وقد أورد ابن حزم مجموعة من الأدلة تدعم أفضلية الأنثى على الذكر من وجهة نظره حاولت سردها والرد عليها أولها قوله:
فإن شغب مشغب بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للب الرجل الحازم من إحداكن»(28).
قلنا: إن حملت هذا الحديث على ظاهره فيلزمك أن تقول أنك أتم عقلاً وديناً من مريم وأم موسى وأم إسحاق ومن عائشة وفاطمة، فإن تمادى على هذا سقط الكلام معه ولم يبعد عن الكفر، وإن قال لا سقط اعتراضه واعترض بأن من الرجال من هو أنقص ديناً وعقلاً من كثير من النساء, فإن سأل عن معنى هذا الحديث قيل له قد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه ذلك النقص وهو كون شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل، وكونها إذا حاضت لا تصلي ولا تصوم وليس هذا بموجب نقصان الفضل ولا نقصان الدين والعقل في غير هذين الوجهين فقط، إذ بالضرورة ندري أن في النساء من هن أفضل من كثير من الرجال وأتم ديناً وعقلاً غير الوجوه التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وهو عليه السلام لا يقول إلا حقاً، فقد علمنا أن أبا بكر وعلياً لو شهدا في زناً لم يحكم بشهادتهم، ولو شهد به أربعة منا عدول في الظاهر حكم بشهادتهم وليس ذلك بموجب أننا أفضل من هؤلاء المذكورين، وكذلك القول في شهادة النساء فليست الشهادة من باب التفاضل في ورد ولا صدر لكن نقف فيها عندما حده النص فقط، ولا شك عند كل مسلم في أن صواحبه من نسائه وبناته عليهم السلام كخديجة وعائشة وفاطمة وأم سلمة أفضل ديناً ومنزلة عند الله تعالى من كل تابع أتى بعدهن ومن كل رجل يأتي في هذه الأمة إلى يوم القيامة فبطل الاعتراض بالحديث المذكور وصح أنه على ما فسرناه وبيناه والحمد لله رب العالمين(29).
قلت: قد جعل ابن حزم نقصان العقل والدين من الوجهين المذكورين في الحديث فقط، ونحن لا نزيد على الوجهين المذكرين ولكن النتيجة هي نقصان تكون به أدنى درجة من الذكر وهو الذي حوله ندندن، وهو وجه من وجوه الامتياز الذي فاق به الذكر على الأنثى في الآية: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾ وأما أن من الإناث من هي أفضل من كثير من الذكور فهذا لا شك فيه ولكن هذا الفضل يكون من باب الخصوص لا من باب العموم، وبعبارة أخرى لو أخذنا عدداً من الرجال وعدداً من الإناث وأجرينا سباقاً لشد الحبل، ثم فاز الرجال لقلنا الرجال أفضل من النساء، ولكن هذا لا يعني أنهم عموماً أفضل من النساء لأن فيهن من هي أقوى لو نافست أحد الضعفاء من بين فريق الرجال لسبقته لأنها أقوى منه منفرداً، فكانت أفضل منه بوجه خاص.
ثم قال فإن قيل: كان القياس في الكلام أن يقال: وليس الأنثى كالذكر لأنها دونه فما باله بدأ بالذكر ؟
والجواب: أن الأنثى إنما هي دون الذكر في نظر العبد لنفسه؛ لأنه يهوى ذكران البنين وهم مع الأموال زينة الحياة الدنيا وأقرب إلى فتنة العبد, ونظر الرب للعبد خير من نظره لنفسه فليس الذكر كالأنثى على هذا؛ بل الأنثى أفضل في الموهبة ألا تراه يقول سبحانه: ﴿ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً﴾[الشورى: 49] فبدأ بذكرهن قبل الذكور وفي الحديث أيضاً: « من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو -وضم أصابعه- »(30), فترتب الكلام في التنزيل على حسب الأفضل في نظر الله للعبد والله أعلم بما أراد(31)، قلت: أما البدء بهن في الآية فهو من باب الاهتمام بشأنهن لضعفهن، ألم تر أن الله بدأ بالوصية قبل الدين في قوله تعالى: ﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْن﴾[النساء: 11] رغم أن أداء الدين واجب والوصية مندوبة كما جاء في الحديث: « عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتي بجنازة فقالوا صل عليها فقال: «هل عليه دين؟», قالوا: لا. قال: «فهل ترك شيئاً», قالوا: لا, فصلى عليه, ثم أتي بجنازة أخرى فقالوا: يا رسول الله صل عليها, قال: «هل عليه دين», قيل: نعم, قال: «فهل ترك شيئاً», قالوا: ثلاثة دنانير, فصلى عليها, ثم أتي بالثالثة فقالوا: صل عليها, قال: «هل ترك شيئاً», قالوا: لا, قال: «فهل عليه دين», قالوا: ثلاثة دنانير, قال: «صلوا على صاحبكم», قال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله وعليّ دينه فصلى عليه»(32)، إذن فتقديم الوصية اهتماماً بشأنها لما كان سداد الدين واجباً، وله من يطالب به على العكس من الوصية ففي الغالب تكون لمن لا يعلم بها ولا يطالب بها.
وأما استدلاله بحديث الجاريتين فهو حجة عليه، وذلك لضعفهن واهتماماً بشأنهن كذلك؛ أوصى لهن وحض على إعالتهن ورتب الأجر على ذلك ترغيباً بهن وبالإعتناء بهن لضعفهن ولنقصان درجتهن دون درجة الرجال الذين لا يحتاجون إلى ما تحتاج إليه الأنثى كما لا يخفى.
وقال أيضاً: فإن اعترض معترض بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وامرأة فرعون»(33), فإن هذا الكمال إنما هو الرسالة والنبوة التي انفرد بها الرجال وشاركهم بعض النساء في النبوة. قلت: من أين له أنهن شاركن الرجال في النبوة؟ والله يقول: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم﴾[يوسف: 109]وهو خاتم الأنبياء، فمتى سيشارك بعض النساء في النبوة؟
وقال أيضاً: فإن اعترض معترض بقوله عليه السلام: «لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة»(34) فلا حاجة له في ذلك لأنه ليس امتناع الولاية فيهن بموجب لهن نقص الفضل فقد علمنا أن ابن مسعود وبلالاً وزيد ابن حارثة رضي الله عنهم لم يكن لهم حظ في الخلافة وليس بموجب أن يكون الحسن وابن الزبير ومعاوية أفضل منهم، والخلافة جائزة لهؤلاء غير جائزة لأولئك، ومنهم في الفضل ما لا يجهله المسلم(35).
قلت: ولكن هذا خبر من الصادق المصدوق الذي يوحى إليه أنه لا يفلح القوم إذا ولو أمرهم امرأة، وفي هذا حض لإسناد الأمور لرجل واحد ممن توفرت فيهم أهلية الرياسة والقيادة حتى تستقر الأمور لأن سنة الله قائمة على أن يكون للقوم رأس واحد لا رؤوس كثيرة، ومع ذلك لم نر أن رسول الله قد أسند أمور القيادة والحرب والجهاد لفاطمة أو عائشة أو أم سلمة مع فضلهن بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
ثم أضاف قائلاً: فإن اعترض معترض بقول الله تعالى: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾, قيل له: إنما هذا في حقوق الأزواج على الزوجات، ومن أراد حمل هذه الآية على ظاهرها لزمه أن يكون كل يهودي وكل مجوسي وكل فاسق من الرجال أفضل من أم موسى وأم عيسى وأم إسحاق عليهم السلام، ومن نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وبناته وهذا كفر ممن قاله بإجماع الأمة وكذلك قوله تعالى: ﴿ أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ﴾[الزخرف: 18] إنما ذلك في تقصيرهن في الأغلب عن المحاجة لقلة دربتهن وليس في هذا ما يحط من الفضل عن ذوات الفضل منهن(36).
وهنا وقفة حيث لا يوجد وجه مقارنة بين المؤمن وبين الكافر، أليس الله يقول: ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [البقرة : 221] فمطلق الإيمان أفضل من كل الكفر بشهادة الله فلا يبقى وجه لأفضلية الكافر والفاسق على المؤمنين لأن الله جعل المؤمن أفضل من العاصي فضلاً عن الكافر والمشرك فتكون الأنثى المؤمنة أفضل من اليهودي والمجوسي، وكذلك يقال في أنهن لسن في الخصام في شيء مع إخوانهن من الرجال لا من حيث الأفضلية بل لضعفهن.
Bookmarks