الانتماء للوطن بين مرحلتين
الانتماء الوظيفي والانتماء الحقيقي
هذا العنوان المشتمل على طرفين هو عندي فارق بين مرحلتين:
مرحلة عدم الشعور بمعنى الانتماء للوطن ، وفيها أعترف أنني لم أتذوق معنى الانتماء للوطن كما هو عندي الآن ، وأزعم أنه أيضا شعور كثيرين غيري ممن رأوا الوطن حكرا على ثلّة من المحسوبين على السلطة –علت أو دنت- يتقاسمونه فيما بينهم ، وكأنه خلق لأجلهم ولا أقول العكس ، فهم لم يخلقوا أبدا لأجله ، وإن زعموا زورا وبهتانا أنهم الوطنيون .
والواقع أن الوطنية لم تكن بالنسبة لهم إلا وظيفة يستغلونها لاتخام أنفسهم وذويهم سلطويا وماديا.
كل هذا ، وشرفاء الوطن ونبهاؤه خلف الأستار ، يرتقبون طلوع نهار طال انتظاره ، لليل قد يئسوا من أن ينجلي.
خصوصا عندما عاينوا ثوب الوطنية يرتديه فقط المنتفعون والمستغلون والمتسلقون ليجنوا من ورائه منافع لهم ، بل ليسرقوا مقدرات أوطانهم ليضخوها في خزائنهم ، ويحتكروا وظائفه العليا ويتحكموا في وظائفه الدنيا ، يبيعونها حينا ويجاملون بها ناعقيهم حينا.
لعلي لا أبالغ إن أطلقت على الانتماء في هذه المرحلة عبارة الانتماء الوظيفي فلهذه العبارة معي قصة:
وذلك أن جهةً ما طلبت مني إعداد بحث لمؤتمر حول الانتماء الوطني في الإسلام
فمكثت فترة أجمع مادتي العلمية حول الموضوع كعادة الباحثين في سائر أعمالهم ، وعندما هممت بكتابة البحث ، كانت المفاجأة أنني لم أستطع أن أكتب كلمة واحدة عن الانتماء لأنني أيقنت أنني أؤدي مهمة ولا أعبر عن حقيقة وجدانية ، لأن الشعور بالانتماء كان قد سُرق منا ، وشاهت معالمه ولا أتصور أن كثيرين سيخالفونني في هذا الشعور ، فمفهوم الانتماء خلال الفترة الماضية كان قد تبدد فلا يتكلم عنه إلا المنتفعون ، فأفقده ذلك معناه وفرّغه مضمونه.
في هذا الوقت كان أقصى ما يأمله شرفاء الوطن أن ينجح الواحد منهم في اقتناص فرصة عمل خارج مصر قد لا يكون الدافع إليها تحسين الدخل أصلا ، أو على الأقل ليس هو وحده ، ولكن أملاً في تحقيق الذات بعد أن تعصى ذلك في وطننا الذي صار ملكًا فقط للمتسلقين المتملقين.
ولربما وقف أمل بعض الذين اغتربوا عند حد أن يعيش الواحد منهم في مناخ أفضل من المناخ الذي كان يعيشه في وطنه مكتفيا بهذا ، وإن لم يُحقِّق من خلاله ما كان يطمح إليه.
وأزعم أن هذا هو حال كثير من المصريين المغتربين على اختلاف فئاتهم وثقافاتهم ، حتى لكأنهم وحدهم هم من قال فيهم الشاعر:
كلُّ البلاد إذا لم تَنْبُ بي وَطن ... وكلُّ أَرض إِذا يَمَّمْتُها أَمَمُ
وبعضهم فضّل أن يحظى بجنسية أخرى ، فانقطع نسبه بأرضه المسلوبة ، ووصل نسبه بوطن آخر إلى حين.
لا تَطْمَعَنْ فيَّ أرض أَنْ أُقيمَ بها ... فليس بيني وبين الأَرضِ من نَسَبِ
ولأدلف الآن إلى المرحلة التالية وهي مرحلة الشعور بالانتماء الحقيقي ، وهو مرتهن بفترة الثورة وما بعدها ، حيث عاد إلى وجداننا الوطن بعد سلبه.
وذلك أن هذه الثورة قد فجرت فينا مكنون الانتماء الحقيقي للوطن ، حتى غدا فيضانا لا يتوقف ، هذا ما أُحِسه في نفسي ، وما أرقبه في حال غيري من شرفاء الوطن نبهائه وبسطائه ، فالانتماء الحقيقي لا يفترق فيه فصيل عن فصيل ولا فئة عن فئة ، لأنه فطرة في النفس بكل ما تعنيه كلمة الفطرة ، التي هي هنا أرقى من كل تعبير يمكن أن يستعاض به عنها كالغرائز والانفعالات.
وهذا معنى قد جسّده نبينا صلى الله عليه وسلم حين قال عن بلده "مكة" –زادها الله شرفا- وقد أخرجه قومه منها بغيا وعدوا. قال:
" إني لأعلم أنك أحب البلاد إلي وأنك أحب أرض اللهَ إلى الله ولولا أن المشركين أخرجوني منك ما خرجت "
وتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، في تجسيد فطرة الانتماء للوطن أيضا ، وأن النظر إلى كل شيء في الوطن يختلف عن النظر إلى نفس الشيء خارج الوطن. تقول:
لولا الهجرة لسكنتُ مكة فإني لم أر السماء بمكان أقرب إلى الأرض منها بمكة ، ولم يطمئن قلبي ببلد قط ما اطمأن بمكة ، ولم أر القمر بمكان أحسن منه بمكة.
إن النبي صلى الله عليه وسلم قد عاش قصة سرقة الوطن ، وادعاء الوطنية من قبل المستغلين المنتفعين ، وصولا إلى إقصاء الشرفاء المخلصين ، لكن مضت سنة الله أن الباطل لا قرار له ، وأن أمره لا يدوم ، فقد ثارت ثورة الحق ، وفتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة ودخل الناس في دين الله أفواجا ، وانكفأ الباطل وزهق ، ودالت دولته ، ليعلو الحق والعدل.
وتلك سنة الله في خلقه ، فما أن يستشري الفساد ويعم ، ويظن أهله أن الدنيا قد دانت لهم ولانت ، وأنهم وحدهم مالكوها وحاكموها ، وينسون القيم التي أقام الله عليها ملكه ، حتى يأخذ الله الفاسدين المفسدين أخذ عزيز مقتدر.
قال تعالى:
[فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]
لكن لن تكتمل فرحتنا حتى تعود مصر إلى مكانتها الطبيعية رائدة في عالمها ، قائدة لأقرانها ، منتجة لا تحتاج إلى غيرها ، وحتى تعود هذه المكانة فلابد من العمل الجاد المتقن ، الذي يكون الرقيب فيه وحيا من الضمير ، ووعيا بخطورة الظرف الراهن ، وقبل ذلك كله مراقبة لله عز وجل.
ولأنه لا إنتاج بغير أمن ، فلنعمل جميعا على تجنب الفتن ، التي تقضي على المواطن والوطن ، ولنعمل جميعا على تحقق الأمن في ربوع مصر ، فهو مسؤولية كل فرد فرد فينا ، فقد مضى عهد إلقاء التبعات ، واجترار التبريرات ، وليضطلع كل منا بمسؤوليته ، والله الموفق.