-الشرح والتفسير
انطلاقا من ثنائية الإنسان والطبيعة يتم التمييز بين الشرح والتفسير (بالألمانية :فرشتيهنverstehen) وكلمة يشرح أصبحت تعني بشكل كامل أو يزيل اللبس تماما . بل وأصبحت لها أبعاد تفكيكية، فهي تعني تعريف أسباب الظاهرة وردها إلى مبدأ عام واحد أو عدة مبادئ .كما أنها قد تعني يفضح أو ينزع السر عن. وهذه الأبعاد ليست واضحة في اللغة العربية بالقدر الكافي ، إلا أنها أكثر وضوحا في اللغة الانجليزية فكلمة يشرح باللغة الانجليزية هي اكسبلين explain من الفعل اللاتيني اكسبلاناري explanare بمعني يُسطح الشئ أو يسويه أو يجعله مستويا (كلمة بلينplane الانجليزية تعني السطح المستوي) هذا على عكس فعل انتربريت (من الفعل اللاتيني انتربريتاريinterpretari وهو يعني يفاوض) ففعل انتربريت يعني يبرر أو يقوم بدور المترجم ومن الواضح أن كلمة يشرح تدور في إطار المرجعية الموضوعية:يسطح ويسوي حتى يستوي مع معيارية برانية أما كلمة يُفسّر فهي لا تنفي الأبعاد الذاتية الاجتهادية لعملية الإدراك. وهذا التدخل بين التفسير (بمعنى الاجتهاد في فهم الظاهرة وجعلها مفهومة إلى حد ما من خلال التعاطف معها وفهمها أو تفهمها من الداخل ) والشرح بمعنى إدخال الظاهرة في شبكة السببية الصلبة المطلقة والقوانين الطبيعية وكشف العلاقة الموضوعية بين السبب والنتيجة ) يعود إلى أن العلوم الطبيعية والرياضة بنماذجها العقلانية الموضوعية المادية تلقي بظلالها الكثيفة على العلوم الانسانية .فالاستنباط (العقلاني) هو منهج العلوم الرياضية والاستقراء (التجريبي) هو منهج العلوم الطبيعية وكلاهما يحاول أن يصل إلى درجة عالية من الدقة والعمومية في نتائجه ومن ثم يحاول بعض علماء الدراسات الانسانية تبني المناهج السائدة في العلوم الطبيعية والرياضية (العلوم الدقيقة) ويحاولون تفسير الظواهر الاجتماعية والانسانية تمام مثلما تفسر الظواهر الطبيعية بطريقة كمي فيتبنون نماذج رصد موضوعية عقلانية مادية ،تُسقط الأبعاد الجوانية والخاصة والكيفية للظاهرة الإنسانية ،وتهمل الدوافع والوعي وتُزال كل المسافات والثغرات والثنائيات والخصوصيات ،حتى نصل إلى مايُتصور أنه التفسير الموضوعي الكامل أو شبه الكامل للظاهرة ،أي إن دراسة سلوك الإنسان لايختلف عن دراسة سلوك اليرقات فكلاهما يُدرس من خلال سلوكه البراني وحركته الخاصة (ومع هذا ينبغي الاشارة إلى ان العلوم الطبيعية نفسها قد انسلخت عن هذه الرؤية وأصبحت أكثر احتمالية في رؤيتها أنها أخذت بالتدريج تكون لنفسها عالما خاصا بها مؤلفا من كيانات عقلية ورياضية لاتستطيع أن تجد بها وجودا في عالم الظواهر،ويبدو أن الفرض العلمي ، الذي كان يمثل الخطوة الثانية التي تلي خطوة الملاحظة والتجربة والذي كان يشير إلى إلى مدركات حسية أصبح في المنهج العلمي المعاصر فرضا صوريا لايشير إلى مدركات حسية ويأتي سابقا على الملاحظة والتجربة لكن الفرض العلمي لم يعد تعميقا لوقائع تجريبية –كما كان شائعا في الماضي_ وإنما هو نتاج العبقرية العلمية الخلاقة التي تأتي به بأي طريقة أو بأي منهج , وما يهم في الفرض العلمي مدى مقدرته على أن تجعل هذا العالم مفهوما ومعقولا أي أن الحاجة إلى حقائق صلبة أو سببي صلبة لم تعد موجودة) .
وفي العالم الغربي ،اكتشف كثير من العلماء سذاجة ،بل وتفاهة ،الرؤية التجريبية والوضعية (الموضوعية /المادية) التي تصر على الحقائق الصلبة وعلى السببية الصلبة والمطلقة، والتي ذهبت إلى أن قوانين التاريخ والمجتمع الإنسانيين تشبه قوانين الطبيعة (بالمعنى الساذج لفكرة القانون العلمي ) وحاولت اكتشاف هذه القوانين وصياغتها بطريقة "علمية" دقيقة كمية،واصر هؤلاء العلماء الذين رفضوا مثل هذه الرؤية الساذجة على ضرورة التمييز بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية وعلى ضرورة رفض فكرةوحدة العلوم وواحديتها , ومن مظاهر هذه الثورة محاولة التمييز بين الشرح من جهة والفهم (بمعنى التفهم والتفسير الاجتهادي ) من جهة أخرى .
و قد بدأ إستخدام الفعل الإلماني فرشتين (Verstehen) بمعنى يفهم أو يتفهم في مقابل إركليرين (Erklaren) بمعنى يشرح من خلال ملاحظة الحوادث وربطها بالحوادث الأخرى حسب قوانين الطبيعية, و ذلك لوصف عملية فهم السلوك الإنساني المركب من خلال التعاطف و إدراك الدوافع الإنسانية ( في مقابل شرح الأسباب ). و قد استخدام هذا المصطلح كلٌّ من فلهلم ديلتاي, وجورج زيميل , و كارل ياسبرز , و ماكس فايبر و آخرون, و قال ياسبرز : (( إن الحياة النفسية الإنسانية لا يمكن دراستها من الخارج , كما أن الحقائق الطبيعية لا يمكن دراستها من الداخل , الأولى يمكن فهمها من خلال النفاذ النفسي , أما الثانية فيمكن شرحها من خلال دراسة العلاقة الموضوعية المادية)).
و قارن ياسبرز بين دراسة حجر يسقط من عل (من جهة) و دراسة علاقة تحارب الإنسان في طفولته ببعض الأمراض النفسية في شبابه و شيخوخته (من جهة أخرى ) , فالأول لا يمكن أن نراه إلا بشكل براني ( في إطار قانون الجاذبية ) , أما الثاني فيتطلب عمليات فكرية و عقلية أكثر تركيباً .
و لكن المصطلح أساساً ارتبط باسم ماكس فيبر , فقد بين فيبر الفرق بين الرصد الموضوعي المتلقي المادي و علميات التفسير الإجتهادية حين قال :إن دراسة حظيرة دجاج أمر جدُّ مختلف عن دراسة المجتمع الإنساني فعلم اجتماع الدجاج لن يدرس سوى أنماط سلوكية متكررة من الخارج يمكن فهمها في إطار المثير المادي و الاستجابة السلوكية, و نحن لا نعرف شيئاً عن العالم الجواني للدجاج و عواطفه و افكاره و تأملاته إن كان هناك مثل هذا العالم , أما في حالة المجتمع الإنساني , فنحن مزودون بدقر كبير من المعرفة عن العالم الجواني للإنسان ( نتوصل اليه من خلال مغرقتنا لذواتنا و من خلال ألفتنا للطبيعة البشرية )وعن الدوافع الداخلية المركبة و علام المعنى الذي ينبع منه السلوك الإنساني.
و لذا إذا كان من الممكن شرح سلوك الدجاج في إطار شبكة السببية الصلبة المطلقة , ومن خلال الملاحظة البرانية المباشرة , فلن يكون هذا كافياً بالنسبة للبشر , و المحاولة الوضعية السلوكية لوصف عالم الإنسان من خلال سلوكه البراني محكوم عليها بالفشل و محكوم عليها بإن تظل سطحية تافهة , فهي بإصرارها على ضرورة الشرح البراني الموضوعي ستستبعد قضايا إنسانية أساسية مثل انشغال الإنسان بمصيره و تجربته في الكون و إحساسه بالاغتراب ,و لكن هذا لا يعني أن السلوك الإنساني لا يخضع لأية سببية , وإنما يعني أن الرصد البراني لا يكفي , و المطلوب هو عملية تفسير من خلال الفهم العميق و التعاطف المستمر و الإدراك المبدع لتركيبية الدوافع الإنسانية و غموضها .
Bookmarks