السعي الحثيث لبيان طرق التحمل والحديث.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. اما بعد

عن زيد بن ثابت قال : قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه.." [أخرجه أبو داود في كتاب العلم].

اهتم المسلمون بالحديث النبوي اهتماما كبيرا، تجلى في حرصهم على حفظه ونقله وتبليغه منذ الصدر الأول للإسلام، منتهجين منهجا علميا يتسم بالموضوعية، هادفين منه خدمة السنة من حيث بيانها، وتمييز صحيحها من ضعيفها. فنشأ من ذلكم الحرص، وذلكم المنهج علوم كثيرة منها: علم غريب الحديث، وعلله، والجرح والتعديل، وتاريخ الرواة، وتحمل الحديث، وطرقه، وكيفية أداءه.

وقد كان لي جواب مختصر جدا وقديم ، الظاهر أنه كان ردا عن استفسار إلكتروني ، عمره حوالي السبع سنوات، وقعتُ عليه في ورقة بمكتبتي -كعادتي في الكتابة الورقية قبل الإلكترونية- فرأيت أهمية تفصيله وبيانه وتحسينه، فأصبح مقالة تقرب المبتدئ من العلم، وتساعد الباحث، وتُعرّف المخالف.

i- أهلية تحمل الحديث:

1- تعريف التحمل والأداء :

التحمل: هو أخذ الحديث عن الشيخ بطريق من طرق التحمل. اما الأداء: فهو رواية الحديث وتبليغه.
ولأخذ الحديث وتبليغه لا بد من توفر الأهلية، والمقصود بها عند علماء الحديث: صلاحية المرء لسماع الحديث وتلقيه وتحمله، وصلاحيته لروايته وتبليغه وأداءه.
ومن ثم كانت اهلية الراوي: أهلية تحمل، وأهلية أداء، ولكل واحدة منهما شروط وهي:

2- التمييز شرط في أهلية التحمل:

التمييز هو الذي يعقل به الناقل ما يسمعه ويضبطه، وهو شرط اتفق العلماء عليه في أهلية التحمل، غير أنهم اختلفوا في السن التي يصح فيها السماع، لتوقف ذبك على التمييز، ولاختلاف الصبيان فيه.
ويمكن حصر قيد سن التمييز في أقوال ثلاثة:

أ- قول يرى أن سن السماع، خمس سنين. معتمدين في ذلك على حديث محمود بن الربيع رضي الله عنه يقول فيه: "عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مَجّة مجها في وجهي، وأنا ابن خمس سنين من دلو" [ أخرجه البخاري في كتاب العلم : باب متى يصح سماع الصغير ].

فالصحابة والتابعون وأهل العلم من بعدهم قبلوا رواية صغار السن من الصحابة، كالحسن والحسين، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس، من غير أن يميزوا بين ما تحملوه قبل البلوغ وبعده.

ب- قول الحافظ موسى بن هارون الحمال الذي ذهب فيه إلى أن سماع الصبي يصح إذا فرق بين البقرة والحمار.

ج- اعتبار التمييز بفهم الصبي للخطاب، ورده الجواب، ولو كان سنه دون الخمس.

وهكذا كان المتقدمون رحمهم الله يحبذون حضور الأطفال حلقات العلم، تشجيعا لهم، وتأكيدا على صحة السماع قبل البلوغ، وكان لصنيعهم هذا أثر في تحصيل العلم، والتسابق الذي أثمر العبقريات في الصبيان الذين أصبحوا أساطين العلم فيما بعد.

3- شروط أهلية الأداء:

يقول ابن الصلاح في مقدمته: " أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على انه يشترط فيمن يحتج بروايته أن يكون عدلا ضابطا لما يرويه ". ومن هذا النص نستشف شروط أهلية الأداء وهي:

أ- العدالة: ملكة تحمل صاحبها على التقوى، واجتناب الأدناس، وما يخل بالمروءة عند الناس.

ب- الإسلام: أجمع العلماء على عدم قبول رواية الحديث وتبليغه من الكافر، لأن الله تعالى أمرنا بالاستيثاق من خبر الفاسق، وأحرى الكافر.

ج- البلوغ: وهو مناط التكليف، وتحمل مسؤولية التزام الواجبات وترك المحظورات، فلا تقبل رواية من لم يصل سن التكليف.

د- الضبط: وهو الحفظ في السطور وفي الصدور، من حين التحمل إلى وقت الأداء. ويريد المحدثون بالضبط أن يكون راوي الحديث: متيقظا، غير مغفل، حافظا إن حدث من حفظه، ضابطا لكتابه إن حدث منه.
ومعيار ضبط الراوي، والمقياس الذي قرره أهل العلماء هو : المقارنة بين حديث الراوي وحديث الثقات الضابطين، فإن وافقهم في روايتهم فضابط، وإن وجد كثير المخالفة لهم تبين اختلال ضبطه، ومن ثم لم يؤخذ بحديثه.

وقد "سئل شعبة بن الحجاج: متى يترك حديث الرجل؟ فقال: إذا روى عن المعروفين ما لا يعرفه المعروفون، وإذا اكثر الغلط، واذا اتهم بالكذب، وإذا روى حديث غلط مجتمع عليه، فلم يهتم نفسه فيتركه، طرح حديثه. وما كان غير ذلك فارو عنه" [ المحدث الفاصل/ فقرة 433 ].

ii- طرق التحمل

قال القاضي عياض : "اعلم أن طريق النقل ووجوه الأخذ وأصول الرواية على أنواع كثيرة ويجمعها ثمانية ضروب وكل ضرب منها له فروع وشعوب" [الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع] .

ووجوه أخذ الحديث وطرق تحمله عن الشيوخ ثمانية وهي :

1- السماع : هو أن يقرأ الشيخ الحديث من حفظه أو من كتاب، والحضور يسمعون لفظه، سواء أكان المجلس للإملاء أم لغيره. وهذا الطريق هو الذي تلقى بواسطتها المحدصون الأوائل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

2- العرض أو القراءة على الشيخ: اتبع هذا المسلك بعد انتشار تدوين الحديث وشيوع كتابته. ويتم العرض كما يلي:
- القراءة على الشيخ من حفظ العارض، ومن كتاب بين يديه.
- سماع قراءة الغير من كتابه، أو حفظه، والشيخ يسمع، ويمسك بالأصل هو أو ثقة غيره. والعرض طريق أجاز الجمهور تلقي الحديث بواسطتها، وعلى صحة الرواية بها.

3- الإجازة: ويقصد بها إذن الشيخ للطالب أن يروي عنه حديثا أو كتابا أو كتبا، من غير أن يسمع ذلك منه ، أو يقرأ عليه كأن يقول له: أجزت لك أو أجزتك في رواية صحيح البخاري عني.
وقد أجاز العلماء الرواية بهذه الطريق شريطة علم المجيز بما يجيز، وكون المجاز له من أهل العلم، لأنه ترخيص وتوسيع يتأهل له أصحاب العلم لمسيس حاجتهم إليها.

4- المناولة: ومعناها أن يعطي الشيخ للتلميذ كتابا أو صحيفة ليقوم برواية ما أعطاه إياه، والعمدة في صحة الرواية بالمناولة ما رواه البخاري معلقا في : كتاب العلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كتب لأمير السرية عبد الله بن جحش كتاباً وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به صلى الله عليه وسلم، فلما سار يومين فتح الكتاب فإذا فيه : إذا نظرت في كتابي فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف وترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم" واحتج به البخاري على صحة الرواية بالمناولة. والمناولة أنواع، أعلاها: المناولة المقرونة بالإجازة.

5- المكاتبة: وصورتها أن يكتب المحدث إلى الطالب شيئا من حديثه ويبعثه إليه، وهو نوعان:
- مكاتبة مقرونة بالإجازة ولها قوة وصحة في الرواية بها.
- مكاتبة مقرونة بالإجازة، وتجوز الرواية بها على المشهور.

6- الإعلام: وهو أن يعلم الراوي الطالب، أن هذا الحديث أو هذا الكتاب قد سمعه من فلان من غير ان يأذن له في روايته عنه. ويرى كثير من المحدثين والفقهاء جواز الرواية بذلك، لأن التحمل كما صح بالإجازة - لما فيها من أخبار إجمالا- فإنه يصح بالإعلام كذلك، لما فيه من إشارة إلى كتاب أو حديث بعينه، وهو بذلك يتضمن الإجازة بالرواية دلالة لا تصريحا.

7- الوصية: وصورتها أن يوصي المحدث لشخص، أن تدفع له كتبه عند موته او سفره. وهي طريق ضعيف من طرق التحمل، غير أن بعض السلف رخص للموصى له أن يروي عن الموصي تبعا لتلك الوصية، لأن بها نوعا من الإذن.

8- الوجادة: وهي مشتقة من وَجَدَ يَجدُ. والمقصود بها: أن يعثر المحدث على كتاب أو حديث أو صحيفة بخط شخص بإسناده، مثل رواية عمرو بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن أبيه عن جده، ربما هي كتاب وجده. قال الذهبي في ميزان الاعتدال : " وبعضهم تعلل بأنها صحيفة رواها وِجادةً، ولهذا تجنبها أصحاب الصحيح ". وللرواية بالوجادة يجب مراعاة ما يلي:
- الوثوق بأن الخط هو خط فلان هذا الذي تنسب إليه إليه الصحيفة، سواء عاصره أو لم يعاصره، لقيه أو لم يلاقه.
- الوثوق بنسبة الكتاب نسبة صحيحة، إلى صاحبه بشهادة أصحاب الخبرة، أو بشهرة الكتاب إلى صاحبه، أو بسند الكتاب، أو غير ذلك مما يؤكد نسبته إلى صاحبه.

وهذا الطريق من طرق التحمل لا تقوم به الحجة إلا بمراعاة ما تقدم، أما في مسألة العمل بما روي وجادة فهناك اختلاف بين الأئمة، فجل المالكية وغيرهم يرون عدم العمل به، أما المتأخرون فتسامحوا في الأخذ به لأن الطلاب لم يعودوا بحاجة إلى الرحلة، وأصبح لهم الحق أن يرووا كل ما يجدون من الكتب والمخطوطات، سواء التقوا بأصحابها أو لم يلقوهم.

iii- صيغ أداء الحديث:

قال الإمام الأوزاعي : "ما أجزت لك وحدك. فقل فيه خَبّرَني. وما قرئ على في جماعة أنت فيهم، فقل فيه : خبرنا. وما قرأت علي وحدك. فقل فيه : أخبرني وما أجزته لجماعة أنت فيهم. فقل فيه أخبرنا وما قرأته عليك وحدك فقل فيه : حدثني. وما قرأته على جماعة أنت فيهم. فقل فيه حدثنا" [الرامهرمزي-المحدث الفاصل/ فقرة 459) .]
يبرز النص كيفية أداء الحديث وفق طريقة تحمله، وذلك باستعمال عبارات خاصة أطلق عليها علماء الحديث: صيغ الأداء.

والمقصود بها العبارات التي تؤدى بها الاحاديث تبعا لطرق التحمل، ويشترط في هذه العبارات أن تتطابق مع الصفة التي تحمل بها الراوي حديثه. وصيغ أداء الحديث هي :

1- الصيغة المشعرة بالتحمل عن طريق السماع:

تستعمل في هذه الصيغة العبارات التالية: سمعت، حدثنا، أخبرنا، خبرنا، أنبأنا، عن، قال، حكى، إن فلانا قال . وهو ما سار عليه أكثر رواة الحديث الأقدمون. وأرفع العبارات هي: سمعتُ، ثم حدثنا وحدثني.

2- الصيغة المشعرة بالتحمل عن طريق العرض:

وأحسن عباراتها : قرأت عن فلان، أو قرئ على فلان، وأنا أسمع، حدثنا فلان قراءة عليه ونحو ذلك. وجوز البخاري والزهري والكوفيون وجل الحجازيين استعمال: حدثنا وأخبرنا، في باب العرض.
إلا أن مسلما والشافعي ميزا بينهما، ومنعا " حدثنا " في هذا المسلك، وفضلا إطلاق عبارة " أخبرنا " وهو التفريق الذي درج في مصطلح الحديث.

3- الصيغة الدالة على التحمل بالإجازة أو المناولة:

يرى الجمهور على ان الأداء هنا يتم بعبارة تشعر بذلك مثل: أخبرنا فلان إجازة، أو أجازني فلان.
وفيما تناوله: أخبرنا فلان مناولة أو أجازني، وقال بعضهم: يقول في المناولة "عن" أو "قال"، والإمام الأوزاعي خصص الإجازة بقول "خبرنا".

4- الصيغة الدالة على التحمل بالمكاتبة:

استعمل علماء الحديث لهذه الصيغة العبارات التالية : كتب إلي فلان قال: حدثنا ..." أو أخبرني فلان مكاتبة أو كتابة.

5- الصيغة الدالة على التحمل بالإعلام أو الوصية:

ويقول الراوي في أداء ما تحمل بالإعلام : أعلمني شيخي أن فلانا حدثه، وهذا النوع من الأداء لم يرو به أحد من المتقدمين إلا ابن جريج.
ولمن تحمل بالوصية عليه أن يقول: أوصى إلي فلان أو أخبرني فلان وصية أو وجدت فيما أوصى إلى فلان أن فلانا حدثه بكذا وكذا.

6- الصيغة المشعرة بالوجادة:

يرى المحدثون أنه لأداء ما تحمله الراوي بالوجادة يجب استعمال: وجدت في كتاب فلان، أو وجدت بخط فلان: حدثنا فلان. وقد يقول قرأت بخط فلان : حدثنا فلان.

تلك يا رعاك الله وأصلحك هي صيغ الحديث كما اصطلح عيها علماء الحديث، والدالة على صور التحمل وطرقه، وهي ليست عبارات مضى زمانها، فوجب تركها وإهمالها، بل لهذه المصطلحات أهمية بالغة في الوقوف على الأحاديث المقبولة والأحاديث المردودة.
لأن هذه الصيغ تنير لنا السبيل لمعرفة الطريق التي حمل بها الراوي الحديث الذي يجعله نقاد الحديث تحت مجهر البحث، فنتبين صحته أو فساده، وما هي درجة الصحة، وماذا اختل من شروط القبول. كما أنها تبين درجة التحمل، لأن الراوي إذا تحمل الحديث بطريق، وأداه بصيغة أعلى من تلك الطريق، اعتبر عند أهل الصنعة مدلسا، بل قد يتهم بالكذب، مثل : محدث وجد كتابا وروى منه مستعملا عبارة : سمعت أو حدثنا.

هنا تنتهي المقالة، وإلا فالحديث طويل ذو شجون وحسبك أيها الفاضل من القلادة ما يحيط بالعنق، فهي في الصدور أوقع، و خيرُ الكلامِ ما قلَّ وجلَّ ودلَّ ولم يُمَلَّ.

وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين.