صفحة 20 من 21 الأولىالأولى ... 1018192021 الأخيرةالأخيرة
النتائج 286 إلى 300 من 301

الموضوع: الكوميديا الإلحادية

  1. #286
    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المشاركات
    2,867
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    19

    افتراضي

    54 أبو الإلحاد في طور الاستقراد

    رُبّ متساءل مستفسر, عن أبي الإلحاد وأحواله, في حله وترحاله, وعن سر خفوت صوته, حتى أرجف مبغضوه بموته, بعدما ملأ الشبكة ضجيجا وجلبة, حتى ظن الجاهل أن له الغلبة, فما باله تقلص وانكمش, وصار يتخبط كالأعمش؟

    ما له يدور ولا يتقدم, ويركض على أرض إلحاده فيتأخر؟ بل يدبّ ملتصقا بالتراب, فالخسة بيته, والذل رداؤه, والخزي لحافه, والضّعة خُلقه, والدناءة مرتبته, والضيم أنيسه, والخنوع جليسه.

    ما لي أرى أبا الإلحاد في عراك وهِراش, تهوي عليه اللكمات, يدمى قلبه دون قالبه؟ وليس له من عدو سوى نفسه, فما أعجب عدو نفسه يصارع نفسه, فبئس الصارع والمصروع.
    أهذا صنيع الإلحاد بأبيه وبنيه؟ يا تُرى هل ما أصابك سحابة صيف, أم جار سوء مقيمٌ لا ضيف؟

    بل هي أحوال للإلحاد لازمة, ولمن رضي به ملازمة, فأبشر بطول مهانة يا ربيب الإنكار, إنها طبيعة الإلحاد يا عبد الطبيعة, لقد لبسته فزهوت بنفسك وانتفشت, وانتفخت حتى حسبت نفسك إلها صغيرا يطير حيثما شاء, ويفعل بلا حسيب ما يشاء, لبثت كذلك حتى انجلت عنك فورة الشباب وهيجان الّصبا, ثم هويت إلى الأرض على أم رأسك, فأنت في متاهات كفرك تتدحرج.

    قفل أبو إلحاد راجعا إلى جُحره, يجرجر رجليه في عنت, كأنما حشيت ساقاه رصاصا, خُيّل إليه أنه يساق إلى زنزانة مظلمة, لعن الصدفة التي رمت به في أتون هذه المعركة المستعرة التي يسمونها "حياة", وهل هذه حياة؟ لقد ظل عشر سنين يعمل في تلك الشركة, يكدح وينصب لأجل فتات لا يغنيه ولا يُرديه, كأنه فأر غبي يدير عجلة لا يغادرها إلا لينام.

    اشتدت محنته هذا العام, خُيّل إليه أن عالمه يتهاوى من حوله, طالما خفف عنه العمل بعض ما به, لكنه طُرد منه اليوم, ماذا تراه يصنع الآن؟ إنه يتوقع أياما سودا. إن البطالة الإلحادية والزلازل النفسية التي تعصف به خلطة قاتلة.

    مكث الفأر الإلحادي في جُحْره شهورا يبحث عن عجلة أخرى, لم يترك بابا إلا طرقه, فما سمع إلا صدى طرقه, لم يكن يحظى حتى برسائل رفض واعتذار, كانت طلباته تتلاشى كما يتلاشى في حياته معنى الأمل. يبدو أن العالم المادي بذراته ومجراته قد خذله.

    هجرته زوجه إلى بيت أبيها حتى تنجلي هذه المحنة فيما تزعم. صار يخرج باكرا هربا من صاحبة الشقة التي تأتيه كل يوم لاستخلاص أجر الكراء.
    انقضى الشهر الخامس, فخرج يهيم على وجهه, يحمل خيبته, ودرهمين هي كل ما يملك, اشترى بهما جريدة, وأتى حديقة.

    جلس يتصفح الإعلانات في لهفة وهو يدعو في سره الطبيعة والصدفة والحظ والطالع والبخت والنصيب أن يسعفوه في محنته, وقع بصره على إعلان كتب بخط عريض:
    وظيفة شاغرة
    هل تحب المغامرة؟ هل تحب التغيير؟
    هل تحب الطبيعة؟ هل تحب الحيوانات؟
    اتصل بنا مباشرة لمزيد من المعلومات
    حديقة حيوانات القارات الخمس.

    كان يقرأ ويتمتم: نعم, نعم, نعم... قام مسرعا إلى بيته, استحم ولبس وتعطر وتزين, ووقف أمام المرآة يرتل تعاويذ إلحادية ويحفّز نفسه بعبارات لم يعد يذكر أين قرأها أول مرة:

    " الكون كله فيك مكنون يا ابن الكون,
    فبك كان وبه تكون,
    ذرة أنت تمخر عباب الكون,
    تذروها الطبيعة وهي في سكون,
    فلا تجزع ولا تفزع أيها المغبون,
    اغسل همومك بالماء والصابون,
    وتفاءل فالمادة عوّدتك الإحسان,
    فلا تكفر بها أيها الإنسان,
    أنا موهوب, أنا محبوب,
    أنا جاذب أنا مجذوب,
    فيا قوانين الجذب,
    اجذبيني إلى هذا الرزق واجذبيه إلي,
    كما جذبت الحديد إلى المغناطيس..."

    تذكر الآن, إنها ترانيم ابتكرها أحد كهنة الزملاء, وضمنها تعاليم قانون الجذب, الذي كان يومها موضة معروضة.

    انتهت المقابلة بقبوله في عمله الجديد. تلقى تدريبا لمدة أسبوع ثم تم تكليفه بالقيام على أمر أسرة شيمانزية عريقة تسكن قفصا عظيما كأنه قصر يتوسط حديقة الحيوان.إنك لو رأيته لرأيت مكانا واسعا. شتان بين رحابة أرجاءه وبين ضيق شقة لحود, بل إنه أجمل وأنظف وأطيب ريحا وأعظم أُنْسا و أوفر بِشرا.
    يأوي أبو الإلحاد إلى جحره فلا يؤنس وحدته إلا قرينته التي ملّته واستثقلته, ولما ضاقت به الأرض قلَتْه, ثمّ إنها لم تعد إليه وقد مضى على عمله هنا شهران.
    أما هنا وما أدراك ما هنا, هنا القصر الشيمبانزي العامر, هنا الفخامة والضخامة, هنا البنيان والعمران, هنا أجيال ثلاثة, متناغمة متراحمة, هنا الأجداد والآباء والأبناء والأحفاد, يأتيهم رزقهم بكرة وعشيا, بلا كدّ ولا نصب, بل إنهم اتخذوا خادما مطيعا قنوعا اسمه أبو الإلحاد.

    فرح صاحبنا بحظه, وانهمك مسرورا في عمله, كأنه حظي بخدمة ملك من الملوك, لا قطيع من القرود, وأحبّ أن يحيي مواهبه الأكاديمية, فصار يقيّد ملاحظاته الشيمبانزية في مذكرة, ويتفكر في تفاصيل التطور, كي يتبحر فيه أيما تبحّر.
    ما أسعدك بالطبيعة وما أسعدها بك, لقد أتت بك إلى حيث انتماؤك, وصهرتك مع معدنك, وصنعت إليك ما أنت أهله, يبدو أن قانون الجذب صحيح من هذا الوجه, وليت دونكي يتخذ له مثل هذه الإقامة الفارهة لأيام تقاعده.

    سرعان ما اعتادت القرود على أخيها الذي يلبس الثياب, وألفت ريحه, وأنِست به وأنس بها, وصار زملاؤه في العمل يدعونه فيما بينهم "زعطوط".
    دخل عشية يتفقد آنسة شيمبانزية توشك أن تضع, فأخذته إغفاءة ولم ينتبه له زميله فأغلق عليه الباب. حين اكتشف صاحبكم ورطته أُسْقط في يده, فقد كان ذلك ليلة عطلة رسمية من يومين, واستيقن أنه سيقضيهما مضطرا في ضيافة أبناء العمومة.

    شعر بالرعب أول وهلة, لكنه سرعان ما استأنس, بل الأفصح أن أقول إنه "استقرد", فهل يستأنس القرد حين يستقرد الإنسان؟ ما لنا ولهذا الآن؟ فلنعد إلى صاحبنا التعيس, قرر أن ينظر إلى الجانب المضيء, فرأى أنها فرصة للاحتكاك مع بني العم في خلوتهم, و مخالطتهم والسمر معهم بالليل, حين يغيب بقية البشر.

    إن رواد الحديقة مزعجون, يلقون إلى إخوانه بالفاكهة كأنهم لا يفكرون بشيء سوى الطعام, هو مختلف لأنه ينظر إليهم بمنظار صنعه أبو الطفرات دارون منذ حوالي قرنين, إن المتنورين اليوم لا يجرؤون أبدا أن ينظروا إلى الحياة بدون هذا المنظار العتيق, ليس لدقّته, بل لأنهم ما أن يزيلوه حتى يبصروا حقيقة الخَلْق.

    أبو الإلحاد ينظر إلى بني عمومته باحترام دارويني جمّ, ويعرف لهم فضلهم, ويقدّر سابقتهم.
    إنه يدرك أن لازم مذهب الإلحاد أن المتنورين يمُتّون للقرود بأوثق العرى وأمتن الصّلات وأشد الحبال, ويعلم علم اليقين أن قطع تلك الأواصر يجعل بصر الإنسان يرتفع إلى السماء متسائلا عن الخالق.
    ها قد أتيح لك يا ابن الطبيعة ونتاج الطفرات وصل تلك الأرحام البعيدة من أقرب سبيل. تذكر شريطا وثائقيا لباحث أوربي مشهور عاش بين القرود يدرس سلوكها, فشرع يصنع ما رآه يصنع:
    نزع قميصه وسراويله, واكتفى بشورت رياضي, ولطخ جثمانه بالطين. أقعى وبدأ يقلد إخوانه الداروينيين ويحاكي حركاتهم وقفزاتهم وأصواتهم, وجد نفسه أخيرا بين أهله. وسرعان ما قبلوه واحتضنوه.

    قضى ليلته الأولى بين أحضان القرود, ونام كالطفل كما لم ينم منذ سنين. فتح عينيه قبيل الشروق, فوجد آنسة شيمبانزية ظريفة قد وضعت كومة فاكهة عند رأسه, عجبا إنه لا يذكر أبدا أن زوجه أتته بوجبة الإفطار في سريره! تبّا له ولها, إنها لم تكن يوما ملحدة مثله.

    مضى اليوم الثاني في سكينة ووئام, وضعت الحامل مولودها, وكان ذكرا, فاهتز القفص وارتجّ أركانه بصيحات الفرح, لا بد أن الجدّ جِدّ فخور بالحفيد الجديد, جلس صاحبنا طوال يومه يرقب الحفل القردي العائلي ولمساته الفنية ويتساءل: كيف يكون الإنسان أرقى ما أنتجه التطور, ثم تبدو القرود أسعد منه؟

    آذنت الشمس بالمغيب فتقارب الزملاء وجلسوا يتسامرون ريثما يغلبهم النوم, قصت عليهم الجدة قصصا من طفولتها في الأدغال الإفريقية, واستند الجد على كتف أبي الإلحاد الأيمن ووضع أحد الصغار رأسه على فخذه, لم يجرؤ على الحركة, فنام على هذه الحال.
    هبّ من نومه مذعورا حين أحس بشيء يقرصه, تبا إنها حشرات حادة اللسع, إنها تنفذ بوخزها عبر فرو القرود, فما بالكم بجلد لحّود الناعم المتنعم؟ مرّ بيده على شعره فوجد كتيبة كاملة من هذه الحشرات المزعجة تقوم بمناورات عسكرية, لكنه لم يستطع أن يفعل الكثير, لقد خشي من رد فعل إخوانه إن هو أيقظهم.

    بدأ يحك جلده, فجأة استيقظت الجدة وأخذت تفلو رأسه في حنان دارويني لم يقرأ عنه قط في كتب شيخه دونكي, كانت تتبع البراغيث في خفة ورشاقة بأناملها, ثم تلتقطها بلسانها, شعر بدمعة حارّة تتحدر على خده, لقد مضى عليه زمان طويل لم يشعر فيه بمثل هذه المشاعر الجياشة, حاول أن يقوم لكن الجدة أمسكت به وأجلسته عند قدميها, وبدأت تنظف رأسه وجلده, يبدو أنها شعرت بضياعه وغربته, خطر في باله أنها ربما تبنّته, يا للهول, يوشك زملاؤه في العمل أن يحضروا, إنه لا يريدهم أن يروه على هذه الحال, أراد أن يصل إلى ثيابه ليلبسها, ضمته جدة القرود إليها كأنها تواسيه, يبدو أنها استشعرت غربته وضياعه.

    حاول أن ينسل من بين يديها لكنها أمسكت به, جلس الآخرون من حولها ينظرون. فجأة وقف زميل له ينظر من خلال قضبان القفص, لقد دقت الساعة الثامنة, اختفى لحظات ثم عاد ومعه جميع عمال الحديقة, يقهقهون ويتعجبون ويلتقطون له الصور, لبس ثيابه وركض مسرعا لعله يحفظ قطرة من ماء وجهه, وأنهى مشواره العملي الفريد في ذلك اليوم المهين, خرج وهو يتمنى لو يستطيع أن يخترق الحجب إلى أحد العوالم المتوازية, لعله يكون هناك أوفر حظا وأحسن طالعا, لكنه علم أنه قد أمضى سنين طوالا يزرع الشوك, وأنْ قد آن أوان الحصاد.


    التعديل الأخير تم 08-19-2017 الساعة 02:49 PM
    {‏ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} إبراهيم: 41

  2. #287
    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المشاركات
    2,867
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    19

    افتراضي

    55 نظرات في التصوف الإلحادي
    ...
    {‏ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} إبراهيم: 41

  3. #288
    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المشاركات
    2,867
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    19

    افتراضي

    قد يبدو عنوان اليومية القادمة غريبا, لكن هل التصوف الإلحادي محض خيال؟
    الجواب في المقطع التالي, وأعتذر فهو غير مترجم:

    التعديل الأخير تم 08-21-2017 الساعة 01:14 PM
    {‏ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} إبراهيم: 41

  4. #289
    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المشاركات
    2,867
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    19

    افتراضي

    56 نظرات في التصوف الإلحادي

    الاســـم:	قرد المارموزيت.jpg
المشاهدات: 1186
الحجـــم:	6.6 كيلوبايت
    تربّع أبو الإلحاد على حصيره, مبحرا على زبد تفكيره, يراجع كتاب حياته, يقلّب صفحاته. فإذا بعضها ملطّخ بكل مستقذر, وأكثرها رتيب باهت مكرّر. توقف عند أيام الزهو واللهو, واجتهد أن يقتبس من ذكرى لذائذها ما يخفف أحزانه, فلم ينله منها إلا حسراتٌ تتردد في صدره, كما لا يجني الأكول من شرَهه إلا الجشاء وثقل الأعضاء. لم يجد في مسيرته موطنا يحنّ إليه سوى طفولته.

    حالت أحواله واشتدت أهواله وتحقّقت كوابيسه, وامتلأ من النّكسات كيسه, ودهمته نكبات متتاليات, تغشاهن فتن ملتهبات, ذاب لهن عالمه كأنه قطعة ثلج, فيا له من بائس يائس مُفلس.

    نظر حواليه فلم ير شيئا من متاع الدنيا, إلا حذاء باليا, وحقيبة ظهر, والثياب على عظامه, والحصير البلاستيكي من تحته. كانت الغرفة على السطح هذا الصيف كالأتون المستعر, كأن الشمس لا تشرق إلا لها وعليها.
    قضى بعد استقالته من منصبه الشيمبانزي أياما باع فيها كل ما يملك: الأثاث والكتب والهاتف والتلفاز والحاسوب, واكترى هذه الزنزانة الضيقة المحرقة ليستر فيها حتى حين خيبته.

    سرعان ما طلبت زوجه الطلاق, وأرسلت من يأتي بأغراضها. لما أراد أن يمحو ذاكرة الحاسوب ليبيعه, وجد ملفا بعنوان: رسائل الفرصة الأخيرة فقرأ فيه رسالتين: إحداهما وُضعت في قارورة على شاطئ البحر قضى بعدها أسابيع يحاول دون جدوى فك لغزها المحير! ثم وجد الثانية في علبة الرسائل. حصل ذلك قبل عام, ولم يدر في خلده هنيهة أنّ زوجه سميّة هي المرسلة, لقد استعانت قطعا بكاتب لعلها توقظه, لم ينتبه إلى محنتها معه, لم ير يدها ممدودة إليه. كان آخر بحث لها على الشبكة الإسلامية: ما حكم بقاء المسلمة مع زوج ملحد؟

    يا لمصيبته كانت سمية أجمل شيء في حياته, لكن إلحاده سلبها منه كما سلب منه كل شيء جميل, كان المعتوه يدعوها نوال تيمنا بإحدى رائدات الزندقة الشرقيات. ويله كيف تجرأ أن يدعوها باسم عجوز شمطاء ملحدة؟ آه, إنه كان يخشى من الحمولة المعنوية لاسمها, وقد حصل ما كان يخشاه.
    غشيته سحابة حزن سوداء مظلمة, نظر إلى سقف الغرفة وتساءل: أيقوى خيط الكهرباء على حمل جثته؟ لكنه مفلس لا يملك حبلا, حرك رأسه مستنكرا ما راوده, كلا كلا, إنه قانع من الحياة بما تهبه الحياة, ولو بقي له في بحر النكد ومحيط الشقاء قشّة لتشبت بها.

    قام ينظر إلى الجدار فرأى نملة مسرعة, قال يحدث نفسه: يا ليتني فيها نملة, فإنّي حُمِّلتُ ما لا أطيق حمله, يا ليتني شعرة في ناصية حمار, ليتني مسمار مغروز في جدار, ليت التطور ما كان ولا كنت, ما لي ولهذه الأعاصير الوجودية؟ ليتني بقيت كائنا أحادي الخلية, ما لي وللوعي, ما لي وللحزن, ما لي وللفكر؟ ليتني ما أدركت قطّ معنى ليت وعسى ولعلّ.

    تمتم: لا تجزع يا ابن المادة العاقّ, أولست تزعم أن المادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم! لا تجزع فالمادة إن منعت, فطالما أعطت, وإن امتحنت فطالما منحت, تأمل أيها الزميل في حالك, ولا تيأس من ليلك الحالك, فبعد حين يجيء النهار, وتسطع الأنوار. كرر هذه الجملة لأحد الزملاء رواد التنمية الذاتية عساه يطمئن قليلا, لكنه ما ازداد إلا قنوطا, يا ويله من تاجر كلام, لما أصبح مليونيرا مثله, فلربما وجدت طعم هذا الكلام!

    حين باع جميع تراثه الأرضي, وحذف مدونته من العالم الافتراضي, ولم يبق له سوى ما يغطي عورته, وهم بمغادرة الشقة وجد شيئين قرر الاحتفاظ بهما: كتابا اشتراه قديما لعنوانه الطريف: (((هداية الملحد المتخوف إلى فضائل التصوف))). ومسبحة إلكترونية كانت زوجه تحتفظ بها بين أغراض زينتها.

    اعتبر هذين الكنزين المنتناغمين هبة من الطبيعة, وإشارة منها لطيفة, فعكف على كتابه يطالعه في نهم, فولج ما يسميه صناديد الجرب والجذام بـعالم "الماورائيات", قرأ عن زهاد الملاحدة عبر التاريخ, وعن عالم التأمل, وعلم الطاقة, وطاقة الفكر, وعن وحدة الوجود, وعن الطاوية والبوذية, وعن اليوغا الهندية والتاي تشي الصينية, وصعد مع فصول الكتاب إلى الهيمالايا, ثم سبح في نهر الغانج, وجلس يقرأ عن بوذا ويتعجب من ضخامة كرشه, ويتساءل عن طول أحشائه, ثم ثنّى بالفصول التطبيقية, بعدما حفظ مدارج سلوك التصوف الإلحادي, و تشرّب مقامات العرفان المادي, فعقد العزم واستصحب الحزم ليقرن العلم بالعمل, فأناخ عند مشيخة صوفية الإلحاد راحلته, واستفتح بلفافة حشيش خلوته, وبدأ رحلة التأمل.

    بدا كأنه بوذا نحيف برى الجوع عظمه وأذبل لحمه. أغمض عينيه ومكث ساعة حارسا على سره, لا ترِدُه فكرة إلا زجرها, ولا خطرة إلا هجرها, ولا سؤال إلا أعرض عنه, ولا اعتراض إلا انصرف عنه, حتى هدأت أمواج نفسه, وسكنت رياح رأسه, فغمره سكون لا ينغصه كسر ولا ضمّ, فاستبشر بسرعة هذا الفتح.
    تخيل عينا جاحظة في جوفه, وجعلها بقوة بليون ميغا بيكسل, ليبصر بها ما نأى وغاب, فرأى نفسه يذوب ذوبان الملح في الماء, نظر إلى جثمانه وقد استحال بقعة تسيل على الأرض, تساءل إن كنت أنا المنظور هناك فمن الناظر؟ إن كنت أبصر بعد إغماض عيني فمن المبصر؟ تساءل: أهكذا حقيقة الموت؟ انتقال من طور إلى طور؟

    صارت ذاته كينونة لطيفة لا يُدرى كنهها, تطير حيثما شاءت, نفذ من سقف الغرفة فوجد نفسه على قرص الشمس, طاف بها ولم يجد لها حرّا, ثم حط على القمر, فلم يجد عليه أثرا لبشر, طاف بين النجوم وأشرف على العالم المنظور بذراته ومجراته. فعل ذلك كله بلا جِرْم ولاجسم, ولا مادة ولا ذرة ولا إلكترون, طرد هذه الخواطر المتطفلة على خلوته, فلا حاجة له لشيء, لكن فكره أبى إلا أن يجول, قرر أن يطفئ الشمس ويطمس القمر والنجوم, تخيل ممحاة عظيمة تمر عليها فتحيلها أثرا بعد عين, فأظلم الكون أيما ظلام. أشرف على الأرض فألفاها بساطا ممتدا يتجارى فيه البشر. مقتهم واستكثرهم وتمنى زوالهم, نظر إليهم يذوبون ويتلاشون, فلم تبق إلا ذاته, تمتم: أليس هكذا أحسن؟ لا معنى الآن للضغائن والأحقاد, لم يبق عليها من يتحاسد, بقيت فردا فلا تحاسد ولا تنافس, ذهب الشركاء في البشرية فانتفت المشاركة. هاهي الأرض التي كنتم فيها تتنافسون بخيراتها, كلها تحت قدمي, فهل أسعد بها يا ترى؟ لم يجد لكل مُتع الأرض طعما, فزهد فيها فذابت كما ذاب أهلها, وذهبت أحجارها وأشجارها, واندكّت جبالها, حتى استوت صعيدا واحدا, فسقطت من عينه, وماذا عساه يفعل على صفحة مستوية ليس فيها معالم ولا ألوان.

    تلاشت الأرض كما تلاشى كل شيء, وبقي أبو الإلحاد في كينونته العجيبة يطفو في الخواء كأنه ذرة من هباء. زالت المادة وما زال الفكر, زال كل شيء وبقي كل شيء, ذهب كل ما يستعمله الماديون لتفسير الوجود, فأعجزه إيجاد تفسير, إلا تفسيرا يحتاج بدوره لتفسير.
    فني العالم من حوله ولم يفن العالم فيه. خيل إليه أن كينونته اللطيفة الحالمة المفكرة قد اختزلت الكون برمته, وأن الكون كله غدا شحنة مجهرية مركزة صُبّت في ذاته صبّا, وحلت فيه وبه اتحدت: حلول واتحاد, هذه عقيدة الإلحاد المحض.

    اجتهد ثانية ليكنس من ذهنه ركام الفكر, لبث ساعة يمارس تمارين التنفس كما نقلها الكتاب عن شيخ شيوخ مشايخ اليوغا الذين نقلوها عبر القرون بالإسناد المنفصل فعاوده السكون, رأى الوجود فراغا لا شيء فيه, ورأى نفسه ينقلب دبّوسا صغيرا له رأس مدبّب, انغرز في بقعة ما من اللاشيء, اختمر في رأسه كل شيء, ثم انفجر فجأة صدفة, ونتج عن انفجاره العظيم طاقة هائلة فولد الكون من جديد, ودارت عجلة التطور طورا آخر, يا اللهول, عليه أن يوقف هذه العجلة البغيضة, لن يحصل من وجود الإنسان في هذا العالم إلا المآسي والطغيان, عاد بقوة التأمل إلى طوره اللطيف, وآثر أن يبقى وحيدا يطفو في عالم انطوى فيه بمجراته وأفلاكه. هذا هو العرفان المادي الحلولي إذن.

    تفكّر: أنا الكون والكون أنا, ولستُ بالمُكَوِّن -بكسر الواو-, فمن تراه يكون؟ وُجِدتُ ههنا وما شهدتُ التكوين. تذكر أن مشيخة الإلحاد يفزعون عند هذه الأسئلة الوجودية العويصة إلى الفضائيين الخضر, إنهم "آلهة الفجوات الإلحادية" عند المتنورين, لكنه لم يفسح لهم المجال ليزاحموه في رحلة تأمله, فهو لا يأمنهم, ويتقزز من ضخامة رؤوسهم وبشاعة مناظرهم.

    بدأ يقرأ أوراده وينتظر وارده, يكنس أفكاره ويتلو أذكاره, افتتح دعاء الصدفة:
    يا أيتها الصدفة العمياء...
    لك ندين وبك نستعين...
    يامن لا نعرف لك مكانا فنأتيه...
    ولا وجها فنقصده...
    أزيلي عنا الغم وأفيضي علينا الحكمة...
    نسألك العرفان والكشف...
    والفيض والفتح...

    ثم بدأ ينقر زر مسبحته الإلكترونية ذاكرا خاشعا متذللا يتلو ((( الحزب الكواركي الكبير))):
    شين, شين, شين, شين...
    يا شين, يا شين, يا شين...
    لا شيء, لا شيء, لا شيء...
    شيء, شيء, شيء, شي...
    كل شيء, كل شيء...
    كل شيء من لا شيء
    كل شيء لا شيء
    يا أيها اللاشيء ما أعظمك,
    يا أيها اللاشيء ما أعلمك,
    يا أيها اللاشيء ما أحكمك,
    يا حساء الكوانتوم ذا السرّ المكتوم
    فوتون, بروتون, إلكترون
    يا كل شيء أنا لا شيء فعلمني كل شيء
    يا أيتها المادة المظلمة علميني الحكمة
    وانتشليني من هذا الثقب الأسود
    غلوون جرافتون بوزون هيجز
    بوزون, بوزون, بوزون,
    كوارك, كوارك, كوراك...

    لما بلغ من ابتهاله الكواركي ثلاثين ألفا ظهرت أمامه سحابة بيضاء, ورأى عليها أمّة من قردة المارموزيت تنظر إليه بأعينها الداكنة, فتح عينيه فرآها بالفعل تملأ فضاء الغرفة, فرك عينيه غير مصدّق, فبدأت كلها تفرك أعينها الصغيرة الجميلة, مد سبابته فحمل عليها أحدها, لم يدر صاحبنا هل هي مقدمات الكشف الصوفي الإلحادي, أم أنها إرهاصات الجنون, أم لعله الحشيش المغشوش أم أنه الجوع!
    تدحرج على حصيره وأسلم نفسه للنوم بعد فنائه في المادة وفنائها فيه.
    التعديل الأخير تم 08-23-2017 الساعة 12:55 AM
    {‏ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} إبراهيم: 41

  5. افتراضي

    للرفع..............
    قال الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى

    (( كان يقال : ما من مسلم إلا و هو قائم على ثغرة من ثغور الإسلام ، فمن استطاع ألاّ يؤتى الإسلام من ثغرته فليفعل ))

  6. #291
    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المشاركات
    2,867
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    19

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة يوسف محمود مشاهدة المشاركة
    للرفع..............
    رفع الله قدرك أيها الكريم.
    {‏ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} إبراهيم: 41

  7. #292
    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المشاركات
    2,867
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    19

    افتراضي

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
    كتبت هذه اليومية بواسطة تطبيق في إحدى الأجهزة التي يقال عنها ذكية, لكني لم أتمكن من تنسيقها, وربما كانت في حاجة إلى تنقيح, لكني أخاف أن تضيع, فلأحفظها هنا عسى أن يتيسر فيما بعد أمر ترتيبها وتنسيقها وتغيير حجم خطها.




    57- أبو الإلحاد على قارعة الطريق

    خرج أبو الإلحاد من غرفته شريدا, تتردد غصص حرى في صدره. لم يكن يوما غنيا, لكنه غُمس فجأة في بحر البؤس غمسة خلعت عنه كل شيء يفرح به أهل الدنيا. صار كمنبوذي الهند يستقذر نفسه قبل أن يستقذره الناس. ليته فيها راهبا بوذيا يهيم في عالم النيرفانا ويقضي وقته في التأمل, إن تقلل صاحب العقيدة أي عقيدة وزهده في زخرف الدنيا, وانخلاعه طوعا عن حطامها ولذائذها يضفي على حياته نكهة من السعادة الروحية, تقابلها شقوة بالغة وتعاسة عارمة تخنق أنفاس من يقبل على الدنيا إقبال المتيم التيهان, يحتضن ضرعها احتضان الرضيع ثدي أمه, ويستمسك بتلابيبها استمساك الغريق بحبل نجاته, ثم هي تدفعه وتزجره. إن أبا الإلحاد ابن الطبيعة وابنها المدلل وعبدها المطيع, لا يبغي بها بدلا ولا يصبر عنها طرفة عين, فما بالها تركله وتخمشه وتهينه.

    هائنتذا يا فارس التنوير على قارعة العالم المادي الذي كنت تعبد من دون الله, لقد فنيت في المادة وفنيت فيك, فأبشر بالتنوير الذي كنت توعد, لقد جاءك الفتح وانكشفت عنك الحُجب, وطلعت عليك شمس الحقيقة المادية, ذق ما كنت تطلب, واشرب ما كنت تحلب. لا تشتك من مرارة شرابك ولا تندب رداءة طعامك, فأنت أوقدت عليه في فرن هواك سنين طوالا, ونفخت فيه هواء شهواتك وشبهاتك دهرا حتى استوى, فهنيئا مريئا.

    هناك إلحادان متباينان, أحدهما إلحاد مشوب بشوائب ليست منه, كأنها منكهات تزينه في حلوق المغرورين المخدوعين, إنها شوائب رومانسية حالمة ينخدع بها من يطمع أن يزوق الإلحاد بمفاهيم العدل والإنسانية, إنها شوائب خادعة تتلألأ كالسراب يلهث خلفه بلداء الملاحدة حتى يسلمهم إلى دار الإلحاد الخالص, ويفد بهم إلى أرضه اليباب القفر, ملحدستان: فردوس التنوير المنشود, هناك فقط يُذبح الأمل في محراب الشيطان, ويرفع لواء اليأس وتنصب أعلامه. أليس هذا خليقا بك يا من لم تقنع أن تلحد في خاصة نفسك, بل سعيت في خراب بيت إيمان غيرك؟ بئس مثل الأعمى يتصدى لهداية الناس في المفاوز والصحاري.

    لقد استيقنت أخيرا أن نشدان العدل والقيم الأخلاقية والتغني بها هرطقة في دين الإلحاد القح. إنما الملحد ذرات حقيرة تنفعل ولا تفعل, وتستجيب ولا تسأل, تلبث كذلك زمانا ثم تندثر. فيا أيتها الذرات المتكاثفة لغير معنى, مالك وللمعنى؟ قضي الأمر الذي كنت فيه تختصمين: أنت لم تكوني شيئا مذكورا, فكيف توهمت أن يكون لك من الأمر شيء, أو أن يجيء منك شيء, كيف خطر ببالك لحظة أن يكون لك شيء يا لا شيء؟

    جلس صاحبنا على الرصيف مفترشا أساه, ملتحفا هواجسه. مرت قربه حافلة مهترئة صدئة, فغمره دخان وقودها المحترق, أحس له بوخز في عينيه لكنه انتشى لطعمه في حلقه, لم يحظ بلفافة تبغ هذا اليوم.
    مشى ساعة مطرقا لعله يظفر بعقب سيجارة, فجأة بصر بعلبة كاملة, لم يشك هنيهة أنها فارغة. التقطها فإذا هي ملأى, إنها لحظة من لحظات أنسه بأمه الطبيعة.
    حدق في الصورة المقززة على العلبة: شاب استئصل معظم فكه الأسفل بسبب السرطان. عجبا للمتنورين كيف يسمونه مرضا خبيثا, متى تتخلصون من أوهام الطهارة والنجاسة؟ أفلا تعقلون؟ إن لم يكن ثمة إله في السماء فالطبيعة هي الطبيعة, لا شيء منها يستقذر البتة!

    نظر إلى العلبة وتساءل لماذا يدخن المدخنون رغم أنف من يرهبونهم بتلك الصور المرعبة؟ بل كيف يستقيم أن يوجد جراح يسترزق من استئصال تلك الأورام القاتلة من صدور فتتها الدخان, ثم يشعل هو نفسه سيجارة كلما فرغ من عمله؟
    أليس العلم الدنيوي كفيلا بخلاص الإنسان وهدايته كما تزعمون يا أفراخ الإلحاد؟ أم أن معادلة السلوك الإنساني أشد تعقيدا من ذلك؟
    إن الإدراك النظري لعوامل الربح والخسارة الماديين لا يكفي أبدا لكبح جماح نفس هذا الإنسان المتمرد على الطبيعة الجانح دوما إلى الاعتراض عليها بمفاهيمه الأخلاقية المتسامية.
    وجد أبو الإلحاد نفسه تارة أخرى منزلقا في متاهات الأفكار الميتافيزيقة الحالمة, لكن مثال الجراح ناطق بقصور المذهب المادي عن تفسير لغز الإنسان. إن ذلكم الجراح يعلم علما ضروريا ومكتسبا, نظريا وعمليا , حصله خلال عقود متطاولة, أن التدخين مهلكة للإنسان, إنه يقضي ساعات منهكة يرمم أجسام من أرداهم التبغ وأتلف أبدانهم, ثم لا يجد لنفسه بعد ذلك كله رادعا عن حمقها وسفاهتها.
    لن ينسى صاحبنا هذا المثال ما حيي, لن ينساه مذ سمعه من محاور مسلم فلم يحر له من يومها جوابا.
    سأله: ما بال البروفيسور الجراح؟ أجاهل هو فيعلم؟ أم مجنون فيحجر عليه؟ أم الثالثة وفيها خراب بيت إلحادك؟
    أما إنك تعلم الجواب غير أنك تكابر, إنه مثلك ومثل أكثر أهل الأرض صاحب هوى, فما بال العلوم المادية متظافرة لم تنفعه ولم تردعه عن غيه ولم تكبح جماح هواه؟ خذه مني توقيعا على صك موت الإلحاد, وإيذانا باندثاره وتلاشيه.


    الإنسان كائن ملتقص بالأرض وهامته في السماء, كائن يسكن هذا العالم, ولا تسكن نفسه قط إلا بتطلعها إلى عالم آخر, إنه كائن ملابس للطبيعة متمرد عليها, مجنون بالقوة محب للرحمة, مجبول على الشح مقدس للبذل. ما أعظم تلك الهوة السحيقة التي تفصل بين الإنسان إذ يكون عبدا لهواه ومطالبه الطينية, وبينه إذ يتعالى عليها ويتسامى ليعانق عالما آخر, عالم السماء والنبل والطهر والقداسة.

    لكن أبا الإلحاد عبد هواه وعبد المادة وعبد الصدفة وعبد كل ذرة من هذا الوجود الفاني المتغير الزائل زوال ظل تلك المباني الممتدة أمام ناظريه. دخن سيجارة في شره, ثم أتبعها ثانية وثالثة وهو يتمنى أن تحبوه أمه الطبيعة بسرطان مثل الذي تصوره العلبة أو أشد منه تنكيلا.

    ما أعجب الملحد, يحيا منتشيا بأوهام الشباب والقدرة والقوة والقهر, وإنما هو تحت القدرة والقوة والقهر لا يملك لذاته الفانية من نفع ولا ضر.
    تبسم أبو الإلحاد ومشى لا يدري كيف يمشي ولا فيم يمشي, ذابت إرادته وتلاشت أمانيه, انصهر في العالم المادي الذي يعبده, مات فيه كل شيء جميل, لكن صوتا خافتا في أعماقه ذاته المتحيرة لم يزل يهمس به أن ثمة مخرجا من هذا الجحيم المستعر الذي يسميه حياة.
    مضى بلا قصد ولا هدف, تتقاذفه الحارات وتتناوش عقله المحارات. ولما أن أظلم الليل صنعت له أمه الطبيعة هدفا لتخلع على تسكعه البئيس معنى.
    صار يمشي يريد مكانا يصلح للنوم, تسلق سور حديقة عامة, جر أقدام خيبته إلى زاوية منها حيث ألقى عظامه المنهكة. التصق أبو الإلحاد بالعالم الذي لا يعرف له ربا سواه, وأمسى كأنه جذع ملقى على قارعة الطريق, طريق الإلحاد الشائك الطويل.
    {‏ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} إبراهيم: 41

  8. #293
    تاريخ التسجيل
    Mar 2013
    الدولة
    مغرب العقلاء و العاقلات
    المشاركات
    3,002
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    هائنتذا يا فارس التنوير على قارعة العالم المادي الذي كنت تعبد من دون الله, لقد فنيت في المادة وفنيت فيك, فأبشر بالتنوير الذي كنت توعد, لقد جاءك الفتح وانكشفت عنك الحُجب, وطلعت عليك شمس الحقيقة المادية, ذق ما كنت تطلب, واشرب ما كنت تحلب. لا تشتك من مرارة شرابك ولا تندب رداءة طعامك, فأنت أوقدت عليه في فرن هواك سنين طوالا, ونفخت فيه هواء شهواتك وشبهاتك دهرا حتى استوى, فهنيئا مريئا.
    والفاهم يفهم .. جزاكم الله خيرا أستاذ هشام على هذه الخواطر الرائعة والتي أرجو أن تصل لكل ملحد ولاديني (يزعم التنوير ) وهو في ظلمات بحر لجي .. فهي بحق تقلب عليه المواجع وتقض المضاجع لمن لا يزال عنده ذرة عقل وبصيص نور.

  9. #294
    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المشاركات
    2,867
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    19

    افتراضي

    جزاك الله خيرا أخي الكريم بن سلامة.
    كلماتي تصل حتما إلى المعني بها، ومن سار في طريق وصل يوما إلى نهايته وصاحبكم يوشك أن يبلغ محطة النهاية.

  10. #295
    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المشاركات
    2,867
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    19

    افتراضي

    58- محطة النهاية

    ...

    وبها يسدل أبو الإلحاد الستار على رحلته العجيية، وإلى هاته المحطة يسير أكثر من يدخل نفق الإلحاد منتفشا منتشيا مزهوا مغرورا، لكنهم قوم لا يعلمون. اكتبها اداء لأمانة القلم، ولأختم بها رحلتي في تلافيف "عقل" الملحد العربي الافتراضي.
    ترونها هنا قريبا بإذن الله.

  11. #296

    افتراضي

    اللهم ارفع علم الجهاد، واقمع أهل الشرك والزيغ والشر والفساد والعناد و الإلحاد؛ وانشر رحمتك على العباد.
    قال سيدُنا علي (رضي الله عنه): الناسُ ثلاثة عالمٌ رباني ومتعلمٌ على سبيل نجاة وهمجٌ رَعاعٌ اتباعُ كُلِ ناعقٍ يميلون مع كُل ريح.

  12. #297
    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المشاركات
    2,867
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    19

    افتراضي

    58- محطة النهاية

    قضى بطلنا الأسطوري ليلة أخرى في العراء المادي, إنه هناك كالخرقة البالية في أصل شجرة, انتشلته ترانيم العصافير من مملكة النوم, إنه يعجب أشد العجب لهذه الحيوانات الصغيرة, كيف تنشد أنغام البهجة في هذا العالم الكئيب,ليتها تعزف له سيمفونية من قاموس الحزن, لعلها تهيجه على البكاء, ما أحوجه أن يبكي فجيعته وضيعته وغربته.

    لفحت شمس الصباح وجه أبي الإلحاد, فتح عينيه ليبصر عالما تنكّرت له ذراته, علقت بذهنه شذرات حلم غريب يتكرّر, رأى نفسه يخوض بحرا متلاطما في ليلة حالكة, كان كل شيء في حلمه أسود قاتما, البحر والليل وثبجه, وأشد من ذلك كله ظلمة نفسه.

    لم يجزع صاحبنا من دنو هلاكه, بدا كأنه كان على موعد مع البحر لن يخلفه, أغمض عينيه لعله يرحمه فيبتلعه ويريحه من رحلة الضنك الأرضي, أو يقذف به بعيدا إلى أحد الأكوان المتوازية, لكنه وجد نفسه فجأة يمتطي كلبا أبيض, رأى نفسه ممسكا بلسانه حتى بلغ به الشاطئ, ياله من حلم غريب, والأغرب أنه حلم يرى أجزاء متفرقة منه في كل مرة, كأنها قطع وعاء خزفي متناثرة, أو كأنه دعاية شريط سينمائي صممت بعناية, وصففت لقطاتها الآسرة لتستحوذ على قلوب الجمهور, فيتشوف إلى مشاهدة الشريط بأكمله.

    جلس صاحبنا القرفصاء وأمسك بوجهه بين كفيه, نفض التراب عن خده, أخذ نفسا عميقا وشرع يترنم على نسق العصافير من فوقه:
    صحيت يا طير ويا ريتني ما صحيت
    غدرت بيا الدنيا وناسها وما شكيت
    عشت وشقيت ويا ريتني ما دريت
    درست وتعلمت وجادلت وقاسيت
    ضاع شقاي وما بقي غير عسى وليت
    قولوا للبحر راني راجع للبيت
    يا بحر ليتك تقبلني عندك يا ليت
    كفور غروا كفرانه منه عانيت
    يا بحر لا تلفظ عظامي بما جنيت

    لم يدر صاحبنا كيف خرجت هذه الكلمات من فيه, بل لم يدر كيف تحدر الدمع من عينيه, لم يبك منذ طفولته. لقد علم الآن كيف سيسدل الستار على رحلته الأرضية التعيسة المضنية.

    مضى عليه شهر آخر وهو يتجرع أبشع تجليات العالم المادي, تشرد جسدي وفكري, هزمك التطور يا أبا التطور, انطفأت فوانيس التنوير يا أبا التنوير, لعلك لم تؤد ثمن الفواتير, هل تحسب نفسك في فندق تقيم فيه الدهر بالمجان؟ (1) انتهى فرز الأصوات في لعبة الانتخاب الطبيعي, والنتيجة أنك حثالة لا تصلح لشيء, ماذا تنتظر؟ هل تنتظر طفرة تطورية تهب حياتك معنى؟ سيطول انتظارك يا مسكين, هذه الآليات الداروينية ليست عجولة أبدا, أنت قطعا لا تريد أن تنتظر بلايين السنين.

    عزم صاحبنا أن ينسحب من حلبة الصراع المادي, إنه لم يعد يطيق نفسه, لم يعد يحتمل هذه الآلة الداروينية التي لم تقنع بكينونتها الشيمانزية, عليه الآن وقد حسم أمره, أن يجد وسيلة لإطفاء هذه الآلة المزعجة إلى الأبد.

    الإلحاد يأتيك أول الأمر كأنه امرأة متبرجة في كامل زينتها, متفلسفا متمنطقا مترنما بأهازيج التنوير والحداثة والتحرر. لكنه يخبرك من أول يوم بأن وجودك لا معنى له ولا مغزى, وأنك لا تختلف عن الحشرات والبهائم في الجوهر, الآن وصل الباص الإلحادي إلى محطة النهاية يا أبا الإلحاد, انتهت الرحلة, إما أن تنزل أنت, أو ينزل الإلحاد.

    عجيب أمر الإنسان, حتى حين يجزم أن حياته صفر من المعنى, فيقبل على الانتحار, فإنه يجتهد أن يجعل لانتحاره معنى, فيتخير كل شيء بدقة, الزمان والمكان والوسيلة. ما دام الإنسان عندكم معاشر الملحدين المتاعيس آلة بيولوجية, فلماذا يكتسي التخلص منها كل هذه الملامح الميتافيزيقية؟ هل رأيتم قط أحد يأخذ سيارته الخردة لمستودع المتلاشيات, محاطا بالطقوس الجنائزية, والمشاعر الميتافيزيقية؟

    اغتسل أبو الإلحاد صبيحة يوم جميل ولبس ثيابا نظيفة, مشى يجر رجليه كأنه يحمل أوزار السنين المتطاولة, يمم شطر البحر, نظر إليه في هيبته وجبروته, إنها محطة النهاية, تمتم: "عم قريب ينتهي كل شيء.."
    "رجاء خذني يا بحر, فقط خذني, ستحظى ببعض البروتين الحيواني, لكن رجاء إياك وإياك أن تفكر للحظة في أن تصنع بي ما صنعت بدب دارون, لا أريد قوائم إضافية ولا أجنحة ولا شيء, هل فهمت.."

    طالما راودته فكرة موتة رحيمة, حبة أو جرعة سم تفصل الأسلاك الداروينية بين جثمانه ورأسه, لكنه نبذ هذه الفكرة, وقرر أن تكون نهايته درامية مثل أبطال الأساطير القديمة.

    تخيل معلق كرة يصرخ كالمجنون في بث مباشر ينقل للمشاهدين تفاصيل المباراة النهائية:

    " مشاهدينا الأعزاء, نتابع معكم اللحظات الأخيرة من الوقت "بدل الضائع" من نهاية دوري الأبطال الملاحدة الصناديد... أبو الإلحاد في مواجهة أبي الإلحاد, وأبو الإلحاد في مواجهة البحر, إنها مباراة ثلاثية الأبعاد, من فريقين, بسبب شيزوفرينيا الفريق الأول... من سينتصر يا ترى؟ تابعونا لحظة بلحظة...

    يتقدم أبو الإلحاد في مواجهة تشكيلة دفاع البحر, يتردد أبو الإلحاد قليلا, لكنه يتمالك نفسه ويمشي بخطى ثابتة, يا له من موقف مهيب, يا له من مستوى عال من الروح الرياضية الإلحادية, اللاعب المخضرم يقدم نفسه قربانا للوهم الإلحادي كما سبقه إلى ذلك ألوف من هذه المدرسة الكروية العريقة, التي تجعل اللاعب نفسه كرة متدحرجة, الآن يقوم أبو الإلحاد بعملية اختراق ناجحة لدفاع الخصم, يا للعبقرية, يا للإبداع, اكتب يا تاريخ, يا سلام يا أبا الإلحاد, مباراة تاريخية بامتياز..."

    خاض صاحبنا البحر, تلطمه أمواجه, خيل إليه أن الزبد من فوقه أنياب وحش كاسر يوشك أن يلتهمه, بدأ الماء يغمره, والملوحة تملأ فمه, صرخ صوت هادر من أعماقه: "لا تفعل, إياك أن تفعل, ما زال هناك أمل, ستشرق شمس يوم جديد من أجلك, لا تقطع على نفسك خط الرجعة... ربما كان هناك إ..."

    لكن المرارة في نفس أبي الإلحاد, والأسى المضطرم في أحشائه جعلته يقدم ولا يحجم, صدمته موجة عاتية جعلته عاليه سافله, تدحرج في الرمل, وجذبه البحر جذبة كأنه دخل في بالوعة, أدركته نزعة حب البقاء فانتفض يريد السطح ليظفر بشيء من الهواء, لكن البحر ألقى عليه بكلكله كأنه جمل هائج, بدأ جوفه يمتلئ بالماء, ثم انقطع الإرسال...

    مشاهدينا الكرام نعتذر عن هذا الانقطاع المفاجئ, سنوافيكم بآخر أنباء أبي الإلحاد ريثما يتجدد الاتصال, إلى ذلك الحين نترككم مع هذا الفاصل الذي نسميه حياة...

    يتبع إن شاء الله.

    (1) شكرا للدكتور هيثم طلعت على هذا التشبيه البليغ.
    {‏ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} إبراهيم: 41

  13. #298
    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المشاركات
    2,867
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    19

    افتراضي

    58- أبو الإلحاد الرقمي: محطة النهاية (تتمة)


    ... لكن المرارة في نفس أبي الإلحاد, والأسى المضطرم في أحشائه جعلته يقدم ولا يحجم, صدمته موجة عاتية جعلته عاليه سافله, تدحرج في الرمل, وجذبه البحر جذبة كأنه دخل في بالوعة, أدركته نزعة حب البقاء فانتفض يريد السطح ليظفر بشيء من الهواء, لكن البحر ألقى عليه بكلكله كأنه جمل هائج, بدأ جوفه يمتلئ بالماء, ثم انقطع الإرسال...

    شعر صاحبنا بشيء خشن لزج يلامس وجهه, فتح عينيه بصعوبة, فوجد كلبا يلعق وجهه, ويجره من ثيابه, شعر بالتقزز من لعاب الكلب الذي يسيل على خديه, فغلبه القيء, فقذفت بطنه قربة الماء المالح التي ابتلعها بالليل, سعل سعالا شديدا وشعر بإرهاق شديد, أغمض عينيه من الإعياء ومن وهج الشمس الطالعة, لكن الكلب شرع يلعقه من جديد, ويجره, وينبح نباحا شديدا كأنه يصرخ به أن يفارق موضعه, زحف أبو الإلحاد على بطنه قبل الشاطئ, وكلما توقف ليسترد أنفاسه نبح به الكلب حتى قطع عشرات الأمتار, فاستلقى على الرمال وهو يلهث وينظر إلى السماء...

    ظل هنالك ممددا وهو يسمع هدير الموج, نظر تجاه البحر فإذا به قد امتد إلى الموضع الذي كان به قبيل قليل. تتتم يخاطب نفسه: "واعجبا, إن هذا الكلب قد أنقذك من موت محقق."
    لفظتك الدنيا يا تعيس فطلبت الفناء في البحر فلفظك أيضا!
    يبدو أنك أمر من العلقم يا فارس الإلحاد, إن البحر نفسه على عظم خلقه لم يستسغك في بطنه.
    غفا إغفاءة استرد فيها أنفاسه, وأدار فيها شريط الأحداث العجيبة المتتالية منذ الليلة الفارطة.. فتح عينيه فإذا الكلب بين يديه كأنه يحرسه, أمعن النظر فيه وشعر بشيء لم يشعر به منذ سنين, شعر بحب عارم يغمر قلبه, ود لو يعانق هذا الكلب الأبيض, ارتعشت مفاصله, نعم إنه أبيض, تماما كما رآه في حلمه الغريب مرارا, فتح عينيه ينظر إليه فخيل إليه أنه يرى العالم لأول مرة كما هو, يبدو أن البحر قد خدش نظاراته المادية, أو لعله ذهب بها إلى غير رجعة, شعر بزلزال يعصف بتصوراته وأفكاره وأوهامه فيذرها هباء منثورا. جلس كأنه رضيع خرج من رحم البحر لا يعلم شيئا, نظر في نفسه وفيما حوله, فرأى ذات عاقلة تفترش الأرض وتلتحف السماء, شعر بالفرح لنجاته, وبالألم لما اصابه, هذا الحلم العجيب هو الحبل السري الذي يوشك أن يخرجه من ظلمات حياته البائسة الأولى ليبحث له عن حياة أخرى, كأن البحر أراد له أن يغتسل من أدران نفسه المستكبرة المارقة المستعلية, ويزيل عن سمعه وبصره الغشاوة, ويمحق من عقله أوهام المعرفة الزائفة.
    من أين جاء ذلك الحلم العجيب الذي تحقق أمام عيني رأسه برموزه وتفاصيله؟
    كيف يكون العالم ماديا تتجدد أحداثه وفق قوانين مادية صارمة صماء عمياء بكماء ثم يحدث شيء مثل هذا؟
    وضع يده على رأس الكلب يربت عليه, فانسل من بين يديه واختفى بعيدا.
    جلس صاحبنا منهك القوى, تذكر طفولته وأحلامه, تذكر أمه وأباه, تذكر زوجه وأصحابه, تذكر مشيه إلى المدرسة في الأيام الباردة, تذكر رائحة غبار الطباشير في الأقسام المكتظة, تذكر لعبه في الحارات الضيقة, تذكر ضيعته وتيهه في دهاليز الشبكة العنكبوتية, تذكر كيف أحاله الإلحاد كومة من البؤس تتدرحج على أرصفة الحياة بلا غاية, تذكر كيف جاء لينسلخ من الحياة فاستمسكت به الحياة قائلة له: " ويحك يا جويهل, أو تحسب أن لك أو لي أو للبحر شيئا من الأمر؟ متى تفهم؟ متى تبصر؟ متى تعقل؟"
    جلس يبكي في صمت حتى جف دمعه, إن في البكاء لسرا, وإن فيه لرحمة, شعر أن المرارة التي ظلت تكتنف قلبه وتخنق أنفاسه قد خفت كثيرا.

    تمتم: "نعم هناك إلـه... العلم بهذا الذي حدث كان سابقا للحدث نفسه..." تنهد وشعر بإن هذا الإقرار اللفظي أعطاه راحة لم يشعر بها منذ زمان بعيد.. نبت صوت في رأسه:
    " لكن ربما كان هذا كله وهما, انظر إلى نفسك, ألقى بك البحر هنا, وأنت في صدمة, ليس هنا من كلب, إنها هلاوس.."

    نظر حوله فلم ير للكلب من أثر, كاد يشك في عقله لولا أنها نظر في كفه, فوجد شعيرات بيضاء من وبر الكلب العجيب.
    نظر إليها وهو يقول: "لن تخدعيني بعد اليوم أيتها النفس الماكرة االمتكبرة... اليوم ولدت من جديد.. لا كبر بعد اليوم.."

    شعيرات كلب بإلحاد هوت,
    شعيرات كلب ونفس غوت,
    ردت كل برهان وما ارعوت,
    حلم به انكسر الصنم,
    حلم به الليل انصرم.

    قام يمشي ويمسح عينيه وهو يهمس بصوت حزين: يا رب تعبت, يا رب اهدني...
    التعديل الأخير تم 05-02-2019 الساعة 05:19 PM
    {‏ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} إبراهيم: 41

  14. #299
    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المشاركات
    2,867
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    19

    افتراضي

    سأجمع اليومية الأخيرة في مقال واحدة ليسهل نشرها.

    58-محطة النهاية

    قضى بطلنا الأسطوري ليلة أخرى في العراء المادي, إنه هناك كالخرقة البالية في أصل شجرة, انتشلته ترانيم العصافير من مملكة النوم, إنه يعجب أشد العجب لهذه الحيوانات الصغيرة, كيف تنشد أنغام البهجة في هذا العالم الكئيب,ليتها تعزف له سيمفونية من قاموس الحزن, لعلها تهيجه على البكاء, ما أحوجه أن يبكي فجيعته وضيعته وغربته.

    لفحت شمس الصباح وجه أبي الإلحاد, فتح عينيه ليبصر عالما تنكّرت له ذراته, علقت بذهنه شذرات حلم غريب يتكرّر, رأى نفسه يخوض بحرا متلاطما في ليلة حالكة, كان كل شيء في حلمه أسود قاتما, البحر والليل وثبجه, وأشد من ذلك كله ظلمة نفسه.

    لم يجزع صاحبنا من دنو هلاكه, بدا كأنه كان على موعد مع البحر لن يخلفه, أغمض عينيه لعله يرحمه فيبتلعه ويريحه من رحلة الضنك الأرضي, أو يقذف به بعيدا إلى أحد الأكوان المتوازية, لكنه وجد نفسه فجأة يمتطي كلبا أبيض, رأى نفسه ممسكا بلسانه حتى بلغ به الشاطئ, ياله من حلم غريب, والأغرب أنه حلم يرى أجزاء متفرقة منه في كل مرة, كأنها قطع وعاء خزفي متناثرة, أو كأنه دعاية شريط سينمائي صممت بعناية, وصففت لقطاتها الآسرة لتستحوذ على قلوب الجمهور, فيتشوف إلى مشاهدة الشريط بأكمله.

    جلس صاحبنا القرفصاء وأمسك بوجهه بين كفيه, نفض التراب عن خده, أخذ نفسا عميقا وشرع يترنم على نسق العصافير من فوقه:
    صحيت يا طير ويا ريتني ما صحيت
    غدرت بيا الدنيا وناسها وما شكيت
    عشت وشقيت ويا ريتني ما دريت
    درست وتعلمت وجادلت وقاسيت
    ضاع شقاي وما بقي غير عسى وليت
    قولوا للبحر راني راجع للبيت
    يا بحر ليتك تقبلني عندك يا ليت
    كفور غروا كفرانه منه عانيت
    يا بحر لا تلفظ عظامي بما جنيت

    لم يدر صاحبنا كيف خرجت هذه الكلمات من فيه, بل لم يدر كيف تحدر الدمع من عينيه, لم يبك منذ طفولته. لقد علم الآن كيف سيسدل الستار على رحلته الأرضية التعيسة المضنية.

    مضى عليه شهر آخر وهو يتجرع أبشع تجليات العالم المادي, تشرد جسدي وفكري, هزمك التطور يا أبا التطور, انطفأت فوانيس التنوير يا أبا التنوير, لعلك لم تؤد ثمن الفواتير, هل تحسب نفسك في فندق تقيم فيه الدهر بالمجان؟ انتهى فرز الأصوات في لعبة الانتخاب الطبيعي, والنتيجة أنك حثالة لا تصلح لشيء, ماذا تنتظر؟ هل تنتظر طفرة تطورية تهب حياتك معنى؟ سيطول انتظارك يا مسكين, هذه الآليات الداروينية ليست عجولة أبدا, أنت قطعا لا تريد أن تنتظر بلايين السنين.

    عزم صاحبنا أن ينسحب من حلبة الصراع المادي, إنه لم يعد يطيق نفسه, لم يعد يحتمل هذه الآلة الداروينية التي لم تقنع بكينونتها الشيمانزية, عليه الآن وقد حسم أمره, أن يجد وسيلة لإطفاء هذه الآلة المزعجة إلى الأبد.

    الإلحاد يأتيك أول الأمر كأنه امرأة متبرجة في كامل زينتها, متفلسفا متمنطقا مترنما بأهازيج التنوير والحداثة والتحرر. لكنه يخبرك من أول يوم بأن وجودك لا معنى له ولا مغزى, وأنك لا تختلف عن الحشرات والبهائم في الجوهر, الآن وصل الباص الإلحادي إلى محطة النهاية يا أبا الإلحاد, انتهت الرحلة, إما أن تنزل أنت, أو ينزل الإلحاد.

    عجيب أمر الإنسان, حتى حين يجزم أن حياته صفر من المعنى, فيقبل على الانتحار, فإنه يجتهد أن يجعل لانتحاره معنى, فيتخير كل شيء بدقة, الزمان والمكان والوسيلة. ما دام الإنسان عندكم معاشر الملحدين المتاعيس آلة بيولوجية, فلماذا يكتسي التخلص منها كل هذه الملامح الميتافيزيقية؟ هل رأيتم قط أحد يأخذ سيارته الخردة لمستودع المتلاشيات, محاطا بالطقوس الجنائزية, والمشاعر الميتافيزيقية؟

    اغتسل أبو الإلحاد صبيحة يوم جميل ولبس ثيابا نظيفة, مشى يجر رجليه كأنه يحمل أوزار السنين المتطاولة, يمم شطر البحر, نظر إليه في هيبته وجبروته, إنها محطة النهاية, تمتم: "عم قريب ينتهي كل شيء.."
    "رجاء خذني يا بحر, فقط خذني, ستحظى ببعض البروتين الحيواني, لكن رجاء إياك وإياك أن تفكر للحظة في أن تصنع بي ما صنعت بدب دارون, لا أريد قوائم إضافية ولا أجنحة ولا شيء, هل فهمت.."

    طالما راودته فكرة موتة رحيمة, حبة أو جرعة سم تفصل الأسلاك الداروينية بين جثمانه ورأسه, لكنه نبذ هذه الفكرة, وقرر أن تكون نهايته درامية مثل أبطال الأساطير القديمة.

    تخيل معلق كرة يصرخ كالمجنون في بث مباشر ينقل للمشاهدين تفاصيل المباراة النهائية:

    " مشاهدينا الأعزاء, نتابع معكم اللحظات الأخيرة من الوقت "بدل الضائع" من نهاية دوري الأبطال الملاحدة الصناديد... أبو الإلحاد في مواجهة أبي الإلحاد, وأبو الإلحاد في مواجهة البحر, إنها مباراة ثلاثية الأبعاد, من فريقين, بسبب شيزوفرينيا الفريق الأول... من سينتصر يا ترى؟ تابعونا لحظة بلحظة...

    يتقدم أبو الإلحاد في مواجهة تشكيلة دفاع البحر, يتردد أبو الإلحاد قليلا, لكنه يتمالك نفسه ويمشي بخطى ثابتة, يا له من موقف مهيب, يا له من مستوى عال من الروح الرياضية الإلحادية, اللاعب المخضرم يقدم نفسه قربانا للوهم الإلحادي كما سبقه إلى ذلك ألوف من هذه المدرسة الكروية العريقة, التي تجعل اللاعب نفسه كرة متدحرجة, الآن يقوم أبو الإلحاد بعملية اختراق ناجحة لدفاع الخصم, يا للعبقرية, يا للإبداع, اكتب يا تاريخ, يا سلام يا أبا الإلحاد, مباراة تاريخية بامتياز..."

    خاض صاحبنا البحر, تلطمه أمواجه, خيل إليه أن الزبد من فوقه أنياب وحش كاسر يوشك أن يلتهمه, بدأ الماء يغمره, والملوحة تملأ فمه, صرخ صوت هادر من أعماقه: "لا تفعل, إياك أن تفعل, ما زال هناك أمل, ستشرق شمس يوم جديد من أجلك, لا تقطع على نفسك خط الرجعة... ربما كان هناك إ..."

    لكن المرارة في نفس أبي الإلحاد, والأسى المضطرم في أحشائه جعلته يقدم ولا يحجم, صدمته موجة عاتية جعلته عاليه سافله, تدحرج في الرمل, وجذبه البحر جذبة كأنه دخل في بالوعة, أدركته نزعة حب البقاء فانتفض يريد السطح ليظفر بشيء من الهواء, لكن البحر ألقى عليه بكلكله كأنه جمل هائج, بدأ جوفه يمتلئ بالماء, ثم انقطع الإرسال...

    ... لكن المرارة في نفس أبي الإلحاد, والأسى المضطرم في أحشائه جعلته يقدم ولا يحجم, صدمته موجة عاتية جعلته عاليه سافله, تدحرج في الرمل, وجذبه البحر جذبة كأنه دخل في بالوعة, أدركته نزعة حب البقاء فانتفض يريد السطح ليظفر بشيء من الهواء, لكن البحر ألقى عليه بكلكله كأنه جمل هائج, بدأ جوفه يمتلئ بالماء, ثم انقطع الإرسال...

    شعر صاحبنا بشيء خشن لزج يلامس وجهه, فتح عينيه بصعوبة, فوجد كلبا يلعق وجهه, ويجره من ثيابه, شعر بالتقزز من لعاب الكلب الذي يسيل على خديه, فغلبه القيء, فقذفت بطنه قربة الماء المالح التي ابتلعها بالليل, سعل سعالا شديدا وشعر بإرهاق شديد, أغمض عينيه من الإعياء ومن وهج الشمس الطالعة, لكن الكلب شرع يلعقه من جديد, ويجره, وينبح نباحا شديدا كأنه يصرخ به أن يفارق موضعه, زحف أبو الإلحاد على بطنه قبل الشاطئ, وكلما توقف ليسترد أنفاسه نبح به الكلب حتى قطع عشرات الأمتار, فاستلقى على الرمال وهو يلهث وينظر إلى السماء...

    ظل هنالك ممددا وهو يسمع هدير الموج, نظر تجاه البحر فإذا به قد امتد إلى الموضع الذي كان به قبيل قليل. تتتم يخاطب نفسه: "واعجبا, إن هذا الكلب قد أنقذك من موت محقق."
    لفظتك الدنيا يا تعيس فطلبت الفناء في البحر فلفظك أيضا!
    يبدو أنك أمر من العلقم يا فارس الإلحاد, إن البحر نفسه على عظم خلقه لم يستسغك في بطنه.
    غفا إغفاءة استرد فيها أنفاسه, وأدار فيها شريط الأحداث العجيبة المتتالية منذ الليلة الفارطة.. فتح عينيه فإذا الكلب بين يديه كأنه يحرسه, أمعن النظر فيه وشعر بشيء لم يشعر به منذ سنين, شعر بحب عارم يغمر قلبه, ود لو يعانق هذا الكلب الأبيض, ارتعشت مفاصله, نعم إنه أبيض, تماما كما رآه في حلمه الغريب مرارا, فتح عينيه ينظر إليه فخيل إليه أنه يرى العالم لأول مرة كما هو, يبدو أن البحر قد خدش نظاراته المادية, أو لعله ذهب بها إلى غير رجعة, شعر بزلزال يعصف بتصوراته وأفكاره وأوهامه فيذرها هباء منثورا. جلس كأنه رضيع خرج من رحم البحر لا يعلم شيئا, نظر في نفسه وفيما حوله, فرأى ذات عاقلة تفترش الأرض وتلتحف السماء, شعر بالفرح لنجاته, وبالألم لما اصابه, هذا الحلم العجيب هو الحبل السري الذي يوشك أن يخرجه من ظلمات حياته البائسة الأولى ليبحث له عن حياة أخرى, كأن البحر أراد له أن يغتسل من أدران نفسه المستكبرة المارقة المستعلية, ويزيل عن سمعه وبصره الغشاوة, ويمحق من عقله أوهام المعرفة الزائفة.
    من أين جاء ذلك الحلم العجيب الذي تحقق أمام عيني رأسه برموزه وتفاصيله؟
    كيف يكون العالم ماديا تتجدد أحداثه وفق قوانين مادية صارمة صماء عمياء بكماء ثم يحدث شيء مثل هذا؟
    وضع يده على رأس الكلب يربت عليه, فانسل من بين يديه واختفى بعيدا.
    جلس صاحبنا منهك القوى, تذكر طفولته وأحلامه, تذكر أمه وأباه, تذكر زوجه وأصحابه, تذكر مشيه إلى المدرسة في الأيام الباردة, تذكر رائحة غبار الطباشير في الأقسام المكتظة, تذكر لعبه في الحارات الضيقة, تذكر ضيعته وتيهه في دهاليز الشبكة العنكبوتية, تذكر كيف أحاله الإلحاد كومة من البؤس تتدرحج على أرصفة الحياة بلا غاية, تذكر كيف جاء لينسلخ من الحياة فاستمسكت به الحياة قائلة له: " ويحك يا جويهل, أو تحسب أن لك أو لي أو للبحر شيئا من الأمر؟ متى تفهم؟ متى تبصر؟ متى تعقل؟"
    جلس يبكي في صمت حتى جف دمعه, إن في البكاء لسرا, وإن فيه لرحمة, شعر أن المرارة التي ظلت تكتنف قلبه وتخنق أنفاسه قد خفت كثيرا.

    تمتم: "نعم هناك إلـه... العلم بهذا الذي حدث كان سابقا للحدث نفسه..." تنهد وشعر بإن هذا الإقرار اللفظي أعطاه راحة لم يشعر بها منذ زمان بعيد.. نبت صوت في رأسه:
    " لكن ربما كان هذا كله وهما, انظر إلى نفسك, ألقى بك البحر هنا, وأنت في صدمة, ليس هنا من كلب, إنها هلاوس.."

    نظر حوله فلم ير للكلب من أثر, كاد يشك في عقله لولا أنها نظر في كفه, فوجد شعيرات بيضاء من وبر الكلب العجيب.
    نظر إليها وهو يقول: "لن تخدعيني بعد اليوم أيتها النفس الماكرة االمتكبرة... اليوم ولدت من جديد.. لا كبر بعد اليوم.."

    شعيرات كلب بإلحاد هوت,
    شعيرات كلب ونفس غوت,
    ردت كل برهان وما ارعوت,
    حلم به انكسر الصنم,
    حلم به الليل انصرم.

    قام يمشي ويمسح عينيه وهو يهمس بصوت حزين: يا رب تعبت, يا رب اهدني...
    {‏ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} إبراهيم: 41

  15. #300
    تاريخ التسجيل
    Mar 2011
    الدولة
    مصرى مقيم بالخارج
    المشاركات
    2,815
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    8

    افتراضي

    لماذا ينتهي كل جميل في منتدى التوحيد؟
    مَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ مَا اسْتَطَاعَ
    فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَرِ !

صفحة 20 من 21 الأولىالأولى ... 1018192021 الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. الكوميديا الألحادية
    بواسطة شهرزاد في المنتدى قسم الحوار العام
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 04-24-2014, 11:01 PM
  2. إعلان: الكوميديا الإلحادية السابعة بين الإلحاد الإفتراضي والارضي - فيديو -
    بواسطة محمود المغيربي في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 03-21-2014, 09:42 PM
  3. إعلان: الكوميديا الإلحادية، الحلقة الخامسة - نحو تنوير النحو - بالصوت ..
    بواسطة محمود المغيربي في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 01-15-2014, 10:46 PM
  4. إعلان: برومو للحلقة القادمة - نحو تنوير النحو - من الكوميديا الإلحادية
    بواسطة محمود المغيربي في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 01-13-2014, 10:12 PM
  5. لأول مرة الكوميديا الإلحادية بالصوت - بصوتي - ..
    بواسطة محمود المغيربي في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 18
    آخر مشاركة: 11-26-2013, 09:25 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء