الحمد لله رب العالمين .. والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ..
الزعم بأن الآية الثالثة من سورة الزمر ( لا يمكن ان نستنبط منها ان هؤلاء كانوا يعبدون الآلهة لكى يتقربوا الى الله ) زعم باطل نبين بطلانه فيما بعد إن شاء الله.
أما الزعم بأن هذا الاستنباط ( يعتبر استنباط سطحي لا يقول به الا من لم يتعمق في فهم آيات القرآن الكريم ) فهو زعم فيه سوء أدب واتهام لعلماء المسلمين وأئمتهم على مر العصور، لأن جميعهم رضى الله عنهم وأرضاهم استدلوا بظاهر هذه الآية على أن أكثر طوائف العرب وقت البعثة أقرت بالخالق، وأنهم إنما صوروا الأصنام لترمز للشفعاء الذين يشفعون لهم عند الله فى جلب نفع أو دفع ضر، فالزعم بأن ما استنبطه علماء المسلمين وأئمتهم على مر العصور هو ( استنباط سطحى لا يقول به الا من لم يتعمق في فهم آيات القرآن الكريم ) زعم ناقص الأدب مع ورثة محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه اتهام ظاهر لهم بأنهم لم يتعمقوا فى فهم القرآن. وإذا كان علماء المسلمين وأئمتهم سطحيين لا يتعمقون فى فهم القرآن، فغيرهم من أمة المصطفى أولى بالسطحية وعدم التعمق، فالزعم يحمل فى طياته دعوى سطحية أمة محمد صلى الله عليه وسلم على مر الأزمان المتعاقبة .. سطحية فهمها لكتاب ربها ! .. فأين صحابة محمد صلى الله عليه وسلم ؟ وأين التابعون ؟ وأين المسلمون وعلماؤهم طوال أربعة عشر قرنـًا ؟ .. هل كانوا كلهم يتلون كتاب ربهم دون فهم أو تعمق ؟! .. تالله إنها لإحدى الكبر !
ألا فليتق مسلم ربه، وليمسك لسانه عن ورثة محمد صلى الله عليه وسلم، وليلجم نفسه عن مثل هذه الاتهامات.
========================================
والحق مع أئمة المسلمين وعلمائهم، فالآية صريحة فى اعتقاد عباد الأصنام بوجود الخالق، وقد دل على ذلك غيرما آية من كتاب الله عز وجل.
قال تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } العنكبوت 61
وقال : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } العنكبوت 63
وقال : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } لقمان 25
وقال : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } الزمر 38
وقال : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ } الزخرف 9
وقال : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } الزخرف 87
وقال : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } يونس 31
ولذلك كانوا إذا لبوا قالوا : ( لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك ).
فالاستدلال بقوله تعالى { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } على عدم إنكارهم للخالق هو عين التعمق فى كتاب الله وتدبره. كما قال جل شأنه : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } يونس 18
========================================
فأما الزعم بأنهم كانوا إذا أُفحموا زعموا ذلك كذبًا، فلا يصح لغياب دليل ذلك الزعم، ولأن القرآن يستخدم إقرارهم بتوحيد الخالق ليحتج عليهم بتوحيد الإله، كما سنبين إن شاء الله.
========================================
وأما اتهام الله لهم بالكذب، فى مثل { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } وأشباه ذلك، فليس لأنهم ادعوا خالقًا وهم لا يؤمنون بذلك، ولكن لأنهم زعموا أن قصدهم التقرب لله، فهذا كذبهم، لأنهم ما قصدوا التقرب لله فى الحقيقة، وإنما قلدوا ملة الأسلاف بغير علم، كما قال تعالى { إن هى إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان }.
========================================
وأما الاستدلال على إنكارهم للخالق بقوله تعالى { أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ . وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ . وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ . وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } فلا يصح، لأن التفكر فى مخلوقات الله لا يثبت وجود الخالق فقط، بل يثبت قدرته وعلمه وحكمته وعظمته أيضًا، وثبوت هذه الصفات تثبت استحقاقه وحده للألوهية من ناحية، كما تثبت قدرته على البعث والحساب. ولم يكن المطلوب من الكافرين مجرد الإيمان بوجود الخالق، وإنما طولبوا بإخلاص العبادة له ، والعمل ليوم الحساب. ولذلك قال الزمخشرى : ( والمعنى أفلا ينظرون إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق حتى لا ينكروا اقتداره على البعث ). وقال ابن عطية : ( ثم أقام تعالى الحجة على منكري قدرته على بعث الأجساد بأن وقفهم على موضع العبرة في مخلوقاته ). وقال أبو السعود : ( استئناف مسوق لتقرير ما فُصّل من حديث الغاشية، وما هو مبني عليه من البعث الذي هم فيه مختلفون، بالاستشهاد عليه بما لا يستطيعون إنكاره .... أي أينكرون ما ذكر من البعث وأحكامه ويستبعدون وقوعه من قدرة الله عز وجل فلا ينظرون إلى الإبل التي هي نصب أعينهم .... والمعنى أفلا ينظرون نظر التدبر والاعتبار إلى كيفية خلق هذه المخلوقات الشاهدة بحقية البعث والنشور ليرجعوا عما هم عليه من الإنكار والنفور ويسمعوا إنذارك ويستعدوا للقائه بالإيمان والطاعة ).
========================================
وأما قوله تعالى { يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ } فهى مدنية أصلاً، وسياقها مختلف عما نحن بصدده، إذ يتحدث عن قتال المشركين. قال تعالى فى سورة التوبة : { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (9)}.
========================================
وأما الاستدلال بتعبير { من دون الله } على إنكارهم للخالق، فلا يصح؛ لأن التعبير مستخدم مع كل من أشرك بالله حتى مع عباد المسيح الذين لا ينكرون الخالق. فلو جاز هذا الاستدلال لجاز لعباد الصليب الاحتجاج على القرآن بحجة أنهم لا يعبدون المسيح { من دون الله } وإنما يعبدونه مع الله، ومعلوم بطلان ذلك. وإنما جاز مع جميع طوائف المشركين التعبير { من دون الله } لأن كل من أشرك بالله تركه الله وما أشرك به، فكأنه لم يعبد الله أصلاً. ونظير هذا قوله تعالى { لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ }، فليس لأحد موالاة الكافرين بحجة أنه يواليهم (مع) المؤمنين وليس ( من دون ) المؤمنين، وإنما التعبير { من دون المؤمنين } ينبه على أن من تولى الكافرين لم يكن مواليًا للمؤمنين حقًا، لأن من والى أحدًا لا يصح أن يوالى عدوه الذى يريد به الشر.
========================================
وأما قوله تعالى { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى . وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى } فليس حجة على إنكارهم للخالق، بل هو حجة على اعترافهم به؛ لأن الأصنام الثلاثة المذكورة كان المشركون يدعون أنها بنات الله، وتمام الآيات من سورة النجم : { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) }. قال ابن عطية : ( ووقف الله تعالى الكفار على هذه الأوثان وعلى قولهم فيها؛ لأنهم كانوا يقولون هي بنات الله، فكأنه قال : أرأيتم هذه الأوثان وقولكم هي بنات الله ألكم الذكر وله الأنثى ؟ أي النوع المستحسن المحبوب هو لكم وموجود فيكم، والمذموم المستثقل عندكم هو له بزعمكم ؟ ). وقال ابن كثير : ولهذا قال تعالى : { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى } ثم قال تعالى : { ألكم الذكر وله الأنثى } أي أتجعلون له ولدا وتجعلون ولده أنثى، وتختارون لأنفسكم الذكور ؟ فلو اقتسمتم أنتم ومخلوق مثلكم هذه القسمة لكانت { قسمة ضيزى } أي جورا باطلة، فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جورا وسفها ؟).
========================================
وأما قول الكفار { من يحيى العظام وهى رميم } فليس فيه إنكارهم للخالق، بل نفس آيات السياق تؤكد اعترافهم به. وتمام الآيات آخر سورة يس : { أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)}.
فالسائل منكر للبعث لا للخالق، فاحتج الله بما يقر به السائل من أن الله هو الخالق، على ما ينكره من البعث، وضمن سبحانه الحجة فى حكاية السؤال أولاً، وهى من طريقة القرآن العجيبة فى الرد على الشبه أثناء حكايتها وقبل روايتها : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا .. وَنَسِيَ خَلْقَهُ .. قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ }. ولذلك قال بعدها : { قل يحييها الذى أنشأها أول مرة } وهو ما يقر به السائل، وإلا لكان الله يحتج عليه بما لا يقر به، وهذا ممتنع.
قال السعدى : ( وهذه الآيات الكريمات فيها ذكر شبهة منكري البعث والجواب عنها بأتم جواب وأحسنه وأوضحه. فقال تعالى : { أو لم ير الإنسان } المنكر للبعث أو الشاك فيه أمرًا يفيده اليقين التام بوقوعه، وهو { أنا خلقناه } ابتداء { من نطفة } ثم تنقله في الأطوار شيئا فشيئا حتى كبر وشب وتم عقله واستتب { فإذا هو خصيم مبين } بعد أن كان ابتداء خلقه من نطفة، فلينظر التفاوت بين هاتين الحالتين، وليعلم أن الذي أنشأه من العدم قادر على أن يعيده بعدما تفرق وتمزق من باب أولى. { وضرب لنا مثلا } لا ينبغي لأحد أن يضربه، وهو قياس قدرة الخالق بقدرة المخلوق، وأن الأمر المستبعد على قدرة المخلوق مستبعد على قدرة الخالق، فسر هذا المثل بقوله { قال } ذلك الإنسان { من يحيي العظام وهي رميم } أي هل أحد يحييها ؟ استفهام إنكار، أي لا أحد يحييها بعدما بليت وتلاشت. هذا وجه الشبهة والمثل، وهو أن هذا أمر في غاية البعد على ما يعهد من قدرة البشر، وهذا القول الذي صدر من هذا الإنسان غفلة منه ونسيان لابتداء خلقه، فلو فطن لخلقه بعد أن لم يكن شيئا مذكورا فوجد عيانا، لم يضرب هذا المثل، فأجاب تعالى عن هذا الاستبعاد بجواب شاف كاف فقال { قل يحييها الذي أنشأها أول مرة } وهذا بمجرد تصوره يعلم به علما يقينا لا شبهة فيه أن الذي أنشأها أول مرة قادر على الإعادة ثاني مرة، وهو أهون على القدرة إذا تصوره المتصور { وهو بكل خلق عليم } هذا أيضا دليل ثان من صفات الله تعالى، وهو أن علمه تعالى محيط بجميع مخلوقاته في جميع أحوالها في جميع الأوقات، ويعلم ما تنقص الأرض من أجساد الأموات وما يبقى ويعلم الغيب والشهادة، فإذا أقر العبد بهذا العلم العظيم علم أنه أعظم وأجل من إحياء الله الموتى من قبورهم. ثم ذكر دليلا ثالثا فقال { الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون } فإذا أخرج النار اليابسة من الشجر الأخضر الذي هو غاية الرطوبة مع تضادهما وشدة تخالفهما، فإخراجه الموتى من قبورهم مثل ذلك. ثم ذكر دليلا رابعًا فقال { أو ليس الذي خلق السماوات والأرض } على سعتهما وعظمهما { بقادر على أن يخلق مثلهم } أي أن يعيدهم بأعيانهم { بلى } قادر على ذلك، فإن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس { وهو الخلاق العليم } وهذا دليل خامس، فإنه تعالى الخلاق الذي جمع المخلوقات متقدمها ومتأخرها وصغيرها وكبيرها، كلها أثر من آثار خلقه وقدرته، وأنه لا يستعصي عليها مخلوق أراد خلقه، فإعادته للأموات فرد من أفراد آثار خلقه، ولهذا قال { إنما أمره إذا أراد شيئا } نكرة في سياق الشرط فتعم كل شيء { أن يقول له كن فيكون } أي في الحال من غير تمانع { فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء } وهذا دليل سادس، فإنه تعالى هو الملك المالك لكل شيء، الذي جميع ما سكن في العالم العلوي والسفلي ملك له، وعبيد مسخرون ومدبرون، يتصرف فيهم بأقداره الحكيمة وأحكامه الشرعية وأحكامه الجزائية، فإعادته إياهم بعد موتهم لينفذ فيهم حكم الجزاء من تمام ملكه، ولهذا قال { وإليه ترجعون } من غير امتراء ولا شك؛ لتواتر البراهين القاطعة والأدلة الساطعة على ذلك. فتبارك الذي جعل في كلامه الهدي والشفاء والنور ).
========================================
وأما قوله تعالى فى سورة الفرقان : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) } فلم ينكروا الخالق، وإنما أنكروا الاسم تعنتًا ومغالطة. قال ابن عطية : ( ولما ذكر في هذه الآية {الرحمن} كانت قريش لا تعرف هذا في أسماء الله، وكان مسيلمة كذاب اليمامة تسمى بالرحمن، فغالطت قريش بذلك، وقالت : إن محمدًا يأمر بعبادة الرحمن اليمامة، فنزل قوله تعالى { وإذا قيل لهم } الآية). وقال ابن كثير : ( ثم قال تعالى منكرا على المشركين الذين يسجدون لغير الله من الأصنام والأنداد { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن } أي لا نعرف الرحمن، وكان ينكرون أن يسمى الله باسمه الرحمن، كما أنكروا ذلك يوم الحديبية حين قال النبي صلى الله عليه وسلم للكاتب : ( اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ). فقالوا : لا نعرف الرحمن ولا الرحيم، ولكن اكتب كما كنت تكتب : باسمك اللهم . ولهذا أنزل الله تعالى { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى } أي هو الله وهو الرحمن ).
========================================
يتبع إن شاء الله ..
Bookmarks