يدل لفظ السياق في اللغة على التتابع والانسجام من خلال قائد يحمل عليهما قال في اللسان:
انْساقَت وتَساوَقَت الإبلُ تَساوُقاً إذا تتابعت، وكذلك تقاوَدَت فهي مُتَقاوِدة ومُتَساوِقة والمُساوَقة: المُتابعة كأنّ بعضَها يسوق بعضاً وفي الكتاب العزيز {وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد} أي قائد يسوقها.
واصطلاحا: السياق هو تتابع الكلام وانسجام التعبير في الدلالة على المعنى من خلال سابق يمهد ولاحق يتمم أو يؤكد.
هذه هو التعريف الذي اعتمدته للسياق بعد تأمل المعنى اللغوي واستقراء استعمالات المفسرين.
** ودلالة السياق هي واحدة من أهم دلالات فهم النص القرآني
وهي عبارة عن نتيجة دراسة النص الذي هو متتابع منسجم في تعبيره عن معناه باعتبار السابق واللاحق.
و قد اعتنى المفسرون بدلالة السياق أيما عناية فكم قدروا بها من محذوف ورجحوا وردوا من أقوال وعللوا من آراء واستخرجوا من هدايات الكتاب العزيز واستنبطوا من أحكامه.
فلازلنا نقرأ في كلامهم: هذا يؤيده السياق أو يرده، أو يدل عليه أو لا يدل عليه، أو يساعده أو لا يساعده، أو يعضده أو لا يعضده، ونحو ذلك مما ملئت به كتب التفسير بما يؤكد أن علماءنا ومفسرينا بدءا من ابن جرير الطبري وحتى عصرنا الحاضر هم أرسخ قدما من غيرهم في اعتبار دلالة السياق وأنها عندهم أداة مهمة من أدوات فهم النص القرآني ووجها من الوجوه الكاشفة عن المعنى القرآني بقدر طاقة البشر. وبهذا يظهر أن نظرية السياق هي نظرية عربية بالدرجة الأولى وليست وافدة كما يحاول بعضهم أن يلبسها ثوب التغريب.
يقول الشيخ محمد عبده في التأكيد على قيمة السياق وضرورة مراعاته في التفسير: إن القرآن يفسر بعضه بعضا، وإن أفضل قرينة تقوم على حقيقة معنى اللفظ موافقته لما سبقه من القول واتفاقه مع جملة المعنى، وائتلافه مع القصد الذي جاء له الكتاب بجملته.
إن كلام الشيخ محمد عبده يلفتنا إلى أن السياق ليس مستوى واحدا بل أكثر من ذلك وهو ما سنكشف عنه الآن.
مستويات دلالة السياق في القرآن الكريم:
إن دلالة السياق في القرآن الكريم تمضي في نظرنا على مستويين:
الأول- سياق خاص جزئي وهو الموضع القريب المحيط بالنص المفسر كالكلمة في الجملة أو الجملة في الآية أو الآية ضمن الآيات القريبة السابقة واللاحقة أومجموعة الآيات المتماسكة داخل السورة التي تبرهن على الوحدة العضوية للسورة القرآنية أي أن السياق في هذا المستوى يرتقي بشكل تصاعدي إلى أن ينتهي إلى المستوى العام الكلي وهو الآتي:
الثاني- سياق عام كلي وهو السياق القرآني بأكمله حيث إن للقرآن الكريم منهجه الخاص في التعبير ومصطلحاته المبتكرة التي لم تعهد في غيره وطريقته المتميزة التي توازن بين الإجمال والبيان والإطلاق والتقييد والعموم والخصوص ولذلك أدرك المفسرون الأوائل انه لا غنى للمفسر عن المواءمة بين كل ثنائية منها ومن خلالها تبرز النتائج الكاملة وقد درست في ضوء السياق الشامل للقرآن الكريم لأن القرآن كما قيل: يفسر بعضه بعضا.
من مظاهر اعتبار السياق في القرآن الكريم:
1- المناسبة بين آيات وسور القرآن الكريم هي إحدى مظاهر اعتبار السياق في نوعيه الخاص والعام أو الجزئي والكلي وهو مظهر لحظه علماؤنا فألفوا فيه كتب خاصة أبرزها نظم الدرر للبقاعي
2- القصة القرآنية هي من الشواهد الدالة على مراعاة السياق فللقصة القرآنية مشرب خاص داخل كل سورة أو السياق الخاص أو الأصغر ثم إن لها سمة عامة داخل القرآن الكريم أو السياق العام أو الأكبر
3- الفاصلة القرآنية مظهر من مظاهر اعتبار السياق في القرآن الكريم فهي دائما ملائمة للآية التي وردت فيها مؤتلفة معها منسجمة منحدرة ممكنة وهي كالنتيجة الصائبة للمقدمة الصحيحة وقد وفينا الكلام عن هذا في موطنه (انظر:ائتلاف الفاصلة)
4- النظم والترتيب بين آيات القرآن الكريم إفرادا وتركيبا بطريقة أفنى العلماء في الكشف عنها أعمارهم ولما يصلوا إلى منتهاها شاهد قوي على اعتبار السياق في النظم القرآني ويظهر هذا اللون بوفرة في كتب البلاغة والإعجاز خصوصا في مدرسة الذوق البلاغي للنظم القرآني التي أسسها عبد القاهر الجرجاني
5- ثنائية كل من: الإطلاق والتقييد ، والإجمال والتبيين ، والعموم والخصوص مظهر من مظاهر اعتبار السياق لكن في نوعه العام أو الكلي وذلك لتباين المواضع فعادة القرآن في ذلك أن ما أجمل في موضع قد يبينه في موضع آخر وأن ما عمم في موضع خصص في موضع آخر وان ما أطلق قد يقيد في موضع آخر مما يعضد القول بوجوب النظرة الشمولية للقرآن الكريم كله عند التعامل الجزئي مع آيات القرآن الكريم
6- والوحدة الموضوعية للسورة القرآنية والتي يتفرع عنها داخل السورة الواحدة أجزاؤها هي مظهر من مظاهر اعتبار السياق فإذا انتقلنا إلى مستوى أعلى من خلال النظرة الشمولية للكتاب العزيز رأينا أن هذه السور الوحدوية في موضوعاتها تتلاشى في داخل الموضوع الأكبر الذي يعالجه القرآن الكريم وهو الهداية إلى الصراط المستقيم. وهذا ما يعمل على تجليته بوضوح التفسير الموضوعي حيث تكون نظرة المفسر بهذه الطريقة أكثر إلماما بالسياق القرآني العام للموضوع الذي يتناوله.
*هذا ومن المواضع التي تعامل فيها المفسرون بدلالة السياق ما ذكره أبو السعود عند تفسيره لقول الله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) قال: قوله: { أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} الهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه السياقُ أي أعَقيبَ تقرّرِ الشؤون المذكورةِ من تخصيص جميعِ الموجودات للسجود به تعالى وكونِ ذلك كلِّه له ، ونهيِه عن اتخاذ الأندادِ وكونِ الدين له واصباً المستدعي ذلك لتخصيص التقوى به سبحانه غيرَ الله الذين شأنُه ما ذكر تتقون فتطيعون.
وعند تفسيره لقوله تعالى:
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } حيث قال الآلوسي:{ جَعَلَ لَكُمُ الارض فِرَاشاً } [ البقرة : 22 ] و "جَمِيعاً" حال مؤكدة من كلمة "مَا" ولا دلالة لها كما ذكره البعض على الاجتماع الزماني وهذا بخلاف معاً ، وجعله حالا من ضمير "لَكُمْ" يضعفه السياق لأنه لتعداد النعم دون المنعم عليه مع أن مقام الامتنان يناسبه المبالغة في كثرة النعم ، ولاعتبار المبالغة لم يجعلوه حالاً من الأرض أيضاً.
وعند تفسيره لقوله تعالى:
{كتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}
قال الآلوسي: واختار بعض المحققين أن "إِذَا" شرطية وجواب كل من الشرطين محذوف، والتقدير : إذا حضر أحدكم الموت فليوص إن ترك خيراً فليوص فحذف جواب الشرط الأول لدلالة السياق عليه
وعند تفسيره لقول الله تعالى { وَأَذِّن فِي الناس بالحج } قال الشيخ الشنقيطي: الخطاب لإِبراهيم كما هو ظاهر من السياق . وهو قول الجمهور ، خلافاً لمن زعم أن الخطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم ، وعلى إبراهيم وسلم ، وممن قال بذلك : الحسن ، ومال إليه القرطبي ، فقوله تعالى { وَأَذِّن فِي الناس بالحج } أي وأمرنا إبراهيم أن أذن في الناس بالحج : أي أعلمهم ، وناد فيهم بالحج : أي بأن الله أوجب عليهم حج بيته الحرام .