النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: فصل ((قصة الخلق)) من كتاب [القرآن] للدكتور مصطفى محمود

  1. افتراضي فصل ((قصة الخلق)) من كتاب [القرآن] للدكتور مصطفى محمود

    قصة الخلق
    (ما جاء في هذا الفصل هو محاولة تخضع لقاعدة الاجتهاد في احتمال الخطأ و الصواب.. و الله الموفق) مصطفى محمود

    مبدأ الخليقة و كيف كان؟.. و ميلاد الأرض و القمر و الشمس و النجوم و كيف حدث؟.. و كيف خطا على الأرض أول إنسان؟.. و من أين جاء؟..

    كل هذه أمور خاضت فيها العلوم و كان لها في شأنها نظريات و شواهد و براهين.
    علوم البيولوجيا و الإنثروبولوجيا و الفلك و الكيمياء العضوية و الجيولوجيا و التطور الذي أصبح الآن علما قائما بذاته.. و علم الأجنة.. و علم التشريح.. مجلدات و مجلدات..

    و كلام كثير لا يمكن أن نكون بمعزل عنه و نحن نقرأ ما يقوله القرآن عن قصة الخلق.. فما قام الدين أبدا منعزلا عن الحياة و لا قام ليعادي العلم بل إنه قام ليقدم لنا منتهى العلم.. و ليقودنا إلى اليقين في مقابل الشك و الاحتمال و الترجيح.. جاء ليقول كلمة أخيرة.. فلا يمكن أن نخوض فيه دون أن نخوض في كل شيء.. و دون أن نثير القضية كاملة برمتها علما و دينا و فلسفة و سياسة.

    و هذا يردني إلى كتابين كتبتهما و قدمت فيهما الإشكال جملة و تفصيلا هما.. ( لغز الموت).. و (لغز الحياة)، و لا يمكن أن أعود فأكرر ما قلته فيهما.. و لذا سأكتفي بسطور أعود فأثيرها حتى لا يضيع منا السياق و حتى أربط معي القارئ في الفكرة الكلية.

    أعود إلى الحياة.. و إلى مبدئها و ألتقط ( داروين).. أبا التطور ليروي لنا رؤيته عن مسيرة الحياة، و لا أتفق مع القائلين إن كل ما قاله ( داروين) خطأ، كما لا أقول أيضا إن كل ما رآه صواب.. و إنما هي مناسبة لإعادة النظر و التفكير.

    •••
    و في رحلة حول العالم في الباخرة(( بيجل )) مضى ( داروين) يجمع العينات من البر و البحر و من تحت الماء و من فوق الماء و يدرس و يتأمل و يدون و يجمع ملاحظاته عن الأحياء في كافة أرجاء الأرض.
    و لاحظ ( داروين) عدة ملاحظات:
    * إن الحياة تتلون و تتكيف و تغير من تكوينها لتتلاءم مع بيئتها على الدوام.
    * الإنسان في المناطق القطبية، سمين مكتنز بالدهن تماما مثل الحوت ليقي نفسه غائلة البرد.. و الدببة مغطاة بالمثل بمعاطف من الفراء. بينما هو في المناطق الاستوائية الحارة نحيل هزيل أسود، و كأنما اخترع لجلده مظلة لتقيه الشمس.
    * سحالي الكهوف التي تعيش في الظلام لا وظيفة عندها للبصر، و لا للألوان.. و لهذا فهي عمياء و بلا لون.. أما سحالي البراري فحادة البصر و ملونة.
    * أفواه الحيوانات اختلفت و تباينت حسب وظائفها: فم مزود بأسنان خنجرية تقطع و تمزق مثل النمر، و فم مزود بمنقار يلتقط مثل الطير، و فم مزود بخطاف يتشبث كما في دودة ( الانكلستوما) التي تمسك بجدار الأمعاء.. و فم مزود بخرطوم يمص كما في الذبابة.. و فم مزود بإبرة تحقن كما في البعوضة.. و فم مزود بمناشير و طواحين تطحن و تقرض كما في الحشرات القارضة.

    هل الحكاية أن الحيوانات أصلها واحد، ثم تطور هذا الأصل و تباين و اختلف إلى هذه الفصائل المتباينة بسبب تباين الظروف و البيئات؟!.. الحيوانات التي دبت عل الأرض طورت لنفسها أرجلا.. و التي نزلت إلى البحر تحورت فيها الأرجل إلى زعانف، و التي طارت في الجو تحورت فيها الأطراف إلى أجنحة.

    إذا كان هذا الاستنتاج صحيحا، فلا بد أن يكشف لنا تشابها في بنية الجميع.

    و هذا هو ما قاله المشرط بالفعل.
    ففي الثعبان الذي بلا أرجل يكشف التشريح عن أرجل ضامرة مختفية في هيكله العظمي.
    و الطيور التي تبدو و كأنها لها زوجا واحدا من الأطراف يكشف التشريح أن أجنحتها هي الزوج الثاني من الأطراف تحور ليلائم وظيفته الجديدة.
    الأسماك التي تدب على الأرض و تتنفس برئات يكشف التشريح عن أن رئاتها هي نفس كيس العوم تحور ليلائم وظيفة التنفس الجديدة.
    زعانف السمك الأربع هي نفس الأطراف الأربعة متحورة إلى ما يشبه المجاديف.
    عدد أصابع اليد و القدم فينا خمس و في القرود خمس و في الفئران خمس و في السحالي خمس، حتى الوطاويط لها خمس أصابع ضامرة.
    القلب و الدورة الدموية تسير على خطة واحدة في الحوت كما في الفأر، كما في القرد، كما في الإنسان، كما في الوطواط. نفس الشرايين لها نظائرها في كل نوع، و القلب هو دائما نفس القلب بغرفه الأربع.

    و الجهاز العصبي الذي يتألف من مخ و حبل شوكي و أعصاب حس، و أعصاب حركة، هو نفس الجهاز العصبي في الكل.
    و الجهاز العضلي بعضلاته و الهيكل العظمي بعظامه عظمة عظمة.. كل عظمة لها نظيرها مع اختلافات طفيفة في الشكل لتلائم الوظيفة في كل حيوان.
    و الجهاز التناسلي نفس الخصية و المبيض و قنوات الخصية و المبيض و الرحم في كل حيوان.
    و فترة الحمل عندنا تسعة أشهر، و في القرود العليا تسعة أشهر و في الحيتان تسعة أشهر.. حتى فترة الرضاعة في الجميع سنتان.

    ثم خبطة أخرى: يكشف التشريح في الهيكل العظمي للإنسان نفس فقرات الذيل التي في القرود، و قد تدامجت و التحمت لانعدام وظائفها.. حتى عضلات الذيل قد تحورت إلى قاع متين للحوض.
    و فقرات الرقبة في الإنسان عددها سبع و في الزرافة برغم طول رقبتها أيضا سبع و في القنفذ سبع رغم قصر رقبته.

    و خبطة ثالثة: يمر الجنين في رحم أمه و هو يتخلق على مراحل.. في مرحلة يكون أشبه بسمكة و تكون له خياشيم.. و في مرحلة أخرى ينمو له ذيل ثم يضمر.. و في مرحلة ثالثة يتغطى بالشعر تماما كالقرود ثم يبدأ الشعر ينحسر عن جسمه تاركا مساحة صغيرة عند الرأس.
    لقد فضح الجنين القصة.. و كشف لنا مبدأ الخليقة و مراحل تطورها.

    و المشرط و هو يعبث خلف الأذن البشرية يكتشف شيئا آخر. فها هي ذي نفس عضلات الأذن التي كانت تحرك آذان الحمير و قد تليفت و ضمرت حينما لم تعد لها وظيفة و حينما اتخذت آذننا أشكالا تغنيها عن الحركة.

    ثم ها هي ذي الحفريات تكشف عن جماجم بشرية ذات شكل قردي في ( الترنسفال) و ( بكين) و ( جاوة) و ( نياندرتال)، و بعض هذه الجماجم وجدت في كهوف عثر بها على بقايا خشب متفحم في مواقد تدل على أن أصحاب هذه الجماجم قد اكتشفوا النار و استخدموها منذ ملايين السنيين.

    لم يبق إلا أن يكتب ( داروين) نظريته في أصل الأنواع.
    بل إن النظرية لتكتب نفسها فتقول: إن الأنواع انحدرت كلها من أصل واحد تباين و اختلف إلى شجرة من الفصائل و الأنواع نتيجة تباين الظروف و البيئات.

    و لم يقل ( داروين) إن الإنسان انحدر من القرد و لم يقل إن الجنس البشري من سلالة شمبانزي أو نسناس و إنما هي نكتة روجتها الصحف و انتشرت كنوع من الكاريكاتير الخفيف الدم ( للداروينية).
    و لكن النظرية في أصلها المكتوب لا تقول إن أيا من الأجناس الموجودة خرج من الآخر.. و إنما كل جنس هو بذاته نهاية فرع مستقل من الشجرة.. لم يخرج فرع من فرع – لم يخرج فرع الإنسان من فرع القرود – و إنما خرج كل منهما على حدة من الشجرة الأم و هما يرتدان في الأصول إلى منبع واحد هو الخلية الأولى التي تنوعت بها البيئات فتفرعت شجرتها إلى ما نرى حولنا من تصانيف.. و لكن لم يخرج صنف من صنف.. فكل صنف هو ذروة نوعه و هو مستقل بتكوينه لا يلد إلا مثله.

    و وقف ( داروين) أمام ظاهرة الترقي مفكرا متأملا.
    إن كلامه عن التكيف و التلاؤم بين المخلوق و بيئته لا يفسر إلا التباين الخلقي و الوظيفي بين المخلوقات و لكنه لا يفسر ارتقاءها من الأدنى إلى الأعلى.

    و ابتكر ( داروين) لنفسه تفسيرا.. فقال إن الترقي حدث بحوافز داخلية مادية بحتة و بدون يد هادية من خارج.
    مجرد صراع البقاء كان الغربال.

    كان التزاوج يلقي بتصانيف و تواليف.. التواليف التي خرجت إلى الحياة بأرجل مبططة كانت أصلح للعوم و استطاعت أن تستمر في الحياة المائية، و الحيوانات المائية الأخرى التي حافظت على التصنيف القديم للأرجل البرية ماتت.

    و هكذا عاش الأصلح و مات الأقل صلاحية.. و حدث الترقي الذي نراه تلقائيا بمجرد الحوافز الحياتية المادية.
    و قامت الزوبعة على ( داروين).

    و مضت سنون و سنون من التمحيص و إعادة النظر.. و عاش من نظرية ( داروين) بعضها و مات بعضها.

    حكاية أن الأنواع انحدرت من أصل واحد و أنها تباينت إلى شجرة من الفصائل و الأنواع نتيجة تباين الظروف و البيئات كانت احتمالا مرجحا أقرب إلى الصحة تقوم عليه الشواهد. فالوشيجة العائلية تربط كل الخلائق بالفعل.. و التشريح يقول إنها ترتبط بعضها ببعض بصلة رحم و قربى.

    أما حكاية أن الترقي حدث بالحوافز الحياتية وحدها و بدون يد هادية فلم تعد مقنعة.. و سقطت من غربال الفكر المدقق المحقق.

    فلماذا يخرج من شجرة الحمار شيء كالحصان مع أن الحمار أكثر جلدا و احتمالا.. و بأي حوافز يتطور من عائلة الوعل شيء كالغزال و هو أرهف و أضعف و أقل جلدا من الوعل.. و بالمثل الفراش الملون الرقيق أبطأ و أضعف و أقل قدرة من الزنبور الطنان الغليظ الشكل.. و الحمام و اليمام و الطواويس و العصافير الملونة أكثر رهافة و تهافتا من الصقور و الحدادى و النسور.

    و نشوء هذه الأنواع لا يمكن أن يفسره قانون بقاء الأصلح، و إنما قانون آخر هو بقاء الأجمل.
    أجمل في عين من؟
    يقول المعلق الخبيث.. أجمل في عين بعضها بعضا.. الذكر فيها يختار الأنثى الأجمل.. إنه انتقاء جنسي.. إننا مازلنا أمام الحوافز الحياتية المادية.

    و هو قول مردود عليه.
    فلماذا يختار الذكر الأنثى الأجمل؟ إن القضية مازالت تطرح نفسها.. إن الجناح المنقوش ليس أصلح للطيران من الجناح السادة.
    لا توجد مصلحة حياتية هنا.. و إنما هنا قيمة جمالية عليا تفرض نفسها على جميع الحوافز.. هنا عقل الفنان المبدع الذي يجمل مخلوقاته.. نلمس آثاره في ورق الشجر و ألوان الزهر و أجنحة الفراش و ريش الطواويس.

    كما نقف مذهولين أمام بعض الأشجار الصحراوية إذ نجد أن الطبيعة خصتها ببذور مجنحة لتطير محلقة تقطع أميال الصحاري الجرد لتجد فرصها القليلة في الماء.. أو نتأمل بيض البعوض فنكتشف أنه يملك أكياسا هوائية للطفو، ليعوم في الماء و لا يغرق..
    كل هذا لا يفسره إلا عقل كلي يفكر و يهندس لمخلوقاته فلا أشجار الصحاري تعقل لتزود بذورها بأجنحة و لا البعوض يعرف قوانين ( أرشميدس) في الطفو ليزود بيضه بوسيلة للعوم.

    هذه أمور تعجز أمامها نظرية ( داروين) تماما و لا يفسرها إلا وجود خالق عليم قدير يهندس الوجود و يصممه و ينشئه إنشاء، و ما يجري أمامنا ليس تطورا، بل تطويرا مرادا مدبرا و متعمدا من يد خالقة مبدعة هي التي تقوم بالتعديل و التحسين.

    و لنشرح هذا الكلام أكثر سوف نتصور حكاية خيالية افتراضية.. سوف نتصور أننا نعاني نقصا خاصا في حاسة البصر.. و هو نقص يجعلنا نرى الآلات المختلفة دون أن نرى صانعها.. و هكذا سوف نرى عربة اليد و عربة ( الكارو) و العربة ( الحنطور) و السيارة و القطار و ( الديزل) دون أن نرى الإنسان.. و سوف نقول إن هذه أشياء تطورت بعضها من بعض على سلسلة من المراحل. و سوف ندلل على ذلك بما بينها من تشابه تشريحي. فكل هذه الكائنات تتشابه في أنها من مادة الحديد و الخشب و الجلد و تتركب من جسم و عجلات.. و بين السيارة و ( الديزل) و القطار سوف نرى أن هناك ( موتورا) يتألف من (سلندر وبستم)، مرة يشتغل بالبنزين و مرة بالبخار و مرة بزيت البترول.

    و لأننا لا نرى الصانع الذي صنعها جميعا فسنقول إنها تطورت بعوامل داخلية فيها.. نتيجة صراعها مع البيئة و بقاء الأصلح بعد معارك البقاء الطويلة.
    و سوف ننكر العامل الخارجي لأننا لا نراه.
    فنحن نرى أنها تتحرك بمحرك داخلي فيها.

    و هذا هو الخطأ الذي وقع فيه ( داروين) في نظريته عن النشوء و الارتقاء حينما قال إن عوامل التطور هي عوامل داخلية و إن الحياة تتقدم بحوافز باطنية دون يد هادية ترشدها.. تتقدم بفعل الآليات المادية داخلها.. لمجرد أنه لا يرى يد الصانع الخالق المبدع و هي تبدع و تخلق.

    نحن إذن أمام نظرية اكتشفت الوشائج العائلية بين أسرة الأحياء من نبات و حيوان و إنسان، و لكنها لم تستطع أن تفسر لنا كيف حدث الترقي بينها.

    فإذا انتقلنا إلى كلام العلم عن مبدأ الحياة.. فنحن أمام إجماع بأن الحياة بدأت من الماء.. من ماء المستنقعات الذي تختمر فيه المادة و تتحلل و تتركب بقوة غير معروفة إلى الشكل الأول للحياة.. ( البروتوبلازم).. لا أحد يعرف كيف نشأ من الماء و التراب.

    فإذا جئنا إلى مبدأ الكون كله.. بنجومه و شموسه و كواكبه فنحن أمام إجماع من علماء الفلك بأن كل شيء نشأ من الهواء من سحب الغاز و التراب الأولية.

    تكاثفت هذه السحب من الغاز و التراب بفعل الجاذبية بين ذراتها إلى أنوية في الوسط هي الشموس و إلى تكثفات أصغر حولها هي الكواكب.

    هذا مبلغنا من العلم في قضية الخلق في عرض سريع موجز.
    فماذا قال القرآن حينما تعرض لهذه القضية منذ أربعة عشر قرنا من الزمان؟ و ماذا جاء على لسان ذلك النبي الأمي الذي لم يكن يعرف لا هو و لا قومه و لا عصره معنى كلمة ( بيولوجيا) و ( جيولوجيا) و كيمياء عضوية و علم أجنة و تشريح و ( أنثروبولوجيا) ؟

    •••
    القرآن له أسلوبه المختلف عن كل الأساليب.. و هو حينما يشير إلى مسألة علمية لا يعرضها كما يعرضها ( أينشتين) بالمعادلات.. و لا كما يعرضها عالم ( بيولوجي) برواية التفاصيل التشريحية.. و إنما يقدمها بالإشارة و الرمز و المجاز و الاستعارة و اللمحة الخاطفة و العبارة التي تومض في العقل كبرق خاطف، إنه يلقي بكلمة قد يفوت فهمها و تفسيرها على معاصريها.. و لكنه يعلم أن التاريخ و المستقبل سوف يشرح هذه الكلمة و يثبتها تفصيلا.
    (( سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)) (53 – فصلت)
    و الله يقول عن كلامه:
    (( و ما يعلم تأويله إلا الله..)) (7 – آل عمران)
    و يقول عن القرآن:
    (( ثم إن علينا بيانه)) (19 – القيامة)
    أي أنه سوف يشرحه و يبينه في مستقبل الأعصر و الدهور.
    فماذا قال القرآن عن قصة الخلق؟

    إنه يقول عن الله في البدء الأول:
    (( ثم استوى إلى السماء و هي دخان..)) (11 – فصلت)
    في البدء كان شيئا كالدخان جاء منه الكون بنجومه و شموسه:
    (( يكور الليل على النهار و يكور النهار على الليل..)) (5 – الزمر)
    و هي آية لا يمكن تفسيرها إلا أن نتصور أن الأرض كروية و الليل و النهار كنصفي الكرة ينزلق الواحد منهما على الآخر بفعل دوران هذه الكرة المستمر.. بل إن استعمال لفظ (( يكور)) هو استعمال غريب تماما.. و يفرض علينا هذالتفسير فرضا:
    (( و القمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم)) (39 – يس)
    و العرجون هو فرع النخل القديم اليابس لا خضرة فيه و لا ماء و لا حياة.
    (( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر و لا الليل سابق النهار و كل في فلك يسبحون)) (40 - يس)
    بل إنه يصف الفضاء بأن فيه طرقا و مجاري و مسارات.
    (( و السماء ذات الحبك)) (7 – الذاريات)
    و الحبك هي المسارات.
    و يصف الأرض بأنها كالبيضة:
    (( و الأرض بعد ذلك دحاها)) (30 – النازعات)
    و دحاها أي جعلها كالدحية ( البيضة) و هو ما يوافق أحدث الآراء الفلكية عن شكل الأرض.
    و يقدم فكرة الحركة الخفية من وراء السكون الظاهر:
    (( و ترى الجبال تحسبها جامدة و هي تمر مر السحاب..)) (88 – النمل)
    و تشبيه الجبل بسحابة هو تشبيه يقترح على الذهن تكوينا ذريا فضفاضا مخلخلا، و هو ما عليه الجبل بالفعل، فما الأشكال الجامدة إلا وهم، و كل شيء يتألف من ذرات في حالة حركة.. و الأرض كلها بجبالها في حالة حركة.

    و ما يقوله المفسرون القدامى من أن هذه الآية تصف ما يحدث يوم القيامة.. هو تفسير غير صحيح لأن يوم القيامة هو يوم اليقين و العيان القاطع و لا يقال في مثل هذا اليوم (( و ترى الجبال تحسبها)).. فلا موجب لشك في ذلك اليوم.
    (( و يسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا)) (105 – طه)
    هذه هي القيامة بحق، لا مجال هنا لأن تنظر العين فتحسب الشيء قائما و هو ينسف.. فالآية إذن وصف لحال الجبال في الدنيا و لا يمكن أن تكون غير ذلك.

    ثم يروي لنا القرآن بعد ذلك ما يحدث لمياه الأمطار:
    (( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض..)) (21 – الزمر)
    و هو بذلك يشرح دورة المياه الجوفية من السماء إلى سطح الأرض إلى جوفها إلى خزانات جوفية ثم إلى نافورات و ينابيع تعود إلى سطح الأرض من جديد.
    ثم يأتي ذكر الحياة.
    (( و جعلنا من الماء كل شيء حي..)) (30 – الأنبياء)
    (( و الله خلق كل دابة من ماء..)) (45 – النور)
    (( أكفرت بالذي خلقك من تراب..)) (37 – الكهف)
    (( و إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون)) (28 – الحجر)
    و الحمأ المسنون هو الطين المنتن المختمر.
    فهو مرة يذكر أن الحياة خلقت من الماء و مرة يذكر أنها خلقت من تراب ثم يعود فيخصص و يقول من الطين أو على وجه الدقة الماء المنتن المختمر المختلط بالتراب.. و هو اتفاق غريب و دقيق مع اكتشافات العلم بعد ألف و أربعمائة سنة.
    و في سورة الأعراف يروي بتفصيل أكثر:
    (( و لقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين)) (11 – الأعراف)
    و في هذه الآية يحدد أن خلق الإنسان تم على مراحل زمنية
    ((خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم..)) (11 – الأعراف)
    و الزمن بالمعنى الإلهي طويل جدا:
    (( و إن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون)) (47 – الحج)
    و في مكان آخر:
    (( تعرج الملائكة و الروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة)) (4 – المعارج)
    هذه إذن أيام الله.. و هي شيء كالآباد و الأحقاب بالنسبة لنا، فإذا قال الله خلقناكم ثم صورناكم.. ثم اكتملت الصورة بتخليق آدم فقلنا للملائكة اسجدوا لآدم.. معنى هذا أن آدم جاء عبر مراحل من التخليق و التصوير و التسوية استغرقت ملايين السنين بزماننا و أياما بزمن الله الأبدي..
    (( و قد خلقكم أطوارا)) (14 – نوح)
    و معناها أنه كانت هناك قبل آدم صور و صنوف من الخلائق جاء هو ذروة لها.
    (( هل أتى على الإنسان حين من الدهرلم يكن شيئا مذكورا)) (1 – الإنسان)
    إشارة إلى مرحلة بائدة من الدهر لم يكن الإنسان يساوي فيها شيئا يذكر. و يقول القرآن عن الله إنه هو:
    (( الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى)) (50 – طه)
    أي إنه هدى مسيرة التطور حتى بلغت ذروتها في آدم.
    (( و ما من دابة في الأرض و لا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم..)) (38 – الأنعام)
    (( و الله أنبتكم من الأرض نباتا)) (17 – نوح)
    ربط وثيق بين أمة الإنسان و بين أمم الدواب و الطير ثم ربط بين الإنسان و الحيوان و النبات.
    (( و لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين)) (12 – المؤمنون)
    و هي إشارة صريحة إلى أن الإنسان لم يخلق من الطين ابتداء.. و إنما خلق من سلالات جاءت من الطين.. هناك مرحلة متوسطة بين الإنسان و الطين.. هي سلالات عديدة متلاحقة كانت تمهيدا لظهور نوع الإنسان المتفوق.. ثم يحدثنا القرآن عن تخلق الجنين فيحكي لنا أن خلق العظام سابق على خلق العضلات:
    (( فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما..)) (14 – المؤمنون)
    و معلوم في علم الأجنة أن نشأة العمود الفقري سابقة على نشأة العضلات و عن هذه النشأة يقول:
    (( يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث..)) (6 – الزمر)
    يكشف لنا الخلق داخل الرحم، فيصفه بأنه يتم على أطوار.. خلق من بعد خلق.. و أنه يجري داخل ظلمات ثلاث.. و الظلمات الثلاث هي: ظلمة البطن و ظلمة الرحم و ظلمة (الغلاف الأمنيوسي).. كل غرفة منها داخل الأخرى.. و الجنين في قلبها، و هي حقائق تشريحية.. أو هي ظلمات الأغشية الثلاثة التي يتألف منها الجنين ذاته و هي حقيقة أخرى.
    (( و أنه خلق الزوجين الذكر و الأنثى، من نطفة إذا تمنى)) (45، 46 – النجم)
    و نعرف الآن أن الحيوان المنوي الذي يمنى هو الذي يحدد جنس المولود إن كان ذكرا أو أنثى و ليس البويضة، فهو وحده الذي يحتوي على عوامل تحديد الجنس
    sex determination factor
    كيف جاء القرآن بهذه الموافقات التي اتفقت مع نتائج العلوم و البحوث و الجهود المضنية عبر مئات السنين!.. مصادفة؟!
    و إذا سلمنا بمصادفة واحدة فكيف نسلم بالباقي؟
    و كيف يخطر على ذهن نبي أمي مشكلات و قضايا و حقائق لا يعرفها عصره؟.. و لا تظهر إلا بعد موته بأكثر من ألف و ثلاثمائة سنة؟
    و إذا أخذنا بالتفسير الغربي الملحد الذي يرى في ذلك الكلام الذي يجيء على لسان محمد صورة من نشاط عقل باطن انفتح تماما على الحقيقة المطلقة.. إذا قلنا هذا فقد اعترفنا اعترافا مهذبا جدا و علميا بالوحي.. فما الحق المطلق سوى الله و ما الانفتاح على الله و الاتصال به إلا الوحي بعينه.
    و لكن القصة لم تنته.
    إن القرآن يزودنا بما هو أكثر من كل ما قاله العلم.. فيطلعنا على بعض الغيب.. على ما حدث في الملكوت في الملأ الأعلى عند خلق آدم و كيف أسكنه جنته يأكل منها رغدا كيف يشاء إلا من شجرة واحدة عينها له.. و كيف أسجد له الملائكة.
    و يروي لنا القرآن كيف أن الملائكة سجدوا لآدم:
    (( إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه..)) (50 – الكهف)
    و يقول إبليس في كبرياء و غرور مبررا عصيانه للأمر الإلهي بالسجود لآدم:
    (( أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين)) (76 – ص)
    إنه لم يدرك حكمة الله في تشريف ابن الطين.. و لكن الله وحده كان يعلم أن آدم سوف يتعذب نتيجة خلقته المتصارعة من التراب و من الروح و أنه سوف يعاني عناء هائلا و يتمزق بين رغبات جسده الهابطة و سبحات روحه و ضميره المتعالية.
    (( لقد خلقنا الإنسان في كبد)) (4 – البلد)
    أي في مكابدة مستمرة و صراع و عناء.
    و إنه سيبلغ بهذه المكابدة إلى مرتبة أعلى من مرتبة الجن و الملائكة، و يفوز بمواهب و لياقات أعلى من الإثنين.
    و لهذا أسجد الله له الملائكة و سخرهم لخدمته و معونته.
    و لكن إبليس في كبريائه و غروره و تجبره فاتته هذه الحقيقة و لم يذكر إلا أنه خلق من نار و أن آدم خلق من طين و أنه خلق قبل آدم.
    (( و الجان خلقناه من قبل من نار السموم)) (27 – الحجر)
    و نار السموم هي النار الصافية بلا دخان أو من الطاقة الخالصة ذاتها.. و هكذا رفض إبليس السجود لآدم و خرج من الحضرة الربانية رجيما مطرودا و بدلا من أن يرجع إلى الله تائبا آملا في رحمته و مغفرته.. فإنه يئس تماما من هذه الرحمة.. و هذه هي الخطيئة الثانية.. ثم أضمر الحقد و العداء و الانتقام من آدم الذي تصور فيه سببا لطرده و هذه هي الخطيئة الثالثة.. إنه الشيطان بعينه الذي يحاول أن يخرج من خطيئة بخطيئة و ينحدر من هاوية إلى هاوية.
    و هكذا راح يغري آدم بالأكل من الشجرة و يزينها له و يصورها بأنها شجرة الخلود و هو يعلم أنها شجرة الموت.
    (( و عصى آدم ربه فغوى)) (121- طه)
    لقد منح الله آدم الحرية ( إذ نفخ فيه من روحه ) و خيره في أن يختار الدخول في طاعته فيكون شأنه شأن النجوم في أفلاكها تجري على نواميس الله الموضوعة و تسلم نفسها لسننه أو يكون حرا مسئولا فيحمل الأمانة.
    (( إنا عرضنا الأمانة على السماوات و الأرض و الجبال فأبين أن يحملنها و أشفقن منها و حملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا)) ( 72 – الأحزاب)

    و الإنسان لم يدرك مخاطر هذه الأمانة لجهله فظلم نفسه بحملها، و لأن الله كان يعلم مخاطر حمل هذه الأمانة.. و كان يعلم أنها سوف تلقي بالإنسان في مهالك الغرور.. فإنه لطفا منه و رحمة.. أمره بالطاعة و بالإسلام لكلمة الله بألا يأكل من الشجرة لتدوم له الجنة ( جنة الطاعة و الإسلام للناموس الإلهي).

    و لكن الإنسان اختار أن يكون حرا مسئولا و أن يخرج عن الأمر الإلهي (بإغراء إبليس) فيأكل من الشجرة.. و هكذا وقع عليه التكليف و أصبح محاسبا منذ تلك اللحظة.. و حق عليه العقاب.
    و كان العقاب هو الطرد و الإهباط من الجنة إلى عالم الكدح و العرق و التعب و المرض و الموت.
    و كان الفرق بين خطيئة آدم و خطيئة الشيطان.. أن آدم رجع إلى الله تائبا طامعا في رحمته و أصر الشيطان على العصيان يائسا من رحمة الله.
    (( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه..)) (37 – البقرة)
    و أسبغ الله عليه رحمته و وعده بهداية نسله.. و أقامه خليفة على الأرض يحكم فيها بإرادته و عقله.
    (( و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك..)) (30 – البقرة)
    يقول الملائكة ذلك الكلام لأنهم رأوا هذا الآدم و شاهدوا نشأته و مراحل تخليقه من أسلاف تسفك الدم و تتصارع بالمخلب و الناب و لكن الله يقول لهم:
    (( إني أعلم ما لا تعلمون)) (30 – البقرة)
    و هو يعلم أن ذلك الإنسان قد استحق بهذه النشأة و هذه الجبلة المتصارعة من الطين و الروح درجة أرفع من درجة الملائكة. و أنه قد اكتسب لياقات تؤهله للخلافة.. و هو يكشف هذه الحقيقة للملائكة:
    (( و علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (31) قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (32) قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبئهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات و الأرض.. (33) )) (البقرة)
    ها هو ذا آدم الأرضي و قد امتلك لياقات أكبر من لياقات الملائكة، و نفهم من هذا أن الله قد جعل من هذا الآدم أول أنبيائه على الأرض.. فكلمة (( و علم آدم الأسماء كلها)) هي بداية الوحي و التنزيل و التعليم الإلهي.
    و من حكاية تعليم الله الأسماء لآدم نتعرف على صفة أخرى في العقل البشري أنه معد و مؤهل لتعلم أسماء الأشياء فقط و ليس ماهيتها و أن العلم البشري هو علم بالحدود و المقادير و العلاقات الخارجية فقط، و أنه لا يستطيع أن يدرك كنه شيء.. و هو أمر ثابت في الفلسفة.

    و الله في القرآن (( رب )) بمعنى مرب و راع و معلم و هاد رؤوف رحيم ودود يعنى بمخلوقاته و يخلق لها الحيل و الأسباب و يوفر لها الأرزاق.
    و قد وعد الله آدم بإرسال الأنبياء لهداية نسله و أولاده.
    (( قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون)) (38 – البقرة)
    و يشرح لنا القرآن معنى إتباع الإنسان لهدى الله.. و ذلك بأن يفطن الإنسان إلى خطئه و يعود إلى الجنة التي ضيعها أبوه.. جنة الطاعة و الإسلام للنواميس الإلهية.. و هذ هي الإنابة و الرجعة التي تتكرر في كل صفحة في القرآن.. أن يفطن الإنسان إلى أنه لا يملك إلا ضميره ( قدس الأقداس الذي تركه الله حرا بالفعل ) فيسلمه خالصا لله و يتجه به مختارا طائعا.. و قد وكل أمر نفسه إلى خالقه و خضع لنواميسه.. و بذلك يكون أفضل من الجمادات و من النجوم في مداراتها التي تسلم نفسها لسنن الله و قوانينه قهرا و بلا اختيار.. على حين يسلم هو نفسه لربه محبة و اختيارا و طواعية.
    يفعل هذا و قد أدرك أن مشيئة الله واقعة إن طوعا و إن كرها.. و أن الله هو الخالق المهيمن على جميع الأسباب و أنه هو الوحيد الذي يملك الهداية و العلم و القدرة.

    و تعود فتطالعنا آيات أخرى غامضة في القرآن نفهم منها أننا نحن: ذرية آدم كانت لنا حياة قبل حياتنا الأرضية.
    (( و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (172) أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل و كنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون (173) و كذلك نفصل الآيات و لعلهم يرجعون (174) )) ( الأعراف)
    إن الله يفصل لنا في هذه الآيات واقعة غريبة.. يفهم منها أننا كنا في حضرة الله قبل النزول إلى الأرحام ( في عالم المثال و الملكوت ) ربما كأرواح أو نفوس لا أحد يدري.. و أن الله أشهدنا على ربوبيته و أخذ منا ميثاقا بهذا الشهود حتى لا نعود فنكفر و نبرر كفرنا بأننا كنا ضحية الآباء.
    و نعود فنقرأ عن هذا الميثاق في آيات أكثر غموضا في سورة ( آل عمران):
    (( و إذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب و حكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به و لتنصرنه قال أأقررتم و أخذتم على ذلكم إصري ( عهدي ) قالوا أقررنا قال فاشهدوا و أنا معكم من الشاهدين)) ( 81 – آل عمران)
    ها هم أولاء الأنبياء مجموعون ليأخذ الله عليهم ميثاق غليظا بأن يؤيد بعضهم بعضا.. كيف كان ذلك؟ .. و أين؟ .. و متى؟..
    هي آيات كواشف تشير إلى مرحلة روحية عشناها في الملكوت قبل النزول إلى الأرحام.. و إلى أنه كان لنا ثمة وجود قبل الميلاد كما أن لنا وجود بعد الموت..
    و في أسماء الله أنه (( الخالق البارئ المصور )).. الخالق الذي خلقنا أرواحا و البارئ الذي أعطانا رخصة الوجود كما يعطي الملك براءة الوسام لحامله.. و المصور الذي صور لنا القوالب المادية التي نزلنا بها في الأرحام.
    و في حديث شريف يشير نبينا محمد – صلى الله عليه و سلم – إلى هذا الوجود الروحي السابق للميلاد حينما يقول: (( كنت نبيا و آدم يجدل في طينته)).
    و يقول الله في القرآن لمحمد:
    (( قل إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله رب العالمين (162) لا شريك له و بذلك أمرت و أنا أول المسلمين (163) )) ( الأنعام)
    و هي كلمات تعني سبق الوجود المحمدي على جميع الأنبياء إذ يعتبر القرآن جميع الأنبياء مسلمين و محمد أولهم.
    و هي إشارات تدل على وجود روحي سابق على الميلاد كنا فيه في عالم ملكوتي قبل أن ننزل إلى الأرحام.
    •••
    و يحدثنا القرآن في قصة الخلق عن السماوات السبع.
    (( الذي خلق سبع سماوات و من الأرض مثلهن.. )) (12 – الطلاق)
    (( الذي خلق سبع سماوات طباقا.. )) (3 – الملك)
    (( و لقد خلقنا فوقكم سبع طرائق..)) (17 – المؤمنون)
    (( و بنينا فوقكم سبعا شدادا)) (12 – النبأ)
    و السماوات السبع سر لا يفهمه العلم و لكن هناك أمرا مثيرا للتأمل.. أن يكشف لنا العلم مثلا أن الضوء سبعة ألوان هي ألوان الطيف و سبع درجات من الأطوال الموجية من الأحمر إلى البنفسجي ثم يعود فيتكرر السلم في سبع درجات أخرى من تحت الأحمر لفوق البنفسجي.. و بالمثل السلم الموسيقي سبع درجات ثم تعود الثامنة فتكون جوابا للأولى و هكذا تتكرر النغمات سبعات سبعات.
    و نعرف أيضا في علم الأجنة.. أن الجنين لا يكتمل نموه إلا في الشهر السابع، و أنه إذا ولد قبل السابع يموت.
    و منذ بدأنا نعرف الأيام قسمناها سبعات سبعات، و عرفنا الأسبوع كوحدة زمنية للحساب.. اتفق الناس من كل الأجناس و الأديان و الألوان على ذلك منذ الماضي السحيق و التقوا عليه دون أن يكون بينهم اتفاق مكتوب.. لماذا؟ .. و كيف؟ لا ندري.
    ثم نكتشف أخيرا أن درجات الطيف السبعة في ضوء الشمس سببها نقلات سبعة للإلكترون عروجا في أفلاك سبعة حول نواة ذرة ( الإيدروجين).. كلما قفز الإلكترون في فلك خارج النواة أطلق شحنة هي التي تعطي الطيف المناظر.
    و تحدث هذه القفزات في باطن الشمس ( المكون من غاز الإيدروجين) من فرط الحرارة التي تتجاوز ملايين الدرجات.. فتنفرط الإلكترونات خارجة من ذراتها و تطلق الضوء الشمسي المعروف.
    و نفهم من هذا أن ( الإلكترون) يعرج صاعدا في سبعة أفلاك أشبه بالسماوات السبع.. ثم في عودته هبوطا من سماء إلى سماء تحتها لا بد له أن يتخلص من غل من أغلال الطاقة التي امتصها.. فتنطلق هذه الطاقة على شكل حزمة ضوئية من طيف معين.. إلى أن يعطينا الأطياف السبعة للضوء الأبيض.
    و كأنما الذرة و هي النموذج المصغر للكون فيها سبع سماوات.
    هل معنى هذا أننا سوف نكتشف يوما ما أن الوجود مرتب في سبع درجات في جميع حالاته.. و أن هناك سلما يكرر نفسه من أسفل سافلين إلى أعلى عليين.. سبع سماوات و سبع أرضين.. مثلما للضوء سبع درجات و الصوت سبع نغمات و الإلكترون سبعة أفلاك.. و إن ما ورد في القرآن حول الرقم سبعة ( عن جهنم التي لها سبعة أبواب و عن الأرضين السبع و السماوات السبع و عن سبع سنوات عجاف و سبع بقرات سمان و عن استواء الله على عرشه في اليوم السابع من أيام الخلق).. كل هذه إشارات إلى هذا السر الخطير من أسرار الكون.
    لا شك أن القرآن هنا يبدو بكل ثقله و خطورته مشيرا إلى مسألة علمية غاية في الأهمية.
    •••
    و مثال ذلك اللمحة العلمية الأخرى التي نصادفها في القرآن حينما نقرأ عن الله عز وجل أنه:
    (( إن الله فالق الحب و النوى يخرج الحي من الميت و مخرج الميت من الحي..)) (95 – الأنعام)
    و قد فهم منها المفسرون القدامى انفلاق نواة البلحة عند الإنبات و أنه بهذا تجدد النخلة حياتها فتخرج الساق الحي من النوى الميت.
    فهل كانت مصادفة أن يكشف لنا العلم التشريحي أن الخلية أيضا تجدد حياتها بأن تنفلق نواتها و أن هذه هي الطريقة التي تلد بها الخلية فتصبح خليتين.
    و هل كانت مصادفة أن يكشف لنا العلم أن الذرة لا تخرج طاقتها المكنونة إلا بانفلاق نواتها أيضا فيخرج منها الحي من الميت ( ميلاد الطاقة الذرية من المادة الموات).
    هي مجرد تأملات.
    •••
    و الشيء نفسه حينما تحكي لنا سورة ياسين عن الله:
    (( الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض و من أنفسهم و مما لا يعلمون)) (36 – يس)
    و نعلم أن الله خلق النبات من زوجين ذكرا و أنثى كما خلقنا من زوجين و الجن من زوجين.
    و ما لم نكن نعلمه و ما كشفه لنا العلم أن هذه الزوجية هي في الأشياء أيضا:
    (( و من كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون)) (49 – الذاريات)
    فالكهرباء فيها الشحنتان السالبة و الموجبة.
    و المغانطيسية فيها الاستقطاب إلى قطبين.
    و في الذرة الإلكترون و البوزيترون.
    و البروتون و النيوترون.
    و في الكيمياء العضوية.. الجزيء اليساري و الجزيء اليميني.
    و نعرف الآن المادة.. و المادة المضادة.
    و الثنائية الإزدواجية في تركيب الأحياء و الجمادات يكشف لنا العلم أسرارها كل يوم.
    و هي إشارات و لمحات و قطرات من بحر القرآن المليء بالكنوز و الأسرار.
    •••
    و ربما كان أعمق هذه الأسرار ما جاء في القرآن وصفا ليوم القيامة بأن البحار تفجر و تضرم فيها النيران:
    (( و إذا البحار سجرت)) (6 – التكوير)
    (( و سجرت)) معناها أضرمت نارا.
    و في سورة الانفطار يعود القرآن إلى هذه الإشارة:
    (( و إذا البحار فجرت (3) و إذا القبور بعثرت (4) )) ( الانفطار)
    و في سورة الطور يقسم الله بهذا الحدث فيقول جل من قائل:
    (( و البحر المسجور (6) إن عذاب ربك لواقع (7) )) ( الطور)
    إنه يقسم بالبحر إذ يفجر و يضرم نارا يوم القيامة بأن العذاب واقع و أنه حق.
    و القسم فيه لفت نظري لأهمية الحدث و جسامته.. و قد ظل (( البحر المسجور)) في نظري لغزا عجيبا حتى وقعت في يدي خريطة لتوزيع الأحزمة البركانية و الزلزالية على الأرض في أثناء قراءة عن النشاط البركاني و أسراره. و كانت الخريطة بداية لدوامة من التأمل.
    فالمؤلف و هو العالم الجيولوجي الدكتور ( بو) يقول لنا بالرسم و الإحصاءات إنه من خمسمائة بركان و هي كل ما نعرف من براكين على الأرض وجد أن معظم هذه البراكين تصطف في حلقة حول المحيط الهادي و في خط بطول البحر المتوسط و خط بحافة الأطلسي.. و أعجب من هذا أنه وجد أن قاع المحيط الهادي يتكون من البازلت و هو صخر بركاني.. و معنى هذا أن جوف الأرض الناري هو أقرب ما يكون إلى السطح عند قاع المحيط الهادي و البحرالمتوسط و الأطلسي، و أن هذه الأمكنة تحت الماء تمثل نقاط الضعف في القشرة الأرضية حيث يحدث بين وقت و آخر أن تنفجر البثور البركانية فتقذف بالحمم من جوف الأرض الملتهب إلى السطح.
    ثم يمضي المؤلف فيحصي لنا عددا من أعظم تلك البراكين التي تشكل حلقة من النيران حول الماء و تحت الماء يذكر لنا منها بركان ( فوجياما) و بركان ( مايون) و بركان ( تال) و بركان ( كركاتوا) و بركان ( أورزابا) و بركان ( باريكوتين) و بركان ( كوتوباكسي) و بركان ( شيمبوراز) و البراكين الثلاثة ( مونت لاسن و مونت هود و مونت رينير).. هذا غير جزر بركانية تقوم وسط المحيط مثل: جزر ( هاواي) و هي مجموعة من الجزر شيدتها البراكين.. و من أعجب مايراه السائحون فيها مشهد حفرة ( كيلاويا) النارية و يسميها أهل البلاد ( هاليوما) أي بيت النار.. و فيها يمكنك أن ترى رأي العين الحمم المتوهجة و هي تغلي و تفور و تبصق نافورات النار على أعماق سحيقة داخل الفوهة.
    و بين براكين البحر المتوسط أكبرها بعد ( فيزوف) هو بركان ( أتنا) بصقلية و إلى الشمال منه يقع بركان ( سترمبولي) الذي يثور بصفة مستمرة و يلمع كل ليلة بالضوء الأحمر و يسميه الملاحون منارة البحر المتوسط.
    و في شرق البحر المتوسط مجموعة أخرى من البراكين من بينها جبل ( أرارات).. و في الأطلسي جزر ( الكناري و آزور و كاب فرد) و كلها جزر بركانية.
    ثم تطالعنا الإحصاءات بحقيقة أخرى دامغة فتقول إن 80 % من النشاط الزلزالي يقع هو الآخر في الحزام الذي يحتضن المحيط الهادي و إن معظم الهزات الزلزالية تقع في قاع البحار.
    إن ذروة الاضطراب البركاني و الزلزالي واقعة إذن حول الماء و تحت الماء حيث جوف الأرض الناري المتأجج بالحرارة قريب من السطح، لا يحفظه من التفجر إلا توازن القشرة الأرضية الدقيق و الجبال الهائلة التي تعمل كثقالات و أوتاد تحفظ هذه القشرة في مكانها، و ترسيها فلا تميد فوق بحر النار المضطرب في الداخل.
    و في ذلك يقول القرآن عن تلك الجبال الرواسي.
    (( و ألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم و بث فيهما من كل دابة.. )) (10 – لقمان)
    و في مكان آخر يصف الجبال بأنها أوتاد.. (( و الجبال أوتادا)) (7 – النبأ) و هو وصف علمي و دقيق فهي بالفعل أوتاد..
    فإذا جاء وعد الآخرة و نسفت هذه الجبال تدفقت حمم النار من نقطة الضعف الكبرى و هي قيعان البحار و ألقت الأرض بجوفها الملتهب.
    (( إذا زلزلت الأرض زلزالها (1) و أخرجت الأرض أثقالها (2) )) (الزلزلة)
    و أضرمت النيران في مياه البحار و المحيطات و كان ذلك (( البحر المسجور)) الذي فجرت مياهه نارا. و الذي أقسم به الخالق..
    (( و برزت الجحيم لمن يرى)) (36 – النازعات)
    و نعلم أن الحرارة في جوف الأرض تبلغ ألوف الدرجات، و أن بطن الأرض هو أتون فوار من الحديد المنصهر و الحجارة المنصهرة و الحمم، و لعل هذا الباطن الناري هو الجحيم التي يقول فيها خالقنا:
    (( وبرزت الجحيم للغاوين)) (91 – الشعراء)
    (( و برزت الجحيم لمن يرى)) (36 – النازعات)
    و الإبراز كلمة دقيقة محددة تعني إخراج شيء من حالة بطون إلى حالة ظهور.. من الجوف إلى السطح.
    و لعل هذا الباطن الفوار هو أسفل سافلين الذي سوف تتهابط إليه الأرواح الكثيفة الظلمانية.. و هو تلك النار التي وقودها الحجارة.
    هي إشارات.. و لمحات.. و كلمات بعيدة الغور.. تلتقي فيها روعة البلاغة بدقة العلم.
    و لا يمكن أن يكون هذا الالتقاء مصادفة.. و أن تكون تلك الموافقات العديدة بين أحدث علوم العصر و بين كلمات القرآن الأزلية.. أمورا عشوائية اعتباطية جاءت مصادفة و اتفاقا.

  2. افتراضي

    يوجد جزء في هذا الفصل لم أقم بطباعته و هو محاولة من الكاتب للتوصل إلى ماهية الشجرة المذكورة في القرآن ( ست صفحات تقريبا) لذا وجب التنويه.

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Dec 2004
    الدولة
    egypt
    المشاركات
    2,149
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    تحليل جميل ولكن عليه بعض المآخذ , جزاك الله خيرًا .

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. مقتطفات من كتاب (( الروح و الجسد )) للدكتور مصطفى محمود
    بواسطة فكر في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 12-26-2010, 07:43 AM
  2. مقتطفات من كتاب ((الشيطان يحكم)) للدكتور مصطفى محمود
    بواسطة فكر في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 25
    آخر مشاركة: 04-16-2009, 10:54 PM
  3. مقتطفات من كتاب (( الإسلام .. ماهو ..؟ )) للدكتور مصطفى محمود
    بواسطة فكر في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 03-02-2006, 11:05 AM
  4. مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 02-27-2006, 12:11 AM
  5. مقتطفات من كتاب ((أناشيد الإثم و البراءة)) للدكتور مصطفى محمود
    بواسطة فكر في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 13
    آخر مشاركة: 10-02-2005, 07:00 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء