بقلم : د. استفهام
لا تفهموا من هذا المقال أني عليظ القلب ، سيئ الطوية ، ميّت الإحساس ، فأنا أتألم عندما أرى حيوانا يتألم ، وقد كنت قبل كتابة هذا المقال أجلس على وليمة دسمة مع بعض الإخوان ، فأتت بعض الطوافات علينا من الهرر الناعسة المزيونة تريد نصيبها من اللحم والشحم ، وكان من بينها قطة مصابة باصابة أذهبت عينها اليسرى ، فكنت أرمي لها بعض قطع اللحم فتأكل ماهو على الجهة اليمنى ولا ترى ما هو على يسارها ، فتألمت لذلك ، حتى كدت احضنها ، وكانت قطة كبيرة تتعسف في التعامل معها لأنها مصابة لا حول لها ولا طول ، فنهرتها عن ذلك فانتهت ولله الحمد والمنة .!
ألم يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن امرأة من دخلت ( النار ) في هرة حبستها ، لا هي اطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ، وأن بغيا من بغايا بني اسرائيل دخلت( الجنة) بسبب كلب كان يأكل الثرى من العطش ، فنزلت الى بئر ووضعت بخفها ماء فأسقته ، فكان الكلب سببا في دخلوها الجنة ..
وبمناسبة ذكر الكلب أعز الله القارئ ، فقد كنت أقرا كتابا ماتعا للكاتب الوجودي المصري أنيس منصور ، وليس انيس هتشكوك ، تحت عنوان ( الكبار يضحكون أيضا ) ، وهو كتاب ضخم ، وقد ذكر قصة اضحكتني عندما ذهب هو وكمال الملاخ يزرون أم كلثوم في بيتها ، يقول انيس فهجم علينا كلبها وأمسك ببنطلون كمال الملاخ .. واندهشنا لماذا هو وليس أنا .. فضحكت أم كلثوم وقالت : إنت عارف الكلاب ما تحبش الكلب الغريب ... فغضب الملاخ من هذا الموقف .
نعود للموضوع ..
خاض الكثير في موضوع كاترينا ، وهل يفرح الانسان أم لا يفرح لما أصاب أمريكا من إعصار مزق بعض أجزائها ، وشتت شمل بعض أهلها ، حين جاءت قدرة الله تعالى ، فعجزت وسائل أمنها ، وضعفت حيلتها أمام حيلة الجبار جل وعز ، وأدرك الناس كلهم أن قوتهم تتقاصر أمام قوة مصرف الكون وملك الملوك سبحانه وتعالى ، وكعادتنا .. فقد صارت أمريكا جزء من حياتنا ، من متابعاتنا ، من صراعنا الحضاري والثقافي والتاريخي ، تأكل منا وتشرب ، وتجعل من مياديننا خرائط للتجارب ، وحقولا لدريب القدرات ، ومساحات للمخططات القصيرة والطويلة ، ونحن أمامها ما بين منبهر بحضارتها وقيمها ، ومستلبا لثقافتها ومدنيتها ، ناظرا إياها على انها راعية الكون ، وحامية حمى الفضيلة ، ورائدة حقوق الانسان ، ومبشرة بفجر نهاية التاريخ السعيد ، وحتميته الوجودية الشبيهة بحتمية الشيوعية النهائية ، وما بين مبغض لها ولقيما ، حين يراها شرا محضا ، وبلاء مستطيرا ، فهي العدوة الأولى والأخيرة ، وبقية المصائب وانهايتها ، ومسرح الصراع وسره ، وسبب البلاء والتخلف والذل والمهانة والضياع والفقر والجهل والمرض في العالم الاسلامي وهذا يذكرني بقول أحمد مطر عن قلب الشيطان أمريكا :
أنا ضد أمريكا الى أن تنقضي
هذي الحياة ويوضع الميزان
أنا ضدها حتى ولو رق الحصى
يوما ، وسال الجلمد الصوان
بغضي لأمريكا لوالأكوان
ضمت بعضه لانهارت الأكوان
وهو وإن كان مبالغا جدا بالبغض ، لأن امركيا لن تعمر في الكون ، فهي من ضمن حضارات سادت ثم ستبيد قطعا ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول ( حق على الله إلا يرتفع شي من الدنيا إلا وضعه ) ، ومع ذلك يبقى تعبير شاعري جميل عن مشاعر مئات الملايين من البشر الذين اكتتووا بنارها ، وارهقتهم في دينهم ونياهم ، ومارست معهم صنوفا من التشريد والاهانة والاذلال ونهب الخيرات والتحكم بالمقدرات ...
جاءت كاترينا إلى أمريكا فشردتها ، لا ينفع معها الحيل ، ولا التهديد بالضرب النووي ، ولا التهديد بالاحالة إلى مجلس الأمن ، فهي قوة تفوق مقاييس قوة البشر القاصرة ، وكثر اللغط في موقف المسلم من هذا الحدث الالهي الخارج عن إرادة الانسان وتصرفه وفعله ، هل يفرح لما أصاب القوم ، ويسعد ويسر ، أم يحزن له ويدعوا الله لهم بالسلامة ؟ فأقول :
كلامي هذا لا يعدو أن يكون وجهة نظر في الحدث ، وهو أني أرى أن باعث الحزن أو الفرح ليس كون المصاب وقع الكفار ، وإنما باعث ذلك هو كون المصاب من الأعداء المتربصين الآثمين الذين يذيقون الناس المر والعلقم ، ويتحالفون على أمة المسلمين ، ويستذلونها ، ويعادونها ، ويكيدون لها بالليل والنهار ، وقد شرع في هذه الأحداث أن يدعو الانسان في صلاته الجهرية على الأعداء ، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح على رعل وذكوان شهرا كاملا ، داعيا الله تعالى ان يزلزل الأرض من تحت أقدامهم، ولو وقع دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليهم لما قال أحد بانه سيحزن لما اصابهم بسبب دعوة دعاه ربه جل وعز ، بل سيسر لأستجابة الله له ، وانتقاما منه سبحانه وتعالى لما فعلوا في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا شي طبيعي ضد العدو الكافر المتربص بالمؤمنين .
ولكن هذا الفرح لن يكون للمسالم من الكفار الذين لم يكيدوا للمسلمين ولم يعادوهم ، بل سينظر لهم الانسان المسلم بنظرة الرافة والشفقه والمعونة ، وهنا تظهر رحمة الإنسان المسلم ورقته ، ولذا فرق الله تعالى في التعامل بين الأعداء الذين يقاتلون ، والكفار الذين لم يقاتلوا فقال ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين ، وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم منكم فاولئك هم الظالمون ) ، مع اليقين بأن العقوبات العامة التي تصيب الأقوام هي بلاء وعقاب من الله بذنوب البشر ، بل ببعض ذنوبهم ، ( وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ) وقوله ( ولو أن اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ) .. هذا أولا .
الامر الثاني : أن الفرح لما يصيب الأعداء إنما هو للراية العامة ، ولا يعني الفرح لما يصيب الراية يعني الفرح لما يصيب آحاد الناس من الابرياء ، او المؤمنين المقيمين ، او المناصرين لقضايا الأمة ، فراية الحرب والسلم والعداء هي راية سياسية عامة لا يقتضي منها تسوية الأمر بين جميع الافراد والاحاد بالاحكام ، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن الجيش الذي يغزو الكعبة ، وان الله يخسف بأوله وآخره ووسطه ، فسألته عائشة عن الساقة ومن ليس منهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( يبعثون على نياتهم ) ، فاصابة الله تعالى القوم بالعقوبة تعم الجميع ، وفرح المؤمن على راية الكفار ، ومن ليس من اهل العداء ، او من المؤمنين يبعث على نيته يوم القيامة ، ولربما يحزن الانسان لما اصابه ، في جو الفرح لما اصاب الاعداء ..
الثالث : أن مشاعر الفرح والحزن ليست أمورا يستطيع الانسان أن يتحكم بها دائما ، فهي قضايا قلبية تتحرك في أحيان بلا إرادة ، والقلب له اقبال وادبار ، وله رغبات وميل لا يتحكم الانسان به ، ولذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قضية عدل الانسان بين زوجاته ( اللهم هذه قسمتي فيما تملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ) ، ويقصد بذلك محبة زوجة أكثر من أخرى ، وان هذا خارج عن إرادة الانسان في أحيان كثيرة ، وانه امر ينزرع في القلب دون اختيار ، وكذا مسألة الفرح والحزن والسرور وغيرها ، فلو أردت ان تفرح وهو أمر غير مفرح لم تستطع ، ولكنك تستطيع ان تتصّنع الفرح ، وكذا لو كنت تريد ان تحزن على أمر لا يحزنك لا تستطيع كذلك .. ولكنك تستطيع تصّنع الحزن .
واخيرا ، فقد يقول قائل بأن امريكا لا تناصبنا الحرب ، ولكنها تناصب بعض المسلمين ، فأقول ، فرق بين كون أمريكا حربية لا عهد بيننا وبينها ، وبين كونها عدوة حتى لو كان بيننا وبينها عهد وميثاق ، فلا شك أن امريكا عدوة للمسلمين ، وللاسف فإن بعض المسلمين هو المستفيد الأكبر من عهودها ومواثيقها لا ا لعكس ، وهي لبعض المسلمين عدوة محاربة ، وهذا التفريق الدقيق سمعته مرة من الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ، وقال بأنها عدوة وليست حربية .. وهو من دقائق المسائل فيما يتعلق بالسياسة الشرعية ومواثيق الدول .
إننا لا نستطيع بسهولة استلاب مشاعر المسلمين ، وهم يشاهدون هذه المناظر الفظيعة التي هي من نتاج الامريكان وعمل ايديهم ، ومع ذلك يفترض البعض ان هذا الفرح هو تجرد من الانسان ، وعندي أن تجريد الانسان من إنسانيته عندما تريده يشفق على من يراه سبب مآسيه ، فهنيئا لأمريكا ببعض القوم الذين يقفون صفا قويا أمام من يريد جرح مشاعرها حتى في الفرح في مصابها ..
Bookmarks