وفي القسم الثالث من هذا الكتاب النفيس عقد المؤلف فصلاً بعد آخر حلقة في سلسلة قضية التعدد , والتثليث التي حللها تحليلاً دقيقاً , واستعرض جميع جزئياتها , وآخر هذه الأجزاء هو موضع الجوهر , والعرض وإطلاقهما , واستخدامهما في مسائل الألوهية عند الفلاسفة ,وأهل الكتاب , وعلماء المسلمين وعلاقتها بالذات , والصفات .
فقد نقل الواسطة بين شيخ الإسلام , والنصارى تسميتهم الباري – تعالى – بالجوهر , فناقش الشيخ هذه المسألة من وجوه بين فيها أن هذه التسمية من قبل النصارى هي أقل المآخذ خطورة في عقيدتهم , وأنها جاءت من قبل الفلاسفة , وأما اللغة العربية فليست هذه التسمية أصلية فيها .
ثم بين موقف الرسل – عليهم السلام – وأتباعهم من ذلك فقال – رحمه الله - : " إن نفس اسم الله يتضمن ذاته المقدسة بصفاته – سبحانه - , وليست صفاته خارجة عن مسمى اسم , ولا زائدة على مسمى اسمه " .
ثم كشف الشيخ وهماً يقع فيه أولئك , وهو أنهم قدروا ذاتاً مجردة عن الصفات مع أن هذا التقدير خيالي فقط , ولا يمكن أن يوجد في الواقع , والمناقشة إذا لم تكن ذهنية عينية فإنها تؤدي إلى الشطط والضلال .
ثم بين عدم تصريح الرسل بهذه التسمية فكان ينبغي لهم إن كانوا متبعين للرسل ألا يخترعون شيئاً في عقيدتهم من تلقاء أنفسهم .
ثم ذكر الشيخ أن عمدتهم في إطلاق الجوهر هو زعمهم أن هناك نوعين من الجواهر: جوهراً لطيفاً , وجوهراً كثيفاً . مع أنهم لم يثبتوا ذلك بالدليل , ثم جزم بأنهم لن يجدوا دليلاً لو أرادوا ذلك , ثم ناقشهم في تمثيلهم بجوهر الضوء , وأمثاله وأنه مثال محتمل لأكثر من معنى , وكل معنى له حكم مستقل فلا حاجة لهم فيه .
ثم أوضح – رحمة الله – التناقض بين عباراتهم التي تقرر أن الموجود إما جوهر وإما عَرَض , وأن الجوهر القائم بذاته , والعرض هو لقائم بغيره , وبين إقرارهم بأنه – تعالى – موجود حي ناطق له حياة, ونطق؛لأن الحياة والنطق لا يقومان بأنفسهما ؛ بل بغيرهما ثم تظهر ثمرة هذا البحث الدقيق في هذا الفصل عندما تطبق نتائجه على قضية الابن (المؤله ) عندهم , فإن كان – في نظرهم – جوهراً فيكون هناك جوهر الأب , وجوهر الابن , وهذا يبطل قولهم : إنه إله واحد , وأنه أحدي الذات , ثلاثي الصفات , وأنه واحد بالجوهر ثلاثة بالأقنوم ..." .
وإن قالوا بأنه عرض فقد صرحوا بأن الرب جوهر تقوم به الأعراض مع أنهم قد أنكروا هذا في كلامهم , وقالوا : " هو جوهر لا تقوم به الأعراض " .
ثم عقد فصلاً هاماً وموسعاً بشأن مقالة النصارى بعدم ضرورة وجود هذا الدين _ الإسلام _ وهو يناقش جزءاً من كتاب النصارى – أهل قبرص – فأجاب عليهم باثني عشرة وجهاً بين فيها ضعف رأيهم , وسقوطه بشأن تقسيم الشرائع إلى شريعتين : شريعة عدل , وشريعة فضل , وأفاد – رحمه الله – بأن الشرائع ثلاث: شريعة عدل فقط , وشريعة فضل فقط , وشريعة تجمع العدل والفضل وهي الشريعة الكاملة , واتخذ من سورة البقرة أمثلة على ما يقول .
ثم أوضح وجوها من عدم الكمال في التوراة والإنجيل بالنسبة للإسلام , ومع هذا فلم يتبعوا لا التوراة ولا الإنجيل ؛ بل أحدثوا شريعة خارجة عنهما , ويغلب عليها الطابع البشري التأليفي , وحولوها إلى ما يشبه الوثيقة كنصب الصور , وتعظيمها والتماثيل ونحو ذلك , وقرر كذلك أنه لو افترض أن شريعة الكتابين كافية فإنما يكون ذلك لو كانت محفوظة , وهذا غير ما هو حاصل , وبين أيضاً غلبة الشدة على شريعة التوراة , وغلبة اللين على شريعة الإنجيل , وأما شريعة القرآن فجاءت معتدلة جامعة بين هذا وهذا , وختم الفصل بقول بعضهم : بعث موسى بالجلال , وبعث عيسى بالجمال , وبعث محمد صلى الله عليه وسلم بالكمال .
وعندما أوردوا أدلة ينسبونها إلى الأنبياء بين الشيخ من وجوه عدة أن احتجاجهم بتلك المنقولات ليس لهم فيه حجة , ففي هؤلاء من لم تثبت نبوته نسبة هذا الكلام المنقول إليه , ولا بد من التسليم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم قبل التسليم بنبوة غيره ...إلخ ماقال.
ثم عقد فصلاً أثبت فيه الفضل والكمال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولشريعته وأمته , وبين أنه لا يمكن أن يحتجوا بشيء من كلام محمد صلى الله عليه وسلم أوغيره من الأنبياء على ما يخالف دين المسلمين من دينهم ؛لأنه لا يمكن أن يقوم على الباطل دليل صحيح , وأما ما وقع على خلاف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو إما منسوخ , أو مما حرفوا معناه وتأويله , وإن كان المحرف بلفظه قليلاً , وهذا التحريف واقع إما عمداً , وإما سبب الترجمة أو في تفسير والشرح أو التأويل , ويمتنع قطعاً أن يخبر نبي بشيء ويخبر محمد عليه الصلاة وسلم بنقيضه .
وقد انتقل بعد ذلك إلى قضية كبيرة هي قضية البشارات , حيث أن من النصارى من يجحد بشارات النبوات بمحمد ويثبتها للمسيح فقط . وعلى هذا فقد قرروا أن من لم تبشر به النبوات فليس بنبي , وقد ناقش هذه الفكرة , وحللها , واستدل بالأدلة الكثيرة العقلية والنقلية من القرآن والسنة والنصوص الكتابية والآثار المتعددة على إثبات بشارة الأنبياء والكتب السابقة بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد سرد مجموعة من الحجج المنطقية القوية وحشداً كبيراً من النصوص الكتابية , وشرحها وبين اتفاقها مع واقع الرسول صلى الله عليه وسلم وواقع الإسلام .
فقد أورد بشارات من العهد القديم , من مزامير داود من نبوة أشعيا ومن نبوة دانيال , ثم من العهد الجديد , من سفر يوحنا , ومن سفر متى , ومن كلام شعمون ومن كلام المسيح عليه السلام , ثم أخذ في شرح عبارات مختارة من هذه النقول , ثم أردف ذلك بنصوص وأمثلة من أخبار القرآن الكريم الغيبية , واستحالة معرفة غير رسول بها , وامتناع حصوله عليها من مصدر غير إخبار الله – سبحانه – وذلك من خمسة أوجه . وقد مر في أثناء ذلك بما يزعمه الفلاسفة بشأن النبوة فدحضه وأبطله , وكذلك بمزاعم المشركين حيال النبوة – أيضاً – فردها رداً منطقياً ونقلياً .
ثم أنشأ فصلاً واسعاً أثبت فيه اعتراف المشركين وأهل الكتاب في قرارة نفوسهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم , وإن أنكروها أو أنكرها بعضهم بلسانه , بالإضافة إلى الأدلة الواقعية الكثيرة التي تؤيد ذلك .
يتبع ..
Bookmarks