جِنَايَات الَّلادِينِين والْمُلْحِدين على النَّفْس البشرية والعالم
((القتل بدافع الشَّفَقةِ))


أشرتُ في مقالٍ سابقٍ لي في هذا الموقع عن ((جذور البلاء في فِكْر المستشرقين)) إلى شيءٍ من جناية الحياة المادية على البحث العلمي والباحثين الغربيين خاصة، كما أشرتُ إلى شيءٍ مماثلٍ من جناياتِ الدعوة إلى فصل الروح عن الجسد، أو التملُّص من سلطان الكنيسة لدى النصارى، ومن سلطان الحاخامات لدى اليهود من قبلُ، وهو ما نشأتْ عنه القاعدة الشهيرة لدى هؤلاء، والتي تقول: ((دَعْ ما لله لله وما لقيصر لقيصر))، وعَبَّرَ السَّاسة عن ذلك فقالوا: ((فصل الدين عن الدولة)) أو ((لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة)).. إلى آخر هذا ((الطابور الخامس)) من المصطلحات والتعبيرات التي بُنِيَتْ على النَّظرة المادية، وزُرِعَتْ في أحضان المادة، فترعرعت وتغذت عليها.

واليوم نلتقي مع الملحدين واللادينين لنرى بعض جناياتهم على البشريةِ والعالم، وقد اخترتُ من ذلك جنايتِهم على النَّفْس البشرية بإزهاقِ روحها، والتَّسَبُّب في ذلك بأسبابٍ شتى، ووسائل متفرِّقة..

وبعيدًا عن الخوضِ في أصولِ هؤلاء وأولئك؛ فإِنَّا نلمح توافقًا بين الملحدين واللادينين على إنكارِ البعث بعد الموت، بما في ذلك الوقوف بين يدي الله عز وجل للحساب والجزاء، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشرّ.
وبناءً على هذا الإنكار والرفض الإلحادي واللاديني لقضايا البعث والنُّشور والحساب والعقاب، صار الموت لديهم هو نهاية الدنيا، فإذا مات الواحد في نظرهم فقد انتهت دنياه، ولا شيء بعد ذلك.
وبناءً على هذا المفهوم الذي أَسَّسُوه وأصَّلُوه صار الموت عندهم هو الراحة الأبدية من كافة المشاكل الدنيوية التي تقابل الإنسان..
ومن هنا فتحوا الباب واسعًا لهم ولغيرهم لقتل أرواحهم وإزهاق أنفسهم، بالانتحارِ تارةً وبالقتل الهادئ والبطيء بدون ألم على يد غيرهم تارةً أخرى..
فنشأت عن ذلك قضية ((الانتحار))، كما نشأت قضية ((القتل بدافع الشفقة))..
وقد أَكْثَرَ الناسُ مِن الكلام عن قضية ((الانتحار)) وزواياها المختلفة، فلنتركها الآن ولنذهب إلى قضية ((القتل بدافع الشفقة)) لنرى وجهة النظر الإسلامية فيها..

نعم؛ لابد مِن التَّعَرُّفِ على وجهةِ النظر الإسلامية في قضية ((القتل بدافع الشفقة)) ليقف القراء بشتى طوائفهم ومِلَلِهم على عظمة الإسلام ونزاهته وطهارته، وليروا كيف حافظ الإسلام العظيم على النَّفْس الإنسانية، وكَرَّمَها أفضل تكريم، في الوقت الذي أهانها فيه الملحدون واللادينيون، وأزهقوها هدرًا..
وحينئذٍ يفرح المسلمون بإسلامهم، فيزداد الذين آمنوا إيمانًا، ويعلم الملحدون واللادينيون حجم ما أسدوه للبشرية من دمارٍ، وما قدَّموه لها من فتكٍ وقتلٍ وتدميرٍ وتشريدٍ؛ بناءً على قواعدهم العليلة.. لترى البشرية وتقارن بنفسِها.. وعليها بعد ذلك الاختيار.
نعم؛ على البشرية أن تختار بين ما تحافظ قواعده وأسسه عليها وعلى أرواحها ودمائها، وبين ما تزهق قواعده أرواحها وتفتك أصوله برقابها!!

يقول المؤرِّخون لمصطلح ((القتل بدافع الشفقة)): إِنَّ أول من استعمل هذا المصطلح هو الطبيب فرانسوا باكون، وذلك في القرن السابع عشر الميلادي، في كتابه ((علاج المرضى الميئوس من شفائهم)) [انظر مثلا: القانون الجنائي والطب الحديث د.أحمد شوقي ص186، دار النهضة بالقاهرة، ومسئولية الطبيب الجنائية في الشريعة الإسلامية، أسامة التايه ص157، و(القتل بدافع الشفقة) سليم حربة، مجلة القانون العدد 18، السنة 1986، ص121

ويرى أصحابُ هذه النظرية أَنَّ هذا القتل يتم بدافع تخليص المريض من المعاناة والآلام، شفقةً به عند اليأس مِن شفائِه طبيًَّا، فإِذا كان تطوُّر المرض حتميًّا في نظرة الطب، وكان علاج المرض ميئوسًا منه، فهنا يرى أصحاب هذه النظرية التدخُّل بقتلِ هذا المريض شفقة به..
بل رأَى هؤلاء قتلَ أصحاب الآلام الكبيرة والتكاليف الباهظة، والبلهاء، والأطفال ناقصي الخلقة، وأصحاب الآلام النفسية للمريض والأهل؛ كالإحباط والفشل واليأس نتيجةً لمرضٍ ما [المسئولية الطبية الجزائية لعبد الوهاب حومد، الأحكام الشرعية للأعمال الطبية د.أحمد شرف الدين، موت القلب أو موت الدماغ د.محمد علي البار، والمصادر السابقة].

ويتم قتل وإزهاق روح المريض أو صاحب المعاناة بأحد الوسائل المتاحة والممكنة لذلك، بدون آلام، أو عن طريق القتل البطيء، أو القتل الحسَن كما يسمِّيه البعض.

فالقتل بدافع الشفقة يتم عند أصحاب هذه النظرية لتخليص المريض من الآلام أو الأهل من التكاليف الباهظة، عند اليأس طبيًَّا من شفاء المريض..

ومن هنا يمكننا رصد ثلاثة أمور مهمة:
الأول: أنَّ القتل بدافع الشفقة لدى هؤلاء هو قتلٌ مُتَعَمَّدٌ، توفَّر فيه ركن القصد الجنائي لارتكاب القتل، والإصرار على ذلك.
الثاني: أَن الباعث على هذا القتل هو تخليص المريض من الآلام والأهل من التكاليف الباهظة.
الثالث: أَنَّ تقدير اليأس في الشفاء وعدمه يرجع إلى وجهةِ النظر الطبية البحتةِ.

ويمكننا بناءً على هذه الثلاثية استخلاص النتائج الآتية:
الأولى: أَنَّ القتل بدافع الشفقة أيًّا كان شكله أو وسيلته المستخدمه فيه لا يخرج عن كونه قتلاً مُتَعَمَّدًا، توفَّرَتْ فيه أركان القصد والتعمُّد مع الإصرار عليه.
الثانية: أَنَّ مرجعية هذا القتل إلى وجهة نظر الأطباء، وهذه بلا شك تختلف من طبيبٍ إلى آخر، ومِن لجنةٍ إلى أخرى تبعًا لما لدى كلٍّ من العلم بالطب وتطوراته وأبحاثه، ونحن نرى العالم من حولنا يزخر بعشرات الأمثلة على اختلاف وجهات نظر الأطباء في عشرات القضايا العصريَّة، فمجرَّد الاعتماد على هذه المرجعيَّة فقط يجعل الأمر متأرجحًا غير ثابتٍ، فما تراه اللجنة اليوم، قد ترجع عنه غدًا، وربما عادت بعد غدٍ لرأيها الأول، وهكذا..
الثالثة: وبناءً عليه قد يُقتل عشرات من الناس ثم يُظهر الطب الحديث أَنَّهُ كان بالإمكان علاجهم بطرقٍ ما.
الرابعة: أَنَّ الباعث على هذا القتل قد يتغيَّر من شخصٍ لآخر، فما يكون شفقةً عند البعض قد لا يكون كذلك عند آخرين، وربما كان العلاج في الْمُرِّ أحيانًا.

هذا وغيره مِمَّا يستدعيه العقل ويناقشه حول برامج هذه النظريَّة ومفرداتها.. ونحن نرى أَنَّها لا تسلم من المناقشة، ولا تسوِّغها العقول كما ترى..
لكنَّ أصحابها لم يروا بها بأسًا حين تشرَّبوا قواعد المادة والإلحاد ونظريات اللادينية والانفصال عن الوحي.

نرجع إلى الإسلام العظيم لنرى الفارق في المعاملة، ونرصد ما قرَّرَه الإسلام في هذا المجال حفاظًا على النَّفْس البشرية..

هنا ستقابلنا الآية الكريمة لتقول: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] ويقول تعالى أيضًا: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [92] وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:92- 93].

فحرَّم سبحانه وتعالى بذلك قتل النَّفْس المؤمنة بغير حقٍّ، وقد بَيَّـنَتِ السُّنَّةُ النبويَّةُ هذا الحق، في مِثْلِ ما أخرجه البخاريُّ (6878)، ومسلم (1676) مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمَارِقُ مِنْ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ)).

فصان الإسلام بذلك النَّفْس المسلمة المؤمنة عن تَعَمُّدِ القتل لها بأية وسيلة من الوسائل، مهما كانت الوسيلة، ومهما كان الدَّافع على القتل..

بل وصل الحال إلى أَبْعَد من هذا فوضع الإسلام عقوبة للقتل الخطإ كما سبق في الآية الكريمة..
وعلى الرغم من وضع الخطأ والنسيان عن الأمة الإسلامية، وعدم مؤاخذة الله عز وجل للمسلمين بالخطإ إلاَّ أَنَّه سبحانه وتعالى قد شرع الكفارة في القتل الخطإ بتحرير الرَّقَبَة، أو الدية، أو صيام شهرين متتابعين..
وإنما شرع سبحانه وتعالى هذه الكفارة في القتل الخطإ صيانةً وتوقيرًا وتكريمًا للنَّفْس المؤمنة من الإزهاق والقتل..

بل حتى غير المؤمنين قد صان الله عز وجل أنفسهم ومنع المؤمنين من قتلهم إلا في ساحات الحروب والقتال، فمن قاتلنا قاتلناه، ومن عاهدنا وسالمنا عاهدناه وسالمناه.

بل وصل تكريم النَّفْس البشرية في الإسلام إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، حيث احترم الإسلام النَّفْس البشرية، وإِن كانت غير مسلمة، بعد موتها أيضًا.
ويتجَلَّى هذا فيما رواه البخاري (1313)، ومسلم (961) من روايةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى قَالَ: كَانَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ قَاعِدَيْنِ بِالْقَادِسِيَّةِ فَمَرُّوا عَلَيْهِمَا بِجَنَازَةٍ فَقَامَا، فَقِيلَ لَهُمَا: إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ؛ أَيْ: مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ! فَقَالا: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ! فَقَالَ: ((أَلَيْسَتْ نَفْسًا)).

وبناءً على هذا التكريم الإسلامي السَّامِي للنَّفْسِ البشرية رأينا الدستور الإسلامي للمهنة الطبيَّة في الباب السابع منه والخاص بحرمة الحياة الإنسانية ينص ((على أَنَّه يحرم على الطبيب أَن يهدرَ الحياةَ ولو بدافع الشفقة)) [القانون الجنائي والطب الحديث، د.أحمد أبو خطوة ص188].

ثم اليأس من الشفاء مصادمٌ لعقائد المسلمين القائمة على الثقةِ بالله عز وجل، واعتقاد أَنَّ الشفاء بيد الله عز وجل، عملاً بقوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80].
ويقول سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
ويقرن سبحانه وتعالى بين وصفه بالرحمة بعباده وبين النهي عن قتل النَّفْس فيقول: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].
ويُقَرِّر رحمته بعباده في مواضع؛ منها قوله سبحانه: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156].

وربما كان التداوي بالرُّقَى أو الذِّكْر والدُّعاء أنفع وأسرع مِن التداوي بالعلاجات الطبية متى صلحت النوايا وخلصت الدعوات.

وقد حكى القرافي وغيره الإجماع على المنع من قتل الآدمي لشدة ألمه..

بل وصل الأمر إلى الحيوان الذي لا يُرْجى هل يُذْبح تسهيلاً عليه وإراحةً له من ألم الوجع؟ قال القرافي: ((الذي رأيتُه المنع، إلا أن يكون مما يذكى لأخذ جلده كالسباع، وأجمع الناس على منع ذلك في حقِّ الآدمي وإِن اشتدَّ ألمه، واحتمل أن يكون ذلك لشرفه عن الإهانة بالذبح، فلا يتعدَّى ذلك إلى غيره)) [شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول للقرافي ص455].

لكنَّ الملاحدة واللادينين لا يؤمنون برحمة الله عز وجل، ولا يعترفون ببعثٍ أو حسابٍ..
فلتقارن البشريَّة بنفسِها بين نظريَّات الملاحدة واللادينين التي فتحت الآفاق لإزهاق الأرواح، وبين أصول الإسلام الرصينة التي تحفظ النَّفس البشرية وتصونها عن إزهاقها وإهدار قيمتها وحياتها، ثم هي تُكَرِّم النَّفْس البشرية حيةً وميتةً على ما سبق..