فر يدريك نيتشه ، "1844-1900م"1260-1318هـ" ، فيلسوف ألماني ملحد ..
أولاً : حياته :
كان أبوه قساً بروتستانتيا, وكذلك كان جده, توفي والده وهو طفل,فتولي تربيته نسوة العائلة, فنشأ مدللاً رقيقاً حساساً, مما جعله محل سخرية زملائه في الدراسة, مما دفعه للبحث عن وسيلة تجعله خشناً صلباً, وتخلصه من الطابع الأنثوي الذي نشأ به, وكان سبباً في كونه محطاً لسخرية الآخرين. ولعل رد الفعل هذا له أثره في جنوحه- فيما بعد- إلى مذهب القوة والعنف والقسوة الذي كان طابع فلسفته.
كان ابن قس, وحفيد قس, وأراد في حداثته أن يكون قساً, فنشأ على التزام بالنصرانية ديانة آبائه, وكان كثير القراءة في الإنجيل النصراني, وكان يقرأه على زملائه بصورة مؤثرة تجعل الدموع تجري من مآقيهم, حتى أطلق عليه الجميع في هذه الفترة اسم " القسيس الصغير " .
لكن هذا القس الصغير لم يلبث وهو في سن الثامنة عشرة أن فقد إيمانه بالنصرانية و كفر بها, ودخل في مرحلة من الشك والحيرة خرج منها كافراً بكل شيئ, ناقماً على كل شيئ, ولم يرجع إلى الدين ثانية, بل اندفع في طريق الإلحاد حتى نهايته, فأعلن موت الآلهة, ثم اتخذ من " السوبرمان " الإنسان الأعلى- كما يسميه- إلهه ومعبوده, وأمضى بقية حياته يبشر به, ويرسم الطريق للإنسانية كي تصل إليه .
- درس بجامعتي " بون وليبزج" بألمانيا, حتى حصل على الدكتوراه, ثم عمل بجامعة "بال" بسويسرا أستاذًا لفقه اللغة ((1869 م )) ثم مرض وزادت علته, حتى اضطر إلى التدريس (( 1879م ))والعيش على ((معاش)) تصرفه له الجامعة . وبعد ذلك بعشر سنين انتهى به المرض إلى الشلل الكلي والجنون , وتولت أخته رعايته , حتى لفظته الحياة , كما يلفظ البحر جيفه عكرت بنتنها ماءه الصافي , لكنه خلف وراءه فكرا ضالا ركبه اليهود ليصلوا من خلاله إلى الكثير من أهدافهم الخبيثة , مما جعلهم يشيدون به وبأفكاره في بروتوكولا تهم ومجامعهم.
****************

ثانيٍا : مؤلفاته:
لنيتشه مؤلفات كثيرة أهمها :
1-أصل المأساة "1872م". وهو دراسة للثقافة اليونانية من خلال القصص والروايات أو "الدراما" .وفي هذا المؤلف الذي يطلق عليه أحياناً "نشأة التراجيديا" فضل القوة الجسدية, على الفكر الذهني الذي جاء به سقراط ومن بعده.
2-إنساني مجاوز للحد " 1878". وفيه تحدث عن الانتخاب الذاتي, وضرورة أن يعمل الإنسان على أن يتجاوز نفسه إلى كائن أعلى منه, والذي سماه فيما بعد: "السوبرمان".
3-المسافر وظله"1880م". وفيه بين أن المشاعر الخلقية من الشفقة والرحمة والعدل والتواضع, إنما هي عوامل مضللة, تناقض التفسير العلمي للأشياء, وتعوق مسيرة التقدم لدى الإنسان, وتعرقل الوصول إلى الإنسان المجاوز للحد "السوبرمان".
4-الفجر"1881م".
5-المعرفة المرحة "1882م".
6-هكذا تكلم زرا دشت"1883م". وهذا الكتاب هو أهم مؤلفاته, ألفه في أسلوب أدبي شعري, ووضع فيه خلاصة مذهبه من جانبيه: السلبي الذي تمثل في نقد الدين والقيم والأخلاق, ومحاربة فكرة الوطن والقوم والأمة وكل شيئ موروث, ثم الإيجابي الذي يتمثل في الدعوة إلى الصراع ضد الدين والقيم, والعمل على تحقيق الإنسان المجاوز للحد من خلال التطور الذاتي, وقد جعل بطل هذا المؤلف ينطق بكل ما يريد نيتشه, فكان نيتشه يلقي بآرائه الفلسفيه من خلال "زرا دشت" هذا.
7-فيما وراء الخير والشر"1886م". وفيه يكرر أضاليله حول القيم, ويقرر أن القوة والجبروت هو الخير, وأن الضعف والتواضع شر .
8-في أصل الأخلاق"1887م". تكلم فيه نيتشه عن الفضائل والقيم, وقرر أنها تزييف للواقع, وتكلم- تحديداً- عن الزهد, ووصف الزاهد الذي يحتقر القوة والعنف بأنه مخادع.
9-إرادة القوة "1901م" نشر بعد هلاك نيتشه.
10-غروب الآلهة "1989م" وفيه يعلن نيتشة أن الآلهة قد ماتت, كما كان قد قبل ذلك, ويطالب الإنسان بأن يخرج الآلهة من قلبه, ويقبرها في حفرة عميقة, يضع على بابها حجر ثقيل, حتى لا تخرج ثانية فتفسد حياة الإنسان.
11-هذا هو الإنسان"1908م" وقد نشر- أيضاً- بعد هلاك المؤلف. وفي هذا الكتاب يبشر" نيتشه" بإنسان جديد يتجاوز الإنسان العادي ويفوقه من حيث القوة والقسوة, يعيش حياة المغامرة والحرب والعنف, وتتحد فيه إرادة الحياة مع إرادة القوة, بحيث يصيران شيئاً واحداً, فالحياة هي القوة, والقوة هي الحياة .
ثالثاً: مفتاح شخصيته :يبدو أن شخصية هذا الفيلسوف لا تفهم إلا من خلال ردود الأفعال التي انتظمت فكره وسلوكه وشئونه الحياتية كلها.
وردود الأفعال إنما تكون- غالباً- تفسيراً لسلوك نوعين من الناس متضادين.
الأول: إنسان ضعيف الشخصية, ضحل الإمكانات الذهنية, قليل الثقة بنفسه, فهو حين يحب أن يظهر نفسه, ينتظر ليرى الناس يفعلون شيئاً, ثم يفعل هو نقيضه أو ضده. ليؤكد ذاته, وليلفت الأنظار إليه, متخذا من المثل القائل:" خالف تعرف " منهج حياة, وقاعدة سلوك. . أما النوع الثاني., فعلى النقيض من الأول, حاد الذهن شديد الذكاء, قوي الثقة بنفسه, مفرط الكبر والغرور, يرفض التقليد والتبعية لأي شيئ ولو كان الدين, حاقد على الآخرين, ماقت لكل شيئ, ناقم على الحياة والأحياء, سعادته كلها في مخالفة الآخرين, ورفض آرائهم وتسفيهها.
وقد كان " نيتشه" يمثل النوع الثاني شر تمثيل.
فقد كان من أسرة متدينة, على صلة وثيقة بالنصرانية والكنيسة, والوظائف الدينية, حيث كان أبوه قساً, وكذلك كان جده, وقد أعده أهله ليكون قسيساً, وبخاصة لما لاحظوا فيه من ضعف صحته, ورقة إحساسه, وميله إلى العزلة.
لكن الرجل اندفع إلى الاتجاه المخالف المضاد, فلم يكتف برفض الوظائف الدينية, بل رفض النصرانية نفسها وكفر بها, بل إنه لم يكتف في ردود أفعاله بهذا, وإنما جعل من أهداف حياته مهاجمة النصرانية ومحاربتها, وبيان أباطيلها, وكشف مفاسد رجالها, بل إنه حارب الدين كله, ولم يفرق بين حق أو باطل.
كذلك كان الفيلسوف عليل الصحة, ذا بنية جسمية ضعيفة, ثم مرض مرضاً شديداً فزاد ضعفاً على ضعف, ولقد خلف له المرض آلاماً حادة في الرأس وفي المعدة, وفي العينين حتى تركه شبه أعمي , ولقد لازمته تلك الآثار المرضية طوال حياته.
ومرة ثانية نصطدم بردود الأفعال لدى " نيتشه" فبدلاً من أن يسير سيرة فكرية تناسب حالته تلك, فإنه يندفع إلى الاتجاه الضد,فيعيب الضعف والضعفاء, ويمجد القوة والأقوياء, بل إنه ليدعو المرضى والضعفاء إلى قتل أنفسهم انتحاراً, تطبيقاً لمبدأه الذي يقول فيه : "مت في الوقت المناسب", أما في حال عدم استجابة الضعفاء والمرضى لدعوته تلك وانتحارهم ، فإنه يدعو الأقوياء إلى أن يقوموا بهذه المهمة نيابة عن الضعفاء ,فيقتلونهم, حتى يخلو المجتمع مما يعوق تقدم الإنسانية إلى تحقيق " الإنسان المجاوز للحد ".
وقد كانت حياة الرجل بما فيها من مرض وضعف وآلام, ليس أقلها إصابته بالشلل, وضعف البصر الشديد, وآلام الرأس والمعدة, كانت مثل تلك الحياة من شأنها أن تجعل صاحبها متشائماً يائساً قنطاً, وبخاصة لرجل مثله لا يؤمن بالله- سبحانه- ولا يؤمن بيوم آخر يكافأ فيه على صبره واحتسابه من ربه. . كان ذلك هو المنتظر من ذلك الفيلسوف الذي جمع بين الخستين: المرض والآلام, ثم الإلحاد .
لكن جاء رد الفعل عنده, فرفض التشاؤم, ونعى على التشاؤم والمتشائمين وهاجم بعنف النزعة التشاؤمية لشوبنهاور, وعاش يدعو إلى التفاؤل, وإلى العيش في الدنيا بروح مرحة.
ولقد كان من شأن رجل ضعيف مريض مثله, فقد سلامة الصحة والبصر, أن ينحو منحى السلامة, ويدعو إلى التحوط والحذر من كل يوحي بالخطر.
ومرة ثالثة نصطدم بردود الأفعال عند نيتشه فقد اندفع الرجل المريض الضعيف شبه الأعمى يمجد الخطر, ويدعو الناس إلى أن " يعيشوا حياة الخطر, وأن يبنوا مساكنهم على حافة بركان " فيزوف" ، وأن يركبوا زوارقهم كي يكتشفوا البحر الذي لم يرتده أحد من قبلهم", وأن يتحدوا جميع المخاطر بروح لا تعرف الخوف.
على أن ثمة حدثاً له دلالته وآثاره على تلك النفس المريضة المنحرفة, ذلكم أن " نيتشه" وقع في حب إحدى النساء القريبات منه, ولكنها لم تبادله حباً بحب,وفضلت عليه رجلاً آخر, ولم تجد محاولاته في إقناعها بحبه, وهنا برز رد الفعل عند نيتشه, حيث اندفع هائماً على وجهه يرسل النقد تلو النقد للنساء جميعهن, واصفاً إياهن بأقبح الصفات, مدعياً أنهن لسن أهلاً لحب أحد الرجال, وبخاصة حب رجل عظيم مثله, وهذا الحدث ليس بدعاً من القاعدة التي ذكرناها, وإنما هو تطبيق لها, أعني من أوضح الأمثلة على أن الرجل يعيش على ردود الأفعال.

رابعاً : فلسفته :
تقوم فلسفة " نيتشه" على أسس أهمها:
1-التأكيد على الذاتية في مقابل الموضوعية بالنسبة للصلة بين الإنسان والعالم. فقد ذهب نيتشه- كما ذهب " شوبنهاور" من قبله- إلى أن أفكار الإنسان ومعارفه عن العلم الخارجي متأثرة بأوهام ذاتية, ومعتقدات شخصية لا حقيقة لها في الخارج. وأن الحقائق الموضوعية للعالم تختلف عما يتصوره الإنسان ويعتقده عنها, لذلك كانت معارف الإنسان عن العالم إنما هي أوهام ذاتية, وخرافات مورثة.
2-إن أخطر هذه الأوهام الذاتية, وأكبر تلك الخرافات المورثة التي تخالف الواقع وتصادم الموضوع إنما هو الدين وكل ما يتصل به.فالدين هو أكبر خرافة توارثتها الإنسانية جيلاً بعد جيل, وليس من شك أن الدين والأخلاق وما يتصل بذلك إنما هي مظاهر ضعف وانحطاط, لكن هذه المظاهر يتعهدها رجال الدين القساوسة, ويظهرونها على أنها فضائل, لكي يحتفظوا بسيادتهم على جماهير الناس, وتزداد مكانتهم ومكاسبهم المادية, رغم وضوح الكذبة ورغم أن الدين وما يتصل به أمور يرفضها العلم, ويكفر بها العقل الذكي.
3-أهم ما في فلسفته جانبان : جانب سلبي, وجانب إيجابي, أما الجانب السلبي .,فيتمثل في النقد العنيف والقاسي والملح للدين والقيم والأخلاق, فهو لا يفتأ في كل مؤلفاته ينقدها ويحاربها على أمل أن يقضي عليها. وقد استغرق هذا الجانب السلبي القدر الأكبر من مؤلفاته, وأما الجانب الإيجابي., فهو تمجيد القوة والدعوة إليها, وإلى القضاء على كل ما يعارض القوة ويعرقل مسيرتها, ويعوق تقدم الإنسان مما يسمى بالقيم والأخلاق, من مثل : الحب, والرحمة, والعدل, فهذه الأمور أمثالها قد عاقت الإنسان إلى أن يتجاوز نفسه, ويرتفع عن مستواه الحالي, ليصل إلى الإنسان الأقوى, أو ما سماه "السوبرمان" ولن تصل الإنسانية إلى هذا الإنسان الأقوى إلا إذا ألقت وراء ظهرها بما يسمى بالقيم, ثم استعملت القوة في الصراع بين الضعفاء والأقوياء, ومن ثم يقضى على الضعفاء, ولا يبقى إلا الأقوياء, ثم الصراع بين الأقوياء, وهكذا حتى تصل البشرية إلى المستوى الأعلى دائماً.من أجل ذلك دعي الرجل " فيلسوف القوة", ودعيت فلسفته " فلسفة القوة". وهي تسميات غير دقيقة, وإطلاقات خاطئة, والاسم الصحيح, أو الوصف الدقيق لهذه الفلسفة وكل ما يماثلها أنها: " فلسفة الحمقى والمجانين", وليس ذلك إطلاقاً مجاوزاً للحقيقة, فقد صدقت الأحداث ذلك. وكان الرجل حين تسجليه أفكاره هذه وكتابته مذهبه شبه مجنون, ثم أصيب بالجنون فعلاً وظل الأحد عشر عاماً الأخيرة من حياته في جنون شبه كامل, ورغم ذلك كان يكتب ويحرر مذهبه ذاك .
4-فيما يتصل بالجانب الخلقي ., فقد وضع مقياساً للأخلاق ربط فيه بين القوة والفضيلة, بصرف النظر عن مجالات استعمالها, فإن القوي عنده له مطلق الحرية في استعمال قوته في كافه المجالات, ولو كان سفك الدماء البريئة, بل إنه يحض الأقوياء على سفك دماء الضعفاء حتى لا يعوقوا مسيرة البشرية إلى الأعلى, كذلك كل ضعف هو رذيلة. بصرف النظر- أيضاً-عن أسباب الضعف, وسواء كانت بفعل الإنسان وإرادته كمن يجهد نفسه فوق الطاقة, أو يتعاطى مطعومات أو مشروبات تضعف الصحة, أو كان ذلك خارجاً عن إرادته وإمكاناته كالضعف بسبب المرض, أو بطبيعة بنية الجسم. وأيضاً :ربط بين الخير والقوة والشر والضعف ؛ فأضحى الميزان الخلقي عنده : أن القوة هي الخير وهي الفضيلة ، وأن الضعف هو الرذيلة وهو الشر.
5-دعا " نيتشه" إلى شعار يقول " كن نفسك, ولا تكن غيرك ". وهو يعني بهذا أن يرفض الإنسان كل الأشياء التي ورثها, والتي تربطه بالآخرين, وأن يحطم القيم, والعادات, والأعراف, والتقاليد, بل يجب عليه أن يحطم أخطر تلك القيود التي تمنعه عن " الخلق" والابتكار وتحقيق ذاته, وهذه القيود الأخطر هي في نظره: الدين , والوطن, والأمة. فهذه الثلاثة يمثل كل منها قيداً يمنع الإنسان من الانطلاق نحو " الخلق" والابتكار. فالناس يؤمنون بهذه الأشياء, والإيمان يعوق الإنسان عن تحقيق ذاته: لأن الدين مأخوذ عن السابقين, فأنت لا تخلقه ولا تنشئه, بل تقلد السابقين, وكذلك الأمة والوطن, ومثل ذلك كل القيم. إنما هي موروثات عن الذين سبقوك. فأين أنت؟ أين ما قمت أنت بخلقه واختراعه؟ لا شيئ, ولذلك فأنت صورة مكررة ممن سبقوك. . ولكي تبدع, ولكي تكون نفسك, وتحقيق ذاتك, لا بد أن ترمي بكل شيئ موروث عن السابقين, وتخترع أنت القيم الخاصة بك, والتقاليد والأعراف والسلوك الخاص بك أنت, والذي يناقض كل ما كان عليه الآخرون السابقون.
6-يركز " نيتشه" في فلسفته على " خلق" الإنسان الأعلى, أي الوصول بالإنسان عن طريق الصراع, و"التطور الذاتي الصاعد", وهو يطبق هنا مذهب التطوريين, فيذهب إلى أن الكائنات بدأت من الخلية الواحدة" الأميبا", ثم تطورت إلى الأعلى, حتى وصلت في تطورها إلى الإنسان وقف عند حد معين ولم يكمل مسيرة الارتقاء ليصل إلى الأعلى منه, فكل الكائنات من أدناها قد أدت رسالتها في الترقي إلى الإنسان, وكان على الإنسان أن يفعل نفس الشيء, لكنه وقف في محله, وقد عوقته أوهامه الذاتية عن الدين, والأخلاق, والقيم, والإبقاء على الضعفاء, وهذه أفقدت المسيرة أهدافها, وعلى الإنسان أن يبدأ المسيرة من جديد, ولن يتم ذلك إلا بالقضاء على الدين والقيم, وإحياء الصراع, وتطبيق قانون" البقاء للأقوى" حتى يصل في النهاية إلى الإنسان السوبرمان.
7-وللوصول إلى هذه الغاية يجب ألا تترك الأمور تسير تلقائياً, بل يجب أن تسير الأمور حسب منهج معين, يلتزم به الجميع دون تهاون, والمنهج اللازم إنما يتم عن طريق أمرين: تحسين النسل, والتعليم, وتحسين النسل يأتي في المرتبة الأولى.وتحسين النسل يتطلب رفض الزواج العشوائي الذي يقوم على ما يسمي: الحب, والذي يقع فيه عظماء الرجال ضحايا للخادمات وأمثالهن تحت ما يسمى بالحب, لكن ينبغي أن يختار الأرقى من الرجال لأمثالهم من النساء, فتتزوج النساء الراقيات الرجال الراقين, ويكون الزواج محكوماً بهذه المعايير, يقول " نيتشه" : " يجب ألا نسمح بزواج يقوم على الحب, وأن يتزوج خير الرجال من خير النساء, أما الحب فلنتركه لحثالة الناس, إذ ليس الغرض من الزواج مجرد النسل, بل يجب أن يكون وسيلة للتطور والترقي... بمثل هذا المولد وهذه التربية يرتفع الإنسان فوق الخير والشر, ولا يتردد في اللجوء إلى العنف والقوة في سبيل الوصول إلى غايته" .. والغاية التي يقصدها الرجل إنما هي الوصول إلى الإنسان الأعلى " السوبرمان".
8-وكما بذل " نيتشه" مجهودا ضخماً ومستمراً في الدعوة إلى حياة الصراع والقوة للوصول إلى " خلق " وإيجاد " السوبرمان ". كذلك بذل الفيلسوف مجهوداً مضاعفاً ومستمراً في محاولات القضاء على الأديان التي تمثل عدوه الأول. ويتمركز حولها حقده ومقته الشديد, لقد جعل بطله " زرا دشت " الذي اخترعه ليكون شبيهاً بسميه الفارسي " زرا دشت ". وليكون معلماً كما كان " زرا دشت " الفارسي معلماً, لقد وضع نيتشه على لسان بطله زرا دشت حديثاً طويلاً رمزياً أراد أن يبين فيه أن الدين خرافة, وأن الآلهة قد ماتت, يقول " نيتشه " في كتابه : " هكذا تكلم زرا دشت ": " ينزل زرا دشت وهو في الثلاثين من عمره من جبله الذي أوى إليه سابحاً في تأملاته, ليعظ الجماهير, ولكن الجماهير كانت مشغولة عنه بمشاهدة رجل يرقص على الحبل, ولكن الراقص على الحبل يسقط ويموت, فيحمله زرا دشت على كتفيه ويذهب به بعيداً ليدفنه في قبره ويغلقه عليه" , إن هذه القصة الرمزية أراد بها نيتشه أن يبين للناس الحقائق الصحيحة, لكن الناس كانوا مشغولين بالدين والقيم والخرافات, التي رمز لها " نيتشه" بالأراجوز أو الراقص على الحبل, لكن الدين ما يلبث أن يموت بفضل جهود نيتشه, كما مات الراقص على الحبل عندما رأى زرادشت, وأن نيتشه هو الذي سوف يدفن الدين بيديه, ويعلن موت الآلهة كما فعل زرا دشت... لقد التقى زرادشت وهو نازل من الجبل بناسك يحدث الناس عن الإله ، فقال زرادشت لنفسه : " هل يمكن أن يكون ما قاله الناسك حقاً؟ يبدو أن هذا الناسك العجوز الخرف لم يسمع بعد أن الآلهة قد ماتت, لقد مات الله حقاً وماتت جميع الآلهة... لقد ماتت جميع الآلهة, ونريد الآن أن يعيش " السوبرمان " الإنسان الأعلى ".
9-زعم " نيتشه" أن الوجود له غاية ، وغاية الوجود هي " الصيرورة " أو " الدور السرمدي ". وهو يعني بهذا أن ينفي ما جاءت به الأديان من القول بالنعيم الدائم, والعذاب المقيم, وأن هذه الدنيا ستنتهي بدار خالدة أبداً لا تفنى, وحتى يحارب هذه الحقيقة الدينية, قال بنظرية " الدور السرمدي", وهي نظرية معروفة في التراث الثقافي اليوناني, وهي تقرر أن الموجودات جميعها تمر في دورات متتاليات صاعدات, تبدأ الدورة بالخلية الأولي, أو بالذرة, ثم تترقى وتتطور تصاعدياً, حتى تصل إلى أعلى ما يمكن أن تصل إليه الموجودات من ترق صاعد, ثم يفنى كل شيء تماماً, لتعود دورة أخرى من جديد وعلى نفس النمط, وتتكرر نفس الظروف والأحوال والموجودات... وهكذا في دورات دائمة سرمدية لا تنتهي .. قالوا: وهذه غاية الوجود.... وهذه النظرية جمع فيها القائلون بها من اليونان بين أمرين ظنوهما حقيقتين مسلمتين, أولهما: أن العالم الطبعي دائم أزلي أبدي, لا بداية له ولا نهاية, وثانيتهما: أن الوجود الشخصي متغير ولا يبقى على حال , ورأوا أنهم بذلك قد حلوا مشكلة الثبات والتغير في الوجود المادي الذي لا يؤمنون إلا به, فالعالم في مجموعه ثابت ودائم, لكن الأشياء والصور فيه متغيرة وصائرة من حال إلى حال, وقد اعتنق " نيتشه" هذه الفكرة الفاسدة التي تخلي عنها حتى أصحابها, وظن أنه بذلك وضع النهاية للدين وكل ما جاء به... لكنه زاد على الفكرة الإغريقية التي شرحناها, فكرة أخرى أضافها هو من عنده, وهي أن الأشياء التي تعود في الدورة التالية هي نفسها التي كانت في الدورة السابقة, حتى " نيتشه" والشعب الألماني بصفاته وسماته دون أي تغيير .
خامساً : نقد فلسفته :
1-ليس هناك فكر, وليست هناك فلسفة تخلو من نقد أو تقويم, لكن فلسفة " فردريك نيتشه" لا تنطبق عليها هذه القاعدة, فهي لا تحتاج إلى نقد أو تقويم, ليس لأنها تعلو على النقد, أو لأنها خالية من المآخذ, بل لأنها أقل قيمة, وأوضح بطلاناً, وأظهر سقوطاً وإسفافاً, وأبين ضلالاً وفساداً من أن تنقد, إن الفكر لكي يخضع للنقد لا بد أن يحتوي على حد أدني من العقل والمنطق, يجعله أهلاً لأن ينظر فيه العقلاء ويهتموا له, لكن فكر هذا الرجل قد فقد الحد الأدنى من العقل والمنطق, حتى أضحى خيالاً وأوهاماً هي في الواقع أحط من الخيال, وأسف من الأوهام.. إنه لا يقدم للناس أفكاراً وحقائق يقيم الأدلة على صدقها, بل يكتفي بأن يسرد أوهامه ويتجشأ خيالاته التي تنضح بالحقد والمقت لكل شيء في الوجود : الدين, والأخلاق, والقيم, والإنسان, والحق, والخير, والجمال, ولم يفلت شيء في الوجود من مقته وكراهيته وحقده, حتى نفسه التي بين جنبيه.
2-إن خيالاته وأوهامه التي يقدمها للناس على هيئة أفكار فلسفية, إنما هي خيالات وأوهام مريضة, لإنسان فاسد مريض, وقد كانت خيالاته وأوهامه جديرة بأن تذهب سدى, وأن ينبذها الفكر الإنساني كما نبذت الحياة صاحبها, لولا أن اليهود توسموا في هذا الفكر ما يفسد الإنسانية, ويلوث كل ما فيها من حق وخير وجمال, فأمسكوا بهذا الفكر ونشروه, فكان منه هذا الكم الهائل من الغثاء, والذي أضحى معدوداً من المذاهب الفكرية التي على الناس أن يدرسوها ويحللوها حتى يظهروا ما فيها من زيف وفساد فيجنبوا أنفسهم والآخرين ضررها ووباءها.. وإلا فكم من المجانين قادر على أن ينتج مثل هذا الهراء وأكثر.
3-إن " نيتشه"- كما قلنا- لم يقدم لنا فكراً منطقياً يقيم الدليل على صدقه, بل يكتفي بسرد أفكاره وتجشؤ أوهامه . إنه قدم خيالا ووهما لا فكرًا ، ومن ثم كانت جميع أفكاره من ألفها إلى يائها كمًا من التخيلات التي لا دليل عليها, ولا سند لها. سوى أنها إفرازات تكشف عن صفتين أساسيتين لصاحبها. أولاهما : كم هائل من الحقد والكراهية والمقت لكل شيء في الوجود., الدين والأخلاق والقيم والمجتمعات الإنسانية, إنه يمقت كل شيء حتى نفسه, ويصل مقته نفسه إلى التحريض المستمر على قتلها والقضاء عليها.. أليس قد ملأ فلسفته بتحريض الأقوياء على قتل الضعفاء والمرضى؟ ومن كان أشد منه ضعفاً ومرضاً؟ إن فكره يجعله أول المستحقين للقتل والتدمير وإخلاء المجتمع الإنساني منه.. إننا نمقت قتل الإنسان أخاه, لكنا نقول: ليت قوياً من الأقوياء في زمانه سمع مقالته مرة واحدة ونفذها في شخص واحد, ليت أحد الأقوياء تبرع وناب عن الإنسانية كلها في قتله, وتطهير المجتمع الإنساني منه ومن أفكاره.
ثانيتهما : جرأة مرضية اتسمت بقدر هائل من التبجح والتوقح والعدوانية, جعلته يتجشأ على الناس ويقذف في وجوههم بآرائه المريضة, وأفكاره المعتوهة كأنها حقائق مسلمة, ويعتدي على أقدس المقدسات, ويناقض البدهيات والفطريات دون أدنى قدر من الحرج . وهذه كلها شكلت أقوى الأدلة على جنون الرجل, وانقلاب الموازين عنده.
4-إن " نيتشه" أقام فلسفته وأفكاره على أساس من التعارض بين الذاتية والموضوعية, فقرر أن معارف الناس عن العالم الخارجي إنما هي أوهام متأثرة بذواتهم, ومغايرة للواقع, كذلك قرر أن الواقع مغاير لمعارف الناس. وإذا كان الفيلسوف قد وضع نفسه في كفة والعالمين في كفة, ثم أصدر حكمه منفرداً على جميع الناس أنهم واهمون, وأن علومهم ذاتية لا صلة لها بالواقع., نقول: إذا كان هو قد سمح لنفسه أن يفعل هذا؟ أو ليس من حق الناس أن يتخذوا منه نفس الموقف, ويحكموا عليه بمثل ما حكم به هو عليهم ؟ ومن ثم., فإن معاملة " نيتشه" بنفس منطقه هذا, وتطبيق تلك القاعدة التي جاء بها, من شأنه أن يزري بفكره كله, وأن ينسف فلسفته بجملتها ؛ لأنها- حسب قواعده- مجرد أوهام ذاتية لا صلة لها بالواقع, والواقع معارض لها ومغاير, وكل ما فيه مختلف عنها... فليس علينا- كي نهدم فكره من جذوره- إلا أن نعامله بفكره, ونطبق عليه مبادئ فلسفته.بل إنه أولى بذلك من غيره, لأنه إذا كان قد اتهم الأسوياء من الناس بأنهم واهمون, وأن أفكارهم وعقائدهم إنما هي خيالات وأوهام ذاتية لا صلة لها بالواقع., فماذا عنه هو الذي قضى حياته مريضاً مشلولاً شبه أعمى نصف مجنون, ثم وقع به الجنون المطبق قرابة الاثني عشر عاماً الأخيرة من حياته التي قضاها يتخبط في ظلام العمي والجنون؟ ليس من شك في أنه الأولى والأحق بصفة الواهم المتخيل الذي يعيش بعيداً عن الواقع, والذي لا يمت له بصلة.
5-إن الفيلسوف الحاقد قد أقام فلسفته على أنقاض كل ما هو خير وحق وجميل في هذه الحياة. إنه عاشق للشر والباطل وكل قبح وفساد, إنه ينفر ويحذر من كل ما هو خير وطيب وفاضل, ويرغب في كل ما هو شر وخبيث ودنس... إن أوضح الأدلة على فساد مذهبه أنه أخذ على عاتقه أن يقلب الحقائق, وأن ينقض القيم, وأن يحيل المجتمعات البشرية إلى ساحات للحرب, يقضي فيها الأقوياء على الضعفاء, ثم تستمر الحرب بين الأقوياء, حتى تتحول المجتمعات البشرية إلى أنقاض وخرائب يرتفع فوقها نعيق الغربان والبوم.
6-إن الرجل المريض بعقله يخلط بين الوسيلة والغاية, فالقوة التي ظل طوال حياته يتغنى بها ليست غاية في ذاتها, وإنما هي وسيلة, إن القوة تكون خيرة إذا ما استعملت في سبيل الخير, وتكون شريرة وقبيحة إذا ما استعملت في تحصيل الشر, أما القوة في ذاتها فلا توصف بخير ولا شر, ولا بفضيلة ولا رذيلة, وإنما يتوقف ذلك على الموضوع الذي تستعمل فيه, ولعلنا نتذكر هنا ما ورد في السنة الشريفة من ميزان توزن به القوة من حيث كونها خيراً أو شراً, حين مر على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم- رجل شاب قوى, يسرع في طريقه, فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو كان هذا في سبيل الله.- يقصدون قوة الفتى وشبابه وسرعته في السعي-, فأخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالميزان الصحيح للقوة حيث قال : إن كان قد خرج يسعى على أبوين كبيرين, فهو في سبيل الله, وإن كان قد خرج يسعى على نفسه ليعفها عن المسألة فهو في سبيل الله, وإن كان قد خرج بطراً ورياء فهو في سبيل الشيطان, أو كما قال صلى الله عليه وسلم , هذا هو الميزان الذي توزن الذي القوة, وقد اقتصر الرسول صلى الله عليه وسلم في ذم القوة على أن يكون صاحبها قد خرج كبراً ورياء ومفاخرة. فماذا لو علم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه خرج- كما يدعو نيتشه الأقوياء- ليقتل الضعفاء, ويروي الأرض بدماء المرضى ؟
7-إن الرجل المريض أراد أن بحول المجتمعات الإنسانية إلى مختبرات, وأن يحول الناس رجالاً ونساء إلى فئران تجارب وأن يلغي من حياة الناس العواطف والمشاعر ، حيث يدعو إلى أن تقوم العلاقات بين الرجال والنساء حسب قواعد جامدة, وبرامج باردة يضعها القائمون على الأمر, فيأتون برجل معين ويفرضونه على امرأة معينة, وكأن الناس قطيع من الأغنام قام عليها راع قاسي القلب, ميت الإحساس.. وبذلك تتحول المجتمعات إلى بيئات لا أثر فيها لعاطفة أو شعور, إن هذه وحدها كفيلة بأن تضرب المجتمع الإنساني في الصميم, وتحيله إلى أخس من مجتمع الحيوان الأعجم.
( المصدر : مذاهب فكرية معاصرة ، للدكتور محمود مزروعة ، ص 211-227) .
[/B]