بسم الله الرحمن الرحيم
أنواع التقدير
التقدير الميثاقي
(الحَمْدُ للهِ الذِي أَنْزَل عَلى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلمْ يَجْعَل لهُ عِوَجَا قَيِّماً ليُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ الذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالحَاتِ أَنَّ لهُمْ أَجْراً حَسَناً مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً وَيُنْذِرَ الذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلدا مَا لهُمْ بِهِ مِنْ عِلمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِباً) ، (وَقُل الحَمْدُ للهِ الذِي لمْ يَتَّخِذْ وَلداً وَلمْ يَكُنْ لهُ شَرِيكٌ فِي المُلكِ وَلمْ يَكُنْ لهُ وَليٌّ مِنَ الذُّل وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرا ً) ، (هُوَ الحَيُّ لا إِلهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلصِينَ لهُ الدِّينَ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ) (غافر:65) (قُل الحَمْدُ للهِ وَسَلامٌ عَلى عِبَادِهِ الذِينَ اصْطَفي آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة من يؤمن بأنه لا معين له ولا ظهير ، ولا وزير له ولا مشير .
سبحانه منفرد بالخلق والتدبير ، سبحانه منفرد والأمر والتقدير ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله ، البشير النذير ، والسراج المنير ، المبعوث إلى كافة الخلق من غني وفقير ، ومأمور وأمير ، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين ، وسائر أصحابه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، صلاة تنجى قائلها من هول المطلع في يوم عسير ، ومن حساب يحصى الصغير والكبير ، صلاة تباعد بيننا وبين عذاب السعير ، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الذِي خَلقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلقَ مِنْهَا زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الذِي تَتَساءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَليْكُمْ رَقِيبًا) (النساء:1) (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر:18) (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلمُون) (آل عمران:102) أما بعد . .
تحدثنا في المقال السابق عن النوع الأول من أنواع التقدير وهو التقدير الأزلي وعلمنا أن التقدير الأزلي هو التقدير العام المدون في اللوح المحفوظ ، وهو تقدير شامل لكل ما سيحدث في جميع المخلوقات بلا استثناء ، وقد قضاه الله وقدره في أم الكتاب قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وقد علمنا أيضا أن تقدير الله لأمور الإنسان ، وكذلك سائر الأشياء والأوامر والأحكام التي صدرت بالمشيئة الإلهية في قضائه الكوني والتي ستقع لا محالة رتبها الله عز وجل على عدة أنواع ، من نوع عام يتعلق بجميع الخلق إلي نوع خاص يتعلق بالإنسانية إلي أخص يتعلق بكل إنسان علي حده ، وأخص من ذلك مما يتعلق بكل عام وبكل يوم ، فأنواع التقدير عند السلف خمسة أنواع ، تقدير أزلي ، وتقدير ميثاقي ، وتقدير عمري ، وتقدير سنوي ، وتقدير يومي ، واليوم بإذن الله تعالى نتحدث عن النوع الثاني من أنواع التقدير وهو التقدير الميثاقي ، هذا التقدير كان عند أخذ الميثاق على بنى آدم في عالم الذر ، ويشمل أحكام التدبير التي حدد الله من خلالها أهل الجنة والنار ، يوم مسح على ظهر آدم واستخرج ذريته وخلق بعضهم للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، وخلق بعضهم للنار وبعمل أهل النار يعملون ، وهذا التقدير أخص من التقدير الأزلي .
ورد في القرآن والسنة ما يبين أن الله عز وجل أخذ عهدا وميثاق علي الإنسانية جمعاء ، يقول تعالي: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلكُنَا بِمَا فَعَل المُبْطِلُونَ) (لأعراف:173) وهذا التقدير الميثاقي قدر الله فيه سعادة العباد وشقاوتهم وأرزاقهم وآجالهم وأعمالهم ، وهو تقدير ثان بعد التقدير الأول ، فمن حديث عَبْدِ الرَّحْمنِ عَنْ عَليَ رضي الله عنه قَال: كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الغَرْقَدِ ، فَأَتَانَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حَوْلهُ ، وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ ، فَنَكَّسَ فَجَعَل يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ ثُمَّ قَال َ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ ، مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ ، إِلاَّ وَقَدْ كَتَبَ اللّهُ مَكَانَهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَإِلاَّ وَقَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً ، قَال: فَقَال رَجُلٌ: يَا رَسُول اللّهِ أَفَلاَ نَمْكُثُ عَلى كِتَابِنَا ، وَنَدَعُ العَمَل ؟ فَقَال: مَنْ كَانَ مِنْ أَهْل السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلى عَمَل أَهْل السَّعَادَةِ ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْل الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلى عَمَل أَهْل الشَّقَاوَة ، ثُمَّ قَرَأَ: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لليُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِل وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ للعُسْرَى ) .
ومن حديث عمر رضي الله عنه أن النبي سُئِل عَنْ قوله تعالي: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) ، فَقَال: (إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل خَلقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَال: خَلقْتُ هَؤُلاءِ للجَنَّةِ وَبِعَمَل أَهْل الجَنَّةِ يَعْمَلُونَ ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَال: خَلقْتُ هَؤُلاءِ للنَّارِ وَبِعَمَل أَهْل النَّارِ يَعْمَلُونَ ، فَقَال رَجُلٌ: يَا رَسُول اللهِ ، فَفِيمَ العَمَلُ ؟ فَقَال رَسُولُ اللهِ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل إِذَا خَلقَ العَبْدَ للجَنَّةِ اسْتَعْمَلهُ بِعَمَل أَهْل الجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَال أَهْل الجَنَّةِ فَيُدْخِلهُ بِهِ الجَنَّةَ ، وَإِذَا خَلقَ العَبْدَ للنَّارِ اسْتَعْمَلهُ بِعَمَل أَهْل النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَال أَهْل النَّارِ ، فَيُدْخِلهُ بِهِ النَّارَ) وهذا الحديث أخرجه أبو داود في كتاب السنة وقال عنه الشيخ الألباني هو صحيح إلا لفظ مسح الظهر .
وروى مسلم في صحيحه من حديث أَبِي الأَسْوَدِ الدِّئَليِّ أنه قَال: قَال لي عِمْرَانُ بْنُ الحُصَيْنِ: أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ اليَوْمَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ ، أَشَيْءٌ قُضِيَ عَليْهِمْ وَمَضَى? عَليْهِمْ مِنْ قَدَرِ مَا سَبَقَ ؟ أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَثَبَتَتِ الحُجَّةُ عَليْهِمْ ؟ فَقُلتُ: بَل شَيْءٌ قُضِيَ عليْهِمْ ، وَمَضَى? عَليْهِمْ . قَال: فَقَال: أَفَلاَ يَكُونُ ظُلماً ؟ قَال: فَفَزِعْتُ مِنْ ذ?لكَ فَزَعاً شَدِيداً . وَقُلتُ: كُلُّ شَيْءٍ خَلقُ اللّهِ وَمِلكُ يَدِهِ . فَلاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ . فَقَال لي: يَرْحَمُكَ اللّهُ إِنِّي لمْ أُرِدْ بِمَا سَأَلتُكَ إِلاَّ لأَحْزِرَ عَقْلكَ . إِنَّ رَجُليْنِ مِنْ مُزَيْنَةَ أَتَيَا رَسُول اللّهِ . فَقَالاَ: يَا رَسُول اللّهِ أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ اليَوْمَ ، وَيَكْدَحُونَ فِيهِ ، أَشَيْءٌ قُضِيَ عَليْهِمْ وَمَضَى? فِيهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ ، أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ ، وَثَبَتَتِ الحُجَّةُ عَليْهِمْ ؟ فَقَال: لاَ . بَل شَيْءٌ قُضِيَ عَليْهِمْ وَمَضَى? فِيهِمْ . وَتَصْدِيقُ ذ?لكَ فِي كِتَابِ اللّهِ عَزَّ وَجَل: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) .
وروى الترمذي وحسنه الألباني من حديث شُفَيِّ بنِ مَاتعٍ عن عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍو قَال: (خَرَجَ عَليْنَا رَسُولُ الله وفي يَدِهِ كِتَابَانِ ، فَقَال: أَتَدْرُونَ ما هَذَانِ الكِتَابَانِ ؟ فَقُلنَا: لا يا رسول الله إِلاَّ أَنْ تُخْبِرَنَا ، فقال للّذِي في يَدِهِ اليُمْنَى: هذا كِتَاب مِنْ رَبِّ العَالمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْل الجَنَّةِ وَأَسْمَاءُ آبائهِمْ وَقَبَائِلهِمْ ، ثم أُجْمِل عَلى آخِرِهِمْ فَلاَ يُزَادُ فِيهِمْ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَداً . ثم قال للّذِي في شِمَالهِ هذا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ العَالمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْل النَّارِ وَأَسْمَاءُ آبائهِمْ وَقَبَائِلهِمْ ثم أُجْمِل عَلى آخِرِهِمْ فَلاَ يُزَادُ فِيهِمْ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَداً . فقال أَصْحَابُهُ: فَفِيمَ العَمَلُ يا رسول الله إِنْ كَانَ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ ؟ فقال: سَدِّدُوا وَقَارِبُوا فَإِنَّ صَاحِبَ الجَنَّةِ يُخْتَمُ لهُ بِعَمَل أَهْل الجنَّة وَإِنْ عَمِل أي عَمَلٍ وإنَّ صاحِبَ النَّارِ يُخْتَمُ لهُ بِعَمَل أهْل النَّارِ وإنْ عَمِل . أَيَّ عَمَلٍ . ثم قال رسولُ الله بِيَدَيْهِ فَنَبَذَهُما ثم قال: فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ العِبَادِ ، فَرِيقٌ في الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ في السَّعِير) .
أخرجه الإمام أحمد في مسنده ، والحاكم في مستدركه وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وصححه الذهبي ، أن أبي بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قال فِي معنى قوله تعالي: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلكُنَا بِمَا فَعَل المُبْطِلُونَ) (لأعراف:173) يقول أبي: (جَمَعَهُمْ فَجَعَلهُمْ أَرْوَاحًا ، ثُمَّ صَوَّرَهُمْ فَاسْتَنْطَقَهُمْ فَتَكَلمُوا ، ثُمَّ أَخَذَ عَليْهِمُ العَهدَ وَالمِيثَاقَ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلسْتُ بِرَبِّكُمْ ؟ قَال: فَإِنِّي أُشْهِدُ عَليْكُمُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ ، وَالأرَضِينَ السَّبْعَ ، وَأُشْهِدُ عَليْكُمْ أَبَاكُمْ آدَمَ عَليْهِ السَّلام ، أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ ، لمْ نَعْلمْ بِهَذَا ، اعْلمُوا أَنهُ لا إِلهَ غَيرِي ، وَلا رَبَّ غَيْرِي ، فَلا تُشْرِكُوا بِي شَيْئًا ، وَإِنِّي سَأُرْسِلُ إِليْكُمْ رُسُلي يُذَكِّرُونَكُمْ عَهدِي وَمِيثَاقِي ، وَأُنْزِلُ عَليْكُمْ كُتُبِي ، قَالُوا: شَهدْنَا بِأَنَّكَ رَبُّنَا وَإِلهُنَا ، لا رَبَّ لنَا غَيْرُكَ ، فَأَقَرُّوا بِذَلكَ) .
Bookmarks