قبل الكنيسة والدولة، ولكن تعداه إلى المجتمع نفسه الذي كانت بعض فئاته تناصب حرية الفكر والمفكرين الأحرار العداء. ففي انجلترا اشتد الهجوم على العالم بريستلي (1733-1804) لتأييده الثورة الفرنسية. فأحرق الرعاع الانجليز بيته في برمنجهام وكسّروا مختبره، وظلوا يجوبون الشوارع ثلاثة أيام، وهم يقسمون أنهم سيقتلونه، ويقتلوا كافة الفلاسفة. إلى درجة أن أهالى برمنجهام علقوا على أبواب بيوتهم خوفاً ورعباً من الإرهابيين لافتة تقول: "لا يوجد لدينا فلاسفة"(ول ديورانت، قصة الحضارة، جزء 35، 91). وأحرقت الكنيسة في روما العالم الايطالي برونو على سيخ الشواء في العام 1600 عقاباً له على أفكاره التي كانت ضد تعاليم الكنيسة. وحاكمت الكنيسة في روما العالم الايطالي الفلكي جاليلو، وطلبت منه التخلّي عن أفكاره وسجنته وعذبته إلى أن أُصيب بالعمى. وسجن الملك هنري الثامن المفكر والفيلسوف الانجليزي توماس مـور (1478-1535) صاحب الكتاب المشهور (المدينة الفاضلة Utopia ( ثم أعدمه وعلق رأسه فوق جسر لندن،. وقتل الرعاع الفرنسيون الفيلسوف الفرنسي بيير راموس (1515-1572) في بيته رمياً بالرصاص، ثم ألقوا بجثته من نافذة مكتبه بالدور الخامس في باريس، حيث جرّها خصومه من الطلبة وألقوا بها في نهر السين، ثم أخرجه فريق آخر من النهر، وقطعوه إرباً إرباً ( ج. د. برنال، موجز العلم في التاريخ، ص90). وأعدمت محاكم التفتيش المئات من المثقفات وأحرقت الكنيسة 13 رجلاً وامرأة دفعة واحدة بتهمة الزندقة في مدينة مودينا الايطالية ، وهي التهمة الموجهة الآن لسيّد القمني، والتي قرر على إثرها الاستسلام للأصوليين الارهابيين للأسف الشديد، والسقوط في بئر الصمت والخوف، معلناً توبته عن الفكر الليبرالي وقيمه، على النحو الذي جاء في الخبر السابق".
وبعد قراءتنا لهذا المقال لا بد لنا من وقفة نتأمل فيها بعض ما ورد به من أفكار وآراء: فأما أن المفكر ينبغى أن يتمسك بما يؤمن به ولا يتخلى عنه خوفا وجبنا، فنحن معه فى هذا، وإن كان الناس، هنا كما فى كل ميدان آخر، معادن: فمنهم من يرفع صوته لا يبالى بتهديد ولا وعيد، ومنهم من يخافت من هذا الصوت، ومنهم من يعلن التقية، ومنهم من يغير فعلا آراءه مسايرة للمخالفين واستجلابا للمصالح. والدكتور النابلسى سبق له أن غير فكره وآراءه، فبعد أن كان أيام اشتغاله فى السعودية يلعن "أبا خاش" أمريكا صباحًا ومساءً ويرى فيها هى وإسرائيل العدو الأوحد الذى لا يصلح معه إلا الجهاد الدينى كما بينتُ بالوثائق فى مقال لى سابق عنوانه "فضيحة بجلاجل للعلمانيين فى برنامج الاتجاه المعاكس" (أم تراه كان يجارى الجو العام فى السعودية؟ إذن لكانت هذه أيضا خيبة قوية!)، نقول إنه بعد ذلك قد أضحى من مناصرى أمريكا والصهيونية حينما انتقل للعيش فى بلاد العم سام وتولى بعض المناصب هناك. وكان قد كتب ذات مرة أيام موقفه القديم يمجِّد السعودية ويؤكد أنها سبقت أمريكا ذاتها (إى والله أمريكا ذاتها) فى معدل التنمية زمنا وحجما! فلماذا لا يقبل من سيد القمنى أن يغير رأيه وموقفه حتى لو كان تغييرا ظاهريا لا يمس الأعماق؟ أم تراه يظن أن له هو وحده الحق فى ذلك؟ ثم من أين له كل هذا اليقين بأن جميع الذين تراجعوا من الكتّاب المصريين عما كانوا يقولون أيام مروقهم وانحرافهم قد تراجعوا خوفا وكذبا؟ ألا يتراجع الإنسان تراجعا صادقا إلا إذا كان تراجعه عن الإيمان بالله؟ إن هذا لَتفكيرٌ غريب! أم لا بد أن يمر المتراجعون على النابلسى أوّلاً كى يأخذوا منه صكًّا بجواز التراجع، وإلا كان تراجعهم باطلا لا يستقيم ولا يصحّ؟
كذلك قال النابلسى إن العرب الآن يعيشون فى القرن الثامن عشر. وهذا الكلام، وإن كان فيه مبالغة شديدة، فإنه صادق مع ذلك بروحه (لا بلفظه)، بمعنى أنهم لا يريدون أن يهتموا بالعلم ويعرفوا أنه لا خلاص لهم مما هم فيه، إلى جانب الإيمان بالله سبحانه وتعالى ونبيه الكريم والتمسك بكتابهم المجيد وسنة نبيهم المطهرة وقِيَمهما العبقرية الخالدة، إلا بالعلم والتفكير العلمى، وهو ما دعا إليه الإسلام وحث عليه وأعلن أن الله مُجَازٍ به خير الجزاء، وأكد أن فَضْل العالمِ على العابد كفَضْل البدر على سائر الكواكب، وأن تفكُّر ساعة خير من عبادة سَنَة، وأن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، علاوة على أن الله لم يأمر نبيه بالاستزادة من شىء إلا من العلم: "وقل: رَبِّ، زِدْنِى علما" (طه/ 114)...إلخ. ومن هنا فإننا نضم صوتنا إلى صوت الكاتب رغم اختلافنا معه جِذْرِيًّا فيما عدا هذا ونقول للأمة إنها ما لم تُفِقْ مما هى فيه من التمسك بالخرافات والاعتقاد فى العمل والأحجبة والزار والسحر والشعوذة والفهلوة والاهتمام المرضى بالشكليات والحرص القاتل على أن يكون كل شىء تمام التمام على الورق ثم لا شىء بعد ذلك، وما لم تُقْبِل على العلم وتطلبه بكل طريق وتنفق فيه كل ما لديها من غالٍ ومُرْتَخَص ويتحول تفكيرها إلى المنهج العلمى الذى لا يرضى به الله ورسوله بديلا، فإنها ضائعة لا محالة وذاهبة إلى ما وراء الشمس كما كان المصريون يقولون إبّان حكم عبد الناصر عمن يعارضه! وهذا إن لم تكن قد ذهبت فعلا إلى ما وراء الشمس! ونحن عندما نقول: "العلم" فإننا نقصد العلم الحقيقى لا القشور والتفاهات الفارغة التى تمضى الأمة بها وقتها المتثائب البليد، العلم بكل أنواعه من علوم طبيعية وعلوم إنسانية وعلوم رياضية وعلوم دينية بحيث لا تقتصر قراءات المتديّنين منها مثلا على كتب الفقه والتوحيد (وهذا إن قرأوها كما ينبغى وفهموها حق فهمها، ولم يكن الأمر مجرد ترديد لما فى تلك الكتب دون تدبر!)، وكأن من يُلِمّ بها قد ضمن النصر المؤزَّر فى الدنيا والآخرة، مع أنها لا تعدو أن تكون لونا من التخصص العلمى يعكف عليه فريق من الدارسين والباحثين كما يعكف كل فريق على فرع من فروع العلوم يتعمق فيه ويجتهد بكل وسعه ويبحث عن الجديد، مع التنبه فى ذات الوقت إلى الأصول والأسس التى ينبغى أن نرسى نهضتنا عليها حتى لا تتشتت جهودنا أو تنحرف خُطَانا، وإن لم يمنع هذا من الأخذ من كل فرع من الفروع العلمية الأخرى بطَرَفٍ حسبما يستطيع القارئ ويحبّ! ولا شك أننا الآن أحوج ما نكون إلى التقدم فى ميدان العلوم الطبيعية والرياضية بالذات والوصول فيها إلى درجة الاجتهاد لا مجرد الترديد لما سبقَنا إليه الغرب والوقوف عنده لا نعدوه ولا نضيف إليه، وهى الدرجة التى نستطيع بها أن نسامته ونخترع كما يخترع ويكون لنا كيان مرهوب الجانب ونوقفه عند حده ولا ننتظر الكلمة دائما من فيه، وإلا شَلَّتْ إرادتنا وتوقَّفْنا بل تجمَّدْنا ومُتْنا حيث نحن. هذه خطيئة مهلكة سوف يحاسبنا الله عليها يوم القيامة كأمةٍ وكأفرادٍ معا، ولسوف يكون الحساب عليها عسيرا أشد العسر رغم أن الأمة لا تفكر فى هذا البتة وتراه أمرا تافها لا يعدو أن يكون من نافلة القول، مع أنه بكل يقين ليس كذلك على الإطلاق!
إن الكِتَاب بالنسبة للمسلمين بوجه عام فى هذا العصر النَّكِد هو، مع الأسف المُمِضّ المزعج، من المحرَّمات الكبائر: لم تحرّمه الحكومات، بل حرّمه الناس على أنفسهم كراهيةً منهم للعلم ووجع الدماغ الذى يأتى من ورائه، مع أن الإسلام هو دين العلم بحيث إذا لم يهتم به أتباعه لم يكونوا مؤمنين صادقين وضاعوا فى لجة الحياة المتلاطمة الأمواج! لا أدرى والله ماذا يمكن أن يصنع المصلحون والعلماء والمفكرون كى ينبهوا الأمة إلى المضيق المسدود الذى انتهت أمورها إليه. كثيرا ما أقول لطلابى وطالباتى فى الجامعة: ما الذى تريدون منا أن نفعله كى تهتموا بالقراءة وتجدّوا فى الدراسة وتقدِّروا العلم حق قدره؟ لقد بُحَّتْ أصواتنا معكم فى هذا السبيل وحاولنا مرارا وتكرارا بالحسنى والتشجيع مرة، وبالشدة والتخويف مرة، وبغير ذلك من الوسائل مراتٍ ومراتٍ، ولم يبق أمامنا من وسيلة إلا أن نشعل النار فى أنفسنا أمامكم فلعلكم تفهمون. بيد أنى فى كل مرة أقول لهم فيها هذا ألاحظ أنهم يظلون فاغرى الأفواه زُجَاجِيِّى العيون كأنهم سمك ميت: لا حس ولا حركة ولا وعى ولا استجابة. ترى هل يستجيب الأموات؟ وإنى لموقن أننا لو فقدنا عقولنا وظننّا أن المسألة تستأهل وأشعلنا النار فعلا فى أنفسنا فلن يلفتهم ذلك فى شىء، بل سيظلون ماضين فى ثرثرتهم التافهة تفاهة عقولهم واهتماماتهم، فإذا خيبوا ظننا رغم ذلك والتفتوا كان رد فعلهم التنكيت والدخول فى قافية حول الأستاذ المسكين فى عقله الذى أخذ المسألة جِدًّا ولم يكبِّر دماغه!
ثم إن الذين ضربهم النابلسى أمثلة على الفكر الحر عندنا فى العصر الحديث إنما يعملون فى الغالب لحساب المستعمر الذى يريد تدميرنا: سواء فطنوا لذلك (وهو ما نرجحه فى معظم الحالات) أو لم يفطنوا. إنهم يصوّبون مدافعهم وقنابلهم فى تاريخنا وثقافتنا وعقائدنا إلى النقاط التى يصوّب إليها هذا المستعمر المجرم مدافعه وقنابله، ألا وهى الدين ورجاله بدءا بالنبى والصحابة وانتهاء بكل عالم معاصر من علماء المسلمين، تاركين العلم والحثّ عليه، اللهم إلا حين يظنون، أو يريدون أن يوهموا القراء، أن الدين يعادى العلم، كما صنع القمنى عندما زعم أن حديث القرآن عن خلق السماوات والأرض فى ستة أيام خطأٌ لأنه يناقض ما يقوله العلماء من أنهما قد خُلِقَتا فى أحقاب سحيقة تُعَدّ بملايين السنين، غافلا عن أن اليوم عند الله ليس كاليوم عند البشر، فالله لا يسكن الأرض، بل كل الكون زمانًا ومكانًا وكائناتٍ فى قبضته سبحانه، واليوم عند الله يختلف حسب السياق، فقد يكون كألف سنة مثلا أو كخمسين ألفًا مما نعرف كما ورد فى القرآن المجيد، فضلاً عن أن الأيام بالمعنى الأرضى الذى يعرفه البشر لم يكن لها وجود قبل خلق الكون بشمسه وقمره ونجومه وأرضه، لأن اليوم البشرى يستلزم وجود الشمس والأرض أولا. ومن يقل بغير هذا فهو من العوام مهما أغدق عليه المارقون من أمثاله ألقاب العلماء والمفكرين، على عكس المعنى الذى يقصده مؤلف سفر "التكوين"، الذى نصّ نصًّا فى كلامه عن قصة الخلق أن اليوم كان يتكون من مساء وصباح كمسائنا وصباحنا، وأن الله قد استراح من تعب العمل فى اليوم السابع وقدَّسه. يقصد يوم السبت (تكوين/ الإصحاح الأول كله). فهذا هو الفرق بين فهم العوام وفهم العقلاء الراقين، ومع هذا نرى هؤلاء الخارجين المشاغبين لحساب أعداء الإسلام يشككون فى كل شىء: فى القرآن والرسول والسنّة والقيادات التاريخية والعسكرية والسياسية والعلمية المسلمة، كما يعملون بكل ما أوتوا من قوة وخبث على نشر التيئيس والتثبيط فى نفوس المسلمين، وبالذات فى مجال المقاومة والكفاح، رغبة منهم فى التمكين للمستعمرين فى بلادنا وأموالنا ومساعدتهم على حصد الأرواح واغتصاب الأعراض وتهديم البيوت والمؤسسات. والدين المستباح عندهم هو الإسلام، والإسلام وحده: يستوى فى ذلك أن يكون الكاتب من المنتمين إلى أمة محمد أو من المنتمين إلى أمة الصليب! وفضلا عن ذلك فالملاحظ أن معظمهم ذو علاقة مشبوهة بالدوائر المعادية للإسلام والمسلمين لا يستتر بها.
وأتحدى أيا من هؤلاء المفاليك أن يجرؤ واحد منهم فيوجه نقدا ولو رقيقا كخطرات النسيم إلى النصرانية أو إلى أى من قياداتها فى بلادنا رغم أن الإسلام، لو أنهم مخلصون، كان ينبغى أن يكون أقرب إلى نزعتهم العلمية المدَّعاة حتى لو كان كفرهم به نابعا من قلوبهم وعقولهم، على الأقل باعتباره تاليا للنصرانية من الناحية التاريخية، فهو على أسوإ تقدير يمثل خطوة متقدمة عليها، علاوة على أنه لا مكان فيه للخرافات ولا للأسرار ولا لتأليه البشر العجزة الفانين الذين يبولون ويخرأون ويجوعون ويظمأون ويخافون ويقلقون ويُشتَمون ويهانون ويَسُبّون ويَلْعَنون حتى تلامذتهم، ويتبرأون حتى من أمهاتهم وإخوتهم، ويمرضون وينامون ويُضْرَبون ويُطْعَنون بالَحَرْبة فى جنوبهم وتُكْسَر رُكَبهم وتُسّمَّر أيديهم وأرجلهم فى الخشبة التى تجلب اللعنة على كل من يُعَلَّق عليها بنصّ كتابهم المقدس جِدًّا جِدًّا جِدًّا (...إلى آخر الــ"جِدَّنات" التى فى الدنيا كلها) لا بنصّ أى كتاب آخر، ويصيح المساكين من بُرَحاء العذاب فلا يجدون أبًا ولا أُمًّا يسأل عن صحتهم، ثم يموتون ويحاسَبون شأن أى عبدٍ مخلوقٍ فانٍ، ويُسْأَلون عن مدى موافقتهم على ما يزعمه أتباعهم بشأنهم فيُنْكِرون ويستنكرون ما يقولونه من كُفْرٍ ويتبرأون منه ومنهم، كما أن المعجزات لا تمثل ركنا من أركانه على عكس الحال فى تلك الديانة التى لا فكاك لها من المعجزات ولا يقوم الإيمان فيها على العقل، بل ليس للعقل فيها مكان! ومع هذا فليس هناك أى هجوم عليها أو حتى انتقاد لها. وها هو ذا الدليل: فالقرآن الكريم لم يقل، ولا يمكن أن يقول، إن الأيام الستة التى تم فيها الخلق هى كأيامنا الأرضية، بل بيَّن أن الأيام عند الله تختلف عن أيامنا هذه اختلافا تاما، على حين أن الكتاب المقدس قالها بصريح العبارة بما لا يمكن المماراة فيه أو إساءة فهمه، ومع هذا نرى سيد القمنى يترك الكتاب المقدس ويهاجم القرآن. ومن هنا نفهم لماذا ترجم واحد كمحمد أسد قوله تعالى: "فى ستة أيام" إلى "in six aeons" كما فى الآية 54 من "الأعراف" والآية 7 من "هود" مثلا. ثم يقول الأقباط عن سيد القمنى إنه مفكر كبييييييييييييييييييييييييييييييييييييير، متباكين عليه أن يسلقه خالد بن الوليد ويأكل لحمه "هَمّ النَّمّ" كما تقول عفاف راضى (أو كما نقول نحن فى قريتنا: "هَمّ يا مَمّ")، ثم يحبس بعدها بواحد سفن أب كبييييييييييييييييييييييييييييييييييييير لزوم الهضم السريع لِلَحْم المفكر الكبييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييير، ليتجشأ بعدها وهو يخبط على بطنه الكبييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييير فى رضًا وحُبُور، مطمئنا أنه خلّصنا من سيد القمنى وأراحنا من مشاغباته غير العلمية!
Bookmarks