هذه يوميات حليم حيران, أهديها لحائك عياض: http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=27946
فحليم يُجري القلم على بياض كراسه, كما يدير الحائك بكرة خيوطه, وكلاهما حائك, ولعلهما يلتقيان يوما في منتصف الطريق أو آخره, ولست أدري ماذا أسمي خربشاتي هذه, فلتكن كلمات مرتجلة أخطها حسب ما تجود به القريحة, وما يعتمل في النفس, من قبض وبسط, ومن فرح وترح, فالمرء إذا استأنس بإخوانه واستشعر أنه في بيته, انبسط في كتابته كما ينبسط أحدنا مع خلانه في كلامه
وعلى عادة السينمائيين أقول: إن كل تشابه بين الشخصيات والأماكن التي سترد تباعا مجرد توافق غير مقصود, فوجب التنبيه
حليم حيران بين الكابوس والكراس
امتدت إليه يد, أحس بها على قفاه, زالت العصابة السوداء, فجأة أبصر العالم من جديد, سمع صرير الباب, وقبل أن يتبين المكان من حوله طرق أذنيه صوت هادئ هامس:
"حدثنا عنك..حدثنا عن كل شيء..وليس يخفى علينا شيء...وأنت شيء..بل لا شيء..ما اسمك؟"
"حليم, يدعوني أصحابي حليمو.."
قاطعني في هدوء نبرته المريب: "هل تحسب نفسك في مقهى؟ اسمك الكامل؟"
"حليم حيران"
"سنك؟"
"خمس وعشرون"
"اسم التنظيم؟"
"أي تنظيم؟ أنا طالب.."
أشار إلي بكفه في برود أن أكف عن الكلام وقال: "انظر حولك"
نظرت فإذا حجرة ضيقة كالقبو مظلمة, لا نوافذ, لا أثاث, لا فراش, كل ماهنالك كرسيان وهذه الأسئلة التي تنهال علي.. "هل فهمت الأمر؟ هذا الذي تراه هو كل عالمك, فإن تكلمت رجعت إلى الحياة, فأنت لا شيء ونحن كل شيء"...
تحدرت قطرة عرق من جبيني ولمحتها كيف تسيل على أنفي لتقع على الأرض, تخيلت نفسي بركة من ماء يبلعها التراب حتى أنجو من هذا المكان الكريه, وأسلم من هاته السهام الثاقبة التي يصوبها نحوي هذا الغريب من عينيه ومن فيه..
"طيب, سأتكلم, سأقول كل شيء تريده..."
عاود السؤال: "اسم التنظيم؟" دارت بي الأرض وتمنيت لو أني جالست أي جماعة أو حزب ولو للحظة... كم هو مخطئ من يظن أن السلامة في ترك السياسة, هائنذا أعجز أمام سؤال واحد, ألم يكن التحزب لشيء ما أنفع لي؟ أوليس في الغرب أحزاب للحمير وللقطط والكلاب؟ ماذا لو كنت عضوا في أحدها؟ ربما ينجيني أن أجيب الآن: "أنا عضو مؤسس في رابطة الدفاع عن حقوق الكلاب الضالة" أو "أنا من أنصار البيئة, جناح الطواحين الهوائية" ياليتني كنت عضوا في أي تنظيم مهما كان! يا إلهي ماذا أقول؟ يا إلهي أغثني...
انتفضت مرتعبا, وتشرب الفراش عرقا, فتحت عيني: "الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور" جلست وأنا أفرك النوم عن عيني وألهث كأني نجوت للتو من أسد ضار..."الحمد لله". أسبغت الوضوء وصليت ركعتين أدعو ربي وأدافع الكابوس الشيطاني عن قلبي...دنا الفجر فخرجت إلى المسجد, مشيت وأنا أتوجس خيفة من كل حركة ويكاد قلبي يطير لصوت أي سيارة... افتتح الإمام الصلاة وقرأ بسورتين من قصار المفصل, يا له من نقّار! تمنيت لو صليت الكسوف خلف قارئ متقن يختم بنا البقرة, لأستأنس بكلام ربي, سبحان الله, بضع آيات في لحظات, أهذا قرآن الفجر؟ جلست أسبح وقلبي يهيم في أودية الأفكار حتى ربت أحدهم على كتفي: "معذرة, سنغلق المسجد يا بني"..."نعم نعم..." خرجت أجر قدمي وقد قررت في نفسي أمرا: "سأكتب, سأكتب كل شيء, إن بداخلي عالما يمور كالبحر الهادر, لا يجد له أنفا يتنفس منه, فلأكتب إذن قبل أن أجن..".
دخلت الغرفة, أعددت فنجان قهوة وأفطرت على تمر ثم أخذت كراسا وقلما...أحسست برعشة تنتابني..سألت نفسي: "ولمن تكتب؟" فأجبت: "للمستقبل... للذين يحملهم الزمان في رحمه...فلأكتب وحسب..."
فتحت الكراس وشرعت أنظر في البياض أمامي, فإذا به يستحيل داكنا حتى ارتسمت فيه صورة غرفة "التحقيق" في برودها الرهيب وظلمتها القاسية, وارتجّت فجأة بذلك السؤال المخيف: "حدثنا عنك, أخبرنا بكل شيء..."
جرى القلم على الصحيفة ليبدأ رحلة استخراج العالم الكامن الذي انثنت عليه نفسي:
" اسمي حليم, حليم حيران, لو جئتني في الحارة فاسأل عن حليمو, حليمو فرد واحد, أما حليم حيران فلست أدري حاله, أفرد أم اثنان أم ألف أم ألفان؟ قد يكون حليم حيران جيلا كاملا أو جيلين, لو كنت أدري ما كنت بهذه الحيرة, ولما كنت كما تراني الساعة, ولست أدري أيضا من حليم ولا من حيران, هل حيران أبو حليم أم حليم أبو حيران, أنا أدعوه الوالد, ولم يتح لنا صخب الحياة أن نتأمل شجرة النسب, أنا حيران فعلا, لعله هو الحليم إذن...كيف جئت ههنا وكيف أصبحت يا حليم؟
بدأ القلم يشق أرض البياض كالمحراث ويخلف طريقا متعرجا متلفعا بالسواد, يامداد أستأمنك على بنات فكري, ويا بياض أستودعك خبيئة نفسي فاحفظها جيدا...تخيلت نفسي بئرا عميقة, أغمضت عيني وانزلقت ومعي القلم لأصل إلى قرار, لأرى الطفل الذي كنتُه. رأيت أمي, ورأيتني ورأيت بئرا.. هذه الفتاة اليفعة الصبور...إنها أمي, هل شعرتهم؟ تغير العالم و"تعولمت" الأمم, وانقلبت الموازين, وغدا السواد بياضا والصحاري رياضا وجن العقلاء وتأمر المجانين, لكن أمي هي أمي, أرى بئرا, فقد كان للناس آبار صغيرة في بيوتهم يستقون منها الماء, لماذا ترتسم هذه الصورة في مخيلتي وتتدثر بالحزن؟ هل من صلة بين البئر والحزن؟ لماذا تستثير البئر دموعي؟ هل كان يعقوب عليه السلام يتصور حبيب قلبه ملقى في بئر فيبكي؟
أرى طفلا في خفة الطير, يركض ويلهو, ويمرح ويعدو, ينتبه لكل ذرة تتحرك في العالم الصغير من حوله, يحفظ أماكن الأشياء وألوانها وروائحها, ينتبه لمن يلقاهم فردا فردا, يميز نبرات أصواتهم, طرائق مشيهم, تقاسيم وجوههم, ألوان جلودهم, لقد كانت عيناه تسجل كل شيء, وعقله الصغير يدون كل شيء, فهل كان هذا ما يسأل عنه "المحقق" الهادئ في الكابوس الخانق؟ لست أدري, فلأكتب إذن حتى إذا اقتادوني يوما "وراء الشمس" وسألوني "عن كل شيء" أخبرتهم أن كل شيء في هذا الكراس...اسمي حليم حيران...حتى اذا فرغوا عند آخر صفحة صاروا حقا يعلمون عني كل شيء...
Bookmarks