التقسيم الثنائي للأشياء (duality) أو مذهب الثنائية (dualism) قديم ومشهور. والذي يهمني في إسقاطات هذا التقسيم هو تقسيم الإنسان إلى جسد وروح، وهو تقسيم صحيح، فالنصوص الشرعية عاملت هذين على أنهما كينونتين مستقلتين. ولكن الغلط العظيم الذي فتح باباً كبيراً للإلحاد، هو اعتبار الجسد ممثلاً للمادة والروح (أو الوعي consciousness ) ممثلة لغير المادة أو نقيض المادة. ولست أقصد هنا بقولي "غلط" أن هذه هفوة من المؤمنين استغلها الملاحدة بذكاء فانتصروا ، وإنما أقصد أنها غلطة فادحة بالفعل في أصل المعرفة (epistemology) وكذلك غلط أعظم في تشخيص الأصل الوجودي الذي يقابل هذه المعرفة (ontology) سواء وقع هذا الغلط من المؤمنين بوجود الله أو خصومهم الملاحدة، فالكل على غلط. ومن تبعات هذا الغلط أن كثيراً من المؤمنين احتاجوا إلى تبرير موقفهم بأية طريقة ولو أدى ذلك إلى تهكم بعض الملاحدة في كثير من الأحيان. النتيجة التي أريد أن أقررها هي في غاية الأهمية وهو أن كل شيء موجود هو مادة من نوع ما، حتى الروح، حتى العقل، حتى الوعي، حتى الملائكة، حتى الله عز وجل. تمهل! لا تعجل! إنني أتفهم ردود فعل البعض، وهذا حق لهم. ولكني استمر في التوضيح: المادة إذا أطلقت فهي في العادة تنصرف إلى ما تعلمناه في الكتب الدراسية والتعليم النظامي، المادة في كتب الفيزياء والكيمياء. ولكني لي رأي مختلف، وهو رأي يحل أزمة عظيمة فيما أظن ويردم هوة هائلة في فهمنا للأشياء، سواء كانت في عالم الشهادة أو عالم الغيب. ودعوني هنا أوضح هذا الرأي: إن التصرف الذي يقضي بإطلاق وصف "المادة" كل شيء يقع في نطاق الحس والتجربة والمشاهدة والاختبار - بالمعنى العلمي الوضعي (positivistic science) – لا يوجد ما يشفع له من ضرورة عقلية أو حتى لغوية (وهنا بدأنا نوظف شيئاً من فلسفة هيوم لتقرير البرهان الذي نحن بصدده). إنني اعتبر كل شيء موجود، سواء دخل في نطاق التجربة أو الخبرة البشرية أم لم يدخل، يتصف بوجود مادي من نوع ما، ولكن هذه الرتبة من الوجود المادي قد تكون تحت نطاق حسنا وتجربتنا (عالم الشهادة) وحتى في عالم الشهادة لا زال الكثير مما لم نكتشفه أو نقع عليه، وقد لا يمكن أن يكون خاضعاً لحسنا وتجربتنا بالمفهوم العلمي الطبيعي (فتكون من مراتب الغيب) – ولكن يمكن أن يخضع لخبرتنا experience مثل فهمنا لوجود الله والملائكة - فالمادة نفسها لها بعد غيبي ولها بعد متعلق بعالم الشهادة. الله تعالى له ذات لا يشبهها ذات، ولا مشاحة عندي – من باب الجدل مع الملحد - لو قيل أن لذات الله مادة لا تشبهها مادة وذلك بالمعنى الجديد الذي اكتسبه مفهومنا للمادة. وهو كقولنا لذات الله صفات لا تشبه صفات المخلوقين، فأثبتنا اشتراكاً اسمياً فقط بين الخالق والمخلوق، ولكن ننفي أن يشترك الخالق مع المخلوق في حقيقة تلك الصفات، وكذلك بالنسبة للفظ "المادة"، لذات الله مادة – مرة أخرى أقصد بـــ "مادة" أن لذاته وجود فعلي تقوم به صفات حقيقية، ولذلك هو بائن عن خلقه مستو على عرشه سبحانه – ولكنها مادة من رتبة لا يقف على حقيقة كنهها ولا يحيط بشيء منها أحد إلا هو. أنا شخصياً – حتى أكون واضحاً لإخواني في المنتدى – مؤمن تماماً أن الألفاظ الشرعية هي التي يجب أن تراعى في مثل هذه السياقات. ولكننا نجادل قوماً لا يؤمنون إلا باصطلاحهم، كما جادل ابن تيمية رحمه الله معاصريه بلفظ "القديم" و "العرض" و "الجوهر" تنزلاً مع خصومه.
ومن هنا ندرك دقة التعبير الشرعي عن الوجود – لأنه ليس هناك إلا الوجود ! وهل يوجد غير الوجود شيء ! –بكونه ينقسم إلى عالم شهادة وعالم غيب، ولكن ارتبط في أذهان البعض مسلمة هي أن الغيب هو عالم الأشياء التي تقابل عالم المادة ، ونحن نعلم ونقرأ كل يوم أن الملائكة لها أجنحة وأنها مخلوقة من نور، وأنا اعتبر هذه مرتبة غيبية من مراتب المادة. والله سبحانه وتعالى له يد حقيقةً، وله قدم حقيقةً، وله ذات حقيقةً، ولكن – بالمعنى المصَحَّحْ للمادة – مادتها، بمعنى حقيقتها وماذا تكون في واقع الأمر، في مرتبة تتجاوز مراتب وصفات المادة في معهودنا الذهني وكل معهود معقول ممكن مادام مخلوقاً.
ولو حاورني ملحد وقال: كل شيء مادة..فلا يوجد إلا المادة (matter) ، لقلت له: نعم ! أنا أوافقك تماماً، أولاً: لأني لا أؤمن بشيء مجرد تمام التجرد عن صفات من نوع ما، فالمادة عندي منها ماهو في الشهادة ومنها ما هو في الغيب، ومنها ما هو متوافق مع ما نعهده ونعرفه ومنها (أي من المادة) ما يمكن ألا يوجد له نظير أو شبه في معهودنا الذهني والحسي، ثانياً: لأن من الأدلة على هذا أن كثيراً من العلماء الملاحدة أمكنهم أن يتصورا وجود عالم يتكون من مادة يستحيل تفسيرها بقوانين عالمنا ويستحيل أن تحيط بهيئتها التجربة البشرية في هذا العالم. فلم يستحيل عليك أيها الملحد أن تتصور مادة عاقلة – مرة أخرى تنزلاً مع الخصوم يا إخواني – لا يمكن أن يفسرها كل ما عهدناه من الأسباب والقوانين والنماذج المعرفية في عالمنا ؟
أيها الفضلاء، لا أرى مبرراً للقلق إذا ما قيل أنه حتى وعيُنا ليس إلا نتيجة توليفة مادية ، ولكن بعضها مشاهد وبعضها غير مشاهد، بعضها مفهوم وبعضها قد أو لن يُفهَمْ أبداً. وما أبلغ القرآن وما أنصع عبارته (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر بي)، فلا يقال الروح ليست مادة، بل نقول هي مادة من نوعٍ لا تفسره معرفتنا الأرضية البشرية، ولذلك ختم الآية بقوله (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً).
Bookmarks