النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: عقيدة التحاكم بين الجفاء والافتراء دعوة للقراءة والتحليل

  1. افتراضي عقيدة التحاكم بين الجفاء والافتراء دعوة للقراءة والتحليل

    عقيدة التحاكم
    بين
    الجفاء و الافتراء


    جمعه ورتبه / طالب رضوان الله
    المحتويات
    الموضوع الصفحة
    مقدمة .................................................. ............. 6
    المبحث الأول ( ماهية التحاكم وما يختلط به من مفاهيم ) ............... (8ـ37)
    ـ ما هية التحاكم ؟ ................................................. 8
    ـ المعنى اللُغوى .................................................. . 8
    ـ المعنى الإصطلاحى ................................................. 10
    ـ شرح تعريف التحاكم........................................... ... 13
    ـ بيان اشتراط النزاع والخصومة فى التحاكم .......................... 14
    ـ بيان القبول والرضا فى التحاكم .................................... 16
    ـ ملحوظة : التحاكم يُبنى على عمل الظاهر لا الباطن.................. 18
    ـ المفاهيم التى تختلط بمفهوم التحاكم .................................. 18
    ـ الحكم والقضاء .................................................. .. 19
    ـ الحكم والفتوى .................................................. .. 23
    ـ التحاكم والحكم .................................................. . 24
    ـ التحاكم والتحكيم .................................................. . 25
    ـ التحاكم والتصالح .................................................. .. 27
    ـ التحاكم والاستجارة........................................ ......... 30
    ـ التحاكم والتظلم .................................................. . 32
    ـ التحاكم والاستشفاع........................................ ....... 33
    ـ مثال لبيان ما تقدم من فروق........................................ 35
    ـ صور خارجة عن معنى التحاكم ...................................... 37

    المبحث الثانى : الحاكمية وعبادة رب البرية............................ ( 38_48)
    ـ التحاكم وتوحيد الربوبية ........................................... 38
    ـ التحاكم وتوحيد الأسماء والصفات.................................. 39
    ـ التحاكم وتوحيد الإلوهية .......................................... 44
    ـ التحاكم شرط فى الإيمان ........................................... 47

    المبحث الثالث : شبهات حول الموضوع .......................... (94_110)
    ـ توطئة هامة .................................................. ......... 49
    ـ ماهو الطاغوت ؟................................................. .... 49
    ـ ما هى صفة الكفر بالطاغوت ؟........................................ 52
    ـ ملخص الشبهات المثارة حول الموضوع ............................... 53
    ـ الشبهة الأولى : تعريف التحاكم بأنه العدول ........................... 57
    ـ الشبهة الثانية : كفر دون كفر ....................................... 66
    ـ الشبهة الثالثة : الاستضعاف العام فى ديار الكفر بمنزلة الضرورة المبيحة للكفر 72
    ـ الشبهة الرابعة : الإيمان الباطن لايزول بمجرد مخالفات الظاهر ............. 75
    ـ الشبهة الخامسة : الضرورات الخمس التى أمرنا الله بالمحافظة عليها ......... 78
    ـ الشبهة السادسة : حلف الفضول ........................................ 80
    ـ الشبهة السابعة : حادثة يوسف عليه السلام ............................. 85
    ـ الشبهة الثامنة : حادثة أخوة يوسف .................................... 89
    ـ الشبهة التاسعة : كلام الإمام الشيبانى .................................. 94
    ـ الشبهة العاشرة : كلام الإمام ابن القيم ................................. 102

    المبحث الرابع : قطوف من كلام أهل العلم حول المسألة ............ (111_117)
    ـ العماد بن كثير .................................................. .. 111
    ـ أبو بكر الرازى............................................ ........ 111
    ـ الإمام البقاعى .................................................. .. 111
    ـ ابن قيم الجوزية........................................... .. 112
    ـ سليمان بن سحمان......................................... 112
    ـ حمد بن عتيق.............................................. .. 113
    ـ محمد بن إبراهيم آل الشيخ.................................... 113
    ـ محمد الأمين الشنقيطى ......................................... 114

    المبحث الخامس : مسألة هامة وفيها بيان حدود الإكراه .......... (118_126)
    ـ عرض المسألة وتحديد معالمها ..................................... 118
    ـ متى يجوز التحاكم للطاغوت ..................................... 120
    ـ تعريف الإكراه........................................... ........ 122
    ـ أنواع الإكراه........................................... ......... 122
    ـ حد الإكراه المُلجىء.......................................... .... 123

    الخاتمة .................................................. ............ 127

    بسم الله الرحمن الرحيم

    مُـقدمـة
    الحمد لله الذي لا يغفر أن يُشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء … والصلاة والسلام على إمام الموحدين ، المأمور بتوحيد ربِّ العالمين ، والبراءة من الشرك والمشركين وبعد ...
    فلما كانت مسألة التحاكم للقوانين الوضعية ، من مظاهر الشرك الجلية ، فى مجتمعاتنا الحالية ، ومن المسائل محسومة الحكم من قِبل ربِّ البرية ، ولكن لتلاطُم أمواج الفتن فى أيامنا هذه ـ نسألُ الله السلامة والعافية ـ ظهرت خلافات حول هذه القضية فى بعض صورها ؛ لذا أردتُ التطرق إلى هذا الأمر مبيناً ما أدين به لرب العالمين ؛ خشيةَ أن أكون من الهالكين ، فالمسألة ليست من الفروع التى يسع فيها الخلاف بل من صميم دعوة الأنبياء والمرسلين ، التى بلَّغوها عن رب العالمين ، فوجبت على جميع المكلفين ، من هنا كان استنادى إلى إرث السماء ـ الكتاب والسنة ـ هو الأساس ، وما ذكرته من كلام أهل العلم فعلى سبيل الاستئناس.... ثم أننى لا أدعى الإجتهاد أو الاعتداد ؛ لأمور لعل أهمها : أن القضية ليست محل اجتهاد فى النصوص أو اعتداد بالمنصوص مع مخالفة أهل الخصوص ، فعملى فى البحث ليس إلا بيان لما يفهمه أى موحد مريد للحق من كلام الله ورسوله مع تجميع ما يؤيد ذلك من كلام المحققين من أهل العلم قديماً وحديثاً ...
    ولا أُطيل على القارىء فأترك له زمام فِكره ، ليدور بعقله وخُلده فى ثنايا هذا الموضوع الهام ، الذى سينتظم الحديث فيه ـ إن شاء الله تعالى ـ
    من خلال المباحث التالية :
    (1) ماهية التحاكم وما يختلط به من مفاهيم ؟.
    (2) الحاكميــة وعبادة رب البريـــة .
    (3) شبهات حول الموضـــــــوع .
    (4) قطوف من كلام أهل العلم حول المسألة .
    (5) أخيراً : مسألة هامة وفيها بيان حدود الإكراه .







    المبحث الأول
    ماهية التحاكُم وما يختلط به من مفاهيم

    أولا : ماهية التحاكم ؟:
    المعنى اللُغَوى :
    حكم .. تأتى بمعنى ( منع ) ، قال الشاعر " جرير " :
    أبَني حَنيفةَ أحْكموا سُفهاءَكم ..... إنّي أخافُ عليكُمُ أن أغْضَبا
    أحكموا سفهاءكم فى الشطر الأول من البيت بمعنى امنعوهم من التعرض لي ، وسُمِّىَ الحاكمُ بين الناسِ حاكماً ؛ لأنه يمنع الظالم من الظلم ، قال الأصمعى : ( أصل الحكومة : رد الرجل عن الظلم ) ، وقال ثعلب عن ابن الأعرابي : قيل للحاكم حاكم لأنه يمنع من الظلم .
    ويقال حَكَّمْتُ فلاناً .. بمعنى فوضت الأمر إليه ، وأطلقت يده فى الأمر .. والتحكِّيم فى اللغة يأتى على ثلاثة أوجه :
    الوجه الأول : المنع .. فيقال حَكَّمْتُ الرجل تحكِّيماً أى منعته مما أراد .
    الوجه الثانى : التفويض وإطلاق اليد .. فيقال حَكَّمْتُ فلاناً فى مالى أى أطلقتُ إليه الحُكْمَ فيه .
    الوجه الثالث : تصيير الغير حاكماً .. فيقال حَكَّمنا فلاناً فى الخصومة أى صيرناه حَكمَاً فيها .
    فالتحكيم من المنظور اللغوى يعنى : تفويض الحُكم إلى الغير ؛ لفصل الخصومة ومنع الظلم .
    أما التحاكُم فيأتى بمعنى التقاضى ، فيقال حكَمَ ، يحكُم ، حُكماً .. بمعنى : قضى ، يقضى ، قضاءاً ، قال ابن سيده : ( الحكم : القضاء ) ، وكذا قال الأزهرى .. ويقال عن يوم القيامة : يوم الفصل ، ويوم القضاء ، ويوم الحُكم .
    ويقال حاكَمَهُ إلى الحاكِم أو إلى القاضى .. بمعنى دعاه إلى حُكمه وقضاءِه ، وتحاكما .. بمعنى احتكَّما ، والمحاكمة .. بمعنى المخاصمة إلى الحاكِم ، كما قيل " فى بيته يؤتى الحكَم " أى الحاكِم ، والحاكِم من نُصِّبَ للحُكم بين الناس ، أو من يُختار للفصل بين المتنازعين .
    وفى الحديث " وإليك حاكمت " أى رفعت الحُكم إليك ولا حُكم إلا لك ، وقيل إليك خاصمت فى طلب الحُكم وإبطال من نازعنى .
    فالتحاكُم من المنظور اللغوى يعنى : طلب الحُكم من الغير ؛ لفصل الخصومة ومنع الظلم.
    وهذا ملخص ما ذكره أهل اللغة عن التحاكم .
    انظر : ـ لسان العرب لابن منظور ، المؤسسة المصرية للتاليف والنشر ، جـ15 ، صـ 31 .
    ـ القاموس المحيط للفيروزآبادى ، دار بيروت للنشر ، ط 1389هـ ، المجلد4 ، صـ 98 .
    ـ مختار الصحاح للرازى ، المطبعة الأميرية بالقاهرة ، ط 3 ، جـ1، صـ228 .
    ـ البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم المصرى ، باب التحكيم ، المطبعة العلمية ، ط1 ، جـ7 ، صـ 27 .
    ـ المعجم الوسيط ، مجمع اللغة العربية ، مطبعة مصر ، ط 1380هـ، جـ 1 ، صـ 198 .

    مما سبق نستنتج أن :
    ـ التحكيم يعنى : تفويض الحُكم للغير .
    ـ التحاكم يعنى : طلب الحُكم من الغير .. والفرق بينهما دقيق .
    ـ الحُـكـم هو القضاء ويعنى : فصل الخصومة ومنع الظلم .


    المعنى الإصطلاحى ( الشرعى ) :
    ليس هناك ثمة فرق كبير بين كل من المعنى اللُغَوى والإصطلاحى لمفهوم التحاكم ،
    قال تعالى : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) النساء " .
    وجاء فى الحديث الصحيح ، أن عبد الله ابن عباس رضى الله عنهما قال : " كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَهَجَّدَ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: اللّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ أَنْتَ الْحَقُّ ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ ، وَلِقَاؤكَ حَقٌّ ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ ، وَالنَّارُ حَقٌّ ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ ؛ اللّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ ، وَبِكَ آمَنْتُ ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ ، وَبِكَ خَاصَمْتُ ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ ، فَاغْفِرْلي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ ، أَنْتَ إِلهِي لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ " .

    هذا الحديث متفق عليه ، إذ رواه الشيخان البخارى ومسلم فى صحيحيهما ، فأخرجه الإمام البخاري فى : كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى ( يريدون أن يبدلوا كلام الله ) ، وأخرجه الإمام مسلم بن الحجاج فى : كتاب صلاة المسافرين وقصرها ، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه .

    وجاء فى عمدة القارى شرح صحيح البخارى ، عند شرح حديث ابن عباس المتقدم : " ( .. وإليك حاكمت .. ) حاكمت أي كل من جحد الحق حاكمته إليك وجعلتك الحاكم بيني وبينه ، لا غيرك مما كانت تُحَاكِم إليه الجاهلية من صنم وكاهن ونار ونحو ذلك ، والمحاكمة رفع القضية إلى الحاكم . أهـ
    وجاء فى النهاية فى غريب الأثر ، لابن الأثير : " ومنه الحديث [ وبكَ حاكَمْتُ ] أي رَفَعْتُ الحُكم إليك فلا حُكم إلاَّ لك . وقيل : بكَ خاصمْتُ في طَلَب الحُكم وإبْطالِ من نازَعَنِي في الدين وهي مُفَاعَلَةٌ من الحُكْم " اهـ . ( كذا قال : ابن منظور فى لسان العرب ، والزبيدى فى تاج العروس )
    وقال ابن حجر فى فتح البارى : " قَالَ اِبْن بَطَّال : لَا يَجُوز لِلْقَاضِي الْحُكْم إِلَّا بَعْد طَلَب حُكْم الْحَادِثَة مِنْ الْكِتَاب أَوْ السُّنَّة " اهـ ( انظر : فتح البارى شرح صحيح البخارى ، للحافظ ابن حجر العسقلانى ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب ما جاء فى اجتهاد القضاة ، جـ 20 ، صـ 375 ) .
    من هنا كان التحاكم من المنظور الشرعى هو : طلب حُكم جهة معينة ؛ لفصل خصومة أو مظلمة .. وهو بذلك يعنى التقاضى والاستفتاح ، والاستفتاح من الناحية اللغوية والشرعية يأتى بمعنى التحاكم وهو طلب الحكم .
    قال تعالى : " رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) الأعراف "
    وقال تعالى : " وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) سورة إبراهيم "

    جاء فى تفسير الطبرى لآية الأعراف المتقدمة ما نصه : " حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن مسعر، عن قتادة ، عن ابن عباس قال : ما كنت أدري ما قوله : ( ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) ، حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول:"تعاالَ أفاتحك" ، تعني : أقاضيك .
    وحدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) ، يقول : اقض بيننا وبين قومنا .
    وحدثني المثنى قال ، حدثنا ابن دكين قال ، حدثنا مسعر قال ، سمعت قتادة يقول : قال ابن عباس : ما كنت أدري ما قوله : ( ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) ، حتى سمعت ابنةَ ذي يزن تقول: " تعالَ أفاتحك ".
    وحدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله: ( افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) ، أي : اقض بيننا وبين قومنا بالحق .
    وحدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور قال ، حدثنا معمر ، عن قتادة : ( افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) : اقض بيننا وبين قومنا بالحق .
    وحدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي ، أما قوله : ( افتح بيننا ) ، فيقول : احكم بيننا .
    حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال الحسن البصري : افتح احكم بيننا وبين قومنا ، و( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ) ، [الفتح: 1] حكمنا لك حكمًا مبينًا .
    وحدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : " افتح " : اقض.
    وحدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير قال ، حدثنا مسعر ، عن قتادة ، عن ابن عباس قال : لم أكن أدري ما ( افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) ، حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها :" انطلق أُفاتحك " .

    وجاء فى تفسير المحرر الوجيز لابن عطية لآية سورة إبراهيم المتقدمة ما نصه : " و « الاستفتاح » طلب الحكم ، والفتاح : الحاكم " اهـ .

    وهذا التعريف للتحاكم بأنه : " طلب حُكم جهة معينة ؛ لفصل خصومة أو مظلمة " من أوضح التعريفات التى تبرز مدلول كلمة التحاكم ، وتفرِّق بينه وبين الحكم والقضاء والفتوى من ناحية ، كما تفرِّق بينه وبين التحكيم والتظلم والتصالح والاستجارة والاستشفاع من ناحية أخرى.
    وسيتم بيان ذلك من خلال بعدين رئيسين هما :
    البُعد الأول : شرح تعريف التحــاكم وبيان دلالاته .
    البُعد الثانى : بيان المفاهيم التى تختلط بمفهوم التحاكـم .


    البُعد الأول : شرح تعريف التحــاكم وبيان دلالاته وشروطه :
    (1) شرح التعريف :
    التحاكم هو : " طلب حُكم جهة معينة ؛ لفض خصومة أو مظلمة " .
    ـ طلب ... كلمة تدل على الاختيار والإرادة .
    ـ حكم ... قولنا حكم ؛ لنفرق بين التحاكم وما يختلط به من مفاهيم مثل :
    التصـالح : الذى يعنى طلب الصلــــــح وتحقيق التراضى .
    التظـلم : الذى يعنى طلب رفع الظلم عن النفس ، أو عن الغير .
    الاستشفاع: الذى يعنى طلب الشفاعـــــــــــة .
    الاستجارة: التى تعنى طلب الجـــــــوار والمنعة والآمان .
    ـ جهة ... كلمة تنسحب على أى هيئة أو منظمة فردية كانت أو جماعية .
    ـ جهة معينة ... لفظة تدل على الترك والعدول ، فوصف الجهة بأنها معينة ، يدل على ترك جميع الجهات والعدول عنها ، إلى هذه الجهة على سبيل التعيين والتحديد ، كما يدل على تفضيل هذه الجهة والرضا بها وبما يَصدُر عنها من أحكام وتشريعات .
    ـ لفض خصومة أو مظلمة ... عبارة تدل على اشتراط حدوث خصومة ومُدَاراءة فى التحاكم ؛ لأنه قد عُلم بالاستقراء فى دنيا الناس أن التحاكم لايحدث إلا فى حالة وجود تنازع وخصام .. وهذا ما سنزيده إيضاحاً فى السطور التالية من خلال استعراض كلام أهل العلم .

    (2) بيان اشتراط النزاع والخصومة فى التحاكم :
    قال الله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) سورة النساء "
    وقال تعالى : " وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ (10) سورة الشورى .
    قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ عند تفسيره لآية النساء المتقدمة ، ما نصه : " وهذا أمر من الله، عز وجل، بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة، كما قال تعالى: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } [الشورى:10] فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولهذا قال تعالى: { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي: ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ }
    فدل على أن من لم يتحاكم في مجال النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر.
    وقوله: { ذَلِكَ خَيْرٌ } أي: التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله. والرجوع في فصل النزاع إليهما خير { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } أي: وأحسن عاقبة ومآلا كما قاله السدي وغير واحد. وقال مجاهد: وأحسن جزاء. وهو قريب. " اهـ
    جاء فى المبسوط للسرخسى : " عَنْ عَامِرٍ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، اخْتَصَمَا فِي شَيْءٍ فَحَكَّمَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَتَيَاهُ فِي مَنْزِلِهِ ، قَالَ زَيْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَلَّا أَرْسَلْت إلَيَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ ، وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّهُ كَانَ يَقَعُ بَيْنَهُمْ مُنَازَعَةٌ وَخُصُومَةٌ .. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَكُونُ قَاضِيًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خُصُومَةٍ حَكَّمَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " اهـ ( انظر : المبسوط ، للسرخسى ، كتاب أدب القاضى ، صـ 14 )
    وجاء فى موطن آخر من نفس المصدر : " كَانَ بَيْنَ عُمَرَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مُدَارَأَةٌ بَيْنَهُمَا فِي شَيْءٍ فَحَكَّمَا بَيْنَهُمَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَأَتَيَاهُ فَخَرَجَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إلَيْهِمَا وَقَالَ لِعُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَلَا تَبْعَثُ إلَيَّ فَآتِيكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : " فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحُكْمُ " فَأَذِنَ لَهُمَا فَدَخَلَا وَأَلْقَى لِعُمَرَ وِسَادَةً فَقَالَ : عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذَا أَوَّلُ جَوْرِكَ . وَكَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ زَيْدٌ لِأُبَيٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَوْ أَعْفَيْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْيَمِينِ فَقَالَ عُمَرُ يَمِينٌ لَزِمَتْنِي ، فَلَأَحْلِفُ فَقَالَ : أُبَيٌّ رَحِمَهُ اللَّهُ : بَلْ يُعْفَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَيُصَدِّقُهُ . وَالْمُرَادُ بِالْمُدَارَأَةِ الْخُصُومَةُ وَاللَّجَاجُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ) وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ ثَابِتِ بْنِ شَرِيكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ( لَا يُدَارِي ، وَلَا يُمَارِي ) أَيْ لَا يُلَاجي ، وَلَا يُخَاصِمُ " اهـ( انظر : المبسوط ، للسرخسى ، كتاب القاضى ، باب الحكمين ، صـ 354 )
    ملحوظة : قد يُقال ان المسلم مُطالب بالتحاكم لشرع الله فى كل كبيرة وصغيرة ، وإن لم تتواجد ثمة خصومة أو نزاع ... ويمكن الرد على ذلك ، بأنه لابد من خصومة فى التحاكم وإن كانت الخصومة عبارة عن نزاع داخلى لدى الفرد يجعله متردد بين أمرين فى فهم مسألة شرعية او حكم شرعى ، الأمر الذى ينتج عنه نزاع داخلى يدفع هذا الفرد إلى التحاكم ، إما إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهذا هو تحاكم المسلمين ، وإما إلى مقالات الفلاسفة والصابئة وغيرهم من أهل الشرك والإلحاد وهذا هو تحاكم المشركين .
    يقول ابن تيمية رحمه الله : " وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا } . فَذَمَّ الَّذِينَ أُوتُوا قِسْطًا مِنْ الْكِتَابِ لَمَّا آمَنُوا بِمَا خَرَجَ عَنْ الرِّسَالَةِ وَفَضَّلُوا الْخَارِجِينَ عَنْ الرِّسَالَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهَا كَمَا يُفَضِّلُ ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ يُفَضِّلُ الصَّابِئَةَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالدُّوَلِ الْجَاهِلِيَّةِ - جَاهِلِيَّةِ التُّرْكِ وَالدَّيْلَمِ وَالْعَرَبِ وَالْفُرْسِ وَغَيْرِهِمْ - عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ وَكَمَا ذَمَّ الْمُدَّعِينَ الْإِيمَانَ بِالْكُتُبِ كُلِّهَا وَهُمْ يَتْرُكُونَ التَّحَاكُمَ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيَتَحَاكَمُونَ إلَى بَعْضِ الطَّوَاغِيتِ الْمُعَظَّمَةِ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَمَا يُصِيبُ ذَلِكَ كَثِيرًا مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ وَيَنْتَحِلُهُ فِي تَحَاكُمِهِمْ إلَى مَقَالَاتِ الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ أَوْ إلَى سِيَاسَةِ بَعْضِ الْمُلُوكِ الْخَارِجِينَ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ مُلُوكِ التُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ " اهـ ( انظر : مجموع الفتاوى ، كتاب التفسير ، فصل مسائل التكفير والتفسيق من مسائل الأسماء والأحكام ، جـ 12 ، صـ 339 ) .
    (3) بيان القبول والرضا فى التحاكم :
    قال الله تعالى : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) "
    جاء فى تفسير الإمام الرازى لهذه الآية ما نصه : " المسألة الثالثة : مقصود الكلام ان بعض الناس أراد أن يتحاكم إلى بعض أهل الطغيان ولم يرد التحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم . قال القاضي : ويجب أن يكون التحاكم إلى هذا الطاغوت كالكفر ، وعدم الرضا بحكم محمد عليه الصلاة والسلام كفر ، ويدل عليه وجوه : الأول : انه تعالى قال : { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } فجعل التحاكم إلى الطاغوت يكون ايمانا به ، ولا شك أن الايمان بالطاغوت كفر بالله ، كما أن الكفر بالطغوت إيمان بالله . الثاني : قوله تعالى : { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } إلى قوله : { وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً } [ النساء : 65 ] وهذا نص في تكفير من لم يرض بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام " اهـ.
    انظر يرحمنى الله وإياك كيف فرَّق أهل العلم بين التحاكم للطاغوت والرضا بحكم الطاغوت ، وبيَّنوا أنَّ كل واحدٍ منهما كفرٌ مستقلٌ بذاته .

    جاء فى المبسوط للسرخسى : " وَإِذَا حَكَّمَ رَجُلَانِ حَكَمًا فِي خُصُومَةٍ بَيْنَهُمَا مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ فَتَجَاحَدَا وَقَالَا لَمْ تَحْكُمْ بَيْنَنَا وَقَالَ الْحَاكِمُ بَلْ حَكَمْتُ ، فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِ الْحُكُومَةِ " اهـ ( انظر : المبسوط ، للسرخسى ، كتاب القاضى ، باب الحكمين ، صـ355 ) .
    والمعنى الظاهر من كلام السرخسى رحمه الله : أن الحكم يقع صحيحاً ، وتحاكمهما يثبُت صريحاً ، ولا عبرة بجحودهما للحكم وعدم رضاهما به بعد صدوره .
    وأصرح من ذلك ماجاء فى دُرَرَ الْحُكَّامِ فِي شَرْحِ غُرَرِ الْأَحْكَامِ : " لِأَنَّهُ مُحَكَّمٌ مِنْ جِهَتِهِمَا فَيَتَوَقَّفُ حُكْمُهُ عَلَى رِضَاهُمَا فَإِنْ قِيلَ التَّحْكِيمُ يَثْبُتُ بِاتِّفَاقِهِمَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ الْإِخْرَاجُ إلَّا بِاتِّفَاقِهِمَا قُلْنَا شَرْطُ وُجُودِ الشَّيْءِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ شَرْطًا لِبَقَاءِ ذَلِكَ الشَّيْءِ كَمَا فِي الْبِنَاءِ ( لَا بَعْدَهُ ) أَيْ لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ بَعْدَ حُكْمِهِ لِأَنَّهُ صَدَرَ عَنْ وِلَايَةٍ عَلَيْهِمَا كَالْقَاضِي إذَا قَضَى ثُمَّ عُزِلَ لَا يَبْطُلُ قَضَاؤُهُ " اهـ ( دُرَرَ الْحُكَّامِ فِي شَرْحِ غُرَرِ الْأَحْكَامِ ، لمُحَمَّدِ بْنِ فَرَامُرْزِ بْنِ عَلِيٍّ ، باب التحكيم ، فصل ما تقضى فيه المرأة ، جـ 8 ، صـ 399 )
    من هنا يتضح أن الرضا فى مسألة التحاكم يكون قبل صدور الحكم ؛ لأنه مرتبط باختيار جهة فض النزاع ، والتى تحدث فى بداية عملية التحكيم ، وأن الحكم إذا صدر من الجهة المُحكِّمة التى وقع عليها الاختيار صار حكمها مُلزِماً ، وتعيَّن إنفاذه دون أن يتوقف ذلك على رضا الخصمين أو أحدهما
    يقول الشوكانى رحمه الله : " فقد قررنا لك فيما سبق أن التحكيم جار مجرى إلزام النفس بالقبول لما حكم به فلا يجوز الرجوع عنه " اهـ ( انظر : السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار ، محمد بن على الشوكانى ، جـ4 ، صـ304 )
    ويقول فى موضع آخر من نفس الكتاب : " لأن الخصمين ألزما أنفسهما بقبول ما حكم به المحكم بينهما فكان هذا الإلزام هو سبب اللزوم " اهـ ( المصدر السابق ، جـ4 ، صـ 206)

    (4) ملحوظة : التحاكم يُبْنَى على عمل الظاهر لا الباطن :
    جاء فى تَقْرِيبَ الْأَسَانِيدِ وَتَرْتِيبَ الْمَسَانِيدِ : " قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بْنُ الْعَرَبِيُّ جَاءُوا مُحَكِّمِينَ لَهُ فِي الظَّاهِرِ وَمُخْتَبِرِينَ فِي الْبَاطِنِ هَلْ هُوَ نَبِيُّ حَقٍّ أَوْ مُسَامِحٌ فِي الْحَقِّ فَقَبِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إفْتَاءَهُمْ وَتَأَمَّلَ سُؤَالَهُمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْكِيمَ جَائِزٌ فِي الشَّرْعِ انْتَهَى " ( تَقْرِيبَ الْأَسَانِيدِ وَتَرْتِيبَ الْمَسَانِيدِ ، زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْعِرَاقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، جـ 8 ، صـ152 )
    فتأمل عقيدة أهل العلم والتحقيق ، رزقك الله الفهم والتوفيق ، فهذا الإمام العَلم أبو بكر بن العربى القرطبى الأندلسى ، قاضى قضاة الأندلس فى زمانه ، المتوفى فى القرن السادس الهجرى ، يُبرهن بجلاء على فساد معتقد أهل الكفر والإرجاء ، فيقول رحمة الله عليه ، مُفسِّراً لحال اليهود الذين نزل فيهم قول الله تبارك وتعالى : " وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) سورة المائدة " .. أقول تأمل أرشدك الله ، كيف قال عنهم ابن العربى رحمه الله : جَاءُوا مُحَكِّمِينَ لَهُ فِي الظَّاهِرِ وَمُخْتَبِرِينَ فِي الْبَاطِنِ .. أى أن حقيقة أمرهم التى أضمروها فى مكنون نفوسهم اختبار هذا النبى لا التحاكم إليه إذ أن حكم المسألة ثابت عندهم فى التوراة ، ورغم ذلك وصفهم الله سبحانه وتعالى بظاهر فعلهم وهو أنهم متحاكمين ومحكِّمين .
    البُعد الثانى : المفاهيم التى تختلط بمفهوم التحاكم :
    ويتم بيانها من خلال استعراض الفرق بين كلاً من ..
    (1) الحــكم والقضـاء . (2) الحكــم والفتوى .
    (3) التحـاكم والحكـم . (4) التحـاكم والتحكيم .
    (5) التحـاكم والتصالح . (6) التحاكم والاستجارة .
    (7) التحــاكم والتظلم . (8) التحاكم والاستشفاع .
    (1) الحكـم والقضاء :
    لما كان الثابت عند أهل اللغة أن الحكم يأتى بمعنى القضاء ( انظر : مادة حكم فى مصنفات أهل اللغة ، مثل " لسان العرب لابن منظور ، مختار الصحاح للرازى ، تاج العروس للزبيدى " ) .
    ومادة " قضى " تأتى فى القرآن الكريم على أربعة أوجه :
    الوجه الأول : قضى بمعنى حكم .. قال تعالى " قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) سورة طه " ، وقال تعالى " وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) سورة غافر "
    الوجه الثانى : قضى بمعنى أمر .. قال تعالى " وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) الإسراء "
    الوجه الثالث : قضى بمعنى خلق .. قال تعالى " فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فصلت "
    الوجه الرابع : قضى بمعنى فرغ .. قال تعالى " يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) سورة يوسف "
    ومادة " حكم " تأتى فى القرآن الكريم بمعنى " قضى " .. قال تعالى " قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112) سورة الأنبياء " فكلمة ( احْكُمْ ) فى الآية بمعنى ( اقضى ) كما جاء فى تفسير الوجيز للواحدى ، التفسير الكبير للرازى ، وتفسير اللباب لابن عادل ، وتفسير روح المعانى للألوسى ... وغيرها من التفاسير .
    وفى موضع آخر يخبرنا القرآن أن الحكم هو القضاء ، قال تعالى " فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) النساء " فانظر يرحمك الله كيف ذكر الله تبارك وتعالى كل من الحكم ( يُحَكِّمُوكَ ) والقضاء ( قَضَيْتَ ) فى نفس المسألة ونفس الآية .. ثم تأمل قوله تعالى ( مِمَّا قَضَيْتَ ) ولم يقل ( مما حكمت ) رغم أنه سبحانه أوجب عليهم فى صدر الآية أن يُحكِّموه صلى الله عليه وسلم ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ) . . إذا تأملت هذا عرفت أمرين :
    الأمر الأول : الصلة الوطيدة بين كل من الحكم والقضاء ، وأنه يمكن أن تحل إحدى الكلمتين محل الأخرى .
    الأمر الثانى : إذا اجتمعا لفظى الحكم والقضاء قُدِّم الحكم على القضاء ، فصار الحكم يُقصد به مجرد صدور القرار المُلزِم بفصل الخصومة ، وصار القضاء يُقصد به تنفيذ هذا القرار المُلزِم .. وهذا ما سنزيد بيانه بعون الله تعالى فى طيات السطور التالية .
    وهناك من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن القضاء يأتى بمعنى الحكم ، إذ قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما بعث معاذاً وفداً إلى اليمن قال له : " إن عُرض لك قضاء فبما تحكم " ؟ قال : أحكم بكتاب الله ، قال : " فإن لم تجد "، قال : فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " فإن لم تجد"، قال : أجتهد رأيي ولا آلو ، فضربه صلى الله عليه وسلم في صدره وقال : " الحمد لله الذي وفقَّ رسول رسول الله لما يرضي رسول الله " ، رواه الإمام أحمد وجماعة بإسناد حسن .
    إذا ثبت لك أن الحكم فى الشرع يأتى بمعنى القضاء وأن القضاء من معانيه الحكم ، فاعلم أن القضاء الذى يأتى بمعنى الحكم يُقصد به فى مصطلح الفقهاء : فصل الخصومة أو المظلمة على سبيل الإلزام .
    يلاحظ أن عبارة ( على سبيل الإلزام ) جاءت هنا ؛ لتفرق بين التصالح الذى يكون فض النزاع فيه على بيل التراضى ، وبين الحكم الذى يكون فض النزاع فيه على سبيل الإلزام .
    قال تعالى : " وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) سورة ص "
    وجاء فى تفسير البحر المحيط لأبى حيان : لقول الله تعالى " رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ(83) سورة الشعراء " ما نصه : الحكم هو الفصل بين الناس بالحق .اهـ
    جاء فى تفسير فتح القدير للشوكانى : لقول الله تعالى " وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) سورة الأنبياء " ما نصه : الحُكم : هو فصل الخصومات بالحق . اهـ
    جاء فى مُعِينَ الْحُكَّامِ فِيمَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ مِنْ الْأَحْكَامِ : " فَحَقِيقَةُ الْقَضَاءِ : الْإِخْبَارُ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ " قَضَى الْقَاضِي " أَيْ : أَلْزَمَ الْحَقَّ أَهْلَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى ( فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ) أَيْ أَلْزَمْنَاهُ وَحَكَمْنَا بِهِ عَلَيْهِ وقَوْله تَعَالَى ( فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ ) أَيْ أَلْزِمْ بِمَا شِئْت وَاصْنَعْ مَا بَدَا لَك .. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ : حَقِيقَةُ الْحُكْمِ إنْشَاءُ إلْزَامٍ أَوْ إطْلَاقٍ .. وَالْحُكْمُ فِي اللُّغَةِ : الْقَضَاءُ أَيْضًا ، فَحَقِيقَتُهُمَا مُتَقَارِبَةٌ " اهـ ( انظر : معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الحكام ، لابن عبد الرفيع ، جـ1 ، صـ 10 ـ 11 ) .
    فالحُكم والقضاء كلاهما وسيلة لفض النزاع بين الناس وتحديد صاحب الحق ، لذا اشترط الفقهاء صفات متماثلة فى كل من القاضى والحاكم ، وذكروا أن الحاكم كالقاضى فى حق الخصمين .
    جاء فى المبسوط للسرخسى ما نصه : " عَنْ عَامِرٍ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، اخْتَصَمَا فِي شَيْءٍ فَحَكَّمَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَأَتَيَاهُ فِي مَنْزِلِهِ قَالَ زَيْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَلَّا أَرْسَلْت إلَيَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ ، وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّهُ كَانَ يَقَعُ بَيْنَهُمْا مُنَازَعَةٌ وَخُصُومَةٌ وَلَا يَظُنُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْا سِوَى الْجَمِيلِ ، وَإِنَّمَا كَانَ يَقَعُ ذَلِكَ عِنْدَ اشْتِبَاهِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ عَلَيْهِمْ وَيَتَقَدَّمُونَ إلَى الْقَاضِي لِطَلَبِ الْبَيَانِ لَا لِلْقَصْدِ إلَى التَّلْبِيسِ وَالْإِنْكَارِ .. فَأَتَى زَيْدٌ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِوِسَادَةٍ وَكَانَ هَذَا مِنْهُ امْتِثَالًا لِمَا نَدَبَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ ( إذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ ) ، وَقَدْ بَسَطَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رِدَاءَهُ حِينَ أَتَاهُ وَلَكِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَسْتَحْسِنْ ذَلِكَ مِنْهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَقَالَ هَذَا أَوَّلُ جَوْرِك ، وَفِيهِ دَلِيلُ وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي كُلِّ مَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْهُ ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ يَخْفَى عَلَى زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلَكِنْ وَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّ الْحَكْمَ فِي هَذَا لَيْسَ كَالْقَاضِي " اهـ ( انظر : المبسوط ، محمد بن أبي سهل السرخسي ، كتاب الصلح ، باب الحكمين ، جـ 7 ، صـ 89 ) .
    جاء فى بدائع الصنائع : " فَكَانَ الْحُكْمُ مِنْ الْحَكَمَيْنِ بِمَنْزِلَةِ حُكْمِ الْقَاضِي الْمُقَلَّدِ ، إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ فِي أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ .( مِنْهَا ) : أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لَا يَصِحُّ .( وَمِنْهَا ) : أَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْحُكْمُ ، حَتَّى لَوْ رَجَعَ أَحَدُ الْمُتَحَاكِمَيْنِ قَبْلَ الْحُكْمِ ؛ يَصِحُّ رُجُوعُهُ ، وَإِذَا حَكَمَ صَارَ لَازِمًا .( وَمِنْهَا ) : أَنَّهُ إذَا حَكَمَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ ، ثُمَّ رُفِعَ حُكْمُهُ إلَى الْقَاضِي ، وَرَأْيُهُ يُخَالِفُ رَأْيَ الْحَاكِمِ الْمُحَكَّمِ ، لَهُ أَنْ يَفْسَخَ حُكْمَهُ " اهـ ( انظر : بدائع الصنائع فى ترتيب الشرائع ، علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني ، كتاب أدب القاضى ، فصل فى بيان من يصلح للقضاء ، جـ 14 ، صـ 410 ) .
    الفرق بين الحكم والقضاء :
    يقول صاحب الفروق اللغوية : " الفرق بين القضاء والحكم : أن القضاء يقتضي فصل الأمر على التمام من قولك قضاه إذا أتمه وقطع عمله ومنه قوله تعالى " ثم قضى أجلا " أي فصل الحكم به " وقضينا إلى بني إسرائيل " أي فصلنا الإعلام به وقال تعالى " قضينا عليه الموت " أي فصلنا أمر موته " فقضاهن سبع سماوات في يومين " أي فصل الأمر به ، والحكم يقتضي المنع عن الخصومة من قولك أحكمته إذا منعته قال الشاعر: أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم * إني أخاف عليكم أن أغضبا ، ويجوز أن يقال الحكم فصل الأمر على الاحكام بما يقتضيه العقل والشرع فإذا قيل حكم بالباطل فمعناه أنه جعل الباطل موضع الحق " . اهـ ( انظر : الفروق اللغوية لأبى هلال العسكرى ، جـ1 ، صـ431 ) .
    والحُكم يشمل ثلاث مراتب ، المرتبة الأولى : الثبوت ( وهو ما يثبت عند الحاكم من أدلة وبينات ) ، المرتبة الثانية : صدور القرار المُلزم ، المرتبة الثالثة : التنفيذ ( وتنفيذ القرار المُلزم هو القضاء ) .
    من هنا كان القضاء أخص من الحكم وفرعٌ منه ، كما أن الحكم بمعنى القضاء إذا انفردا ، وأعم من القضاء إذا اجتمعا .
    (2) الحكم والفتوى :
    الفتوى والفُتيا فى اللغة هى : ما أفتى به الفقيه . ( انظر : تاج العروس للزبيدى ، باب الواو والياء ، فصل الفاء ) .
    جاء فى المصباح المنير : " و ( الفَتْوَى ) بالواو بفتح الفاء وبالياء فتُضم وهي اسم من ( أَفْتَى ) العالم إذا بَيَّنَ الحُكم و ( اسْتَفْتَيْتُهُ ) سألته أن يفتي " ( انظر : المصباح المنير ، ابن المقرى الفيومى ، كتاب الفاء جـ2 ، صـ 462 ) .
    وجاء فى النهاية فى غريب الحديث : " [ أنّ أربعة تَفَاتَوْا إليه عليه الصلاة والسلام ] : أي تَحاكَمُوا من الفَتْوى . يُقال : أفْتَاه في المسألة يُفْتِيه إذا أجابَه . والاسْم : الفَتْوَى " ( انظر : النهاية فى غريب الحديث ، ابن الأثير ، حرف الفاء ، باب الفاء مع التاء ، جـ 2 ، صـ 778 ) .
    ـ أما الفتوى فى الإصطلاح فتُعنى : تبيين الحكم الشرعى للسائل عنه .
    جاء فى التعريفات للجرجانى : " الإفتاء بيان حكم المسألة " اهـ .
    جاء فى المحيط فى اللغة لإسماعيل بن عباد ( ت 385 هـ ) : " وأفْتَى الفَقِيْهُ يُفْتي إفْتَاءً: إذا بَيَّنَ المُبْهَمَ، وهي الفُتْيَا " اهـ .
    جاء فى التوقيف على مهمات التعاريف لخلوف بن محمد ( المتوفى فى القرن الثانى عشر الهجرى ) : " الفتوى والفتيا ذِكر الحكم المسؤول عنه للسائل " اهـ .
    إذا عَرِفْت أنَّ الفتوى هى : إظهار الحكم الشرعى للسائل ، وقد سبق لك أن عرفت فيما تقدَّم أن الحكم هو : فصل الخصومة أو المظلمة على سبيل الإلزام .
    من هنا كان الفرق بين الحكم والفتوى ، أن الحكم أو القضاء يكون على وجه الإلزام أما الفتوى فتكون من غير إلزام .. فهما يجتمعان فى إظهار حكم الشرع فى المسألة وينفرد القضاء أو الحكم عن الفتوى بالإلزام .
    (3) التحاكم والحكم :
    إذا كان التحاكم هو : " طلب حكم جهة معينة ؛ لفصل خصومة أو مظلمة " ، وأنَّ الحُكم هو : " فصل الخصومة أو المظلمة على سبيل الإلزام " .. فاعلم أن التحاكم عملية تسبق عملية الحكم ، فعملية التحاكم يظهر فيها دور المتحاكمين ، بينما عملية الحكم فيظهر فيها دور الحاكم أو القاضى ، ومعلوم عرفاً وعقلاً أنَّ دور المتحاكم يسبق دور الحاكم والقاضى فى عملية الحكومة .
    يقول الماوردى رحمه الله : " سماع البينة لايجوز إلا بعد التحاكم " اهـ ( انظر : الحاوى الكبير ، الماوردى ، كتاب أدب القاضى ، جـ 16 ، صـ 644 )
    ومن المعلوم أنَّ سماع البينة من الخصوم يكون قبل الحكم .
    وقال ابن حجر فى فتح البارى : " قَالَ اِبْن بَطَّال : لَا يَجُوز لِلْقَاضِي الْحُكْم إِلَّا بَعْد طَلَب حُكْم الْحَادِثَة مِنْ الْكِتَاب أَوْ السُّنَّة " اهـ ( انظر : فتح البارى شرح صحيح البخارى ، للحافظ ابن حجر العسقلانى ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب ما جاء فى اجتهاد القضاة ، جـ 20 ، صـ 375 ) .
    إذا تأملت كلام ابن حجر المتقدم أفادك عدة فوائد ،
    الفائدة الأولى : أن كل حاكم متحاكم وليس بالضرورة أن يكون كل متحاكم حاكم .. بمعنى أن كل حاكم فى حقيقة أمره متحاكم بدءاً ورأساً إلى شرع ، وهذا الشرع إمَّا شرع " الرحمان " وإمَّا شرع " الشيطان " .
    فالذى يتحاكم إلى شريعة الرحمن ويحكم بها يتحقق فيه وصفان ، هما كونه ( متحاكم & وحاكم ) متحاكم إلى شريعة الرحمان وحاكم بها، وهو بذلك عالماً ـ أى عالماً بما يحكم به وليس بالضرورة أن يكون عالماً فى كافة فروع الشريعة ـ فضلاً عن كونه مسلماً .
    والذى يتحاكم إلى شريعة الشيطان ويحكم بها يتحقق فيه وصفان أيضا هما كونه ( متحاكم & وحاكم ) ، وهو بذلك طاغوتاً فضلاً عن كونه كافراً .
    الفائدة الثانية : أن التحاكم فى اصطلاح الفقهاء يعنى طلب الحكم ، وهو ما نستشفه من قول ابن حجر المتقدم حين قال : " طَلَب حُكْم الْحَادِثَة مِنْ الْكِتَاب أَوْ السُّنَّة " .
    الفائدة الثالثة : أن التحاكم عملية تسبق عملية الحكم ، إذ أوجب رحمه الله على القاضى ألا يحكم فى مسألة إلا بعد أن يتحاكم هو أولاً إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .

    (4) التحاكم والتحكيم :
    التحكيم فى مصطلح الفقهاء يعنى : " تَوْلِيَةُ الْخَصْمَيْنِ حَاكِمًا يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا " ( انظر : البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم المصرى ، الدر المختار الحصفكي )
    وقد أوضحنا من قبل أن التحاكم هو : " طلب حكم جهة معينة ؛ لفصل خصومة أو مظلمة " .
    ومن ثم فالفرق بين التحاكم والتحكيم يتجَّلى فى وجهين هما :
    الوجه الأول : التحكيم أعم من التحاكم :
    ـ فمن المنظور اللُغوى .. نجد أن مادة " تحَاكمَ " تأتى على وزن " تفاعل " ، والتفاعل يتم فى الأعم الأغلب بين طرفين ، هما فى عملية التحاكم ( المتحاكم والحاكم ) .
    أما مادة " تحكيم " فتأتى على وزن " تفعيل " وهى صيغة مبالغة أعمق فى المعنى والدلالة من " تفاعل " ، وفيها يتم أكثر من تفاعل ، ففى عملية التحكيم يحدث نوعين من التفاعل .
    أحدهما بين الطرفين المتحاكمين وبعضهما البعض ؛ حتى يتم الاتفاق فيما بينهما على تنصيب حاكماً يفصل خصومتهما ، والتفاعل الآخر يتم بين هذين الطرفين من جانب وبين الحَكَمْ الذى ارتضياه ليفصل بينهما من جانب آخر .
    ـ ومن المنظور الشرعى .. نجد أن التحكيم هو : تولية الخصمين حاكماً يحكم بينهما ، ويفوضوا الأمر إليه فى خصومتهما . أما التحاكم فهو طلب حكم جهة معينة لفض خصومة أو مظلمة ، وبذلك تتحقق عملية التحاكم من أحد الطرفين المتخاصمين ، ولا يُشترط فى التحاكم اجتماعهما على تحكيم ( تولية ) شخصاً بعينه .
    مثال توضيحى : حدثت خصومة بين طرفين ،
    _ فإذا أراد أحد الطرفين ، اللجوء إلى جهة معينة ( وهذا هو التفاعل الذى يتم بين أحد الطرفين والجهة المُحكِّمة ) ، عُد هذا تحاكماً فى المنظور الشرعى ، بل وفى المنظور العرفى والعقلى أيضاً .
    ـ أما إذا اتفقا الطرفان فيما بينهما ( وهذا هو التفاعل الأول ويتم بين الطرفين المُتخاصمين ) على تولية حاكماً معيناً ليفصل خصومتهما ، ( هذا هو التفاعل الثانى ويتم بين الطرفين والحكم المُولَّى ) صارت هذه العملية تحكيماً .
    فعند الحديث عن عملية التحاكم يقول الله تبارك وتعالى : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) النساء " .
    وقد تواترت النصوص فى أن الآية نزلت فى شأن رجلين أحدهما من الأنصار يدّعى الإيمان ـ أى أنه كان مسلماً فى الظاهر ـ والآخر يهودى مشرك ، وأن المسلم كان يدعو اليهودى إلى الطاغوت ـ سواء كان كعب ابن الأشرف أو كاهناً فى المدينة أو غير ذلك ـ فى الوقت الذى كان يدعوه فيه اليهودى إلى النبى صلى الله عليه وسلم ؛ لأن اليهودى صاحب حق ويعلم يقيناً أن محمداً نبىُ الله ورسوله ولن يأخذ الرِشوة . ( انظر : تفسير الطبرى 8/509 ، أسباب النزول للواحدى صـ 161 وفيه أن اسم الأنصارى قيس ، وصححه ابن حجر فى فتح البارى5/ 38 ) .
    وعند الحديث عن عملية التحكيم يقول الله تبارك وتعالى : " فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
    ومن المعلوم أن الآية نزلت فى شأن رجلين مسلمين كلاهما اتفق على تحكيم النبى صلى الله عليه وسلم ، ولكنها عاتبت الصحابى الذى لم يرضى بحكم النبى صلى الله عليه وسلم ولم يستسلم لقضائه .. ثم أنَّ هذه الآيات جميعُهَا نزلت لتقرر قضية التحاكم والتحكيم جملةً وتفصيلاً حالاً ومآلاً فى كل عصرٍ ومِصْرٍ .
    الوجه الثانى : التحاكم يسبق التحكيم :
    قال الزمخشرى فى أساس البلاغة : " حاكمته إلى القاضى : رافعته ، وتحاكمنا إليه واحتكمنا ... وحاكمه إلى الله وإلى القرآن إذ دعاه إلى حكمه " اهـ ( انظر : أساس البلاغة ، الزمخشرى ، جـ 1 ، صـ 94 ) .
    ويقول الخليل فى معجم العين : " وحاكمناه إلى الله : دعوناه إلى حُكم الله " اهـ ( انظر : معجم العين ، الخليل بن أحمد ، جـ2 ، صـ67 ) .
    فتأمل أرشدك الله إلى ما يحبه ويرضاه ، كيف بيّنَ أهلُ العلمِ رحمهم الله أنَّ مجرد دعوة الخصم إلى حُكم جهة معينة يعد تحاكماً .
    (5) التحاكم والتصالح :
    التصالح فى اللغة مشتق من الإصلاح ، والإصلاح نقيض الإفساد ، فيقال أصلح إذا أتى بالخير والصواب ، وأصلح الشىء أزال فساده ، وأصلح بينهما أو ذات بينهما أو ما بينهما من عداوة ونزاع برضا الطرفين ، والمصالحة والتصالح خلاف المخاصمة والتخاصم .. قال الراغب : والصلح يختص بإزالة النفار بين الناس .
    المعنى الشرعى للتصالح .. لا يخرج عن كونه يعنى : " طلب الصلح وتحقيق التراضى بين المتخاصمين "
    قال الله تعالى : " وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) الحجرات "
    جاء فى حديث أبى شريح الذى رواه أبو داود وغيره :
    * نص الحديث : " عن أبي شريح: أنه كان يُكنَى أبا الحكم . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله هو الحكم . وإليه الحُكم ، فقال: إنَّ قومي إذا اختلفوا في شئ أتوني فحكمت بينهم فرضى كلا الفريقين. فقال: ما أحسن هذا. فما لك من الولد ؟ قل: شريح ومسلم وعبد الله . قال: فمن أكبرهم ؟ قلت : شريح . قال : فأنت أبو شريح " رواه أبو داود وغيره .
    * الشاهد من الحديث : قول أبى شريح ( إنَّ قومى إذا اختلفوا فى شىء أتونى فحكمت بينهم فرضى كلا الطرفين ) وردَ الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله (ما أحسن هذا) ، ويعلق عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ على هذا الحديث فى مصنفه (( قرة عيون الموحدين )) قائلاً : ( .. فالمعنى والله أعلم أن أبا شريح لما عرف منه قومه أنه صاحب إنصاف وتحر بالعدل بينهم ، ومعرفة ما يرضيهم من الجانبين صار عندهم مرضياً وهذا هو الصلح ، لأن مداره على الرضا لا على الإلزام ) ا.هـ
    إذن الصلح جائز بين المسلمين إلا صُلحاً حرَّم حلالاً أوأحلَّ حراماً .
    الفرق بين التصالح والتحاكم
    فالتصالح والتحاكم يُفضُّ بهما النِزَاع ، غير أنه فى حالة الحكم لا بُدَّ فيه من توليةٍ من القاضي أو الخصمين ، بينما فى حالة الصلح يكون الاختيار فيه من الطرفين أو من متبرع به .
    فالصُلح هو عقد وُضِعَ لرفع المنازعة بعد وقوعها بالتراضي ، وهذا عند الحنفية .
    وزاد المالكية على هذا المدلول : العقد على رفعها قبل وقوعها - أيضاً - وقايةً ، وجاء في تعريف ابن عرفة للصّلح : أنّه انتقال عن حقّ أو دعوى بِعِوَض لرفع نزاع ، أو خوف وقوعه ، ففي التّعبير " خوف وقوعه " إشارة إلى جواز الصُلح ؛ لتوقّي منازعة غير قائمة بالفعل ، ولكنّها محتملة الوقوع .
    كما يختلف الحكم عن الصّلح من وجهين :
    أحدهما : أنَّ الحكم ينتج عنه حكم قضائي ، بخلاف الصُلح فإنّه ينتج عنه عقد رضائى يتراضى عليه الطرفان المتنازعان . وفرقٌ بين الحكم القضائي والعقد الرضائي .
    والثاني : أنَّ الصُلح يتنازل فيه أحد الطّرفين أو كلاهما عن حق ، بخلاف الحكم فليس فيه نزول عن حق .
    وَالْحُكْمُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ : عِبَارَةٌ عَنْ قَطْعِ الْقَاضِي الْمُخَاصِمَةَ وَحَسْمِهِ إيَّاهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ .
    وَقَيْدُ الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ هُوَ لِإِخْرَاجِ الصُّلْحِ الَّذِي يَجْرِي بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ هُوَ أَلْفَاظُ الْقَاضِي كَأَلْزَمْت أَوْ حَكَمْت أَوْ أَنْفَذْت الْقَضَاءَ عَلَيْك ، فالصُّلْحَ هُوَ عَقْدٌ يَرْفَعُ النِّزَاعَ بِالتَّرَاضِي بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ ... والْحُكْمُ ، هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ قَطْعِ الْقَاضِي الْمُخَاصَمَةَ وَحَسْمِهِ إيَّاهَا . اهـ ( انظر : درر الحكام فى شرح مجلة الأحكام جـ13 صـ63،302 ) .
    متى يصير الصلح تحاكماً غير جائز :
    قال محمد بن إبراهيم آل الشيخ : " أما بالنسبة لما انتهى عند قُضاة العشائر فإنْ كان ذلك عن طريق الصلح ولم يتضمن هذا الصلح تحليل محرم أو تحريم حلال فالصلح صحيح ، وإن كان يتضمن هذا الصلح فذلك غير صحيح ؛ لأن المعروف عن مشائخ العشائر الجهل وعدم العلم بالأحكام الشرعية فالتحاكم إليهم من باب التحاكم إلى الطاغوت أما لو كان التحاكم من الخصمين إلى رجل صالح للقضاء فإن حكمه ينفُذْ عليهما " ( انظر فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ ـ الخطاب رقم 666 بتاريخ 5/6 /1386 الموجه من فضيلته إلى وزير الداخلية بالمملكة ) .

    (6) التحاكم والاستجارة :
    الاستجارة فى اللغة مشتقة من : أجَارَ يُجيرُ إجارةً .. بمعنى أعاز يعيز إعازةً ، أعان يعين إعانةً .
    قال صاحب تاج العروس : " أجارَهُ : أَعَاذَهُ . قال أبو الهَيْثَم : ومَن عاذَ بالله ، أي استجار به أجارَه اللهُ ، ومَن أجارَه اللهُ لم يُوصَلْ إليه وهو سُبْحَانَهُ وتعالَى يُجِيرُ ولا يُجَارُ عليه .. أي يُعِيذُ ، وقال الله تعالى لنَبِيِّه : قُلْ إنِّي لن يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ .. أي لن يَمْنَعَنِي .. وفي الحديث : ويُجيرُ عليهم أدْنَاهم .. أي إذا أَجارَ واحدٌ من المسلمين حُرٌّ أو عَبْدٌ أو امرأَةٌ واحداً أو جماعةً من الكُفّار وخَفَرَهُم وأَمَّنهُم جازَ ذلك على جميع المسليمن لا يُنْقَض عليه جِوَارُه وأَمانُه " اهـ . ( انظر : تاج العروس ، للزبيدى ، مادة جور ) .
    ويقول صاحب مختار الصحاح : " الخَفِيرُ المجير تقول خفر الرجل أي أجاره وكان له خفيرا يمنعه وبابه ضرب وكذا خَفَّرَهُ تَخْفِيرا و تَخَفَّر بفلان استجار به وسأله أن يكون له خفيراً " اهـ( انظر مختار الصحاح ، للرازى ، باب الخاء ، جـ1 ، صـ 196 )
    وجاء فى المعجم الوسيط : " استأمن إليه استجاره و طلب حمايته ، و يقال استأمن الحربي استجار و دخل دار الإسلام مستأمناً و فلانا طلب منه الأمان و ائتمنه .. استجار بفلان استغاث به و التجأ إليه وسأله أن يؤمنَّه ويحفظه وفي التنزيل العزيز : "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره " ( انظر المعجم الوسيط ، باب الهمزة ، جـ1 ، صـ 59 ، باب الجيم ، جـ1 ، صـ 205)
    والمعنى الشرعى للاستجارة ... لا يخرج عن كونه طلب العون والنُصرة والجوار والمِنعَة .
    قال صاحب طلبة الطلبة : " الِاسْتِجَارَةِ وَهى سُؤَالُ الْأَمَانِ يُقَالُ اسْتَجَارَهُ فَأَجَارَهُ قَالَ تَعَالَى ( وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ ) " اهـ ( انظر : طلبة الطلبة ، عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ النَّسَفِيُّ ، كتاب المناسك ، جـ1 ، صـ 424 )
    وجاء فى لسان العرب : " قال الله تعالى لنبيه : قل لَنْ يُجِيرَني من الله أَحدٌ .. أَي لن يمنعنى من الله أَحد والجارُ والمُجِيرُ هو الذي يمنعك ويُجْيرُك واستْجَارَهُ من فلان فَأَجَارَهُ منه ، وأَجارَهُ الله من العذاب أَنقذه ، وفي الحديث " ويُجِيرُ عليهم أَدناهم " أَي إِذا أَجار واحدٌ من المسلمين حر أَو عبد أَو امرأَة واحداً أَو جماعة من الكفار وخَفَرَهُمْ وأَمنَّهم جاز ذلك على جميع المسلمين ، لا يُنْقَضُ عليه جِوارُه وأَمانُه .. وأَما قوله عز وجل : وإِذْ زَيَّنَ لهم الشيطانُ أَعْمَالَهُمْ وقال لا غالَب لَكُم اليومَ من الناسِ وإِني جَارٌ لكم .. قال الفرّاء : هذا إِبليس تمثل في صورة رجل من بني كنانة ، قال وقوله : إِني جار لكم .. يريد أَجِيركُمْ أَي إِنِّي مُجِيركم ومُعيذُكم من قومي بني كنانة فلا يَعْرِضُون لكم وأَن يكونوا معكم على محمد صلى الله عليه وسلم ، فلما عاين إِبليس الملائكة عَرَفَهُمْ فَنَكَصَ هارباً فقال له الحارثُ بن هشام أَفِراراً من غير قتال ؟! ، فقال : إِني بريء منكم إِني أَرَى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ الله واللهُ شديدُ العقاب .. قال : وكان سيد العشيرة إِذا أَجار عليها إِنساناً لم يخْفِرُوه " اهـ ( انظر : لسان العرب ، ابن منظور ، مادة جور ، جـ4 ، صـ 153 )
    ـ قال تعالى حاكيا عن عيسى عليه السلام : " فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) آل عمران .
    ـ ويدخل حلف الفضول فى هذا المعنى حيث قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَدْ شَهِدْت فِي دَارِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبّ أَنّ لِي بِهِ حُمْرَ النّعَمِ وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْت .
    قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : " وَأَمّا حِلْفُ الْفُضُولِ فَحَدّثَنِي زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ قَالَ تَدَاعَتْ قَبَائِلُ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى حِلْفٍ فَاجْتَمَعُوا لَهُ فِي دَارِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جُدْعَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، لِشَرَفِهِ وَسِنّهِ فَكَانَ حِلْفُهُمْ عِنْدَهُ بَنُو هَاشِمٍ ، وَبَنُو الْمُطّلِبِ ، وَأَسَدُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى . وَزُهْرَةُ بْنُ كِلَابٍ ، وَتَيْمُ بْنُ مُرّةَ فَتَعَاقَدُوا وَتَعَاهَدُوا عَلَى أَنْ لَا يَجِدُوا بِمَكّةَ مَظْلُومًا ْدَخَلَهَا مِنْ سَائِرِ النّاسِ إلّا قَامُوا مَعَهُ وَكَانُوا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ حَتّى تُرَدّ عَلَيْهِ مَظْلِمَتُهُ فَسَمّتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ الْحِلْفَ حِلْفَ الْفُضُولِ " .
    وذلك مثل: إستجارة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمطعم بن عدى، واستجارة الصديق بابن الدغنة ، واستجارةالفاروق بالعاص بن وائل ، واستجارة عثمان بن مظعون بالوليد بن المغيرة .
    من هنا كان الفرق بين الاستجارة والتحاكم واضحا ، فالتحاكم : طلب حكم ، والاسستجارة : طلب جوار ومنعة وعون وآمان .
    (7) التحاكم والتظلم :
    التظلم لغةً هو / شكاية الظلم . ( انظر : المعجم الوسيط جـ 2 صـ 57 ، القاموس المحيط جـ3 صـ 255 ، لسان العرب جـ 12 صـ 373 ) .
    والتظلم شرعاً هو / قيام المتظلم برفع المظلمة إلى من له سلطان أو ولاية ؛ لرفع الظلم عن نفسه أو عن مسلم غيره ، وهى رخصة شرعية . ( انظر : كتابى " رياض الصالحين ، روضة الطالبين " للنووى باب ما يباح من الغيبة ، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز صـ43 ، إحياء علوم الدين للغزالى جـ2 ، صـ 145 )
    وشروط التظلم هى / أن لايكذب المتظلم ، ولا يثنى ، ولا يدع نصيحة يتوقع لها قبولا ( انظر : إحياء علوم الدين للغزالى جـ2 ، صـ 145 ) .
    والتظلم مشتق من الظُلم , والظُلم حرام قطعاً بالنصوص المتواترة في القرآن الكريم والسنّة الشّريفة وإجماع المسلمين ، ورفع الظُلم واجب شرعاً على كلّ مسلمٍ .

    والعلاقة بين التظلم والتّحاكم أنّ التّحاكم وسيلة لفضّ التظلم والنّزاع بين النّاس .
    ... من هنا كان التحاكم عملية تتم عقب مرحلة التظلم ، فالتحاكم ليس إلا طلب الحكم فى المظلمة الكائنة بين طرفى النزاع .
    ملحوظة : مع الأخذ فى الاعتبار أنه فى بعض الأحيان قد يكون هناك تظلم بعد عملية التحاكم ، لكن فى الغالب الأعم يكون التظلم عملية تتم قبل عملية التحاكم ، وفى كلتا الحالتين فالفرق واضح بين التظلم والتحاكم ، كما بيَّنا أعلاه .

    (8) التحاكم والاستشفاع :
    الشفاعة في الشرع هي : التوسط للغير بجلب خير له أو دفع شر عنه ، ويعرِّفها بعض العلماء بقوله : الشفاعة هي سؤال الخير للغير ، والشفاعة في أمور الدنيا المقصود بها : شفاعة إنسان لآخر عند السلطان أو صاحب الجاه أو المنصب ؛ ليقضي له حاجته ، وهي نوع من أنواع التعاون بين المسلمين.
    قال تعالى فى سورة النساء الآية 85 : " مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا " . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه السائل أو طُلِبت إليه حاجة قال: " اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء " .
    قال صاحب التعريفات : " الشفاعة هي : السؤال في التجاوز عن الذنوب من الذي وقع الجناية في حقه " اهـ . ( انظر : التعريفات للجرجانى ، باب الشين ، الجزء الأول ، صـ 41 )
    جاء فى المبسوط للسرخسى ما نصه : " عَنْ عَامِرٍ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اخْتَصَمَا فِي شَيْءٍ فَحَكَّمَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ... وَكَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ أَعْفَيْت أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْيَمِينِ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا ، وَلَكِنْ أَحْلِفُ فَتَرَكَ لَهُ أُبَيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ ، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَرْوُونَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِزَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هذا أول جورك .. وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ الْمَيْلِ إلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ صَرِيحًا وَدَلَالَةً ، وَأَنَّ مَجْلِسَ الشَّفَاعَةِ غَيْر مَجْلِسِ الْحُكُومَةِ ُ " اهـ ( انظر : المبسوط ، للسرخسى ، كتاب أدب القاضى ، صـ 14 )
    والشفاعة في الدنيا على قسمين :
    قسم محمود ومشروع ، وهو الشفاعة في الأمور المباحة التي يترتب عليها جلب النفع للمسلم دون التعدي فيها على حق من حقوق الله عز وجل أو حقوق الناس .
    وأما القسم الثاني : فهي الشفاعة التي يترتب عليها إسقاط حد من حدود الله عز وجل ، أو ظلم لأحد من الناس ، أو إبطال حق .
    وقد وردت أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم تحذر من الشفاعة في الحدود إذا بلغت السلطان .
    ومنها : حديث عائشة رضي الله عنها " أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ ، فَقَالَ : وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا : وَمَنْ يَجْتَرِى عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ ، حِبُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا ، إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ ؛ وَأيْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا " أخرجه البخاري في : كتاب الأنبياء : باب حدثنا أبو اليمان ، ومسلم فى : كتاب الحدود : باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود .

    ويقول صلى الله عليه وسلم : من حالت شفاعته دون حد من حدود الله عز وجل فقد ضاد في الله أمره . . . الحديث .
    وقد نص العلماء رحمهم الله تعالى على أن الشفاعة لا تُقبل في الحدود إذا بلغت الحاكم ، يقول الإمام النووي رحمه الله عند ذكر الإمام مسلـم لحديث عائشة السابق وغيره يقول : " ذَكر مسلم رضي الله عنه في الباب الأحاديث في النهي عن الشفاعة في الحدود وأن ذلك هو سبب هلاك بني إسرائيل ، وقد أجمع العلماء على تحريم الشفاعة في الحد بعد بلوغه إلى الإمام للأحاديث المتواترة الواردة فى هذا الشأن وعلى أنه يحـــرُم التشفع فيه " ( انظر : شرح صحيح مسلم للنووي 11 / 186 )
    ... من هنا كان الاستشفاع أمر يتم عقب عملية التحاكم ، بل عقب صدور الحكم .
    ملحوظة : مع الأخذ فى الاعتبار أنه فى بعض الأحيان قد يكون هناك استشفاع قبل عملية التحاكم ، لكن فى الغالب الأعم يكون الاستشفاع عملية تتم عقب عملية التحاكم ، وفى كلتا الحالتين فالفرق واضح بين الاستشفاع والتحاكم ، كما بيَّنا أعلاه .
    مثال لبيان ما تقدم من فروق :
    وبعد أن أسهبنا فى الحديث حول هذه الفروق ، ودعمناها بكلام الله ورسوله بفهم أهل العلم المحققين من السلف ، نرى أن نسوق مثالاً تطبيقياً توضيحياً ؛ تبصيراً للمعانى وتأصيلاً للمبانى ؛ خشية أن يغوص المبتدىء فى كلام أهل العلم بلا ضابط ولا رُوية ، وحتى لا يحَار طالب العلم فى هذه الفروق دون أن يربطها بِصُلب موضوع البحث ، وهو بيان كُنه التحاكم المُكَّفِر ومناطاته وشروطه وصوره ، وبيان الفرق بينه وبين التصالح والتظلم والاستجارة والاستشفاع .. وغيرهم ، إذ يُعدّ الخلط بين هذه المصطلحات تمييعاً لعقيدة التحاكم وتشويشاً لواقع الأمة .. قال تعالى : " فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) سورة هود "
    وهذا المثال كالتالى : إذا كانت هناك خصومة بين طرفين ، وحدث ما يلى : ـ
    ـ أراد أحد الطرفين ( مجرد إرادة قلب فحسب ) طلب حكم جهة معينة ؛ لفصل هذه الخصومة ، فيُعدّ هذا الطرف متحاكماً ، ثم يُنظر إلى هذه الجهة ، إن كانت جهة طاغوتية فالتحاكم إليها تحاكم للطاغوت ، وإن كانت جهة مسلمة فلا حرج ، وهذا كحال المسلم الذى يدعى الإيمان مع إرادة التحاكم الى كعب بن الأشرف .
    ـ إذا اتفقا الطرفان فيما بينهما على تولية شخصاً يفصل خصومتهما ، صارت هذه العملية تحكيماً ، وهى أشمل من التحاكم , وهذا كتحكيم الزبير بن العوام والصحابى للنبى صلى الله عليه وسلم فى شراج الحره ، وكتحكيم على بن أبى طالب ومعاوية بن أبى سفيان رضى الله عنهما لكتاب الله حقناً لدماء المسلمين .
    ـ إذا اتفقا الطرفان فيما بينهما على تولية شخصاً ، يُصلح بينهما ويُرضِى كل طرف منهما ، بحيث يكون كل طرف منهما مستعداً للتنازل عن جزء من حقه فى سبيل تحقيق التراضى والوئام مع خصمه ، فهذا يُعدّ تصالحُاً لا تحاكماً ، وهذا كحال أبى شريح فى الجاهلية حينما كان يلجأ إليه قومه ليصلح بينهم فيرضى كل من الأطراف المتنازعة , واستحسان النبى صلى الله عليه وسلم ذلك منه .
    ـ إذا طلب أحد الطرفين النُصرة على خصمة من السلطان أو الحاكم ذو السلطة والقوة ، فهذا الأمر يُعدّ استجارة أو استعانة بمخلوق فيما يقدر عليه ، ولا يُسمّى تحاكماً ، ولا يخلو هذا الأمر من قيام هذا الطرف بعرض مظلمته على ذاك الحاكم ذو السلطان ، ويُعدّ هذا الفعل منه تظلُماً وهذا كحال حلف الفضول الذى قال عنه النبى صلى الله عليه وسلم لو دعيت لمثله فى الإسلام لأجبت ، إلا إذا طلب هذا الطرف المُتظَّلم من ذاك الحاكم أن يفصل الحكم فى هذه المظلمة ، فيصير فعله هذا تحاكماً ، فمجرد رفع الشكاية تظلم ، بينما طلب الحكم فى هذه الشكاية فلا يكون إلا تحاكم .
    ـ القرار الذى يَصدُر من الحاكم الذى وقع الاختيار عليه ، إذا صدر على سبيل الإلزام سُمِّى هذا القرار حُكماً ، وإذا صدر على سبيل التراضى سُمِّى هذا القرار صُلحاً ، وإذا دخل فى حيز التنفيذ سُمِّى قضاءاً .
    ـ بعد صدور الحكم وقبل عملية التنفيذ استشعر أحد الطرفين بظلم الحاكم وهول الحكم الصادر عليه من الحاكم ، فاستشفع بأحد المقربين للحاكم أو بالحاكم نفسه ؛ ليخفف عنه الحكم الصادر ضده ، فيصير هذا الفعل استشفاعاً لا تحاكماً , وهذا كحال أخوة يوسف عندما استشفعوا عند أخيهم عليه السلام قبل أن يعرفوه بتخفيف الحكم الصادر بشأن أخيهم بنيامين ، قال تعالى : " قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبً شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) سورة يوسف " وكاستشفاع أسامة بن زيد رضى الله عنه عند النبى صلى الله عليه وسلم فى شأن المخزوميه التى سرقت .




    ثانياً: صور خارجة عن معنى التحاكم :
    طلب النجدة من الطاغوت أو شرطته ؛ لإطفاء حريق أو إنقاذ غريق أو رد هجوم عدو .. يدخل فى الاستجارة ، ولا يَمُت للتحاكم الكفرى بصلة ؛ لأن هناك فرقٌ كبير بين الاستجارة التى تعنى طلب الجوار والمنعة والنصرة ، وبين التحاكم الذى يعنى طلب الحكم .. كما بيَّنا ذلك فى السطور السابقة .. فهذه أمور بذاتها ليست تحاكماً إلا إذا أدت بصاحبها إلى الوقوع فى التحاكم المُكَفِّر .
    كذا الحال بالنسبة لاستخراج البطاقات الشخصية ورخص المرور وتأشيرات السفر .... وغيرها ، كذلك الالتزام بالتنظيمات الإدارية والجمركية والمرورية ونحوها ، كل هذه أمور مباحة لا تَمُت إلى التحاكم الكفرى بصلة ، فهذه الأمور ما هى إلا طلب استخراج مستندات تُثبت حقوقاً وواجبات ، وليست طلب حكم جهة معينة لفصل خصومة أو مظلمة كما بيَّنا سابقاً فى تعريف التحاكم ، كما أنها ليست أموراً تشريعية تُحلِّل حراماً أو تُحرِّم حلالاً أو تضع أحكاماً تفصل نزاعاً ـ بذاتها ـ ونحو ذلك ، ولكن يأتى التشريع من ورائها ، أى أنها فى ذاتها إبتداً أمور تنظيمية لو فعلها المسلم فى دار الحرب لا حرج عليه "وإن كانت فى ديار الإسلام أولى " أما إذا لم يقم بعملها فسيُعاقب بقانون الطاغوت ويقع فى التشريع أو الحكم أو كلاهما ، إذا أُكتُشف أنه لم يقوم بعمل البطاقة الشخصية أوجواز سفره ، وإنما هي بطاقات ومستندات للتعريف بصاحبها وموطنه وأوصافه ، وكذا الإلتزام بالإشارة الضوئية أوبتعليمات عسكرى المرور . وفي ذلك مزايا ومصالح كثيرة لا تخفى على ذى لُب.
    والتعامل بالنقود المنقوش عليها صور الطاغوت ليس فيه حرج ؛ ففتية الكهف كان معهم نقوداً منقوشاً عليها صورة طاغوت عصرهم دقلديانوس ، وقد كانت الدنانير الذهبية البيزنطية والدراهم الفضية الفارسية عملتين عالميتين ، طبقا لمعاهدة بينهما لا ينازعهما فيها أحد ، فأقرَّها النبي صلى الله عليه وسلم عند المسلمين فكانوا يتعاملون بها وتُقَّسم بها الزكاة ، وقد أهدى قيصر للنبي صلى الله عليه وسلم دنانير فقسمها بين أصحابه ، وأقَّر النبي صلى الله عليه وسلم ما اصطلحوا عليه من أوزان النقود لأنها كانت توزن ، وكانت تعطى بها الجزية ويُعرف بها نِصَاب الزكاة ، وكانت بعض النواحي تتعامل بالذهب وأخرى بالفضة على عادتهم قبل الإسلام ، وكان على هذه النقود مذبح النار وحارساها في الوسط والكتابة تحيط بها ، وكانت باللغات الفارسية والرومية ، ثم تطورت شيئاً فشيئاً إلى اللغة العربية .

  2. افتراضي

    المبحث الثانى
    الحاكمية وعبادة رب البرية

    أولاً : التحاكم وتوحيد الربوبية :
    التحاكم إلى غير ما أنزل الله شركٌ فى الربوبية ، إذ أن الذى يتحاكم للطاغوت يثبت لذاك الطاغوت صفة الربوبية كحق التشريع والتحليل والتحريم والنهى والأمر من دون الله ، كما أنَّ التحاكم إلى ما أنزل الله تعالى تنفيذ لحكم الله الذي هو مقتضى ربوبيته وكمال ملكه وتصرفه ، ولهذا سمَّى الله تعالى المتبُوعين في غير ما أنزل الله تعالى أرباباً لمتبعيهم ، فقال سبحانه : " اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ورُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ والْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا إلَهاً واحِداً لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) التوبة " .
    يقول ابن حزم - عن قوله تعالى : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ... ) الآية : " لما كان اليهود والنصارى يحرِّمون ما حرَّم أحبارهم ورهبانهم ، ويُحلّون ما أحلوا ، كانت هذه ربوبية صحيحة ، وعبادة صريحة ، قد دانوا بها ، وسمى الله تعالى هذا العمل اتخاذ أرباب من دون الله وعبادة ، وهذا هو الشرك بلا خلاف (انظر : الفصل فى الملل والأهواء والنحل ، 3/266) .
    ويقول ابن تيمية عند كلامه عن نفس الآية :" وَفِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ طَوِيلٌ رَوَاهُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا - وَكَانَ قَدْ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ فَسَمِعَهُ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ : فَقُلْت لَهُ إنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ ؛ قَالَ : أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتُحِلُّونَهُ قَالَ : فَقُلْت : بَلَى . قَالَ : فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ .. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو البختري : أَمَا إنَّهُمْ لَمْ يُصَلُّوا لَهُمْ ، وَلَوْ أَمَرُوهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا أَطَاعُوهُمْ ، وَلَكِنْ أَمَرُوهُمْ فَجَعَلُوا حَلَالَ اللَّهِ حَرَامَهُ وَحَرَامَهُ حَلَالَهُ ؛ فَأَطَاعُوهُمْ فَكَانَتْ تِلْكَ الرُّبُوبِيَّةَ . وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ : قُلْت لِأَبِي الْعَالِيَةِ : كَيْفَ كَانَتْ تِلْكَ الرُّبُوبِيَّةُ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ ؟ قَالَ : كَانَتْ الرُّبُوبِيَّةُ أَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ فَقَالُوا : لَنْ نَسْبِقَ أَحْبَارَنَا بِشَيْءِ ؛ فَمَا أَمَرُونَا بِهِ ائْتَمَرْنَا وَمَا نَهَوْنَا عَنْهُ انْتَهَيْنَا لِقَوْلِهِمْ فَاسْتَنْصَحُوا الرِّجَالَ وَنَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ، فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ عِبَادَتَهُمْ إيَّاهُمْ كَانَتْ فِي تَحْلِيلِ الْحَرَامِ وَتَحْرِيمِ الْحَلَالِ لَا أَنَّهُمْ صَلَّوْا لَهُمْ وَصَامُوا لَهُمْ وَدَعَوْهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَهَذِهِ عِبَادَةٌ لِلرِّجَالِ وَقَدْ بَيَّنَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَ ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ شِرْكٌ بِقَوْلِهِ : (( لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ )) (انظر : مجموع الفتاوى ، كتاب العقيدة ، فصل إذا أطلق ظلم النفس ، جـ2 ، صـ 93 ).
    ويقول العز بن عبد السلام : "وتفرُد الإله بالطاعة لاختصاصه بنعم الإنشاء والإبقاء والتغذية والإصلاح الديني والدنيوي ، فما من خير إلا هو جالبه ، وما من ضُرٍ إلا هو سالبه .. وكذلك لا حكم إلاّ له (قواعد الأحكام 2/134 -135) .
    ثانيا : التحاكم وتوحيد الأسماء والصفات :
    أعلم يا أرشدك الله ، أن الذى يعتقد جواز التحاكم إلى أى جهة طاغوتية تحكم بغير ما أنزل الله ، خاصة فى هذا الزمان الذى لا نكاد نجد فيه حكومة إسلامية قائمة على تنفيذ شرع الله ، يلزمه أن يقول : أن الله سبحانه وتعالى لا يعلم بأن العصر سيتغير ، ومن قال ذلك أو اعتقده كَفر ؛ لأن ذلك قدحٌ صريح فى اسم الله " العليم " .. فإن خرج من هذه يلزمه أن يقول : أن الله يعلم لكنه سبحانه لم يُنزِّل بذلك أحكاماً ، فيكون قد تركنا هملاً فى أمور عظيمة نحتاجها ، ويكون أمره بأن نحتكم إليه سبحانه فى كل شىء ، وأن نَرُد ما تنازعنا فيه من شىء إلى الله ورسوله كله لغو !! تبارك الله وتعالى عن ذلك الافتراء .
    قال تعالى : " وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) سورة الشورى " ، وقال تعالى : " فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) سورة النساء .
    ثم تأمل يا باغى الحق ، كيف ربط الحق تبارك وتعالى بين عقيدة الحاكمية وأسمائه العَلِيَّة ،،
    قال تعالى : " أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً ... الأنعام : 114 "
    وقال سبحانه : " فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ " الأعراف : 87 .
    وقال عزوجل : " أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ " التين : 8 .
    وقوله تعالى : " وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) الشورى "
    يقول الشنقيطى عند تفسيره لهذه الآية : أعلم أن الله جل وعلا بين في آيات كثيرة ، صفات من يستحق أن يكون الحكم له ، فعلى كل عاقل أن يتأمل الصفات المذكورة ، التي سنوضحها الآن إن شاء الله ، ويقابلها مع صفات البشر المشرعين للقوانين الوضعية ، فينظر هل تنطبق عليهم صفات من له التشريع سبحان الله وتعالى عن ذلك ، فإن كانت تنطبق عليهم ولن تكون ، فليتبع تشريعهم ! وإن ظهر يقيناً أنهم أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك ، فليقف بهم عند حدهم ، ولا يجاوزه بهم إلى مقام الربوبية ، سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في عبادته ، أو حكمه أو ملكه ..
    فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها تعالى صفات من له الحكم والتشريع قوله هنا : وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله .. ، ثم قال مبيناً صفات من له الحكم : وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله ذَلِكُمُ الله رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فَاطِرُ السماوات والأرض جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير لَهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [ الشورى : 10 - 12 ] .
    فهل فى الكفرة الفجرة المشرعين للنُظم الشيطانية ، من يستحق أن يُوصف بأنه الرب الذي تُفوض إليه الأمور ، ويُتوكل عليه ، وأنه فاطر السماوات والأرض أي خالقهما ومخترِعِهما ، على غير مثال سابق ، وأنه هو الذي خلق للبشر أزواجاً ، وخلق لهم أزواج الأنعام الثمانية المذكورة في قوله تعالى : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين } [ الأنعام : 143 ] الآية ، وأنه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير } وأنه { لَهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض } ، وأنه هو الذي { يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِر } أي يُضَيِقهُ على من يشاء وهو { بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
    فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم ، ولا تقبلوا تشريعاً من كافر خسيس حقير جاهل .
    ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ النساء : 59 ] فقوله فيها : { فَرُدُّوهُ إِلَى الله } كقوله في هذه { فَحُكْمُهُ إِلَى الله } . وقد عجب نبيه صلى الله عليه وسلم بعد قوله : { فَرُدُّوهُ إِلَى الله } من الذين يدعون الإيمان مع أنهم يريدون المحاكمة ، إلى من لم يتصف بصفات من له الحكم ، المعبر عنه في الآيات بالطاغوت ، وكل تحاكم إلى غير شرع الله فهو تحاكم إلى الطاغوت ، وذلك في قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت وَقَدْ أمروا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً } [ النساء : 60 ] .
    فالكفر بالطاغوت ، الذي صرح الله بأنه أمرهم به في هذه الآية ، شرط في الإيمان كما بينه تعالى في قوله : { فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت وَيْؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } [ البقرة : 256 ] ، فيفهم منه أن من لم يكفر بالطاغوت لم يتمسك بالعروة الوثقى ، ومن لم يستمسك بها فهو مترد مع الهالكين ، ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى : { لَهُ غَيْبُ السماوات والأرض أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً } [ الكهف : 26 ] . فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأن له غيب السماوات والأرض؟ وأن يبالغ في سمعه وبصره لإحاطة سمعه بكل المسموعات وبصره بكل المبصرات؟ وأنه ليس لأحد دونه من ولي؟ سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
    ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى :{ وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ لاَ إله إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ القصص : 88 ] . فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأنه الإله الواحد؟ وأن كل شيء هالك إلا وجهه؟ وأن الخلائق يرجعون إليه؟
    تبارك ربنا وتعاظم وتقدس أن يوصف أخس خلقه بصفاته .
    ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى : { ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فالحكم للَّهِ العلي الكبير } [ غافر : 12 ] ، فهل في الكفرة الفجرة المشرعين النظم الشيطانية ، من يستحق أن يوصف في أعظم كتاب سماوي ، بأنه العلي الكبير؟
    سبحانك ربنا وتعاليت عن كل ما لا يليق بكمالك وجلالك .
    ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى : { وَهُوَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة وَلَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ القصص : 70 ] { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُون وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ القصص : 70 - 73 ] ، فهل في مشرعي القوانين الوضعية ، من يستحق أن يوصف بأن له الحمد في الأولى والآخرة ، وأنه هو الذي يصرف الليل والنهار مبيناً بذلك كمال قدرته ، وعظمة إنعامه على خلقه . سبحان خالق السماوات والأرض ، جل وعلا أن يكون له شريك في حكمه أو عبادته ، أو ملكه .
    ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى : { إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلك الدين القيم ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } [ يوسف : 40 ] ، فهل في أولئك من يستحق أن يوصف بأنه هو الإله المعبود وحده ، وأن عبادته وحده هي الدين القيم؟ سبحان الله وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً . ومنها قوله تعالى : { إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون } [ يوسف : 67 ] .فهل فيهم من يستحق أن يتوكل عليه ، وتفوض الأمور إليه ؟! ومنها قوله تعالى : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ الله إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [ المائدة : 49 - 50 ] .فهل في أولئك المشرعين من يستحق أن يوصف بأن حكمه بما أنزل الله وأنه مخالف لاتباع الهوى؟ وأن من تولى عنه أصابه الله ببعض ذنوبه؟ لأن الذنوب لا يؤاخذ بجميعها إلا في الآخرة ؟ وأنه لا حكم أحسن من حكمه لقوم يوقنون ؟
    سبحان ربنا وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله .
    ومنها قوله تعالى : { إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ الحق وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين } [ الأنعام : 57 ] . فهل فيهم من يستحق أن يوصف بأنه يقص الحق ، وأنه خير الفاصلين ؟ ومنها قوله تعالى : { أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب مُفَصَّلاً والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحق فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } [ الأنعام : 114 - 115 ] الآية .
    فهل في أولئك المذكورين من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي أنزل هذا الكتاب مفصلاً ، الذي يشهد أهل الكتاب أنه منزل من ربك بالحق ، وبأنه تمت كلماته صدقاً وعدلاً أي صدقاً في الأخبار ، وعدلاً في الأحكام ، وأنه لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ؟ سبحان ربنا ما أعظمه وما أجل شأنه.
    ومنها قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ } [ يونس : 59 ] . فهل في أولئك المذكورين من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي يُنزِّل الرزق للخلائق ، وأنه لا يمكن أن يكون تحليل ولا تحريم إلا بإذنه ؛ لأن من الضروري أن من خلق الرزق وأنزله هو الذي له التصرف فيه بالتحليل والتحريم ، سبحانه جل وعلا أن يكون له شريك في التحليل والتحريم . ومنها قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } [ المائدة : 44 ] . فهل فيهم من يستحق الوصف بذلك ؟ سبحان ربنا وتعالى عن ذلك.
    ومنها قوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ على الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النحل : 116 - 117 ] . فقد أوضحت الآية أن المشرعين غير ما شرعه الله إنما تصف ألسنتهم الكذب ، لأجل أن يفتروه على الله ، وأنهم لا يفلحون وأنهم يمتعون قليلاً ثم يعذبون العذاب الأليم ، وذلك واضح في بعد صفاتهم من صفات من له أن يحلل ويحرم .
    ومنها قوله تعالى : { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ الذين يَشْهَدُونَ أَنَّ الله حَرَّمَ هذا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ } [ الأنعام : 150 ] الآية . فقوله : { هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ } صيغة تعجيز ، فهم عاجزون عن بيان مستند التحريم . وذلك واضح في أن غير الله لا يتصف بصفات التحليل ولا التحريم " .. انتهى الكلام بتمامه من كلام العلامة الشنقيطى رحمه الله ، فى تفسيره الرائع أضواء البيان .

    ثالثا : التحاكم وتوحيد الإلوهية :
    توحيد الإلوهية أو الإلهية هو : إفراد الله عز وجل بجميع أنواع العبادة الظاهرة والباطنة قولاً وعملاً ، ونفى العبادة عن كل ما سوى الله تعالى كائناً من كان . ( انظر : 200 سؤال وجواب فى العقيدة الإسلامية ، حافظ بن أحمد حكمى ، صـ 18، 19 )
    والتحاكم عبـــــادة لا يجوز صرفها لغير الله ، بيان ذلك :
    قال تعالى : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) النساء "
    وقال تعالى : "إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ " يوسف : 40 .
    وقال سبحانه : "وهُوَ اللَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى والآخِرَةِ ولَهُ الحُكْمُ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ " القصص : 70 .
    وقال سبحانه : " إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ " يوسف67 .
    وقال سبحانه : " أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ " الأنعام 63 .
    وقال سبحانه : " وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاوَاقٍ " الرعد37 .
    وقال سبحانه : " وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا " الكهف 26 .
    ومما اتفق عليه الشيخان ، ما رواه البخارى فى كتاب التوحيد ـ باب قول الله تعالى (يريدون أن يبدلوا كلام الله ) ـ ورواه مسلم فى كتاب صلاة المسافرين وقصرها ـ باب الدعاء فى صلاة الليل وقيامه ـ

    واللفظ للبخارى من حديث عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال :
    ( كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا تهجد من الليل قال : اللهم لك الحمد ؛ أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد ؛ أنت رب السموات والأرض ومن فيهن ، أنت الحق ووعدك الحق ، وقولك الحق ، ولقاؤك حق ، والنار حق ، والجنة حق ، والنبيون حق ، والساعة حق ، اللهم لك أسلمت وبك آمنت، وعليك توكلت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، وإليك حاكمت ، فأغفر لى ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت ، أنت إلهى لا إله إلا أنت ) .
    جاء فى عمدة القارى شرح صحيح البخارى: كتاب التهجد ، باب التهجد بالليل ، عند شرح حديث ابن عباس ( وإليك حاكمت ) ورد فيه مانصه : وإليك حاكمت أي كل من جحد الحق حاكمته إليك وجعلتك الحاكم بيني وبينه لا غيرك مما كانت تحاكم إليه الجاهلية من صنم وكاهن ونار ونحو ذلك والمحاكمة رفع القضية إلى الحاكم ، وقيل ظاهره أن لا يحاكمهم إلا الله ولا يرضى إلا بحكمه قال الله تعالى ( ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) ( الأعراف98 ).أهـ
    فعبادة الله تعالى تقتضي إفراده عز وجل بالحاكمية (الحكم والتحاكم ) ، كما تقتضى إفراده عز وجل بالتشريع (التحليل والتحريم ) .
    حيث قال سبحانه : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ورُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ والْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا إلَهاً واحِداً لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) .
    فهذه الآيات تدل على أنها من توحيد العبادة أي [ توحيد الألوهية ] وأن الذي يشرك مع الله في حكمه كالذي يشرك في أي نوع من أنواع العبادة .
    قال الشنقيطي : الإشراك بالله في حكمه ، والإشراك في عبادته كلها بمعنى واحد ، لا فرق بينهما البتة ، فالذي يتبع نظاماً غير نظام الله وتشريعاً غير تشريع الله ، كالذي يعبد الصنم ويسجد للوثن ، لا فرق بينهما البتة بوجه من الوجوه ، فهما واحد ، وكلاهما مشرك بالله [ انظر أضواء البيان للشنقيطي 7/162 ]
    ويقول رحمه الله تعالى أيضا : " ويفهم من هذه الآية (ولا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدا) أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله ، وهذا المفهوم جاء مبيناً في آيات أخر ، كقوله فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة الله ولا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وإنَّهُ لَفِسْقٌ وإنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وإنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ) فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم ، وهذا الإشراك في الطاعة ، واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى ، هو المراد بعبادة الشيطان في قوله تعالى : ( أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) وقوله تعالى عن نبيه إبراهيم : (يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِياً " أضواء البيان 4/83 و 3/ 440 .
    ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم : ( وتحكيم الشرع وحده دون كل ما سواه شقيق عبادة الله وحده دون ما سواه ، إذ مضمون الشهادتين أن يكون الله هو المعبود وحده لا شريك له ، وأن يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو المتبّع المحكّم ما جاء به فقط ، ولا جردت سيوف الجهاد إلا من أجل ذلك والقيام به فعلاً وتركاً وتحكيماً عند النزاع [ فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 12/251 ، (رسالة تحكيم القوانين) .
    يقول الشنقيطى عند تفسير قوله تعالى : اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ‏ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ‏ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهًا وَاحِدًا‏ لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون وحديث النبى صلى الله عليه وسلم مع عدى عندما سأله فى هذه الآية قال : " وهذا التفسير النبوي يقتضي أن كل من يتبع مشرعاً بما أحل وحرم مخالفاً لتشريع الله أنه عابد له متخذه رباً مشركاً به كافر بالله هو تفسير صحيح لا شك في صحته والآيات القرآنية الشاهدة لصحته لا تكاد تحصيها في المصحف الكريم وسنبين إن شاء الله طرفاً من ذلك ...ثم قال : اعلموا أيها الإخوان أن الإشراك بالله في حكمه والإشراك به في عبادته كلها بمعنى واحد لا فرق بينهما البتة ، فالذي يتبع نظاماً غير نظام الله وتشريعاً غير تشريع الله ( أو غير ما شرعه الله ) وقانوناً مخالفاً لشرع الله من وضع البشر معرضاً عن نور السماء الذي أنزله الله على لسان رسوله من كان يفعل هذا هو ومن كان يعبد الصنم ويسجد للوثن لا فرق بينهما البتة بوجه من الوجوه فهما واحد كلاهما مشرك بالله ، هذا أشرك في عبادته وهذا أشرك في حكمه ، والإشراك به في عبادته والإشراك به في حكمه كلهما سواء " . اهـ
    رابعاً : التحاكم شرط في الإيمان :
    يقول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) النساء : 59 .
    فلقد عدّ الشارع هذا التحاكم إيماناً كما قال تعالى : فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) النساء : 65 .
    يقول ابن تيمية : " لذلك أوجبت الشريعة التحاكم إلى الشرع وجعلته شرط الإيمان ، قال تعالى : ( فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إ ن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ ) وقال سبحانه : ومَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ [الشورى : 10] .. وقال أيضا رحمه الله " فالشرع المنزل من عند الله تعالى وهو الكتاب والسنة الذي بعث الله به رسوله ، ليس لأحد من الخلق الخروج عنه ، ولا يخرج عنه إلا كافر .. انظر : مجموع الفتاوى ج 11 ص 262 " .. ويقول أيضا : فكل من خرج عن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشريعته ، فقد أقسم الله بنفسه المقدسة ، أنه لا يؤمن حتى يرضى بحكم رسول الله في جميع ما شجر بينهم من أمور الدين أو الدنيا ، وحتى لا يبقى في قلوبهم حرج من حكمه .. انظر : مجموع الفتاوى 28/471 " .
    ويقول ابن القيم : " إن قوله ( فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ ..) نكرة في سياق الشرط تعم كل ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين : دِقِّه وجُلِّه ، جليه وخفيه ، ولو لم يكن في كتاب الله ورسوله وبيان حكم ما تنازعوا فيه ، ولم يكن كافياً لم يأمر بالرد إليه ، إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فصل النزاع . ومنها أن جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه ، فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان ، ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه ، ولا سميا التلازم بين هذاين الأمرين فإنه من الطرفين ، وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر ، ثم أخبرهم أن هذا الرد خير لهم ، وأن عاقبته أحسن عاقبة (أعلام الموقعين 1/49-50) " .
    ويقول ابن كثير : " فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله ، وشهد له بالصحة فهو الحق ، وماذا بعد الحق إلا الضلال ، ولهذا قال تعالى : ( إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ ) أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم ، فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك ، فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر (تفسير ابن كثير 3/209) .

  3. افتراضي

    المبحث الثالث
    شبهات حول الموضوع

    توطئة هامة :
    إذا فهمت ما تقدم ، فقد سبق لك أيضا ـ إن كنت مسلماً حقاً ـ أن علمت أصل دين المسلمين وأنه : الكفر بالطاغوت والإيمان بالله ، وهو معنى كلمة التوحيد " لا إله إلا الله " التى هى العروة الوثقى وكلمة التقوى ومفتاح الجنة و سبب فلاح العبد فى الدارين ، وأنها مكونة من شقين (( نفى وكفر & إثبات وإيمان )) ، وأن شق (( النفى والكفر )) مُقَّدم على شق (( الإثبات والإيمان )) ، فـ " لا إله قرينة الكفر بالطاغوت " و " إلا الله قرينة الإيمان بالله " .
    وأنه لا يستقيم إيمان العبد ولايكون موحداً حتى يكفر بالطاغوت ، ولن يكفر بالطاغوت حتى يعلم ماهو الطاغوت ؟ وما هى صفة الكفر به ؟ ، لاسيما طاغوت عصره ومِصره .
    فبالنسبة للسؤال الأول ( ماهو الطاغوت ؟ )
    الطاغوت لغةً :
    مشتق من الطغيان وهى صفة تعنى مجاوزة الحد قال تعالى : " إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) الحاقة " أى لما زاد وتجاوز حده المعتاد.
    أما الطاغوت فى الشرع :
    هو كل من طغى وتجاوز حده ، وانتزع حقاً من حقوق الله تعالى ونسبه لنفسه ، وجعل نفسه نِداً لله فيما يختص به سبحانه وتعالى .
    قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه " الطاغوت : الشيطان " ، ويعلق ابن كثير رحمه الله على هذا قائلا : " ومعنى قوله في الطاغوت : إنه الشيطان قويٌ جداً فإنه يشمل كل شر كان عليه أهلُ الجاهليةِ ، من عبادة الأوثان والتحاكم إليها والاستنصار بها " اهـ
    نفهم من ذلك أن الشيطان هو : الطاغوت الأكبر الداعى إلى عبادة الأوثان والأصنام والتحاكم إلى الأمراء والكبراء والاستنصار بأهل الباطل والطغيان من دون الله ... شاهد ذلك قوله تعالى حاكياً عن إبراهيم عليه السلام : " يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) مريم " ، مع أن أباه كان يعبد الأصنام والتماثيل قال تعالى حاكيا عن إبراهيم عليه السلام : " وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) الأنعام " ، وقال أيضا : " إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) الأنبياء " ..... إذن فالشيطان هو الطاغوت الأكبر ودونه العديد من الطواغيت بل لايخلو زمان ولامكان من وجود طاغوت أو أكثر قال تعالى " وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) النحل ".
    لذا قال المحققون من أهل العلم : " أن الطاغوت كل ما عبد من دون الله وهو راض بالعبادة " ، وذلك استنادا إلى الكتاب والسنة وما ذكره الإمام مالك وجمهور أهل اللغة والواحدى والنووى .. وغيرهم رحمة الله على الجميع .
    وأشمل وأجمع ما يؤيد ذلك فى تعريف الطاغوت ، ماذكره العلامة ابن القيم رحمه الله فى ( أعلام الموقعين جـ1 ، صـ 50 ) حيث قال : " وَالطَّاغُوتُ : كُلُّ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ مِنْ مَعْبُودٍ أَوْ مَتْبُوعٍ أَوْ مُطَاعٍ ؛ فَطَاغُوتُ كُلِّ قَوْمٍ مِنْ يَتَحَاكَمُونَ إلَيْهِ غَيْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، أَوْ يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، أَوْ يَتْبَعُونَهُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ مِنْ اللَّهِ ، أَوْ يُطِيعُونَهُ فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ ؛ فَهَذِهِ طَوَاغِيتُ الْعَالَمِ إذَا تَأَمَّلْتَهَا وَتَأَمَّلْتَ أَحْوَالَ النَّاسِ مَعَهَا رَأَيْت أَكْثَرَهُمْ [ عَدَلُوا ] مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ إلَى عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ ، وَعَنْ التَّحَاكُمِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ إلَى التَّحَاكُمِ إلَى الطَّاغُوتِ ، وَعَنْ طَاعَتِهِ وَمُتَابَعَةِ رَسُولِهِ إلَى طَاعَةِ الطَّاغُوتِ وَمُتَابَعَتِهِ " اهـ .

    إذا فهمت ذلك ، وأيقنت أن الحاكم الجائر المُبدِّل لأحكام الله يعد طاغوتاً ـ كما ذكر جميع أهل العلم سلفهم وخلفهم ـ بل هو أبرز صورة للطاغوت فى زماننا هذا ، يقول سيد قطب ما ملخصه : " وإن أخص خصائص الألوهية هي الحاكمية . . والذي يُشرِّع لمجموعة من الناس يأخذ فيهم مكان الألوهية ويستخدم خصائصها . فهم عبيدُه لا عبيد الله ، وهم في دينه لا في دِين الله . والإسلام حين يجعل الشريعه لله وحده ، يُخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، ويُعلن تحرير الإنسان ، بل يعلن (ميلاد الإنسان) .. فالإنسان لا يولد ، ولا يوجد ، إلا حيث تتحرر رقبتة من حكم إنسان مثله " اهـ .

    فحُكَّام هذه البلاد التى كانت إسلامية منذ زمن ليس بالبعيد ، بدَّلوا شرع الله تعالى فأحلوا الحرام من خمر وربا وزنا .. وغير ذلك ، وغيروا العقوبات الشرعية من تشريعات فى الدماء والأموال والأعراض .. وغير ذلك ، وغيروا مصدر الحكم والتشريع أصلا من الكتاب والسنة إلى ما يسمى بالدستور فيصبح ماحرمه الله ورسوله وما شرعه من حدود لا يكون عندهم حرام حتى يُقِرُه الدستور ، وغيروا طريقة استخراج الأحكام من النظر فى الكتاب والسنة بواسطة العلماء المجتهدين لمعرفة الأحكام الشرعية إلى الحكم بالديمقراطية أى بأغلبية آراء الممثلين للشعب سواء كانوا يهودا أو نصارى أو علمانيين أو مرتزقة منتفعين ،،،، فكل من اتبع هؤلاء الحكام أو أيدهم أو رضى بحكمهم أو دافع عنهم أو أقرّهم على ما ذهبوا إليه فهو كافر مشرك وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم كمن يُفتى بشرعيتهم ويطلب من العوام طاعتهم وتأييدهم فيصد بذلك عن سبيل الله لقاء دراهم معدودات .. ثم علمت أن الله عز وجل قد أمرك وأوجب عليك الكفر بهذا الطاغوت بشتى صوره وبشريعته وبعبيده ، لا تحكيمه ، فإن تحاكمت إلى ذاك الطاغوت فى أى شىء صار حكم الله فيك أنك مؤمن بالطاغوت كافر بالله ، وزعمُك الإيمان بالله ورسوله بل وبجميع الرسل التى جاءت من عند الله إدعاء وكذب .

    ـ قال تعالى " ألمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) النساء "
    ـ وقال تعالى : " فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) البقرة .

    بالنسبة للسؤال الثانى ( ما هى صفة الكفر بالطاغوت ؟ )

    صفة الكفر بالطاغوت كما قال أهل العلم هى : (( أن تعتقد بطلان عبادة غير الله 1 وتتركها 2 وتكفرأهلها 3 وتعاديهم 4 وتبغضهم 5 )) ، بيان ذلك :
    1_ اعتقاد بطلان عبادة الطاغوت ، يوضحها قوله تعالى : " ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) الحج ، وفى سورة لقمان الآية رقم 32 "
    2_ ترك عبادة الطاغوت واجتنابها ، يوضحها قوله تعالى : " وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) النحل "
    وقوله تعالى : " إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) الصافات "
    والترك هنا على ثلاثة اقسم : الترك بالقول ، والترك بالاعتقاد ، والترك بالفعل ، ولا يكون العبد مجتنباً للطاغوت وتاركه حتى يأتى بهذه الأقسام الثلاثة من الترك ؛ لأن من الناس من يترك بقوله وفعله ولا يترك باعتقاده وهذا هو حال المنافقين .
    3_بُغض عبادة الطاغوت وبُغض أهلَها من عابدٍ ومعبود ، يوضحها قوله تعالى : " قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) الممتحنة "
    4_تكفير الطاغوت وعبيده ، يوضحها قوله تعالى : " إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ.. " ، كما أنه فى فجر الدعوة وقبل فرض القتال أو الجهاد وفى حالة الاستضعاف أمر الله تعالى رسول صلى الله عليه وسلم أن يجهر لقومه من المشركين ويصدع لهم بحكم الله فيهم ، قال تعالى: " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) .. سورة الكافرون " ، ولو كان فى الأمر سعة لأخفاها الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ تأليفا للقوم ومراعاة لحالة الاستضعاف .
    5_ معاداة الطاغوت وعبيده ، يوضحها قوله تعالى حاكيا عن الخليل إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء وإمام الحنفاء حين قال لقومه ومنهم الأب والأخ والعشيرة : " قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الشعراء " .
    ملخص الشبهات المُثارة حول الموضوع :
    إذا عرفت ما تقدم معرفة قلب ، فاعلم أننا حين نقرر هذه العقيدة بصفائها ونقائها ، وندعوا إليها ، كما قررها ربُنَا ووضحها نبيُنَا وطبقها سلفنا ، يظهر أمامنا منافقون ومرجفون وماجنون ومرتزقة منتفعون يزعمون .. (( أنه لاحرج على المسلم الموحد فى ديار الكفر فى أن يلجاء لمحاكم الطاغوت ؛ لجلب حق أو لدفع ظلم ، لاسيما وهو مستضعف تحت سلطان الطاغوت والمشركين ، وأنه حينما يضطر إلى هذا الفعل لا يطلب من الطاغوت أو ممن ينوب عنه فى طغيانه إلا تنفيذ وتطبيق حكم الله ليس أكثر .. ولسان حاله ـ أى هذا المتحاكم ـ يارب لو أجد حكومة أو أى جهة إسلامية تجلب لى حقى غير ذلك ما فعلت هذا قط )) .

    فيقولون أن الموحد الذى هذا حاله ، لا يكفر بمجرد هذا الفعل ؛ لتضافر عدة أدلة عندنا .. هى كالتالى :
    • أن شروط التحاكم المكفر هى : العدول عن شرع الله والتحاكم لشرع الطاغوت والرضا به وأن هذا الشخص الموحد لم يطلب من الطاغوت إلا تطبيق شرع الله .. ألا تقرأون آيات سورة النساء التى نزلت فى المدينة عندما كانت هناك حكومة إسلامية قائمة تنفذ شرع الله وتأطر الناس على الحق أطرا .. أم ما سمعتم عن تفسير ابن كثير وأمثاله من عمالقة التفسير لهذه الآيات ـ يقصدون آيات سورة النساء من الآية 60 إلى الآية 65 ـ الذين قالوا : أن الآيات نزلت فيمن عدل عن شرع الله وتحاكم للطاغوت راضيا بحكمه .
    • أن هناك كفر دون كفر فى مسألة التحاكم للطاغوت ، كما أن هناك كفر دون كفر فى مسألة الحكم بغير ما أنزل الله .. ثم ألا ترون أن هذا المسلم فى حالة استضعاف عام فى ديار الكفر ، بل وفى حالة ضرورة .. ألا تقرون معنا أنه متبرىء بالطاغوت بدءاً غير راضٍ بحكمه وأن الإيمان الباطن لا يزول بمجرد مخالفات الظاهر .
    • أن الله عز وجل قد كلفنا بالمحافظة على ( أنفسنا ، وأعراضنا ، وأموالنا ، ... ) ، بل وسائلنا عنها .. أم أنكم تجهلون الضرورات الخمسة التى أمرنا الشرع بحفظها .. أما سمعتم أن نبى الله يوسف عليه السلام الكريم بن الكريم بن الكريم عندما أضطر لذلك فعل أمورا ظاهرها عندكم التحاكم لكنها لا تعد تحاكماً فى حقيقتها .. أم أنكم تكفرون يوسف عليه السلام عندما قال " هى راودتنى عن نفسى " وعندما قال " ارجع إلى ربك ... " وإذا خرجتم من ذلك فما تعليقكم على قوله " اذكرنى عند ربك " .. بل يلزم عندكم أيضا أن تكفروا أخوة يوسف الذين طلبوا منه تبديل حكم الله عندما قالوا " خذ أحدنا مكانه " .. بل يلزمكم أن تكفروا خاتم النبيين وإمام الموحدين عندما قال عن حلف من أحلاف الجاهلية " لو دعيت لمثله فى الإسلام لأجبت " .
    • أن لدينا أدلة ساطعة من كلام أئمة الإسلام وأهل العلم المشهود لهم بالإجتهاد والتحقيق .. تؤكد أن هذا الفعل إذا صدر عن مسلم فى مثل هذا الحال لا يعد تحاكماً مكفراً ، وإليكم نص كلامهم :
    قال الإمام " محمد بن الحسن الشيبانى " ـ صاحب أبا حنيفة ـ فى مصنفه الزاخر ( السير الكبير ) ما نصه : وَلَوْ اسْتَوْدَعَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا شَيْئًا وَأَذِنَ لَهُ إنْ غَابَ أَنْ يُخْرِجَهُ مَعَهُ فَارْتَدَّ الْمُودَعُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، فَلَحِقَهُ صَاحِبُهُ وَطَلَبَهُ مِنْهُ فَمَنَعَهُ ، وَاخْتَصَمَا فِيهِ إلَى سُلْطَانِ تِلْكَ الْبِلَادِ ، فَقَصَرَ يَدَ الْمُسْلِمِ عَنْهُ ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ فَالْوَدِيعَةُ لِلْمُودِعِ لَا سَبِيلَ لِصَاحِبِهَا عَلَيْهَا.. ويقول أيضا : وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ أَسْلَمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ ، ثُمَّ غَصَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ شَيْئًا ، وَجَحَدَهُ ، فَاخْتَصَمَا إلَى سُلْطَانِ تِلْكَ الْبِلَادِ ، فَسَلَّمَهُ لِلْغَاصِبِ لِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ ، وَالرَّجُلَانِ مُسْلِمَانِ عَلَى حَالِهِمَا ، فَالْمَغْصُوبُ مَرْدُودٌ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ . لِأَنَّ رَدَّ الْعَيْنِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْغَاصِبِ ، بِحُكْمِ اعْتِقَادِهِ ، فَإِسْلَامُ أَهْلِ الدَّارِ لَا يَزِيدُهُ إلَّا وَكَادَةً ، وَبِقُوَّةِ سُلْطَانِ أَهْلِ الْحَرْبِ الْمُسْلِمُ لَا يَصِيرُ مُحْرِزًا مَالَ الْمُسْلِمِ ، وَلَا مُتَمَلِّكًا ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ هُوَ مُتَمَلِّكًا بِحُكْمِ سُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ ، فَكَيْفَ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا بِحُكْمِ سُلْطَانِ أَهْلِ الْحَرْبِ.. ويقول أيضا : وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَغَصَبَهُ حَرْبِيٌّ مَالًا ثُمَّ أَسْلَمُوا ، أَوْ صَارُوا ذِمَّةً ... فَإِنْ اخْتَصَمَا إلَى مَلِكِهِمْ فَجَحَدَ الْغَاصِبُ وَقَالَ : هَذَا مِلْكِي ، مَا أَخَذْته مِنْهُ ، فَأَقَرَّهُ مَلِكُهُمْ فِي يَدِهِ ، حَتَّى يَأْتِيَ الْمُسْلِمُ بِحُجَّةٍ ، ثُمَّ أَسْلَمُوا ، فَذَلِكَ سَالِمٌ لِلْغَاصِبِ . لِأَنَّ إحْرَازَهُ فِيهِ قَدْ تَمَّ بِتَقْرِيرِ مَلِكِهِمْ لِيَدِهِ فِي تِلْكَ الْعَيْنِ . اهـ

    ويقول الإمام العلامة " شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عبدالرحمن أبي بكر بن أيوب الزرعي المعروف بابن قيم المدرسة الجوزية بدمشق " فى مصنفه ( مدارج السالكين ) ما نصه : وأما الرضا بنبيه رسولًا فيتضمن كمال الانقياد له والتسليم المطلق إليه بحيث يكون أولى به من نفسه؛ فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره ؛ ولا يرضى بحكم غيره ألبته ، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله ، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته ، ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه ، لا يرضى في ذلك بحكم غيره ، ولا يرضى إلا بحكمه ، فإن عجز عنه كان تحكيمه غيره من باب غذاء المضطر إذا لم يجد ما يقيته إلا من الميتة والدم ، وأحسن أحواله أن يكون من باب التراب الذي إنما يتيمم به عند العجز عن استعمال الماء الطهور " اهـ .

    هذا ما خَلُصنا إليه وتنامى إلى أسماعنا من شبهات مخالفينا وخصومنا ، فى هذه القضية المحسومة البائنة ، فحالهم كما أخبرنا ربنا : " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) الأنعام " .

    فتأمل أرشدك الله فى هذه الآيات وأَعِد قرائتها ، فتجدها وكأنها نزلت فيهم وفى هذه القضيه بالتحديد .. ثم إذا تأملت فى حال مروجى هذه الشبهات لتتعجب أشد العجب من حالهم ؛ لثلاثة أمور هى كالتالى :
    الأمر الأول : تجدهم لايترددون فى إلحاق وصف الكفر بمن يجدوه متلبساً بهذا الفعل من غيرهم ، سواء كان مجهولاً حاله أو معلوماً عندهم .. وكأنهم ممن نزل فيهم قوله تعالى : " وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) المائدة " .. بل أحسن حالهم أن يكونوا كالذين قال الله فيهم : " وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) الأنعام " .
    الأمر الثانى : أنهم يُقرون أنه لا عذر لمكلف بالجهل فى الشرك الأكبر ؛ لأنه مرتبط بأصل الدين .. بل تراهم يُشنِّعون بمن يقول بغير ذلك ، بل ويفنِّدون شبهاته ويصفونه بالتنقص بمقام الصحابة والصالحين ، فى الوقت ذاته يقعوا فيما منه فروا وحذروا .. إذ تراهم فى مسألتنا هذه يتنقصون من مقام الصحابة والصالحين كـ ( أسامة بن زيد ـ الأسباط ) ، ولم يقف الأمر عند هذا ، فتراهم يتنقصون من مقام الأنبياء والمرسلين كـ ( يوسف ، محمد ) صلوات الله وتسليماته على أنبياء الله ورسله أجمعين .
    الأمر الثالث : أن أكثرهم إما تابع لشيخ من أئمة الضلال يُلبِّس عليه الباطل ويموه عليه الحق ، والمؤسف أنهم يعتبرونه من المجتهدين بل ربما يتمادى الأمر ببعضهم ليجعله من المعصومين ، وغاية الحاذق منهم تراه متشدقا بكلام لأحد السلف يستدل به ولا يستدل له وياليته فهمه ووضعه فى مناطه .. ثم هم فى الوقت ذاته يصولون ويجولون منذرين منددين بعبادة الأحبار والرهبان ، فينتكسوا فيما منه هربوا وفروا .
    وما أجمل ما قال ( ابن القيم ) فى نونيته ، عمن هذا حالهم :
    جعلو كلام شيوخهم نصاً له الإحكام موزنا به النصان ِ
    وكلام رب العالمـين وعبده متشابهـــاً متحملاً لمعانِ
    فانظر يا هداك الله .. هذا حال القوم ، وهذه بضاعتهم ، وذاك هذيانهم ، وتلك شبهاتهم التى استلوها من جعبة إبليس وحزبه .. ونحن إن شاء الله داحضوها ، وكاشفون عوارها ومفنِّدُوهَا ، مستلهمين من العزيز الحميد التوفيق والتسديد ؛ للرد على شبهات أهل الشرك والتنديد ، وإبراز صفاء عقيدة أهل الإيمان والتوحيد .

    الشبهة الأولى : فى تعريف التحاكم :
    أولا : بالنسبة للقول بأن آيات سورة النساء والمائدة مدنية ، وهى :
    قوله تعالى : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) النساء " .
    وقوله تعالى : " أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) المائدة " .
    أنها نزلت فى المدينة عندما كانت هناك حكومة إسلامية ، ومن ثم وُجِدَت صفة العدول عن شرع الله .. فالرد عليه من وجوه :

    الوجه الأول : ـ
    أن تعلم أن العبرة فى نصوص القرآن والسنة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .. ثم أن آياتى سورة النساء تضمنت كل آية منهما وصفاً وحكماً مستقلاً عن الأخرى ، بيان ذلك :
    الآية رقم (60) التى قال الله تعالى فيها : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا " .
    .. أقول هذه الآية الكريمة قد حكمت بالضلال البعيد على من أراد ـ مجرد الإرادة ـ التحاكم للطاغوت ، ومعلوم أن الضلال البعيد هو " الشرك " ، قال تعالى : " إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) النساء " .. كما أن الآية الكريمة حكمت بأن من أراد مجرد إرادة التحاكم للطاغوت ، لم يحقق الكفر بالطاغوت الذى أراده الله عز وجل منه ، ومن ثم فلم يحقق ركن كلمة التوحيد الأول ، وهو " الكفر بالطاغوت " ، قال الله تعالى " فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " (256) البقرة . كما أنَّ هذا المتحاكم للطاغوت قد حقق إرادة الشيطان لا إرادة الرحمان ، قال الله تعالى : " وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا " النساء 60 .
    ، أما الآية التى بعدها رقم (61) والتى قال الله تعالى فيها : " وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا " ، فقد بينت أن من تحاكم للطاغوت فى الظاهر ـ دون إكراه ملجىء _ يلزمه أن يكون منافقاً فى الباطن ؛ فهذه الآية الكريمة حكمت بكفر الباطن أيضا ـ ومعلوم أن النفاق من أنواع الكفر ـ لمن ترك شرع الله ورسوله .
    قال ابن تيمية : " فمن قال بلسانه كلمة الكفر من غير حاجة عامداً لها عالماً بأنها كلمة كفر فإنه يكفر بذلك ظاهراً و باطناً و لأنَّا لا نُجَّوِز أن يُقال : إنه في الباطن يجوز أن يكون مؤمنا و من قال ذلك فقد مرق من الإسلام قال سبحانه : { من كفر بالله من بعد إيمانه ـ إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان و لكن من شرح بالكفر صدرا ـ فعليهم غضب من الله و لهم عذاب عظيم } [ النحل : 106 ] " اهـ ( الصارم المسلول 3 / 95 ) .
    ويقول رحمه الله أيضا : " و ذلك لأن الإيمان و النفاق أصله في القلب و إنما الذي يظهر من القول و الفعل فرعٌ له ودليلٌ عليه فإذا ظهر من الرجل شيء من ذلك ترتب الحكم عليه " ( الصارم المسلول 1 / 34 ) .
    وبالنسبة لآية المائدة " أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ " ، فليس لهم حجة فيها ؛ لأنها تتضمن ذم حكم الجاهلية ، فإذا كان حكم الجاهلية مذموم ومستقبح قبل الرسالة وقبل قيام دولة إسلامية تطبق شرع الله ، فهل يكون مستحسناً وخيراً بعد الرسالة !! .
    الوجه الثانى : ـ
    أن تعلم أن من كمال عدل الله سبحانه وتعالى أن جعل حكمه عز وجل قائماً حتى قيام الساعة .. (( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ )) (42) الأنفال ، فالتحاكم لله لا ينحصر فى التحاكم لسلطة مسلمة قائمة تُنفِذ شرع الله ، بقدر ما يتمثل فى التحاكم لميراث السماء الشامل الكامل الخالد ، الذى أنزله الله عز وجل للناس من فوق سبع طباق ؛ ليتعبدوا بما فيه وليحكموا به ويتحاكموا إليه فى كل شىء ، دليل ذلك :
    (1) من كلام ربِنا ؛ قوله تعالى : (( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) البقرة )) ، وقال تعالى : فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) النساء ... ومعلوم أن الرد إلى الله الرد إلى كتابه ، وأن الرد إلى الرسول الرد إليه فى حياته وإلى سنته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم .
    كما أن الله عز وجل ذم تحاكُم أهل الجاهلية للطاغوت قبل البعثة وقبل وجود حكومة مُطّبِقة لحكم الله على الأرض ، فهل يجوز لعاقل أن يقول أنه قد أباحه ورخص فيه بعد أن بعث رسوله وأكمل دينه .. تعالى الله عن ذلك الإفتراء .
    جاء فى تفسير الطبرى لقوله تعالى: " فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " (256) البقرة ، قال الطبرى رحمه الله : (( حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج:"فمن يكفر بالطاغوت"، قال: كهان تنزل عليها شياطين ، يلقون على ألسنتهم وقلوبهم = أخبرني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله، أنه سمعه يقول: - وسئل عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها فقال-: كان في جهينة واحد، وفي أسلم واحد، وفي كل حي واحد، وهي كهان ينزل عليها الشيطان)) أ . هـ

    وجاء فى تفسير اللباب لابن عادل فى تفسير آية النساء رقم 60
    قال جابر : كَانَتِ الطَّواغِيتُ التي يَتَحَاكَمُون إليها واحدٌ في جُهَيْنَة ، ووَاحِدٌ في أسْلَم ، وفي كُلِّ حَيٍّ واحدٌ ، قال السيوطي : وقد أخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس ، قال : كان برزة الأسلمي كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه ، فتنافر إليه ناس من المسلمين ، فأنزل الله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ } الآية .

    (2) ومن سنة نبينا ، فيظهر من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن مالكاً للسلطة التنفيذية المُلزِمة لما يحكم به فى مكة وفى فترة طويلة فى المدينة . بدليل أنه لما تحاكم إليه اليهودى والمنافق لم يأخذ حق اليهودى من المنافق ، مما دفعهما إلى الذهاب إلى أبى بكر ثم إلى عمر رضى الله عنهما.
    جاء فى تفسير ابن كثير لقول الله تعالى : " فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ .. " ما نصه : قال الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دُحَيْم في تفسيره: حدثنا شُعَيب بن شعيب حدثنا أبو المغيرة، حدثنا عتبة بن ضَمْرَة، حدثني أبي: أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للمحق على المبطل، فقال المقضيّ عليه: لا أرضى. فقال صاحبه: فما تريد؟ قال: أن نذهب إلى أبي بكر الصديق، فذهبا إليه، فقال الذي قُضي له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لي فقال أبو بكر: فأنتما على ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم فأبى صاحبه أن يرضى، قال: نأتي عمر بن الخطاب، فأتياه، فقال المقضى له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى لي عليه، فأبى أن يرضى، ثم أتينا أبا بكر، فقال: أنتما على ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يرضى . فسأله عمر، فقال: كذلك، فدخل عمر منزله وخرج والسيف في يده قدْ سَلَّه، فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى، فقتله، فأنزل الله: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ... إلى آخر الآية } .

    الوجه الثالث : ـ
    أن العدول والحياد عن حكم الله يكون بـــ ( إرادة التحاكم أو بالتحاكم لغيره ) مع العلم بوجود حكم الله ورسوله فى المسألة المتنازع فيها ـ وهذا يلزم كل مسلم يؤمن بقول الله "وما اختلفتم فيه من شىء فحكمه إلى الله" ، وقوله تعالى "ما فرطنا فى الكتاب من شىء" ـ وبغض النظر عما إذا كان لهذا الحكم قوة إلزامية تنفذه من قبل المسلمين أم لا ؛ لأن هذا يعود إلى تفريط المسلمين ، لا إلى تفريط رب العالمين ـ سبحانه وجل شأنه ـ .. فمن علم بوجود حكم الله فى مسألة ما وذهب ليأخذ حكم غير الله فيها ، فيقال أنه ترك حكم الله ورسوله وعدل وحاد عنه واختار حكم غيره .

    ثانيا: بالنسبة للإستدلال بكلام ابن كثير فى تفسير هذه الآيات :
    عندما قال : " ... والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة ، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل ، وهو المراد بالطاغوت هاهنا ". ( انظر : تفسير القرآن العظيم لابن كثير ، سورة النساء الآيات 60، 61 ) ، وعندما قال : " ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المُحْكَم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله " ( انظر : تفسير القرآن العظيم لابن كثير ، سورة المائدة الآية 50 ) .
    لا نقول كلام ابن كثير المتقدم لا تقوم به حجه فى ذاته ـ وإن كان هذا أمر وارد ـ لكنه استدلال فى غير محله لوجوه منها :-
    (1) أن ابن كثير رحمه الله كما يقول (أحمد شاكر) فى عمدة التفاسير : يصف لنا حالة الدولة الإسلامية التى كانت آنذاك بريئة من هذا العار وهو تنحية شريعة الله عن الحكم بين عباد الله .
    (2) أن ابن كثير رحمه الله لم يقل بجواز التحاكم للطاغوت فى حالة عدم وجود حكومة إسلامية تطبق شرع الله .. فهل نفترى عليه الكذب ونُقَّوْلَه ما لم يقُل ؟! .
    (3) أن ما ذكره ابن كثير رحمه الله من وجود سلطة إسلامية تحكم بين العباد بشرع الله فى تلك الحقبة الزمنية التى يتحدث عنها ، هو ما يسميه الأصوليون بالقيد الأغلبى وهو مايغلب وجوده وليس له مفهوم ، بدليل ؛
    ـ أن قول الله تعالى : وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) المؤمنون .
    لا نفهم منه أن هناك إله باطل له برهان .
    ـ وأن قول الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) آل عمران .
    لا نفهم منه أنه يجوز أكل الربا القليل دون الأضعاف المضاعفة .
    ـ وأن قول الله تعالى : وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) النور .
    لا نفهم منه أنه يجوز إكراه الفتيات على الزنا إن لم يردن الزواج .
    (4) أن هناك فرق بين القيام بالفعل وترك القيام به وكلاهما عمل ؛ لأن ترك العمل عمل ، فالتحاكم للطاغوت عمل ، و ترك التحاكم لله عمل ، وكل واحدة منهما كفر مستقل بذاته ، من أتى بواحدة منهما خرج من دائرة الإسلام .
    مع ملاحظة أنه ليس بالضرورة أن يكون كل ترك للتحاكم لشرع الله كفر .
    (5) أن من يقول بذلك يفترى على أئمة العلم الكذب فيأخذ ما يشتهيه ويترك ما لا يشتهيه ، فمن يُروِّج لهذه الشبهة يترك كلام ابن كثير فى نفس الموضع عند تفسيره لآيات سورة النساء المتقدمة عندما قال : " هذا إنكار من الله، عز وجل، على من يدّ عي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين ، وهو مع ذلك يريد التحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله .. " ، وعند تفسير الآية التى قبلها قال : " وقوله: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } قال مجاهد وغير واحد من السلف: أي: إلى كتاب الله وسنة رسوله ، وهذا أمر من الله، عز وجل، بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة ،كما قال تعالى: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } [الشورى:10] فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال ، ولهذا قال تعالى: { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي: ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } ، فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك ، فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر ، وقوله: { ذَلِكَ خَيْرٌ } أي: التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله . والرجوع في فصل النزاع إليهما خير { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } أي : وأحسن عاقبة ومآلاً كما قاله السدي وغير واحد . وقال مجاهد : وأحسن جزاء . وهو قريب " اهـ .

    ثالثا : بالنسبة للقول بأن المسلم الموحد فى هذه الأيام لا يطلب من الطاغوت إلا تطبيق شرع الله .. فباطل من وجوه :

    الوجه الأول :-
    قوله تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ – مقام إسلام- ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ - مقام إيمان - وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا - مقام إحسان - (65) سورة النساء . فهذه الآية الكريمة اشتملت على مراتب الدين الثلاثة (الإسلام – الإيمان – الإحسان ) ... انظر شرح رسالة تحكيم القوانين نقلاً عن ابن القيم ..
    لذا فتحكيم أى جهة يدل على اختيار هذه الجهة للتحاكم وهذا مقام الإسلام أو الكفر . أما رضا النفس وقبولها لهذا الحكم بعد القضاء فهذا مقام الإيمان أو النفاق . وأما الإذعان والتسليم المطلق لهذا الحكم عند التنفيذ فهذا مقام الإحسان أو القنوط من رحمة الرحمن ، ومن هنا كان مجرد الذهاب للطاغوت طلباً للتحاكم كفراً بالله وإيماناً بالطاغوت ، وذلك كُله قبل أن يَشْرع الطاغوت فى الحكم ، بدليل قول الله تعالى :
    فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ (42) المائدة . يقول ابن كثير فى تفسير هذه الآية (فإن جآءوك أى يتحاكمون إليك) فجعلهم متحاكمين قبل أن يفصل بينهم فى الحكم .

    الوجه الثانى:-
    أن المتحاكم للطاغوت لا يدرى أيصيب الطاغوت حكم الله أم يخطئه ، وعادة ما يخطئه ؛ لأن العدل عند الطاغوت ما تقرره قوانينه لا قوانين السماء . وإن وافق حكم الطاغوت حكم الله فى المسألة لا يجوز أن نسمى ما حكم به الطاغوت بأنه حكم الله ، ولكن يمكن أن نسميه موافقاً لحكم الله ؛ لأن ما كان موافقاً لحكم الله لا يسمى حكم الله ، مثلما نقول هذا كلام زيد وهذا ما يوافق كلام زيد ، فمعلوم أن هناك فرق بين كلام زيد نفسه وما يوافق كلام زيد . مثال آخر : كان فى الجاهلية حرام على الإبن أن ينكح أمه أو أخته أو عمته أو خالته ، ثم أقر الإسلام ذلك فقال تعالى: " حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ ... الآية .
    فإن جاء من يحكم بحرمة نكاح هؤلاء ؛ إستناداً لعادات الجاهلية وأحكامها ، فهو بذلك طاغوت والتحاكم إليه تحاكم للطاغوت وإن جاء حكمه هذا موافقا لحكم الله .
    قال ابن كثير رحمه الله : (( قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي ، حدثنا قُرَاد ، حدثنا ابن عيينة عن عمر، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يُحَرِّمون ما حرم الله ، إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين ، فأنزل الله: " وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ".. ، " وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ " وهكذا قال عطاء وقتادة )) اهـ { انظر : تفسير القرآن العظيم لابن كثير ، سورة النساء ، الآية 22 }.

    الوجه الثالث :-
    لا يستطيع أحد أن يجبر الطاغوت – إلا أن يشاء الله – على أن يحكم له بشرع الله ، لاسيما المسلم المستضعف فى دار الكفر ، كما أن الخصم الكافر الذى تُحَاكمهُ إلى الطاغوت ، له محاموه الحاذقين فى قلب الحقائق والتعامل مع قوانين الطاغوت والتحايل عليها ، وما أسهل التحايل على قوانين البشر !!

    الوجه الرابع :-
    أن المتحاكم للطاغوت هذا قد أقر بشرعية وجوده وتحكُّمه فى رقاب الناس ودمائهم وأموالهم كيف شاء وأنى شاء ، بل وخلع عليه صفة الإلوهية ، ووضع مقاليد أمره فى يده وتحت تصرفه وحكمه ، بل لا يخلو الأمر من أنه قد تولاه ورضى به وأذعن لسلطانه ورفض سلطان رب الأرض و السماوات ، سواء حدث ذلك بقصد منه أو بدون قصد .
    فأى عبودية شر من خضوع الإنسان لما يُشَرِّعه له إنسان مثله ؟! ... وأى عبودية شر من تعلق قلب إنسان بإرادة إنسان مثله ؟! ... وأى عبودية شر من تعلق مصائر إنسان بهوى إنسان مثله ؟! ... وأى عبودية شر من أن توضع رقاب و أرواح وأموال إنسان تحت هوى وشهوات إنسان مثله ؟! .
    رابعا : إن الذين يزعمون أنه يجوز للمرء أن يتحاكم إلى الطاغوت ، فى حالة عدم وجود حكومة مطبقة لشرع الله ، يلزمهم أن يقولوا :
    لدينا نص من قرآن أو سنة أو إجماع يجيز ذلك ، أو أنه ليس هناك نص فيكون من باب المباح المسكوت عنه .. ونجيب عليهم بقولنا : أنه لا يوجد نص من كتاب أو سنة أو إجماع يجيز ذلك ، حتى إن أوَّلتُم بعض النصوص ـ كعادتكم ـ على إحدى الإحتمالات التى تخدم شهواتِكم وشبهاتِكم .. فنقول ما تطرق إليه الإحتمال بطل به الإستدلال ، خاصة والمقام مقام كفر وإيمان .. ثم إن ما سقناه لكم من أدلة وآيات فقطعى الدلالة قطعى الثبوت على كفر المتحاكم للطاغوت ، وإن انعدم وجود حكومة إسلامية تناسب سبب نزول النص ؛ لأن العبرة عند المسلمين سلفهم وخلفهم بدعيهم وسنيهم بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
    ـ فلا يبقى لكم إلا أن تقولوا : أنه من باب المسكوت عنه ، فنقول لكم : فما جوابكم عن قوله تعالى : " فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) النساء " ، وكلمة شىء هنا ـ كما يقول أهل اللغة ـ جاءت نكرة فى سياق الشرط فتكون أعم كلمة فى اللغة ، فتشمل كل ما تنازع فيه جنسا وقدرا وكما وكيفا ، فإن أقررتم بهذا إقرار قلب ، فيلزمكم القول بأن ما أمرنا الله به من الإحتكام إلي كتابه وسنة رسوله فى كل شىء وأن نرد ما تنازعنا فيه من شىء إليهما يكون كله لغو (( تعالى الله عن ذلك )) ، بل سبحانه الذى نزل الكتاب تبيانا وتفصيلا لكل شىء .
    ـ فإن أبيتم بعد كل هذا إلا الإستمرار على ضلالكم ، فما جوابكم عن دعوة يوسف عليه السلام لمن معه فى السجن إلى عدم التحاكم للطاغوت ، وكيف بَيَّن لهم يوسف الصديق عليه السلام أن التحاكم عبادة لا يجوز صرفها لغير الله ، قال تعالى : " إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يوسف " .. فهل كانت هناك حكومة إسلامية آنذاك فى مصر الفرعونية تطبق شرع الله !! ، أم أنه كانت هناك حكومة إسلامية تطبق شرع الله فى جزيرة العرب قبل الهجرة عندما نزل قول الله تعالى : " أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) الأنعام " يقول البغوى فى تفسيره لهذه الآية ما نصه : " قل لهم يا محمد أفغير الله، { أَبْتَغِي } أطلب { حَكَمًا } قاضيا بيني وبينكم " اهـ ، ومعلوم أن الآية مكية بل والسورة بكاملها مكية !! .

    الشبهة الثانية : كفر دون كفر :
    فقولكم : أن هناك كفراً دون كفر فى مسألة التحاكم للطاغوت ، كما أن هناك كفراً دون كفر فى مسألة الحكم بغير ما أنزل الله .. فسيتم الرد عليه من وجوه :
    أولا : دلالة هذا المصطلح ، ومدى دقته ، ومناط تطبيقه : ـ
    يقول أحد الباحثين المعاصرين تعليقاً على هذه العبارة ما نصه : (( هذا العبارة المنسوبة لابن عباس في رده على الخوارج ، عندما قال لهم : " إنه ليس الكفر الذي تذهبون إليه، إنه ليس كفراًً ينقل عن الملة: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [المائدة: 44] كفر دون كفر".
    هذا الأثر يُروى من طريق سفيان بن عيينة عن هشام بن حجير عن طاووس عن ابن عباس أنه قال: " إنه ليس الكفر الذي تذهبون إليه، إنه كفر دون كفر" - رواه الحاكم وغيره من طريق هشام بن حجير المكي .
    وهشام بن حجير ضعفه الأئمة الثقاة ولم يتابعه على هذه الرواية أحد ، قال أحمد بن حنبل في (هشام): "ليس بالقوي"، وقال: "مكي ضعيف الحديث" وهذا طعن من جهة الرواية ، وضعفه يحيى بن سعيد القطان وضرب على حديثه، وضعفه علي بن المديني وذكره العقيلي في الضعفاء، وكذا ابن عدي.
    ولذلك لم يرو له البخاري ومسلم إلا متابعة أو مقروناً مع غيره وكانت أحاديثه من الأحاديث المنتقدة على الصحيحين.
    أما البخاري فلم يرو له إلا حديثاً واحداً هو حديث (سليمان بن داود عليهما السلام): "لأطوفن الليلة على تسعين امرأة... الحديث". أورده في كفارة الأيمان من طريق هشام وتابعه في كتاب النكاح برواية عبد الله بن طاووس. ومن المعلوم أن الحافظ ابن حجر من عادته في مقدمة فتح الباري أن يذب عمن تكلم فيهم بغير حق ويدافع بكل ما أوتي من علم، أما من ظهر له ضعفهم وأن البخاري لم يعتمد عليهم وحدهم وإنما أوردهم في المتابعات أو مقرونين ، راجع في هذا ما قاله الشيخ الهروي في كتابه: "خلاصة القول المفهم على تراجم رجال الإمام مسلم".

    والخلاصة أنه عرف مما سبق أنه لا حجة لمن حاول تقوية هشام بالاحتجاج برواية البخاري ومسلم له.. لأنهما لم يرويا له استقلالاً ولكن متابعة.. وهذا من الأدلة على تضعيفه إذا انفرد.
    ومن أجل هذا كله لم يوثق هشام بن حجير إلا المتساهلون كابن حبان فإنه مشهور بالتساهل في التوثيق. ومثله العجلي، قال المعلم اليماني: "توثيق العجلي وجدته بالاستقراء كتوثيق ابن حبان تماماً أو أوسع". الأنوار الكاشفة ص: (68).
    وكذا توثيق ابن سعد فإن أغلب مادته من الواقدي المتروك كما ذكر ابن حجر في مقدمة الفتح عند ترجمة عبد الرحمن بن شريح.
    فإذا كان هذا حال من وثقوه فإن رواياته لا تقوم بها حجة بتوثيقهم هذا.
    فكيف وقد عارضهم وقال بتضعيفه الأئمة الجبال الرواسي كأحمد وابن معين ويحيى بن سعيد القطان وعلي بن المديني وغيرهم.

    فخلاصة القول: أن هشام بن حجير ضعيف لا تقوم به حجة استقلالاً وحده. نعم هو يصلح في المتابعات كما عرفت، والمحتجون به لم يوردوا له على رواية ابن عباس هذه متابع ، فيترجح ضعفها وعدم صحّة الجزم بنسبتها إلى ابن عباس.
    بل قد روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس بإسناد صحيح في تفسير هذه الآية غير ذلك فقال: ثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال سئل ابن عباس عن قوله تعالى: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44) سورة المائدة " قال: هي به كفر. قال ابن طاووس: "وليس كمن كفر بالله وملائكته ورسله " .

    بيان مناط تلك المقولة وأمثالها
    هذا من جهة الرواية والإسناد ، أما من جهة المناط والتحقيق ، فنقول: أن قول ابن عباس هذا إن صح - إذ قد صح قريب من معناه عن غيره - فهو رد على الخوارج الذين أرادوا تكفير الحكمين ، علي ومعاوية ومن معهما من المسلمين لأجل الخصومة والحكومة التي جرت بينهم في شأن الخلافة والصلح وما جرى بين الحكمين عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري .. إذ تلك الحادثة كانت أول مخرجهم - كما هو معلوم - فقالوا: "حكّمتم الرجال": ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [المائدة: 44] ولا شك أنهم مخطئون في ذلك ضالون .. إذ ذلك الذي وقع بين الصحابة ولو جار بعضهم فيه على بعض ليس بالكفر الذي ينقل عن الملة بحال ، وقد بعث علي رضي الله عنه عبد الله بن عباس إلى الخوارج يناظرهم في ذلك ، فخرج إليهم فأقبلوا يكلمونه ، فقال : نقمتم من الحكمين وقد قال الله عز وجل : فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها .. سورة النساء: 35 فكيف بأمة محمد صلى الله عليه وسلم .
    قالوا له : ما جعل الله حكمه إلى الناس وأمرهم بالنظر فيه فهو إليهم وما حكم فأمضى فليس للعباد أن ينظروا في هذا .
    فقال ابن عباس: فإن الله تعالى يقول : " يحكم به ذوا عدل منكم [المائدة: 95] " .
    قالوا: تجعل الحكم في الصيد والحرث ، وبين المرأة وزوجها كالحكم في دماء المسلمين؟ وقالوا له : أعدلٌ عندك عمرو بن العاص وهو بالأمس يقاتلنا ؟ فإن كان عدلاً، فلسنا بعدول، وقد حكّمتم في أمر الله الرجال".
    والشاهد.. أنه بعد هذه المناظرة رجع منهم إلى الحق خلقٌ.. وأصر آخرون على ضلالهم وانشقوا عن جيش " علي " بعد حادثة الحكمين هذه، وهم أصل الخوارج .
    فعمد مشركى العصر إلى تلك المقولة المنسوبة لابن عباس وما شابهها من أقوال أخرى لبعض التابعين .. كطاووس وابنه وأبي مجلز والتي كانت كلها في شأن الخوارج.. وطاروا بها كل مطير ، لينزلوها زوراً وبهتاناً في محل غير محلها وواقع غير واقعها ومقام غير مقامها . بدليل أن هذه اللفظة التي يحتج بها هؤلاء، فيها قول ابن عباس مخاطباً أناساً بعينهم، عن واقعة بعينها: " إنه ليس الكفر الذي تذهبون إليه"، فلفظة "الذي تذهبون" خطاب للخوارج ومن تبعهم في زمانه، في واقعة معلومة معروفة.. فقوله إذاً ليس في تفسير الآية، وإنما في المناط الخطأ الذي علّقها الخوارج خطأ فيه، بدليل أن الآية أصلاً تتكلم عن الكفار المبدّلين لشرع الله يهوداً كانوا أو غيرهم وسيأتي تفصيل هذا.. فهل يُعقل أن يقول ابن عباس أو غيره من أهل الإسلام في تبديل اليهود أو غيرهم لحكم أو حد من حدود الله - كالدية أو حد الزنا - انه كفر دون كفر؟؟ فمقولته هذه إذن - على تقدير صحتها - هي في المناط الباطل الذي أراد الخوارج إنزالها فيه وليست في بيان الآية وتفسيرها نفسها.. فتنبه، ولا تنخدع بتلبيسات الضالين..
    يقول أحمد محمد شاكر في تعليقاته على (عمدة التفسير) عن هذه الآثار : " وهذه الآثار - عن ابن عباس وغيره - مما يلعب به المضللون في عصرنا هذا ، من المنتسبين للعلم، ومن غيرهم من الجرءاء على الدين: يجعلونها عذراً أو إباحة للقوانين الوثنية الموضوعة ، التي ضربت على بلاد الإسلام" اهـ (4/156).
    وينقل رحمه الله تعالى في الموضع نفسه تعليق أخيه محمود شاكر على آثار مشابهة، يناقش فيها أبو مجلز وهو أحد التابعين بعض الخوارج في زمانه، أوردها الطبري في تفسيره (10/348) ، قال : " اللهم إني أبرأ إليك من الضلالة، وبعد، فإن أهل الريب والفتن ممن تصدروا للكلام في زماننا هذا، قد تلمّس المعذرة لأهل السلطان في ترك الحكم بما أنزل الله، وفي القضاء في الدماء والأعراض والأموال بغير شريعة الله التي أنزلها في كتابه، وفي اتخاذهم قانون أهل الكفر شريعة في بلاد الإسلام. فلما وقف على هذين الخبرين، اتخذهما رأياً يرى به صواب القضاء في الأموال والأعراض والدماء بغير ما أنزل الله، وأن مخالفة شريعة الله في القضاء العام لا تكفر الراضي بها، والعامل عليها.. ".
    وساق مناسبة تلك الآثار وأنها كانت مناظرة مع الخوارج الذين أرادوا تكفير ولاة زمانهم بالمعاصي التي لا تصل إلى الكفر.. ثم قال: "وإذن فلم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعة زماننا، من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام، بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فهذا الفعل إعراض عن حكم الله ، ورغبة عن دينه ، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى ، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه . اهـ .
    فإذا عرف المنصف الذي وُفق لطلب الحق ، هذا كله ، وفهم مناط تلك الأقوال المنسوبة لابن عباس وغيره من السلف . والواقع الذي قيلت فيه وصفة القوم الذين قيلت لهم وصفة مقالاتهم .
    ثم نظر بعين البصيرة فيما نحن فيه اليوم من تشريع مع الله ما لم يأذن به الله، واستبدال الذي هو أدنى من زبالات القوانين الوضعية وأهواء البشر، بأحكام الله وتشريعاته وحدوده المطهرة.
    عرف فداحة ذلك التلبيس العظيم والتضليل المبين الذي يقوم به مشركى العصر بإنزال تلك النصوص على واقع مغاير كل المغايرة لواقعها الذي قيلت فيه، ترقيعاً لجريمة العصر هذه ومجرميها..
    فهل كان علي ومعاوية ومن معهم من الصحابة يوم أن واجههم الخوارج بحججهم تلك، يدّعون لأنفسهم حق التشريع مع الله؟ أو اخترعوا قوانين ودساتير كفرية تنص على أن [السلطة التشريعية يتولاها الأمير ومجلس الأمة وفقاً للدستور] - كما هو الحال في الدول التي تسمى إسلامية اليوم !!؟؟
    حاشاهم ، وألف حاشاهم ، بل وحاشى مرجئة زمانهم من هذا الكفر البواح.
    وبالتالي هل شرّع الصحابة قوانين وضعية وفقاً لحكم الشعب ورغبته أو تبعاً لهوى الأغلبية واستبدلوها بحدود الله تعالى المرفوعة المطهرة..؟؟ حاشا الصحابة.. بل وحاشى السفهاء والمجانين والرعاع والعوام في ذلك الزمان عن مثل هذا الكفر البواح .. أنّى يتصور فيهم مثل هذا، وهم الذين خضّبوا الغبراء بدمائهم الزكية من أجل رفعة شريعة دين الله وعزتها .



    حجية قول الصحابي
    ثم هب أن ابن عباس ، وهو بشر غير معصوم يصيب ويخطئ ، أراد بذلك القول المنسوب إليه واقعتنا هذه - وهو محال كما عرفت إذ لم يكن لها مثيلٌ ساعتئذ - فهل نصادم بقول ابن عباس قول الله وقول الرسول وفي مسألة من مسائل التوحيد الذي بعثت بها الرسل كافة وهي الكفر بالطاغوت، شطر كلمة التوحيد ؟؟ !! )) انتهـــــــــــــى كلام الباحث بتمامه .

    ثانياً : أن الذى يقول بهذه الشبهة يخلط بين معانى ( التحاكم والحكم والقضاء ) : ـ

    بل ولا يرى فرقا بين ( التحاكم والتصالح والاستعانة ) ولا يستطيع أن يوضح حد كل أمر من هذه الأمور ، وهو ما وضحناه فى صدر هذا البحث ولا نعيده منعا للتكرار .. ثم نلزم من يقول بهذه الشبهة بقوله ونقلب الدائرة عليه ، بأن نقول له : إذا كان من معتقدك إجازة التحاكم للطاغوت فى بعض المرات لجلب الحقوق أو لدفع المظالم كما تزعم ، فيلزمك أن تقول : أنه يجوز للطاغوت أن يحكم بشرع غير شرع الله ؛ ليجلب حقوق الناس إليهم ، ويُنظِّم ملكه وسلطانه الطاغوتى ، لاسيما وأن هذا الطاغوت لايجد نموذج قائم اليوم على أرض الله يطبق شرع الله ، فيكون هذا الطاغوت هو الآخر ـ على فهمك ـ مضطر إلى عدم تطبيق شرع الله ، خاصة وأنه عندما جلس على سدة السلطة وجد هذا النظام الطاغوتى قائما ، بل وإن حاول تغييره إلى ما يوافق شرع الله فسيلقى معارضة شعواء من معظم الجماهير التى لاتناسب شريعة الإسلام شهواتهم ومصالحهم ، ولربما إن فعل ذلك أزاحوه من على سدة الحكم أو قتلوه !! .

    ثالثا : وخلاصة الرد على هذه الشبهة : ـ
    أن يعلم المجادل بهذه الشبهة أن ( كل حاكم متحاكم ، وليس كل متحاكم حاكم ) ،
    بيان ذلك : أن كل حاكم فى واقعنا هذا يحكم بين عباد الله بغير ما أنزل الله ويلزمهم بحكمه ، فوصفه عند الله أنه ليس كافر فحسب ، بل طاغوت أتى كفريات مركبه وظلمات بعضها فوق بعض ، غير أن أول كفرياته فى هذا المجال هو تحاكمه نفسه لغير شريعة الله عز وجل ، هذا قبل أن يحكم بها بين عباد الله .. فنفهم من ذلك أن هناك فرق بين كفر الحاكم وكفر المتحاكم ، وأن كفر الحاكم يأتى من تحاكمه بدءاً إلى غير شرع الله .

    الشبهة الثالثة : أن الإستضعاف العام فى ديار الكفر ينزل منزلة الضرورة المبيحة للكفر :

    وأكبر أدلتهم على ذلك : ما ذكره سلطان العلماء ( العز بن عبد السلام ) عندما قال : " الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ : لَوْ عَمَّ الْحَرَامُ الْأَرْضَ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ فِيهَا حَلَالٌ جَازَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ مِنْ ذَلِكَ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ ، وَلَا يَقِفُ تَحْلِيلُ ذَلِكَ عَلَى الضَّرُورَاتِ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَيْهَا لَأَدَّى إلَى ضَعْفِ الْعِبَادِ وَاسْتِيلَاءِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ عَلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ .. إلى أن قال .. لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ كَالضَّرُورَةِ الْخَاصَّةِ " اهـ ( انظر قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام ، قَاعِدَةٌ مِنْ الْمُسْتَثْنَيَاتِ مِنْ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ ، جـ 2 ، صـ 282 ) .
    فنقول الله المستعان على ما تصفون ، والرد على شبهتكم هذه من وجوه :

    الوجه الأول :
    أنكم خلطتم بين الضرورة والإكراه ، فالضرورات تبيح المحظورات ، أما الشرك فلا يباح إلا فى حالة واحدة فقط ألا وهى الإكراه ، أدلـة ذلك :
    قوله تعالى : " وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) الأنعام "
    وقوله تعالى : " إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) البقرة " .. هذا فى حالة الضرورة المبيحة لتناول المحرم المحظور تناوله فى غير الضرورة .
    أما فى حالة الكفر ، فقد قال الله تعالى : مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) النحل .
    وصح عن النبى صلي الله عليه وسلم أنه قال :" إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه "... أخرجه أحمد، وابن ماجة، والطبراني .
    وقال ابن القيم رحمه الله : ( ولا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز الإذن في التكلم بكلمة الكفر لغرض من الإغراض إلا المكره إذا اطمأن قلبه بالإيمان ). اهـ (انظر : أعلام الموقعين ، باب الذين يذكرون فى الحيل ، جـ 3 ، صـ 178 ) .
    الوجه الثانى :
    أنكم ما فهمتم كلام ( العز بن عبد السلام ـ رحمه الله ـ ) ، ولا تأخذوا من كلام العلماء إلا ما يوافق أهوائكم ويخدم شهواتكم ، أدلـة ذلك :
    ـ أن ( العز بن عبد السلام ) يتحدث عن الضرورة التى تبيح تناول المُحرَّم من الغذاء والكِساء الذى يحفظ حياة الإنسان ـ لا يتحدث عن اقتراف الشرك والكفران فى مثل هذا الحال ـ خشية تلف النفس وهلاكها .
    وهذا كلام العز بن عبد السلام رحمه الله ، بتمامه : " الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ : لَوْ عَمَّ الْحَرَامُ الْأَرْضَ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ فِيهَا حَلَالٌ جَازَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ مِنْ ذَلِكَ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ ، وَلَا يَقِفُ تَحْلِيلُ ذَلِكَ عَلَى الضَّرُورَاتِ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَيْهَا لَأَدَّى إلَى ضَعْفِ الْعِبَادِ وَاسْتِيلَاءِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ عَلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يَقْطَعُ النَّاسُ عَنْ الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي تَقُومُ بِمَصَالِحِ الْأَنَامِ ، قَالَ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَا يُتَبَسَّطُ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ كَمَا يُتَبَسَّطُ فِي الْمَالِ الْحَلَالِ بَلْ يُقْتَصَرُ عَلَى مَا تَمَسُّ إلَيْهِ الْحَاجَةُ دُونَ أَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَشُرْبِ الْمُسْتَلَذَّاتِ وَلُبْسِ النَّاعِمَاتِ الَّتِي هِيَ بِمَنَازِلِ التَّتِمَّاتِ ، وَصُوَرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَجْهَلَ الْمُسْتَحِقِّينَ بِحَيْثُ يَتَوَقَّعُ أَنْ يَعْرِفَهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَلَوْ يَئِسْنَا مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ لَمَا تَصَوَّرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حِينَئِذٍ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ ، وَإِنَّمَا جَازَ تَنَاوُلُ ذَلِكَ قَبْلَ الْيَأْسِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ ، لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ كَالضَّرُورَةِ الْخَاصَّةِ ، وَلَوْ دَعَتْ ضَرُورَةُ وَاحِدٍ إلَى غَصْبِ أَمْوَالِ النَّاسِ لَجَازَ لَهُ ذَلِكَ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا خَافَ الْهَلَاكَ لِجُوعٍ أَوْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ ، وَإِذَا وَجَبَ هَذَا لِإِحْيَاءِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ، فَمَا الظَّنُّ بِإِحْيَاءِ نُفُوسٍ ، مَعَ أَنَّ النَّفْسَ الْوَاحِدَةَ قَدْ لَا يَكُونُ لَهَا قَدْرٌ عِنْدَ اللَّهِ ، وَلَا يَخْلُو الْعَالَمُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالصَّالِحِينَ ، بَلْ إقَامَةُ هَؤُلَاءِ أَرْجَحُ مِنْ دَفْعِ الضَّرُورَةِ عَنْ وَاحِدٍ قَدْ يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ. اهـ ( انظر قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام ، قَاعِدَةٌ مِنْ الْمُسْتَثْنَيَاتِ مِنْ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ ، جـ 2 ، صـ 282 ) .
    ـ ثم إن ( العز بن عبد السلام ـ رحمه الله ـ ) يقرر فى نفس الكتاب ؛ أن مجرد تلفظ الكفر لا يُباح إلا عند الإكراه أو الحكاية ( كأن تُنبه من معتقد كفرى لشخص ما أو طائفة معينة فتذكره وترويه على سبيل الحكاية ) ، فيقول رحمه الله : (( الْمِثَالُ الْأَوَّلُ : التَّلَفُّظُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ لَكِنَّهُ جَائِزٌ بِالْحِكَايَةِ وَالْإِكْرَاهِ ، إذَا كَانَ قَلْبُ الْمُكْرَهِ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ )) اهـ (انظر قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام ، فصل فى اجتماع المصالح مع المفاسد ، جـ1 ، صـ 156 ) .

    الوجه الثالث :
    أن ننصحكم بأن تتفقهوا فى دين الله ، وألاَّ تقولوا على الله بغير علم ، وتعرفوا أن أهل العلم يفرِّقون بين الضرورات التى تبيح المعاصى وبشروط ، وبين الشرك بالله ،
    ـ يقول ابن تيمية : " وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي فِعْلِ الْفَاحِشَةِ فَغَيْرُهَا مِنْ الذُّنُوبِ أَعْظَمُ مِثْلَ الظُّلْمِ الْعَظِيمِ لِلْخَلْقِ كَقَتْلِ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ وَمِثْلَ الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ وَمِثْلَ الْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ . قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } فَهَذِهِ أَجْنَاسُ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي لَا تُبَاحُ بِحَالِ وَلَا فِي شَرِيعَةٍ وَمَا سِوَاهَا - وَإِنْ حَرُمَ فِي حَالٍ - فَقَدْ يُبَاحُ فِي حَالٍ . فَصْلٌ وَاخْتِيَارُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ وَلِأَهْلِهِ الِاحْتِبَاسَ فِي شِعْبِ بَنِي هَاشِمٍ بِضْعَ سِنِينَ لَا يُبَايِعُونَ وَلَا يُشَارُونَ ؛ وَصِبْيَانُهُمْ يَتَضَاغَوْنَ مِنْ الْجُوعِ قَدْ هَجَرَهُمْ وَقَلَاهُمْ قَوْمُهُمْ وَغَيْرُ قَوْمِهِمْ . هَذَا أَكْمَلُ مِنْ حَالِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا يَدْعُونَ الرَّسُولَ إلَى الشِّرْكِ وَأَنْ يَقُولَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ . يَقُولُ : مَا أَرْسَلَنِي وَلَا نَهَى عَنْ الشِّرْكِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا } { وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا } { إذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا } { وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إلَّا قَلِيلًا } { سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا } . " اهـ ( انظر : مجموع الفتاوى ، كتاب التفسير ، فصل تفسير قوله تعالى " قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ " ، جـ 3 ، صـ339 ) .

    ـ ويقول أيضا رحمه الله : " وَالشَّرِيعَةُ تَأْمُرُ بِالْمَصَالِحِ الْخَالِصَةِ وَالرَّاجِحَةِ كَالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ وَالْجِهَادُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ قَتْلُ النُّفُوسِ فَمَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةٌ . وَفِتْنَةُ الْكُفْرِ أَعْظَمُ فَسَادًا مِنْ الْقَتْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } وَنَهَى عَنْ الْمَفَاسِدِ الْخَالِصَةِ وَالرَّاجِحَةِ كَمَا نَهَى عَنْ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَعَنْ : " الْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا يُبِيحُهَا قَطُّ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ وَلَا فِي شِرْعَةٍ مِنْ الشَّرَائِعِ . وَتَحْرِيمُ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا مَفْسَدَتُهُ رَاجِحَةٌ . وَهَذَا الضَّرْبُ تُبِيحُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ؛ لِأَنَّ مَفْسَدَةَ فَوَاتِ النَّفْسِ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ الِاغْتِذَاءِ بِهِ " اهـ ( انظر : مجموع فتاوى ابن تيمية ، فصل الزيارة وشد الرحال ، جـ 6، صـ 240 ) .


    الشبهة الرابعة : أن الإيمان الباطن لا يزول بمجرد مخالفات الظاهر :

    فتقولون أن الموحد المعلوم حاله لدينا لا يجوز تكفيره بمجرد هذا العمل الظاهرى ، والرد على هذه الشبهة من وجوه :

    الوجه الأول : أنكم تتجاهلون أن الأسلمة والتكفير حكمان شرعيان ،
    فكما يحكم المسلم بالإسلام على من نطق بالشهاده محققا لشروطها ، كذا يحكم بالكفر على من ارتكب ناقضا من نواقضها بقصد أو بدون قصد ، يقول ابن تيمية ( الصارم المسلول 1 / 184 ) ما نصه : " و بالجملة فمن قال أو فعل ما هو كفر كفر بذلك و إن لم يقصد أن يكون كافرا إذ لا يقصد الكفر أحدٌ إلا ما شاء الله " اهـ .
    ثم تجهلون أو تتجاهلون أن إجماع أهل القبلة على أن " الأحكام يُعمل فيها بالظواهر والله يتولى السرائر " ( صحيح مسلم للنووى 3 / 107 ) .. أدلة ذلك :

    ـ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : (( إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ قُلُوبَ النَّاسِ، وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ .. )) حديث متفق عليه .
    أخرجه البخاري في: كتاب المغازي ، باب بعث علي ابن أبي طالب عليه السلام وخالد بن الوليد رضي الله عنه إلى اليمن قبل حجة الوداع
    وأخرجه مسلم فى : كتاب الزكاة ، باب ذكر الخوارج وصفاتهم .
    ـ قول النبى صلى الله عليه وسلم لأسامة : (( أَفَلاَ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لاَ )) .. صحيح مسلم .
    ـ ما رواه البخارى عن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : (( إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدْ انْقَطَعَ وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمْ الْآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمِنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ اللَّهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ وَإِنْ قَالَ إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ )) ... صحيح البخارى .

    الوجه الثانى : أن الذى يتحاكم لغير شرع الله أو لمن يحكم باسم غير الله ( الشعب ـالأمة ـالقانون ـ الدستور....) فظاهر فعله التحاكم للطاغوت والكفر بالله ،
    وادعائه الإيمان بالله ورسله أو أنه كافر بالطاغوت فدعاوى باطلة يكذبها ظاهر فعله ويكذبها صريح الآيات المنزلة من عند رب الأرض والسماوات.
    قال تعالي :أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) النساء.
    وأهل العلم متفقون على أنه إذا تعارض ظاهر إيمان مع ظاهر شرك أكبر يُحكم بالشرك إذ لايجتمع شرك مع إيمان فى قلب عبد أصلا . ومتفقون كذلك على أننا أمُرنا بالحكم بالظاهر ونهينا عن الظن واتباع ماليس لنا به علم .
    ـ قال ابن تيمية : (( فمن قال بلسانه كلمة الكفر من غير حاجة عامداً لها عالماً بأنها كلمة كفر فإنه يكفر بذلك ظاهراً وباطناً ولأنا لا نُجوِّز أن يقال : إنه في الباطن يجوز أن يكون مؤمناً و من قال ذلك فقد مرق من الإسلام قال سبحانه : { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان و لكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله و لهم عذاب عظيم } [ النحل : 106 ] )) اهـ ( الصارم المسلول 3 / 95 ) .

    ـ ويقول أيضا : " و ذلك لأن الإيمان و النفاق أصله في القلب و إنما الذي يظهر من القول و الفعل فرع له دليل عليه فإذا ظهر من الرجل شيء من ذلك ترتب الحكم عليه " ( الصارم المسلول 1 / 34 )

    ـ يقول ابن أبى العز الحنفى : " لأنا قد أُمرنا بالحكم بالظاهر ، ونُهينا عن الظن واتباع ما ليس لنا به علم " اهـ ( شرح العقيدة الطحاوية 1 / 363 ) .

    الوجه الثالث : أن عملية التحاكم من أصول الإيمان التى يُحكم فيها بالظاهر دون الباطل :
    ولا غضاضة فى أن نعيد ما ذكرناه فى المبحث الأول حول هذا الشأن ، عند ذكر كلام العراقى والتعليق عليه فقلنا :
    جاء فى تَقْرِيبَ الْأَسَانِيدِ وَتَرْتِيبَ الْمَسَانِيدِ : " قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بْنُ الْعَرَبِيُّ جَاءُوا مُحَكِّمِينَ لَهُ فِي الظَّاهِرِ وَمُخْتَبِرِينَ فِي الْبَاطِنِ هَلْ هُوَ نَبِيُّ حَقٍّ أَوْ مُسَامِحٌ فِي الْحَقِّ فَقَبِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إفْتَاءَهُمْ وَتَأَمَّلَ سُؤَالَهُمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْكِيمَ جَائِزٌ فِي الشَّرْعِ انْتَهَى " ( تَقْرِيبَ الْأَسَانِيدِ وَتَرْتِيبَ الْمَسَانِيدِ ، زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْعِرَاقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، جـ 8 ، صـ152 )
    فتأمل عقيدة أهل العلم والتحقيق ، رزقك الله الفهم والتوفيق ، فهذا الإمام العَلم أبو بكر بن العربى القرطبى الأندلسى ، قاضى قضاة الأندلس فى زمانه ، المتوفى فى القرن السادس الهجرى ، يبرهن بجلاء على فساد معتقد أهل الكفر والإرجاء ، فيقول رحمة الله عليه ، مُفسِّراً لحال اليهود الذين نزل فيهم قول الله تبارك وتعالى : " وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) سورة المائدة " .. أقول تأمل أرشدك الله ، كيف قال عنهم ابن العربى رحمه الله : جَاءُوا مُحَكِّمِينَ لَهُ فِي الظَّاهِرِ وَمُخْتَبِرِينَ فِي الْبَاطِنِ .. أى أن حقيقة أمرهم التى أضمروها فى مكنون نفوسهم اختبار هذا النبى لا التحاكم إليه إذ أن حكم المسألة ثابت عندهم فى التوراة ، ورغم ذلك وصفهم الله سبحانه وتعالى بظاهر فعلهم وهو أنهم متحاكمين ومحكمين .

    الشبهة الخامسة : أن الله أمرنا بالمحافظة على الضرورات الخمس ، ومنها المال والعرض و..

    وهذه الشبهة ءآكد دليل على فساد معتقد هؤلاء القوم وضحالة عقولهم ؛ لوجوه :

    الوجه الأول : ـ
    أن أبو جهل وأتباعه قد سبقوهم بها ، حينما قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : " إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) القصص " .

    الوجه الثانى : ـ
    أن يعلم المسلم الناصح لنفسه أن حب الدنيا وما فيها من ملذات والخوف على ضياع ما في اليد من متاع ذائل ، هو سبب كفر معظم المشركين ، كما أنه ليس عذر فى كفر الكافرين .
    قال تعالى : مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) .. سورة النحل .
    وقال تعالى : فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) .. سورة المائدة .

    الوجه الثالث : ـ
    أن أول ضرورة كلفنا الله بالمحافظة عليها هى الدين ( الدين ثم النفس ثم العقل فالعرض فالمال ) ، وهى أول شىء يُسأل عنه العبد فى قبره "من ربك ، وما دينك ، وما النبى الذى بعث فيكم " ، وأن أعظم وأجل مسألتين يُسأل عنهما الأولون والآخرون يوم القيامة هما : ماذا كنتم تعبدون ؟ وماذا أجبتم المرسلين ؟ .. ( انظر : مجموع فتاوى ابن تيمية جزء التفسير سورة هود ، زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم جـ1 المقدمة ، تذكرة المؤتسي شرح عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي صـ 88 ، الصارم المنكى لابن عبد الهادى صـ 241 ، الرسائل الشخصية لابن عبد الوهاب الرسالة 25) .. فمن المعلوم ضرورة أنه لا أعظم مصلحة من مصلحة الحفاظ على الدين والدفاع عنه وهذا مجمع عليه بين جميع أهل الملل ( انظر : الموافقات للشاطبى ، المقدمة الثالثة ، جـ 1 ، صـ 38 ) .
    ومن المجمع عليه كذلك أن الكفر لا يباح إلا عند الإكراه كما قال تعالى {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النحل:106] ، قال ابن القيم رحمه الله (( ولا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز الإذن في التكلم بكلمة الكفر لغرض من الإغراض إلا المكره إذا اطمأن قلبه بالإيمان )) اهـ .

    الوجه الرابع : ـ
    أن الذى يُقِّر بأن التحاكم عبادة لا يجوز صرفها لغير الله ، ثم يجادل بهذه الشبهة .. يلزمه أن يقول بأن المسلم فى ديار الكفر إذا خُيير بين أن يستغيث بغير الله أو يُقدِّم قرابين لغير الله أو يدعوا غير الله ، وبين أن يُرد عليه ماله الذى اغتصب أو سرق منه ، فعليه أن يختار هذا الكفر فى سبيل المحافظة على ماله .


    الوجه الخامس : ـ
    عليك أن تتأمل قول الله تعالى : " ألمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) النساء " .. ثم انظر لحال القوم ، فهم يقولون يريد الله منا المحافظة على أموالنا وأعراضنا و سيسألنا عنها يوم القيامة ، ونسى المساكين أنها إرادة الشيطان ، فالله عز وجل لما أمرنا بالمحافظة على هذه الأمور شرع لنا الطريقة التى نحافظ بها على تلك الأمور ، والتى لا تتصادم مع حكمه وشرعه ودينه .. ثم انظر إليهم تجدهم يسمون ذلك ( طلب حق ) والله يسميه ( ضلالاً بعيداً ) ، فنقول لهم كما قال ربنا : " قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ " ونقول لهم أيضا : " إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) النجم " .

    ثم أعلم أرشدك الله إلى دين الأنبياء والمرسلين أن أوجب حق علي العبد فى هذه الحياة الدنيا هو عبادة الله وحده لا شريك له والذى يتضمن إفراد الله جل شأنه بالحكم والتحاكم ، فهنيئا لمن سعى وجاهد فى طلب هذا الحق ، وتعسا لمن تقاعس عن تحصيل هذا الحق ، يقول ابن القيم رحمه الله : " لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليهما واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الآراء والقياس والاستحسان وأقوال الشيوخ ، عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم وظلمة في قلوبهم وكدر في أفهامهم ومحق في عقولهم، وعمتهم هذه الأمور وغلبت عليهم حتى ربي فيها الصغير ، وهرم عليها الكبير ، فلم يروها منكرا " اهـ ( انظر الفوائد ، صـ 47 ) .


    الشبهة السادسة : قول محمد صلى الله عليه وسلم عن حلف من أحلاف الجاهلية " لو دعيت لمثله فى الإسلام لأجبت " .
    وقول يوسف عليه السلام : " هى راودتنى عن نفسى " ، وكذا قوله " ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة التى قطعن أيديهن " .

    يرى البعض أن هذا الحلف الذى يتحدث عنه الرسول صلى الله عليه وسلم تتوفر فيه عناصر الحكم والتحاكم من فض للنزاعات بين الظالم والمظلوم ، وأن القائمين على هذه المهمة هم من أكابر المشركين ، وبالتالي لا يجوز لأحدٍ ـ إلا إذا آثر الكفر على الإيمان ـ أن يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر التحاكم إلى الطاغوت ؛ لأن القائمين على حلف المطيبين كانوا من الكفار المشركين .. كما أن قول يوسف لما اتهمته امرأة العزيز بقولها: ( ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم .... ، قال هي راودتني عن نفسي، وشهد شاهدٌ من أهلها…) من باب التحاكم للطاغوت .

    وللرد على هذه الشبه نقول : الله المستعان على ما تصفون ، وسيكون تفنيد هذا الهراء والإجتراء على مقام الأنبياء من وجهين أحدهما مجمل والآخر مفصل :

    الرد المجمل :
    أن المجادل بهذا الكلام ، يجهل أو ربما يتجاهل ـ إن كان من أئمة الضلال ـ الفرق بين التظلم والتحاكم (( وهو ما بيناه باستفاضة فى آخر البحث ، ولا إشكال فى أن نذكر ملخصه هنا )) ،
    ـ فالتظلم هو / طلب رفع الظلم عن النفس أو عن الغير من ذوى السلطان والولاية ، وهو ما يسمى بـ " الاستعانة على تغيير المنكر "
    ـ أما التحاكم ـ كما عرفناه فى مطلع البحث ـ فهو / طلب حكم جهة معينة ؛ لفض خصومة أو مظلمة.
    مما سبق نفهم أمرين :
    الأمر الأول : أن التحاكم عملية تتم عقب عملية التظلم ، بمعنى أن التحاكم ليس إلا
    طلب الحكم فى التظلم .
    الأمر الثانى : هناك فرق بين طلب دفع أورفع المظلمة ، وبين طلب الحكم فى هذه
    المظلمة .
    وهذا ما أفضنا فى بيانه فى المبحث الأول ، ولا داعى للإكثار منه هنا .

    الرد المُفصَّل :

    أولاً / بالنسبة لحلف الفضول : يتحدث عن التظلم لا التحاكم ، شواهد ذلك ؛
    ـ ما ذكره الإمام البيهقى رحمه الله عندما قال : " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن أنكثه وأن لى به حمر النعم ولو أدعى به في الاسلام لأجبت - (قال القتيبى) فيما بلغني عنه وكان سبب الحلف ان قريشا كانت تتظالم بالحرم فقام عبد الله بن جدعان والزبير ابن عبد المطلب فدعوهم إلى التحالف على التناصر والأخذ للمظلوم من الظالم فأجابهما بنو هاشم وبعض القبائل من قريش "اهـ ( انظر / السنن الكبرى للبيهقى ، جـ6 ، صـ 367 ) .
    ـ وقال أيضا : " قال أحمد : وكان سبب الحلف فيما زعم أهل التواريخ ، أن قريشا كانت تتظالم بالحرم ، فقام عبد الله بن جدعان ، والزبير بن عبد المطلب ، فدعوا إلى التحالف على التناصر ، والأخذ للمظلوم من الظالم ، فأجابهما بنو هاشم ، وبعض القبائل من قريش ". اهـ ( انظر : معرفة السنن والآثار للبيهقى ، جـ 11 ، صـ 134 ).
    ـ وقال ابن كثير رحمه الله : " و كان حلف الفضول أكرم حلف سمع به و أشرفه في العرب و كان أول من تكلم به و دعا إليه الزبير بن عبد المطلب و كان سببه أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن و ائل فحبس عنه حقه فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف عبد الدار و مخزوما و جمحا و سهما و عدي بن كعب فأبوا أن يعينوا على العاص بن وائل و زبروه ـ أي انتهروه ـ فلما رأى الزبيدي الشر أوفى على أبي قبيس عند طلوع الشمس و قريش في أنديتهم حول الكعبة فنادى بأعلى صوته :
    ( يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار و النفر )
    ( و محرم أشعث لم يقض عمرته ... يا للرجال و بين الحجر و الحجر )
    ( إن الحرام لمن تمت كرامته ... و لا حرام لثوب الفاجر الغدر )
    فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب و قال : ما لهذا مترك .. فاجتمعت هاشم و زهرة و تيم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعاما و تحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام فتعاقدوا و تعاهدوا بالله ليكونن يدا و احدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدي إليه حقه ما بل بحر صوفة و مارسي ثبير و حراء مكانهما و على التآسي في المعاش ، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول و قالوا : لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه " أهـ . ( انظر : سيرة ابن كثير ـ باب سبب حلف الفضول ـ جـ1 ص 259 ) .

    ثم إنك إذا تأملت نص حديث النبى صلى الله عليه وسلم ، عندما قال عن حلف الفضول : " وَلَوْ دُعِيت بِهِ الْيَوْم فِي الْإِسْلَام لَأَجَبْت " انظر فتح البارى لابن حجر،كتاب الحوالات ، ( بَاب قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ) ) .. لأفادك فائدتين هما :
    الفائدة الأولى : أنِّ ( لو ) حرف امتناع لامتناع. أي: تدل على امتناع الثاني لامتناع الأول ، كما يقول جمهور أهل اللغة . ( انظر : الجنى الداني في حروف المعاني ، الحسن بن القاسم المرادي ت749)، تحقيق فخر الدين قباوة، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان ط1، صـ 105).. أى أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعقد مثل هذا الحلف ، ولم يُدعى إلى عقده .

    الفائدة الثانية : أنَّ (دُعِيت) فعل ماضى مبنى للمجهول ، يدُل على أن النبى صلى الله عليه وسلم لو دُعى إلى هذا الحلف لأجاب ، فتكون إجابته صلى الله عليه وسلم بذلك تشريعاً ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم المُشرِّع عن ربه ، وهذا بنص التنزيل ، قال تعالى : " وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) سورة الحشر " .. ويؤكِد هذا قول النبى صلى الله عليه وسلم " الْيَوْم فِي الْإِسْلَام " ، فهذه عبارة تفيد التخصيص ، أى أن تكون الدعوة إلى هذا الحلف أو لمثله اليوم فى الإسلام ، أى فى وقت وزمن وجود النبى صلى الله عليه وسلم .

    ثانيا : بالنسبة لقول يوسف عليه الصلاة والسلام ( هى راودتنى عن نفسى ) ، وقوله ( ارجع إلى ربك فاسأله مابال النسوة اللاتى قطعن أيديهن ) ،
    ليس إلا محاولة منه عليه السلام لدفع التهمة عن نفسه فى المرة الأولى ، وإظهار برائة عرضه ونزاهته فى المرة الثانية ، وهذا قد يتعرض له أي مسلم في حياته اليومية ، فيتوجب عليه الكلام ليدفع عن نفسه الكذب والافتراء . وهذا ما يسمى ـ شرعاً وعرفاً وعقلاً ولغةً ـ بدفع الظلم لا طلب الحكم .. وما أشبه ذلك بموقف أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام مع قومه ، قال تعالى : " قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) الأنبياء " ، .. ومن ثم فلم يبق للقوم إلا أن يترددوا بين ضلالتين هما :

    الضلالة الأولى : أن يقولوا أن يوسف عليه السلام تحاكم للطاغوت وهذا جائز عند الضرورة ، ثم يقولون ونحن إذا تعرضنا لمثل هذا لا نتحاكم ونصبر ورعا واتقاءا للشبهات .. وهذا كلام فاسد يصل بصاحبه إلى الكفر ؛ لأنه يتضمن إلحاق وصف الكفر ـ وهو التحاكم للطاغوت ـ بنبى من أنبياء الله ، كما يتضمن تزكية النفس وتفضيلها على مقام النبوة .

    الضلالة الثانية : أن يقولوا نحن نوافقكم ، فيوسف عليه السلام فى هاتين الحالتين ( يطلب حقه ) وليس ( يتحاكم للطاغوت ) وهذا ما نفعله نحن اليوم عندما نذهب لمحاكم الطاغوت ، والجواب : أنكم بهذا الزعم الفاسد حاولتم الهروب مما فيه وقعتم وحكمتم على أنفسكم بالكفر أيضا .
    بيان ذلك : أنكم تقولون ( أن يوسف عليه السلام يطلب حقه كما نفعل اليوم عندما نذهب لمحاكم الطاغوت ) ، ومعلوم أن هذا تكذيب لنص القرآن ولفعل يوسف عليه السلام ، فيوسف عليه السلام لم يطلب حقه ممن ظلمه ، كما أنه لم يطلب أن يُرَد له اعتباره ـ كما يحدث اليوم فى محاكم الطاغوت ـ ، ولم يطلب الطعن في الحكم - كما يفعل في المحاكم اليوم – عندما حُكِمَ عليه بالسجن ظلماً ، الأمر الذي أوجب له المكوث في السجن بضع سنين ظلماً ، بل صبر عليه السلام لحكم الله لعلمه أن الحكم في حقيقته بيد الله وحده ، ولهذا قال عليه السلام : { رب السجن أحب إليَّ مما يدعونني إليه} الآية ، فيوسف عليه السلام كان حريصاً كل الحرص كما هو معلوم على أن لا يتحاكم إلى غير شريعة الله عز وجل ، فهو يعلم أحكام الجاهلية والطواغيت ولا يمكن أن يتحاكم إليها أو يقبل أو يطلب أو يقر بأي جزئية منها ، وذلك تجده واضحاً جلياً في قوله تعالى : {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك} الآية . ودين الملك هنا المراد حكمه وشريعته كما قال أهل التفسير .

  4. افتراضي

    الشبهة السابعة : قول يوسف عليه السلام ( اذكرنى عند ربك )

    أولا : بالنسبة لشبهة القوم فى هذه الآية ( اذكرنى عند ربك ) :
    يرى بعضهم أن هذا القول الصادر من يوسف عليه السلام بمثابة طلب استئناف الحكم من الملك فى القضية التى حوكم فيها من قبل ظلماً ، بينما يرى آخرون أن هذا أشبه ما يكون بإرسال دعوى على يد محامٍ لرفع قضية عند الطاغوت .
    ثانيا : بالنسبة لتفسير الآية ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابن تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ :
    " قَالَ تَعَالَى : { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } قِيلَ أُنْسِيَ يُوسُفُ ذِكْرَ رَبِّهِ لَمَّا قَالَ : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } . وَقِيلَ : بَلْ الشَّيْطَانُ أَنْسَى الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا ذِكْرَ رَبِّهِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّهُ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } قَالَ تَعَالَى : { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } وَالضَّمِيرُ يَعُودُ إلَى الْقَرِيبِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَنْسَ ذِكْرَ رَبِّهِ ؛ بَلْ كَانَ ذَاكِرًا لِرَبِّهِ . وَقَدْ دَعَاهُمَا قَبْلَ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا إلَى الْإِيمَانِ بِرَبِّهِ وَقَالَ لَهُمَا : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } . وَقَالَ لَهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ { لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } أَيْ فِي الرُّؤْيَا { إلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا } يَعْنِي التَّأْوِيلَ { ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ } فَبِذَا يَذْكُرُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا عَلَّمَهُ رَبُّهُ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ مِلَّةَ قَوْمٍ مُشْرِكِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَإِنْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالصَّانِعِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ آبَائِهِ أَئِمَّةَ الْمُؤْمِنِينَ - الَّذِينَ جَعَلَهُمْ اللَّهُ أَئِمَّةً يَدْعُونَ بِأَمْرِهِ - إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ؛ فَذَكَرَ رَبَّهُ ثُمَّ دَعَاهُمَا إلَى الْإِيمَانِ بِرَبِّهِ . ثُمَّ بَعْدَ هَذَا عَبَرَ الرُّؤْيَا فَقَالَ : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا } الْآيَةُ ثُمَّ لَمَّا قَضَى تَأْوِيلَ الرُّؤْيَا : { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } فَكَيْفَ يَكُونُ قَدْ أَنْسَى الشَّيْطَانُ يُوسُفَ ذِكْرَ رَبِّهِ ؟ وَإِنَّمَا أَنْسَى الشَّيْطَانُ النَّاجِيَ ذِكْرَ رَبِّهِ أَيْ الذِّكْرَ الْمُضَافَ إلَى رَبِّهِ وَالْمَنْسُوبَ إلَيْهِ وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ عِنْدَهُ يُوسُفَ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ قَالُوا : كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَلَا يَقُولَ اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّك . فَلَمَّا نَسِيَ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ جُوزِيَ بِلُبْثِهِ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ . فَيُقَالُ : لَيْسَ فِي قَوْلِهِ : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } مَا يُنَاقِضُ التَّوَكُّلَ ؛ بَلْ قَدْ قَالَ يُوسُفُ : { إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ } كَمَا أَنَّ قَوْلَ أَبِيهِ : { لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ } لَمْ يُنَاقِضْ تَوَكُّلَهُ ؛ بَلْ قَالَ : { وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } . و " أَيْضًا " فَيُوسُفُ قَدْ شَهِدَ اللَّهُ لَهُ أَنَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُخْلِصِينَ وَالْمُخْلِصُ لَا يَكُونُ مُخْلِصًا مَعَ تَوَكُّلِهِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ شِرْكٌ وَيُوسُفُ لَمْ يَكُنْ مُشْرِكًا لَا فِي عِبَادَتِهِ وَلَا تَوَكُّلِهِ بَلْ قَدْ تَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ فِي فِعْلِ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ : { وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ } فَكَيْفَ لَا يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي أَفْعَالِ عِبَادِهِ . وَقَوْلُهُ : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } مِثْلُ قَوْلِهِ لِرَبِّهِ : { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } فَلَمَّا سَأَلَ الْوِلَايَةَ لِلْمَصْلَحَةِ الدِّينِيَّةِ لَمْ يَكُنْ هَذَا مُنَاقِضًا لِلتَّوَكُّلِ وَلَا هُوَ مِنْ سُؤَالِ الْإِمَارَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ لِلْفَتَى : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } مُنَاقِضًا لِلتَّوَكُّلِ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا مُجَرَّدُ إخْبَارِ الْمَلِكِ بِهِ ؛ لِيَعْلَمَ حَالَهُ لِيَتَبَيَّنَ الْحَقُّ وَيُوسُفُ كَانَ مَنْ أَثْبَتِ النَّاسِ . وَلِهَذَا بَعْدَ أَنْ طُلِبَ { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ } قَالَ { ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } فَيُوسُفُ يَذْكُرُ رَبَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي تِلْكَ . وَيَقُولُ : { ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ } فَلَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ لَهُ : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } تَرْكٌ لِوَاجِبِ وَلَا فِعْلٌ لِمُحَرَّمِ حَتَّى يُعَاقِبَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ بِلُبْثِهِ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ وَكَانَ الْقَوْمُ قَدْ عَزَمُوا عَلَى حَبْسِهِ إلَى حِينِ قَبِلَ هَذَا ظُلْمًا لَهُ مَعَ عِلْمِهِمْ بِبَرَاءَتِهِ مِنْ الذَّنْبِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ } وَلُبْثُهُ فِي السَّجْنِ كَانَ كَرَامَةً مِنْ اللَّهِ فِي حَقِّهِ ؛ لِيَتِمَّ بِذَلِكَ صَبْرُهُ وَتَقْوَاهُ فَإِنَّهُ بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى نَالَ مَا نَالَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } وَلَوْ لَمْ يَصْبِرْ وَيَتَّقِ بَلْ أَطَاعَهُمْ فِيمَا طَلَبُوا مِنْهُ جَزَعًا مِنْ السَّجْنِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا الصَّبْرُ وَالتَّقْوَى وَفَاتَهُ الْأَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ .. إلى أن قال .. و " الْمَقْصُودُ " أَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَفْعَلْ ذَنْبًا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَذْكُرُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ذَنْبًا إلَّا ذَكَرَ اسْتِغْفَارَهُ مِنْهُ وَلَمْ يَذْكُرْ عَنْ يُوسُفَ اسْتِغْفَارًا مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ . كَمَا لَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ اسْتِغْفَارًا مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْفَاحِشَةِ ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَنْبًا فِي هَذَا وَلَا هَذَا ؛ بَلْ هَمَّ هَمًّا تَرَكَهُ لِلَّهِ ؛ فَأُثِيبَ عَلَيْهِ حَسَنَةً .. وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الَّذِي نَسِيَ رَبَّهُ هُوَ الْفَتَى لَا يُوسُفُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ : { وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ } وَقَوْلُهُ : { وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ نَسِيَ فَادَّكَر " اهـ ( مجموع الفتاوى 3 / 337 ) .

    ثالثا : بالنسبة للرد على هذه الشبهة :
    أن نقول كما قال يوسف عليه السلام ( الله المستعان على ماتصفون ) .. فيوسف عليه السلام لم يطلب استئناف الحكم من الحاكم ، وكذلك لم يرسل دعوه مع محامى إلى محكمة الطاغوت ؛ لأن كلا الأمرين يعد تحاكما للطاغوت .
    ولكن كل ما فعله عليه السلام أنه ( استعان بمكانة الساقى ومنزلته التى سيكون عليها فى القصر الملكى فيما بعد ، وذلك استناداً إلى الرؤيا التى فسرها له بعلم أعلمه الله إياه ؛ لكى يشفع له ذلك الساقى عند الملك فيخرج من السجن ويُبَلِّغ دعوة التوحيد ) .
    ـ قلنا أنه لم يطلب استئناف الحكم ؛ لأنه عليه السلام لم يُسجن نتيجة محاكمة ، ولكن بأمر من العزيز حتى لا يفتضح أمره. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية : " ثم ظهر لهم من المصلحة فيما رأوه أنهم يسجنونه إلى حين ، أي إلى مدة ، وذلك بعد ما عرفوا براءته وظهرت الآيات ، وهي الأدلة على صدقه في عفته ونزاهته ، وكأنهم ـ والله أعلم ـ إنما سجنوه لما شاع الحديث إيهاماً أنه راودها عن نفسها وأنهم سجنوه على ذلك. ولهذا لما طلبه الملك الكبير في آخر المدة امتنع من الخروج حتى تتبين براءته مما نسب إليه من الخيانة. فلما تقرر ذلك ، خرج وهو نقي العرض صلوات الله عليه وسلامه. وذكر السدي أنهم إنما سجنوه لئلا يشيع ما كان منها في حقه ، ويبرأ عرضه فيفضحها . " أهـ
    ـ وقلنا أن هذا ليس يشبه مايسمى فى عصرنا بتوكيل محامى ؛ لرفع دعوه عند الطاغوت . لأن هذا لو كان جائزاً لما تركه يوسف من بداية الأمر عندما زُجَّ به فى السجن ظلما .
    واخترنا القول بأنه عليه السلام أراد أن يعلم الملك معجزته وهى تعبيره للرؤيا ، والتى بموجبها يستطيع أن يُبرهِن على نبوته ، ثم يخبر الملك أنه محبوس ظلماً حتى يُبرهِن على عفته ونزاهته ، إذ أن العادة قد جرت بأنه لا يدخل السجن إلا الآثمين ، وقد ذكر ابن كثير أنه عليه السلام قد دعا ملك مصر ـ الريان بن الوليد ـ إلى التوحيد فأسلم . وهناك من كلام المفسرين ما يؤكد ما ذهبنا إليه .
    يقول القرطبى فى تفسير الآية:
    أي اذكر ما رأيته، وما أنا عليه من عبارة الرؤيا للملك، وأخبره أني مظلوم محبوس بلا ذنب .ا هـ
    يقول صاحب تفسير البحر المحيط فى هذه الآية :
    فالمعنى أن يوسف عليه السلام قال لساقي الملك حين علم أنه سيعود إلى حالته الأولى مع الملك : اذكرني عند الملك أي : بعلمي ومكانتي وما أنا عليه مما آتاني الله ، أو اذكرني بمظلمتي وما امتحنت به بغير حق . وهذا من يوسف على سبيل الاستعانــة والتعاون في تفريج كربه ، وجعله بإذن الله وتقديره سبباً للخلاص كما جاء عن عيسى عليه السلام : { من أنصاري إلى الله } وكما كان الرسول يطلب من يحرسه . والذي أختاره أن يوسف إنما قال لساقي الملك : اذكرني عند ربك ليتوصل إلى هدايته وإيمانه بالله ، كما توصل إلى إيضاح الحق للساقي ورفيقه .ا هـ


    الشبهة الثامنة : حادثة أخوة يوسف :

    قال تعالى حاكيا عن أخوة يوسف عليه السلام : قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) .
    فيستدل البعض بهذه الآيات على أن الأسباط طلبوا من عزيز مصر ـ أخاهم يوسف قبل أن يعرفوه ـ تبديل الحكم الذى صدر بشان أخاهم بنيامين ، وهذا يدخل فى باب التحاكم المنهى عنه شرعا ، بدليل أن أخاهم الصديق قال لهم ( معاذ الله ........ إن إذا لظالمون ) أى لو أجبتكم إلى مرادكم .

    فنقول : الله المستعان على ما تصفون ، اللهم إنا نبرأ إليك من هذا الإفترأ ، والتجرؤ على مقام الأنبياء ، حفدة إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام .

    والرد على ما سبق من وجوه هى كالتالى :
    أولا : أن نحدد المقصود من قولة أخوة يوسف ( فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ) من الوجهة الشرعية ، وفقا لسياق الآيات ووفقا لفهم أهل العلم ، ومن ثم نحدد مرادهم ، وهل هو داخل فى معنى التحاكم ، أم خارجاً عن معناه .. فنقول سبق وأن أوضحنا معنى التحاكم ، وفرقنا بينه وبين الحكم والقضاء ، فى صدر البحث ، فذكرنا :
    ؛ أنَّ التحاكم هو (( طلب حكم جهة معينة ؛ لفض خصومة أو مظلمة .... وفيها يظهر دور المتحاكمين )) .
    وأنَّ الحُكم هو (( الفصل فى هذا النزاع " المظلمة " على سبيل الإلزام .... وفيها يظهر دور الحاكم أو القاضى )) .
    وأنَّ القضاء هو (( السعى فى تنفيذ هذا الحكم المُلزم به .... وفيها يظهر دور القاضى ومعاونوه )) .

    إذا فهمت هذا فاعلم أن قول أخوة يوسف (فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ) ، ثم تعقيب أخيهم الصديق عليه مباشرة (مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ ) .. قد خرج عن مرحلتى التحاكم والحكم ، وجاء قبل مرحلة القضاء والتنفيذ ، وخير ما يبين ذلك كلام ربنا القرآن ، وهو ما يُفهم من خلال تسلسل أحداث القصة والقضية .

    قال تباك وتعالى : فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)

    فأخوة يوسف طلبوا تحكيم شريعة الله التى عرفوها عن أبيهم عليه السلام ، وحكموا بها على أنفسهم ورضوا بنتيجة حكمها عندما أقروا على أخيهم بالسرقة ، بل أوضحوا لعزبز مصر ـ الذى لم يعرفوا أنه أخاهم بعد ـ بأن فعلة بنيامين هذه ليست بغريبه عليه ؛ فشقيقه لأبويه ـ يعنون يوسف ـ كان مثله سارق .
    أى أنهم بعد انتهاء عمليتى التحاكم والحكم وصدور الحكم والإقرار به ... جاءت شفاعتهم فى أخيهم على سبيل ( الحمالة ) أى أنهم أرادوا أن يتحملوا عنه جُرمَهُ الذى اقترفه ، فغضب يوسف الصديق لذلك وقال (مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ ) .. وليس هذا بمستغرب على الكربم بن الكريم بن الكريم ، وقد فعلها من بعده خاتم النبيين وإمام المرسلين يوم تَمعَّر وجهُه من الغضب وقال لِحبِه ـ أسامه بن زيد رضى الله عنه ـ ثكلتك أُمُك يا أسامة ، أتشفع فى حد من حدود الله ، وأيمُ الله لو أن فاطمةَ بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها ، وكان هذا كله عقب صدور الحكم فى المرأة المخزومية وقبل القضاء والتنفيذ .

    وبالنسبة للآيات السابقة فلنرجع إلى تفسير القرطبى إذ يقول :
    قوله تعالى : { قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه } خاطبوه باسم العزيز إذ كان في تلك اللحظة بعزل الأول أو موته وقولهم : ( إن له أبا شيخا كبيرا ) أي كبير القدر ولم يريدوا كبر السن لأن ذلك معروف من حال الشيخ ( فخذ أحدنا مكانه ) أي عبدا بدله وقد قيل : إن هذا مجاز لأنهم يعلمون أنه لا يصح أخذ حر يسترق بدل من قد أحكمت السنة عندهم رقه وإنما هذا كما تقول لمن تكره فعله : اقتلني ولا تفعل كذا وكذا وأنت لا تريد أن يقتلك ولكنك مبالغ في استنزاله ويحتمل أن يكون قولهم : ( فخذ أحدنا مكانه ) حقيقة وبعيد عليهم وهم أنبياء أن يروا استرقاق حر فلم يبق إلا أن يريدوا بذلك طريق الحمالة أي خذ أحدنا مكانه حتى ينصرف إليك صاحبك ومقصدهم بذلك أن يصل بنيامين إلى أبيه ويعرف يعقوب جلية الأمر فمنع يوسف عليه السلام من ذلك إذ الحمالة في الحدود ونحوها - بمعنى إحضار المضمون فقط - جائزة مع التراضي غير لازمة إذا أبى الطالب وأما الحمالة في مثل هذا على أن يلزم الحميل ما كان يلزم المضمون من عقوبة فلا يجوز إجماعا وفي ( الواضحة ) : إن الحمالة في الوجه فقط في جميع الحدود جائزة إلا في النفس وجمهور الفقهاء على جواز الكفالة في النفس واختلف فيها عن الشافعي فمرة ضعفها ومرة أجازها
    قوله تعالى : { إنا نراك من المحسنين } يحتمل أن يريدوا وصفه بما رأوا من إحسانه في جميع أفعاله معهم ويحتمل أن يريدوا : إنا نرى لك إحسانا علينا في هذه اليد إن أسديتها إلينا وهذا تأويل ابن إسحق
    قوله تعالى : { قال معاذ الله } مصدر { أن نأخذ } في موضع نصب أي من أن نأخذ { إلا من وجدنا } في موضع نصب بـ ( نأخذ ) { متاعنا عنده } أي معاذ الله أن نأخذ البريء بالمجرم ونخالف ما تعاقدنا عليه { إنا إذا لظالمون } أي أن نأخذ غيره .أهـ

    وجاء فى تفسير البحر المحيط لأبى حيان مانصه :
    ومعنى مكانه أي : بدله على جهة الاسترهان أو الاستعباد ، قاله الزمخشري . وقال ابن عطية : يحتمل قولهم أن يكون مجازاً ، وهم يعلمون أنه لا يصح أخذ حرّ بسارق بدل من قد أحكمت السنة رقه ، وإنما هذا كمن يقول لمن يكره فعله : اقتلني ولا تفعل كذا وكذا ، وأنت لا تريد أن يقتلك ولكنك تبالغ في استنزاله ، وعلى هذا يتجه قول يوسف : معاذ الله لأنه تعوذ من غير جائز . ويحتمل أن يكون قولهم حقيقة ، وبعيد عليهم وهم أنبياء أن يريدوا استرقاق حر ، فلم يبق إلا أن يريدوا بذلك طريق الحمالة ، أي : خذ أحدنا حتى ينصرف إليك صاحبك . ومقصدهم بذلك أن يصل بنيامين إلى أبيه ويعرف يعقوب جلية الأمر . وقوله : من المحسنين ، وصفوه بما شاهدوه من إحسانه لهم ولغيرهم ، أو من المحسنين إلينا في هذه اليد إنْ أسديتها إلينا ، وهذا تأويل ابن إسحاق ومعاذ الله تقدم الكلام فيه في قوله : معاذ الله إنه ربي ، والمعنى : وجب على قضية فتواكم أخذ من وجد الصواع في رحله واستعباده . فلو أخذنا غيره كان ذلك ظلماً في مذهبكم ، فلم تطلبون ما عرفتم أنه ظلم ، وباطنه أن الله أمرني وأوحى إلي بأخذ بنيامين واحتباسه لمصلحة ، أو مصالح جمة علمها في ذلك . فلو أخذت غير من أمرني بأخذه كنت ظالماً وعاملاً على خلاف الوحي . وأن نأخذ تقديره : من أن نأخذ ، وإذن جواب وجزاء أي : إن أخذنا بدله ظلمنا . وروي أنه قال لما أيأسهم من حمله معهم : إذا أتيتم أباكم فاقرؤوا عليه السلام وقولوا له : إن ملك مصر يدعو لك أن لا تموت حتى ترى ولدك يوسف ، ليعلم أنّ في أرض مصر صديقين مثله .أهـ

    وبالنسبه لحديث أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ .......... متفق عليه ، فهذا نصه :
    حديث عَائِشَةَ، أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالَ: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِى عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا، إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ؛ وَايْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا أخرجه البخاري في:كتاب الأنبياء: باب حدثنا أبو اليمان . ومسلم فى:كتاب الحدود: باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود .
    ثانيا : أن الذى يتحدث بهذه الشبهة يخلط بين معنى وحدود كلا من ( التحاكم ـ الحكم ـ القضاء ) ولا يستطيع أن يفرق بينها وبين ( الشفاعة ) .
    فالشفاعة في الشرع: هي التوسط للغير بجلب خير له أو دفع شر عنه ، ويعرفها بعض العلماء بقوله: الشفاعة هي سؤال الخير للغير ، الشفاعة في أمور الدنيا : المقصود بها: شفاعة إنسان لآخر عند السلطان أو صاحب الجاه أو المنصب؛ ليقضي له حاجته ، وهي نوع من أنواع التعاون بين المسلمين ووسيلة من وسائل الألفة والمحبة إذا كان المشفوع إليه يملك التصرف فيما طلب منه على مقتضى الأسباب العادية ، ومن يشفع لأحد في الخير كان له نصيب من الأجر والثواب ، كما أن من شفع بالباطل كان له نصيب من الوزر ، قال تعالى: سورة النساء الآية 85 مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه السائل أو طلبت إليه حاجة قال: " اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء .

    الشفاعة في الدنيا على قسمين: قسم محمود ومشروع وهو الشفاعة في الأمور المباحة التي يترتب عليها جلب النفع للمسلم دون التعدي فيها على حق من حقوق الله عز وجل أو حقوق الناس .
    وأما القسم الثاني: فهي الشفاعة التي يترتب عليها إسقاط حد من حدود الله عز وجل ، أو ظلم لأحد من الناس ، أو إبطال حق .
    يقول النووي رحمه الله تعالى: " استحباب الشفاعة لأصحاب الحوائج المباحة سواء كانت الشفاعة إلى سلطان ووال ونحوهما أم إلى أحد من الناس ، وسواء كانت الشفاعة إلى سلطان في كف ظلم أو إسقاط تعزير ، أو في تخليص عطاء لمحتاج ، أو نحو ذلك ، وأما الشفاعة في الحدود فحرام ، وكذا الشفاعة في تتميم باطل أو إبطال حق ونحو ذلك فهي حرام ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إذا بلغ الحد السلطان فلعن الله الشافع والمشفع .

    وقد وردت أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم تحذر من الشفاعة في الحدود إذا بلغت السلطان .
    ومنها: حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت.... ومنها: حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت " رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ سنن أبو داود الأقضية (3597),مسند أحمد بن حنبل (2/70) ـ يقول: من حالت شفاعته دون حد من حدود الله عز وجل فقد ضاد في الله أمره . . . الحديث .

    وقد نص العلماء رحمهم الله تعالى على أن الشفاعة لا تقبل في الحدود إذا بلغت الحاكم ، يقول الإمام النووي رحمه الله عند ذكر الإمام مسلم لحديث عائشة السابق وغيره يقول: " ذكر مسلم رضي الله عنه في الباب الأحاديث في النهي عن الشفاعة في الحدود وأن ذلك هو سبب هلاك بني إسرائيل ، وقد أجمع العلماء على تحريم الشفاعة في الحد بعد بلوغه إلى الإمام للأحاديث وعلى أنه يحرم التشفع فيه " شرح صحيح مسلم للنووي (11 / 186).
    ويقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: " اختلف العلماء في ذلك فقال أبو عمر بن عبد البر : لا أعلم خلافا أن الشفاعة في ذوي الذنوب حسنة جميلة ما لم تبلغ السلطان ، وأن على السلطان أن يقيمها إذا بلغته ، وذكر الخطابي وغيره عن مالك أنه فرق بين من عرف بأذى الناس ومن لم يعرف ، فقال: لا يشفع للأول مطلقا سواء بلغ الإمام أم لا ، وأما من لم يعرف بذلك فلا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام " فتح الباري لابن حجر (12 / 95). أهـ (( انظر معتقد أهل السنة والجماعة في الشفاعة للدكتور : عبد الله بن سليمان الغفيلي مجلة البحوث الإسلامية(الجزء رقم : 64، الصفحة رقم: 119 ))

    الشبهة التاسعة : كلام الشيبانى فى السير الكبير:

    يقول أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ فى شرح السير الكبير للشيبانى ـ بَابُ مَا لَا يَكُونُ فَيْئًا وَإِنْ أُحْرِزَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ ـ : (( وَلَوْ اسْتَوْدَعَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا شَيْئًا وَأَذِنَ لَهُ إنْ غَابَ أَنْ يُخْرِجَهُ مَعَهُ فَارْتَدَّ الْمُودَعُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، فَلَحِقَهُ صَاحِبُهُ وَطَلَبَهُ مِنْهُ فَمَنَعَهُ ، وَاخْتَصَمَا فِيهِ إلَى سُلْطَانِ تِلْكَ الْبِلَادِ ، فَقَصَرَ يَدَ الْمُسْلِمِ عَنْهُ ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ فَالْوَدِيعَةُ لِلْمُودِعِ لَا سَبِيلَ لِصَاحِبِهَا عَلَيْهَا )).
    ويقول أيضا فى نفس الباب : (( وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ أَسْلَمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ ، ثُمَّ غَصَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ شَيْئًا ، وَجَحَدَهُ ، فَاخْتَصَمَا إلَى سُلْطَانِ تِلْكَ الْبِلَادِ ، فَسَلَّمَهُ لِلْغَاصِبِ لِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ ، وَالرَّجُلَانِ مُسْلِمَانِ عَلَى حَالِهِمَا ، فَالْمَغْصُوبُ مَرْدُودٌ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ .
    لِأَنَّ رَدَّ الْعَيْنِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْغَاصِبِ ، بِحُكْمِ اعْتِقَادِهِ ، فَإِسْلَامُ أَهْلِ الدَّارِ لَا يَزِيدُهُ إلَّا وَكَادَةً ، وَبِقُوَّةِ سُلْطَانِ أَهْلِ الْحَرْبِ الْمُسْلِمُ لَا يَصِيرُ مُحْرِزًا مَالَ الْمُسْلِمِ ، وَلَا مُتَمَلِّكًا ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ هُوَ مُتَمَلِّكًا بِحُكْمِ سُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ ، فَكَيْفَ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا بِحُكْمِ سُلْطَانِ أَهْلِ الْحَرْبِ )).
    ويقول أيضا ـ (( بَابٌ مِنْ فِدَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْمُوَادَعَةِ وَمَا يَكُونُ مُحْرَزًا بِغَصْبِ الْمُشْرِكِينَ وَمَا لَا يَكُونُ ـ : وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَغَصَبَهُ حَرْبِيٌّ مَالًا ثُمَّ أَسْلَمُوا ، أَوْ صَارُوا ذِمَّةً ... فَإِنْ اخْتَصَمَا إلَى مَلِكِهِمْ فَجَحَدَ الْغَاصِبُ وَقَالَ : هَذَا مِلْكِي ، مَا أَخَذْته مِنْهُ ، فَأَقَرَّهُ مَلِكُهُمْ فِي يَدِهِ ، حَتَّى يَأْتِيَ الْمُسْلِمُ بِحُجَّةٍ ، ثُمَّ أَسْلَمُوا ، فَذَلِكَ سَالِمٌ لِلْغَاصِبِ . لِأَنَّ إحْرَازَهُ فِيهِ قَدْ تَمَّ بِتَقْرِيرِ مَلِكِهِمْ لِيَدِهِ فِي تِلْكَ الْعَيْنِ )) .
    ووجه الاستدلال لدى من يروِّج لهذه الشبهة ، أنَّ الإمام الشيبانى رحمه الله يُسمِّى من يقوم بالاختصام ( التحاكم ) إلى سلطان دار الحرب ( الطاغوت ) مسلما ً.
    هذا من الشبه التي يحتج بها من يجيز التحاكم إلى الطاغوت وهو دأب أهل الزيغ والضلال فإنهم يتركون المحكم من كتاب الله تعالى و يتمسكون بالمتشابه ، و هذا المتشابه ليس متشابه في كتاب الله لكنه متشابه في كلام من ليس بمعصوم ، فإذا كان من يَتَّبِع المتشابه من كتاب الله يجب الحذر منه لأنه من أهل الزيغ و الضلال ، فكيف بمن يَتَّبِع كلام أهل العلم المُشتبَه الذي يجمع بين عدم الحجة و الاشتباه فإن كلام أهل العلم من جهة الاحتجاج لا يُحتج به بإجماع أهل العلم فالحجة في الكتاب و السنة و الإجماع ولأن كل إنسان يُؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.
    فأقصى ما يفيده كلام الشيباني أنه كلام غير محكم تخالفه نصوص الكتاب و السنة و الإجماع ، فالذي يجب على المسلم أن يَكِل ما ذكره الشيباني إلى مراد يقصده الشيباني .
    و أجمع العلماء على أنه يجب التمسك بالمحكم و الإعراض عن المتشابه فإذا كان هذا في كلام الله فمن باب أولى أن يعرض عن المتشابه من كلام العلماء .




    أما كلام الشيباني فكشف المشتبه في هذا الكلام يكون فى محورين :
    المحور الأول: يجب أن نفرق بين التحاكم إلى القاضي الذي يحكم بحكم الطاغوت و يفصل بين الناس و بين السلطان الذي له القوة و القدرة لا الفصل في القضايا فالتحاكم إلى الطاغوت الذي حكم الله تعالى أن من وقع فيه لم يكفر بالطاغوت هو طلب الفصل في قضية نزاع سواء كانت هذه القضية علمية أو عملية فمن تحاكم إلى غير حكم الله تعالى و جعل غير حكم الله هو الذي يفصل في القضايا فهذا ممن آمن بالطاغوت لأنه جعل الحكم لغير الله و الحكم لا يكون إلا لله تعالى .
    أما رفع الأمر إلى السلطان ففيه تفصيل ، فإن كان المقصود بالسلطان أي الذي له السلطة و القدرة و السلطان فلا إشكال ؛ لأنه قد يكون داخلاً فى معنى التظلم أو الإستعانة ، وقد ورد في كتاب الله تعالى السلطان بمعنيين بمعنى الحجة و بمعنى القوة و القدرة .
    قال تعالى :{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ }آل عمران151 ، وقال تعالى : {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }الأنعام81 ، وقال تعالى : {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }الأعراف 33.
    هذه الآيات أتت بمعنى سلطان الحجة و البرهان .
    و هناك آيات أخرى أتت بمعنى سلطان القدرة و القوة ، قال تعالى : {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }إبراهيم22 ، زقال تعالى : {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ }الحجر42 ، وقال تعالى : {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ }النحل99 ـ 100 ، وقال تعالى : {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً }الإسراء65.
    فالتحاكم إلى الطاغوت بمعنى طلب حجته و برهانه للفصل بين المتخاصمين أو طلب ما يشكل على بعض الناس من الطاغوت فهذا هو معنى الرضا بحكم الطاغوت بحيث يجعل حكم الطاغوت هو الأصل عند الرجوع لا إلى حكم الله تعالى فمن طلب سلطان الحجة من الطاغوت فهذا هو الراضى بحكم الطاغوت .
    أما من طلب سلطان القدرة والقوة فهذا لا يكون متحاكم إلى الطاغوت ويخرج ذلك من معنى التحاكم إلى معنى الاستجارة ، فقد يضطر المسلم إلى طلب سلطان الطاغوت و لا يكون هذا كفراً فالنبي صلى الله عليه و سلم طلب من المطعم بن عدي الجوار و كان طلب لسلطان القوة ، و طلب أبو بكر رضي الله عنه جوار ابن الدغنة من باب طلب سلطان القوة ، و كذلك قبل عمر رضي الله عنه جوار العاص بن وائل ، و طلب الصحابة جوار النجاشي ، فكل هذا من باب طلب سلطان القوة و القدرة و لا يكون هذا كفراً ، أمَّا من طلب سلطان الحجة من المشركين فهذا لا يخالف مسلم أنه مشرك خارج من الإسلام قال تعالى : {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }الأنعام121 ، وقال تعالى : {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ }الأعراف3 ، وقال تعالى : {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً }الإسراء73 .
    و كلام الشيباني إنما في سلطان القوة و القدرة لا في سلطان الحجة ، قال الشيباني رحمه الله : ( وَاخْتَصَمَا فِيهِ إلَى سُلْطَانِ تِلْكَ الْبِلَادِ , فَقَصَرَ يَدَ الْمُسْلِم عَنْهُ ) .
    و قال ( لَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ أَسْلَمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ , ثُمَّ غَصَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ شَيْئًا , وَ جَحَدَه فَاخْتَصَمَا إلَى سُلْطَانِ تِلْكَ الْبِلَادِ , فَسَلَّمَهُ لِلْغَاصِبِ لِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ ) .
    و قال ( فَإِنْ اخْتَصَمَا إلَى مَلِكِهِمْ فَجَحَدَ الْغَاصِبُ وَقَالَ : هَذَا مِلْكِي , مَا أَخَذْته مِنْهُ فَأَقَرَّهُ مَلِكُهُمْ فِي يَدِهِ , حَتَّى يَأْتِيَ الْمُسْلِمُ بِحُجَّةٍ ) .
    من ناحية أخرى فالشيباني نفسه يفرق بين السلطان الذى يملك سلطان القوة والقدرة ، وبين القاضى الذى يملك سلطان الحجه والبرهان ، قال الشيباني في السير الكبيرـ بَابُ شِرَاءِ الْعَبْدِ الَّذِي يُؤْخَذُ بِالْقِيمَةِ ـ : ( فَإِنْ قِيلَ : الْقَاضِي أَجْبَرَهُ عَلَى أَنْ يُمَلِّكَهُ إيَّاهُ بِالثَّمَنِ فَهَبْ أَنَّ الْقَضَاءَ كَانَ بَاطِلًا ، فَهَذَا لَا يَكُونُ دُونَ مَا لَوْ أَجْبَرَ سُلْطَانٌ رَجُلًا عَلَى بَيْعِ عَبْدٍ مِنْ فُلَانٍ ، وَدَفَعَهُ إلَيْهِ ، وَهُنَاكَ الْمُشْتَرِي يَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ حَتَّى يَنْفُذَ فِيهِ تَصَرُّفَاتُهُ بِالْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا . ) .
    و قال ( وَ لَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ أَسْلَمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ ، ثُمَّ غَصَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ شَيْئًا ، وَجَحَدَهُ ، فَاخْتَصَمَا إلَى سُلْطَانِ تِلْكَ الْبِلَادِ ، فَسَلَّمَهُ لِلْغَاصِبِ لِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ ، وَالرَّجُلَانِ مُسْلِمَانِ عَلَى حَالِهِمَا ، فَالْمَغْصُوبُ مَرْدُودٌ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ .
    لِأَنَّ رَدَّ الْعَيْنِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْغَاصِبِ ، بِحُكْمِ اعْتِقَادِهِ ، فَإِسْلَامُ أَهْلِ الدَّارِ لَا يَزِيدُهُ إلَّا وَكَادَةً ، وَبِقُوَّةِ سُلْطَانِ أَهْلِ الْحَرْبِ الْمُسْلِمُ لَا يَصِيرُ مُحْرِزًا مَالَ الْمُسْلِمِ ، وَلَا مُتَمَلِّكًا ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ هُوَ مُتَمَلِّكًا بِحُكْمِ سُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ ، فَكَيْفَ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا بِحُكْمِ سُلْطَانِ أَهْلِ الْحَرْبِ . ) .
    و قال (وَهَذَا لِلْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حُكْمِ الدَّارِ هُوَ السُّلْطَانُ فِي ظُهُورِ الْحُكْمِ ، فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ حُكْمَ الْمُوَادِعِينَ فَبِظُهُورِهِمْ عَلَى الدَّارِ الْأُخْرَى كَانَتْ الدَّارُ دَارَ الْمُوَادَعَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ حُكْمَ سُلْطَانٍ آخَرَ فِي الدَّارِ الْأُخْرَى فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الدَّارَيْنِ حُكْمُ الْمُوَادَعَةِ . ) .
    و قال ( وَلَوْ أَنَّ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا اشْتَرَى فِينَا أَرْضًا خَرَاجِيَّةً فَجَاءَ مُسْتَحِقٌّ وَاسْتَحَقَّهَا لِنَفْسِهِ وَأَدَّى خَرَاجَهَا سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ ثُمَّ وَجَدَ الْقَاضِي الشُّهُودَ عَبِيدًا وَرَدَّ الْأَرْضَ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ لَمْ يَكُنْ هُوَ ذِمِّيًّا .
    لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ الْمُسْتَأْمَنُ ذِمِّيًّا إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ ، لَا بِمُجَرَّدِ شِرَاءِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ ، وَهَا هُنَا قَدْ كَانَ هُوَ مَمْنُوعًا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَذِهِ الْأَرْضِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْخَرَاجُ ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْخَرَاجِ بِاعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ . وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَهَا مِنْهُ سُلْطَانٌ لَا يُقَاوِمُهُ الْمُسْتَأْمَنُ ، وَلَوْ غَصَبَهَا مَنْ يَتَمَكَّنُ الْمُسْتَأْمَنُ مِنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ عَلَيْهِ بِالْحُجَّةِ ، فَلَمْ يَفْعَلْ ، فَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ زَرَعَهَا فَالْمُسْتَأْمَنُ لَا يَكُونُ ذِمِّيًّا أَيْضًا . ) .
    و قال رحمه الله ( وَلَوْ أَنَّ الْغَاصِبَ الَّذِي هُوَ ضَامِنٌ لَمَّا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ وَمَعَهُ الْمَغْصُوبُ غَصَبَهُ مِنْهُ غَيْرُهُ فَاخْتَصَمَا فِيهِ إلَى سُلْطَانِهِمْ ، فَمَنَعَ السُّلْطَانُ الْغَاصِبَ الْأَوَّلَ أَنْ يَعْرِضَ لِلْغَاصِبِ الْآخَرِ فِيهِ ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ فَذَلِكَ الْمَالُ لِلْغَاصِبِ الْآخَرِ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ .
    لِأَنَّ إحْرَازَهُ لَهُ قَدْ تَمَّ حِسًّا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ غَلَبَهُ ، وَحُكْمًا بِقُوَّةِ سُلْطَانِهِمْ ، حِينَ قَصَرَ يَدَ الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ عَنْ اسْتِرْدَادِهِ ، فَصَارَ هُوَ مَالِكًا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ حِينَ أَخَذَهُ فَلَا يَكُونُ ضَامِنًا بِالْغَصْبِ ) .
    و قال ( وَإِنْ كَانَ حِينَ طَلَبَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ الْغَاصِبِ أَعْطَاهُ إيَّاهُ ثُمَّ وَثَبَ فَأَخَذَ مِنْهُ ثَانِيَةً وَقَصَرَ السُّلْطَانُ يَدَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْ الِاسْتِرْدَادِ ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ فَهُوَ سَالِمٌ لِلْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْغَصْبِ الْأَوَّلِ قَدْ انْتَهَى بِالرَّدِّ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا كَانَ لَزِمَهُ مِنْ رَدِّ الْعَيْنِ ، فَيَكُونُ أَخْذُهُ الْآنَ غَصْبًا ابْتِدَاءً ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، فَيَصِيرُ مُحْرِزًا لَهُ بِهَذَا الْغَــصْبِ ، حِينَ مَنَعَهُ السُّــلْطَانُ مِنْـهُ . ) .
    و هنا فرق كذلك بين السلطان و القاضي فالاختصام هنا ليس الاختصام إلى الحجة و البرهان حتى تفصل بين المختصمين فيظهر المحق من المبطل إنما الاختصام هنا إلى سلطان القوة فالمسلم يطلب من السلطان رد حقه الذي اغتصبه خصمه بقوته ، ولا يطلب منه أن يفصل بينه و بين خصمه فتبين المحق من المبطل فيرد المبطل الحق إلى المحق بقوة الحجة ، فإذا رفع المسلم مظلمته إلى سلطان القوة و القدرة حتى يرد له حقه لا يكون هذا تحاكما بل تظلما ، فهناك فرق شاسع بين التحاكم والتظلم .
    المحور الثانى : لو فُرض أن كلام الشيباني يحتمل المعنيين فلو كان هذا دليل من الكتاب و السنة لم يكن ترجيح أحد المعنيين إلا بدليل و إلا سقط به الاستدلال ، فكيف إذا كان كلام أحد العلماء فهو في نفسه لا يحتج به ، فكيف إذا كان محتملا لمعنيين حق و باطل .
    قال صاحب أنوار البروق في أنواع الفروق ( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ حِكَايَةِ الْحَالِ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ سَقَطَ بِهَا الِاسْتِدْلَال وَبَيْنَ قَاعِدَةِ حِكَايَةِ الْحَالِ إذَا تُرِكَ فِيهَا الِاسْتِفْصَالُ تَقُومُ مَقَامَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ وَيَحْسُنُ بِهَا الِاسْتِدْلَال ) هَاتَانِ قَاعِدَتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ نُقِلَتَا عَنْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَا قَاعِدَةٌ وَاحِدَةٌ فِيهَا قَوْلَانِ لَهُ ، وَذَلِكَ أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ إنَّ حِكَايَةَ الْحَالِ إذَا تَطَرَّقَ إلَخْ أَنَّ الدَّلِيلَ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ إذَا اسْتَوَتْ فِيهِ الِاحْتِمَالَاتُ وَلَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهَا سَقَطَ بِهِ الِاسْتِدْلَال لِقَاعِدَتَيْنِ ( الْقَاعِدَةُ الْأُولَى ) أَنَّ الِاحْتِمَالَ الَّذِي يُوجِبُ الْإِجْمَالَ إنَّمَا هُوَ الِاحْتِمَالُ الْمُسَاوِي أَمَّا الْمَرْجُوحُ فَلَا وَإِلَّا لَسَقَطَتْ دَلَالَةُ الْعُمُومَاتِ كُلُّهَا لِتَطَرُّقِ احْتِمَالِ التَّخْصِيصِ إلَيْهَا وَذَلِكَ بَاطِلٌ ( الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ ) أَنَّ كَلَامَ صَاحِبِ الشَّرْعِ إذَا كَانَ مُحْتَمِلًا احْتِمَالَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ صَارَ مُجْمَلًا وَلَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ وَإِنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ إنَّ حِكَايَةَ الْحَالِ إذَا تُرِكَ فِيهَا إلَخْ أَنَّ الِاحْتِمَالَاتِ إذَا كَانَتْ فِي مَحَلِّ مَدْلُولِ اللَّفْظِ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ دُونَ الدَّلِيلِ تَقُومُ مَقَامَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ وَيَحْسُنُ بِهَا الِاسْتِدْلَال بِمَعْنَى أَنَّ الشَّارِعَ إذَا تَرَكَ الِاسْتِفْصَالَ فِي قَضَايَا الْأَعْيَانِ وَهِيَ مُحْتَمَلَةُ الْوُقُوعِ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ أَوْ وُجُوهٍ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا مُتَّحِدٌ فِي الْوَجْهَيْنِ أَوْ الْوُجُوهِ ) .
    وقال (لَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ فَتَعَيَّنَ حِينَئِذٍ أَنَّ الِاحْتِمَالَ الَّذِي يُوجِبُ الْإِجْمَالَ إنَّمَا هُوَ الِاحْتِمَالُ الْمُسَاوِي أَوْ الْمُقَارِبُ أَمَّا الْمَرْجُوحُ فَلَا ) قُلْتُ إيجَابُ الِاحْتِمَالِ الْمُسَاوِي الْإِجْمَالَ مُسَلَّمٌ وَأَمَّا إيجَابُ الْمُقَارِبِ فَلَا فَإِنَّهُ إنْ كَانَ مُتَحَقِّقَ الْمُقَارَبَةِ فَهُوَ مُتَحَقِّقُ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ وَإِنْ كَانَ مُتَحَقِّقَ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ فَهُوَ مُتَحَقِّقُ الْمَرْجُوحِيَّةِ فَلَا إجْمَالَ .
    قَالَ ( الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ إنَّ كَلَامَ صَاحِبِ الشَّرْعِ إذَا كَانَ مُحْتَمِلًا احْتِمَالَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ صَارَ مُجْمَلًا وَلَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ .
    قال العز بن عبد السلام في كتابه ( قواعد الأحكام في مصالح الأنام ) ( فَائِدَةٌ ) لَيْسَ قَوْلُ الْحَاكِمِ ( يَثْبُتُ عِنْدِي ) حُكْمًا بِهِ إلَّا أَنْ يَقُولَ الْحَاكِمُ إذَا أَطْلَقْت لَفْظَ الثُّبُوتِ فَإِنَّمَا أَعْنِي بِهِ الْحُكْمَ بِالْحَقِّ الَّذِي يَثْبُتُ عِنْدِي ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ، فَمَنْ قَضَى بِأَنَّ لَفْظَ الثُّبُوتِ إخْبَارٌ عَنْ الْحُكْمِ كَلَفْظِ الْقَضَاءِ وَالْحُكْمِ فَقَدْ أَخْطَأَ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَةَ الْمُتَرَدِّدَةَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إذَا صَدَرَتْ مِنْ حَكَمٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَجِبْ حَمْلُهَا عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إلَّا أَنْ تَكُونَ ظَاهِرَةً فِيهِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ غَيْرُهَا .
    وَلَفْظُ الثُّبُوتِ قَدْ يُعَبِّرُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ الْحُكْمِ وَيُعَبِّرُ بِهِ الْأَكْثَرُونَ عَنْ غَيْرِ الْحُكْمِ ، فَمِنْ أَيْنَ لِمَنْ لَمْ يَقْضِ بِأَنَّ مُطْلَقَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ إنَّمَا أَطْلَقَهَا بِإِزَاءِ الْحُكْمِ ، وَحَمْلُ الْمُجْمَلِ عَلَى أَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ غَيْرُ جَائِزٍ فَمَا الظَّنُّ بِحَمْلِهِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ أهــــ
    و كما ذكرنا أن محل كلام أهل العلم هذا في حال الإستواء في المعاني و نحن مسألتنا في محل ( التظلم إلى أ& الاستعانة بـ ) ذو السلطان لا التحاكم إليه أو إلى من ينوب عنه .
    ثم أن هناك فرق لطيف بين ( السلطان & القاضى ) ، فالسلطان أو الملك ليس هو الذي يقضي بين الناس و يفصل بينهم فالسلطان هو الذي يلزم الناس بحكم القاضي ، و القاضي هو الذي يفصل بينهم عند الخلاف ، وهذا كذلك موجود في دول اليوم فإن السلطات اليوم ثلاث ( تشريعية & قضائية & تنفيذية ) والسلطة التشريعية هي التي تضع القوانين التي تعمل بها السلطة القضائية و السلطة التنفيذية فمن تحاكم إلى السلطة القضائية و طلب منها فصل الحكم فى (( الخصومة و المظلمة )) فهذا متحاكم إلى الطاغوت و من تظلم إلى السلطة التنفيذية و طلب منها أن تعطيه حقه ممن أخذه منه فهذا لا يكون تحاكم إلى الطاغوت حتى يطلب منهم فصل الحكم فى مظلمته ، أما إذا طلب منهم إنصافه من خصمه الذى ظلمه و رد حقه إليه بقوتهم فهذا لا يكون متحاكم إلى الطاغوت و هذا المعنى هو المقصود بحديث حلف الفضول كما أسلفنا الحديث عنه ، فلو تظلم مسلم إلى الكفار لرد حقه إليه فهذا لا يكون متحاكم إلى الطاغوت إنما مستجير بسلطان المشركين و المستجير بسلطان المشركين لا يكفر .
    فمن أراد أن يثبت أن كلام الشيباني في التحاكم إلى الطاغوت فعليه أن يثبت أن مراد الشيباني بالسلطان هو سلطان الحجة والبرهان لا سلطان القوة والسلطان ، أو يثبت أنه هو القاضي الذي يفصل بين الناس في قضاياهم ، وقد بينا مقصود الشيباني بالسلطان و أنه هو سلطان القوة و القدرة لا سلطان الحجة فإنه لا يخالف مسلم أن طلب سلطان الحجة من الكفار من أعظم الكفر و مثل هذا لا يخفى على أطفال المسلمين فضلا عن علمائهم ، والأمر الأخر يجب عليه أن يثبت أن المتخاصم الذي يتكلم عنه الشيباني يقصد بتخاصمه طلب سلطان الحجة التي تفصل بين المتخاصمين .

    الشبهة العاشرة : كلام ابن القيم فى مدارج السالكين :-

    «وأما الرضا بنبيه رسولًا فيتضمن كمال الانقياد له والتسليم المطلق إليه بحيث يكون أولى به من نفسه؛ فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره؛ ولا يرضى بحكم غيره ألبته، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقامه، ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه، لا يرضى في ذلك بحكم غيره، ولا يرضى إلا بحكمه، فإن عجز عنه كان تحكيمه غيره من باب غذاء المضطر إذا لم يجد ما يقيته إلا من الميتة والدم. وأحسن أحواله أن يكون من باب التراب الذي إنما يتيمم به عند العجز عن استعمال الماء الطهور» اهـ .
    ووجه استدلال من يروِّج لهذه الشبهة أنَّ ابن القيم رحمه الله يرى جواز التحاكم للطاغوت فى حالة الضرورة !!.

    كلام ابن القيم يوضح بعضه بعضه :
    قال ابن القيم رحمه الله : (( الخامس أن من ذكرتم من الأئمة لم يقلدوا تقليدكم ولا سوغوه بتة بل غاية ما نقل عنهم من التقليد في مسائل يسيرة لم يظفروا فيها بنص عن الله ورسوله ولم يجدوا فيها سوى قول من هو أعلم منهم فقلدوه وهذا فعل أهل العلم وهو الواجب فإن التقليد إنما يُباح للمضطر ، وأما من عَدل عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وعن معرفة الحق بالدليل مع تمكنه منه إلى التقليد ، فهو كمن عدل إلى الميتة مع قدرته على المذكَّى ، فإن الأصل أن لا يُقبل قول الغير إلا بدليل عند الضرورة فجعلتم أنتم حال الضرورة رأس أموالكم )) انظر : أعلام الموقعين ، باب الاتباع والتقليد ، فصل المقلدون يتضاربون في أقوالهم ، جـ2 ، صـ 260
    وقال ابن القيم رحمه الله : (( قال الشافعي قال لي قائل دُلَّني على أن عمر عمل شيئا ثم صار إلى غيره لخبر نبوي ، قُلتُ له حدثنا سفيان عن الزهري عن ابن المسيب أن عمر كان يقول الدية للعاقلة ولا ترث المرأة من دية زوجها ، حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم - كتب إليه أن يورِّث امرأة الضبابي من ديته ، فرجع إليه عمر وأخبرنا ابن عيينة عن عمرو وابن طاوس أن عمر قال أذكر الله امرأ سمع من النبي ـ صلى الله عليه وسلم - في الجنين شيئا فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال كنت بين جاريتين لي فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فألقت جنينا ميتا فقضى فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم - بعرة فقال عمر لو لم نسمع فيه هذا لقضينا فيه بغير هذا أو قال إن كدنا لنقضي فيه برأينا فترك اجتهاده رضي الله عنه للنص وهذا هو الواجب على كل مسلم إذ اجتهاد الرأي إنما يباح للمضطر كما تباح له الميتة والدم عند الضرورة فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ، وكذلك القياس إنما يصار إليه عند الضرورة قال الإمام أحمد سألت الشافعي عن القياس فقال عند الضرورة ذكره البيهقي في مدخله )) . انظر : أعلام الموقعين ، باب الاتباع والتقليد ، فصل الأصل الخامس القياس للضرورة ، جـ 1، صـ 32 .
    و قال رحمه الله أيضا : (( الحالة الثانية أن يكون قد سأل عن الحادثة قبل وقوعها فهذا لا يجب على المفتى أن يجيبه عنها وقد كان السلف الطيب إذا سُئل أحدهم عن مسألة يقول للسائل هل كانت أو وقعت فإن قال لا لم يجبه وقال دعنا في عافية وهذا لأن الفتوى بالرأي لا تجوز إلا عند الضرورة تبيحه كما تبيح الميتة عند الاضطرار ، وهذا إنما هو في مسألة لا نص فيها ولا إجماع فإن كان فيها نص أو إجماع فعليه تبلغيه بحسب الإمكان فمن سُئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار هذا إذا أمن المفتى غائله الفتوى فإن لم يأمن غائلتها وخاف من ترتب شر أكثر من الإمساك عنها امسك عنها ترجيحاً لدفع أعلى المفسدتين )) . انظر : أعلام الموقعين ، فصل فوائد تتعلق بالفتوى ، الخاتمة .

    فمراد ابن القيم رحمه الله أنه لا يجوز اللجوء إلى التقليد و القياس و هو الرأي مع وجود حكم الله تعالى أما مع عدم العلم بحكم الله تعالى في المسألة فيجوز اللجوء إلى القياس و التقليد كما يجوز أكل الميتة و الدم و التيمم بالتراب عند عدم وجود الماء .
    و هنا مسألة يجب التنبيه عليها و هي أنه يجب أن يعلم لله تعالى في كل حادثة و نازلة حكم ، ولكن قد يخفى على بعض الناس هذا الحكم فيضطر إلى القياس أو التقليد و لا يقال أن هناك نوازل ليس لله فيها حكم قال تعالى : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }الأعراف54
    و قال تعالى : {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ }الأنعام154 فإذا كان هذا في كتاب موسى فمن باب أولى أن يكون كذلك كتاب الله تعالى القرآن الذي هو خاتم الكتب و أفضلها و المهيمن عليها و ناسخها و الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه و الذي توكل الله تعالى بحفظه .
    قال تعالى : {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ }النحل89
    وقال تعالى : {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }العنكبوت51
    لذا تجد بعض المسائل يَحتج بعض أهل العلم فيها بالقياس ، ثم تجد أن غيرهم يأتي بدليل نقلي في المسألة ، فالأول احتج بالقياس لما لم يجد نصا من كتاب أو سنة أو إجماع ، فلجأ إلى القياس ، والآخر وفقه الله تعالى إلى معرفة النص ، ولا تعارض بين النص والقياس .
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (( ومن كان متبحرًا في الأدلة الشرعية أمكنه أن يستدل على غالب الأحكام بالنصوص وبالأقيسة‏ ، فثبت أن كل واحد من النص والقياس دل على هذا الحكم ، كما ذكرناه من الأمثلة، فإن القياس يدل على تحريم كل مسكر كما يدل النص على ذلك ، فإن الله حرم الخمر؛ لأنها توقع بيننا العداوة والبغضاء، وتصدنا عن ذكر الله وعن الصلاة، كما دل القرآن على هذا المعني، وهذا المعني موجود في جميع الأشربة المسكرة، لا فرق في ذلك بين شراب وشراب‏.‏ فالفرق بين الأنواع المشتركة من هذا الجنس تفريق بين المتماثلين، وخروج عن موجب القياس الصحيح ، كما هو خروج عن موجب النصوص )) اهـ . انظر : مجموع الفتاوى ، باب أصول الفقه ، فصل القول بأن النصوص لاتفى بعشر معشار الشريعة ، جـ4 ، صـ 255
    و كلام ابن القيم رحمه الله هنا في مسألة تنقيح المناط ، فالواجب على العالم إذا نزلت به نازلة أو سُئلَ عن مسألة أن يلجأ إلى الكتاب و السنة و الإجماع ، فإن لم يعلم دليل في المسألة جاز له حينها التقليد إن كان قادراً على الاستدلال إن احتاج إلى التقليد ، كما هو أصح أقوال العلماء في جواز تقليد القادر على الاستدلال إن احتاج له أو كان عامياً لا يستطيع أن يستدل ، وهذا كله عند ابن القيم من باب الاضطرار لا من باب الاختيار ، فمن لم يحتاج إلى التقليد كمن عنده دليل في المسألة أو أن السؤال عن مسألة لم تقع و لا يحتاج فيها إلى التقليد لا يجوز له التقليد ، و كذلك القياس حكمه حكم التقليد في الحرمة و الجواز عند الاضطرار ، و كما قلنا أن هذا في تنقيح المناط ، والمراد هنا البحث عن دليل نقلي من كتاب أو سنة أو إجماع يدل على حكم هذه المسألة حتى نعرف حكم المسألة ، فإن لم نجد و نحتاج إلى معرفة حكم في المسألة جاز لنا حينها التقليد أو القياس .
    أما مسألتنا في التحاكم فهي من باب تحقيق المناط فتحقيق المناط معرفة الحكم الشرعي ثابت إما بكتاب أو سنة أو إجماع فإن المسألة معروف حكمها عندنا في باب تحقيق المناط و عندنا واقعة تحتاج إلى حكم فهنا نحاول أن نعرف ما هو الحكم الشرعي الموافق لهذه الحادثة فإذا وافق الحكم الشرعي هذه الواقعة و المحل لا يجوز أن يلجأ إلى القياس أو التقليد . لأن حكم الله تعالى الموافق للواقعة ثابت فمن خالف حكم الله تعالى و حكم بخلاف حكم الله تعالى مع علمه بحكم الله تعالى فهذا كافر و ليس بمسلم .
    فأحكام الطواغيت اليوم لا نختلف أنها عندنا باطلة نعلم يقيناً بطلانها و مخالفتها للشرع ثم نطلب التحاكم إلى هذه الأحكام المخالفة للشرع فهذا هو التحاكم إلى الطاغوت الذي حكم الله تعالى بكفر من وقع فيه ، لذا قال ابن القيم رحمه الله ( ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه لا يرضى في ذلك بحكم غيره ولا يرضى إلا بحكمه ) و من تحاكم إلى الطاغوت غير مكره فقد رضي بحكم غير الله فالواجب عليه عدم التحاكم إلى أحكام الطواغيت إلا أن يكون مكرها .
    قال ابن القيم رحمه الله : (( أن هؤلاء الذين لم يكتفوا بكتابه حتى سلكوا بزعمهم طريقة العقل وعارضوه به وقدَّمُوه عليه من جنس الذين لم يكتفوا به سبحانه إلهاً حتى جعلوا له أندادا يعبدونهم كما يعبدون الله بل أولئك لم يقدموا أندادهم على الله فهؤلاء جعلوا لله نِداً يطيعونه ويعظمونه ويعبدونه كما يعظمون الله ويعبدونه وهؤلاء جعلوا لكتابه نِداً يتحاكمون إليه ويقبلون حكمه ويقدمونه على حكم كتابه بل الأمران متلازمان فمن لم يكتف بكتابه لم يكتف به فمتى جعل لكتابه نِداً فقد جعل له نِداً لا يكون غير ذلك البتة
    ، أفلا ترى من عارض الوحي برأيه وجعله نِداً له إلا مشركاً بالله قد اتخذ من دون الله أندادا ولهذا كان مرض التعطيل ومرض الشرك أخوين متصاحبين لا ينفك أحدهما عن صاحبه ، فإن المعطل قد جعل آراء الرجال وعقولهم نِداً لكتاب الله ، والمشرك قد جعل ما يعبده من الأوثان نِداً له ، ومما يبين تلازم التعطيل والشرك أن القلوب خُلِقت متحركة طالبة للتأله والمحبة فهي لا تسكن إلا لمحبوب تطمئن إليه وتسكن عنده يكون هو غاية محبوبها ومطلوبها ولا قرار لها ولا طمأنينة ولا سكون بدون هذا المطلوب والظفر به والوصول إليه ، ولو ظفرت بما ظفرت به سواه لم يزدها ذلك إلا فاقةً وفقراً وحاجةً وقلقاً واضطراباً )) اهـ انظر : الصواعق المرسلة ، فصل الطريق التاسع والعشرون ، جـ 4
    و قال رحمه الله أيضا : (( ومنها أنه جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه ولا سيما التلازم بين هذين الأمرين فإنه من الطرفين وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر ثم أخبرهم أن هذا الرد خير لهم وأن عاقبته أحسن عاقبة ، ثم أخبر سبحانه أن من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حَكَّمَ الطاغوت وتحاكم إليه والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى الطاغوت ومتابعته )) اهـ انظر : أعلام الموقعين ، فصل انتفاء الإيمان بانتفاء الرد ، جـ 1، صـ 50 .
    و من المعلوم أن التحاكم إلى الطواغيت كُفرٌ بنص الكتاب {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً }النساء60 .
    و أنَّ الكفر الظاهر قولاً أو فعلاً لا يجوز إلا عند الإكراه قال ابن القيم رحمه الله : (( ولا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز الإذن في التكلم بكلمة الكفر لغرض من الإغراض إلا المُكره إذا اطمأن قلبه بالإيمان )) اهـ
    فلو أن عالماً من علماء المسلمين يعلم حكم الله تعالى في مسالة معينة ثم خالفه إلى غيره و أفتى خلاف حكم الله تعالى لكفر مع علمه بحكم الله تعالى .
    قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله : (( وليس المراد بالشرع اللازم لجميع الخلق حكم الحاكم ولو كان الحاكم أفضل أهل زمانه، بل حكم الحاكم العالم العادل يلزم قومًا معينين تحاكموا إليه في قضية معينة ، لا يلزم جميع الخلق ، ولا يجب على عالم من علماء المسلمين أن يُقلِد حاكمًا لا في قليل ولا في كثير إذا كان قد عرف ما أمر الله به ورسوله، بل لا يجب على آحاد العامة تقليد الحاكم في شيء ، بل له أن يستفتي من يجوز له استفتاؤه وإن لم يكن حاكمًا ، ومتي ترك العالم ما عَلِمَه من كتاب الله وسنة رسوله واتَّبعَ حُكم الحاكم المخالف لحكم الله ورسوله كان مرتدًا كافرًا، يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏المص كِتَابٌ أُنزِلَ اليكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَي لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ اليكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏1، 3‏]‏
    ولو ضُرب وحُبس وأوذي بأنواع الأذي ليدع ما علمه من شرع الله ورسوله الذي يجب اتباعه واتبع حكم غيره ، كان مستحقًا لعذاب الله بل عليه أن يصبر‏.‏ وإن أوذي في الله فهذه سنة الله في الأنبياء وأتباعهم‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 1، 3‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّي نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏13‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏‏.‏
    وهذا إذا كان الحاكم قد حكم في مسألة اجتهادية قد تنازع فيها الصحابة والتابعون فحكم الحاكم بقول بعضهم وعند بعضهم سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تخالف ما حكم به فعلى هذا أن يتبع ما علم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأمر بذلك، ويفتي به ويدعو إليه، ولا يُقلِد الحاكم‏.‏ هذا كله باتفاق المسلمين‏‏ )) اهـ انظر : مجموع الفتاوى ، باب العقيدة ، فصل على الجكام ألا يحكموا إلا بالعدل ، جـ 9 ، صـ 277 .
    وقال رحمه الله أيضا : (( والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه؛ أو حرم الحلال المجمع عليه؛ أو بدل الشرع المجمع عليه؛ كان كافرا مرتدا باتفاق الفقهاء‏ )) اهـ انظر : مجموع الفتاوى ، باب العقيدة ، جـ 1 ، صـ 263
    فكلام ابن القيم رحمه الله فيمن يؤثر حكم الله تعالى و يطلبه و يتحاكم إليه و يحكم به فأصل الحكم عنده حكم الله تعالى لا غيره ثم أنه بعد بحثه و اجتهاده و استفراغ وسعه لم يجد حكم الله تعالى في المسألة فله عندها أن يلجأ مضطرا إلى التقليد أو القياس لا أن يلجأ إلى حكم الطاغوت مع علمه بحكم الله تعالى أو يلجأ إلى حكم الطاغوت و هو يعلم أنه لم يأخذه من أصول حكم الله تعالى و قواعده .
    أما الحال اليوم فأصل الحكم هو حكم الطاغوت لا حكم الله تعالى و لو كان الحكم معلوم من الدين ضرورة بطلانه فالطاغوت لا يمتنع من الحكم به ؛ لأنه لا يرجع إلى كتاب و لا سنة و لا إجماع ، حتى فيما وافق حكم الله تعالى لا يحكم به لأنه من عند الله تعالى و لكن يحكم به لأنه من حكمه و رأيه و اجتهاده لا لأن الله تعالى أمر به و أوجبه و فرضه ، و من يتحاكم إلى الطاغوت لا ينظر إلى حكم الله تعالى أو حكم الطاغوت و يطلبه بل ينظر إلى مصلحته وكيفية تحصيلها فحقيقته مؤثر لمصلحته حتى لو كانت عن طريق الكفر و هو حكم الطاغوت .
    ولمزيد من التوضيح ، فإن كلام ابن القيم رحمه الله فيما إذا عدم نص من كتاب أو سنة أو إجماع أما مسألة التحاكم إلى الطاغوت فمسألة منصوص عليها محرمة بالكتاب و السنة و الإجماع و قال رحمه الله : (( وأما الرضا بنبيه رسولًا فيتضمن كمال الانقياد له والتسليم المطلق إليه بحيث يكون أولى به من نفسه؛ فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره؛ ولا يرضى بحكم غيره ألبته، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقامه، ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه، لا يرضى في ذلك بحكم غيره، ولا يرضى إلا بحكمه )) .
    فمسألتنا تدخل في الرضا بغير حكم الله تعالى مع معرفة حكم الله تعالى في المسألة أو التحاكم إلى الطاغوت مع معرفة أنه يحكم بغير ما أنزل الله أو التحاكم إليه مع عدم النظر في موافقته أو مخالفته لحكم الله فلا يخالف أحد من أهل العلم بحرمة التحاكم إلى الطاغوت و أن التحاكم إلى الطاغوت كفر أكبر مخرج من الملة ، وكلام ابن القيم رحمه الله في مسألة لم يُعلم حكم الله فيها فيجوز عند النوازل الاجتهاد و استفراغ الوسع و استعمال القياس أو التقليد إن لم يسعه الوقت للاجتهاد إن كان عالماً ، فمتى ما علمنا حكم الله في المسألة و أنه حرام بل كفر أكبر مخرج من الملة لا يقال بأنه يجوز لنا قبول غير حكم الله تعالى فإن قبول حكم غير حكم الله تعالى كفر سواء كان في المعينات أو الكليات و الكفر بالإجماع لا يعذر من وقع فيه إلا بالإكراه ، فلا يُقال مثلاً يجوز لمن اضطر إلى قبول حكم خلاف حكم الله تعالى والرضا به ، فيُقال للعالم مثلاً أفتي بحل الخمر وإلا قطعنا راتبك فمثل هذا لا يُعذر فيه إلا بالإكراه ؛ لأنه كُفر أكبر مخرج من الملة ، وكذلك لا يجوز التحاكم إلى الطاغوت لمن قيل له تتحاكم إلى الطاغوت وإلا أخذنا سيارتك أو أخذنا مالك أو قيل له لا تستطيع تحصيل مالك إلا بالتحاكم إلى الطاغوت فمثل هذا ليس بمُكره لأنه يعلم بأنه طاغوت لا يحكم بما أنزل الله تعالى .

    وخلاصة ما سبق من كلام ابن القيم :
    أنه لايجوز اللجوء إلى القياس أو التقليد أو الرأى ، مع وجود حكم الله ورسوله .. أما مع عدم العلم بحكم الله تعالى ورسوله فى مسألة معينة ، فيجوز اللجوء إلى القياس أو التقليد أو الرأى.. كما يجوز أكل الميتة أو التيمم بالتراب عند تعذر وجود الماء أو استعماله... فهذا كله إنما يكون من باب الا ضطرار لا الاختيار .

  5. افتراضي

    المبحث الرابع
    قطوف من كلام أهل العلم حول المسألة

    الحافظ بن كثير:-
    فى تفسيره لقول الله تعالى : فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) النساء .
    قال: فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك ، فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر .

    الرازى:ـ
    جاء فى تفسيره لآية النساء 60 وما بعدها قال ـ رحمه الله ـ :-
    المسألة الثالثة : مقصود الكلام أن بعض الناس أراد أن يتحاكم إلى بعض أهل الطغيان ولم يرد التحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم . قال القاضي : ويجب أن يكون التحاكم إلى هذا الطاغوت كالكفر ، وعدم الرضا بحكم محمد عليه الصلاة والسلام كفر ، ويدل عليه وجوه : الأول : انه تعالى قال : { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } فجعل التحاكم إلى الطاغوت يكون إيمانا به ، ولا شك أن الإيمان بالطاغوت كفر بالله ، كما أن الكفر بالطاغوت إيمان بالله . الثاني : قوله تعالى : { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } إلى قوله : { وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً } [ النساء : 65 ] وهذا نص في تكفير من لم يرض بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام .
    انظر يرحمنى الله وإياك كيف فرَّق أهل العلم بين التحاكم للطاغوت والرضا بحكم الطاغوت ، وبيَّنوا أنَّ كُل واحدٍ منهما كفرٌ مستقلٌ بذاته .

    نظم الدرر للبقاعى :ـ
    { يزعمون أنهم آمنوا } أي أوجدوا هذه الحقيقة وأوقعوها في أنفسهم { بما أنزل إليك } ودل على أن هذا الزاعم المنافق كان من أهل الكتاب قبل ادعاء الإسلام بقوله : { وما } أي ويزعمون أنهم آمنوا بما { أنزل من قبلك } أي من التوراة والإنجيل ، قال الأصبهاني : ولا يستعمل - أي الزعم - في الأكثر إلا في القول الذي لا يتحقق ، يقال : زعم فلان - إذا شك فيه فلم يعرف كذبه أو صدقه ، والمراد أن هؤلاء قالوا قولاً هو عند من لا يعلم البواطن أهل لأن يشك فيه بدليل أنهم { يريدون أن يتحاكموا } أي هم وغرماؤكم { إلى الطاغوت } أي إلى الباطل المغرق في البطلان { وقد } أي والحال أنهم قد { أمروا } ممن له الأمر { أن يكفروا به } في كل ما أنزل من كتابك وما قبله ، ومتى تحاكموا إليه كانوا مؤمنين به كافرين بالله وهو معنى قوله : { ويريد الشيطان } بإرادتهم ذلك التحاكم { أن يضلهم } أي بالتحاكم إليه { ضلالاً بعيداً * } بحيث لا يمكنهم معه الرجوع إلى الهدى.

    ابن القيم:
    قال فى إعلام الموقعين ، جـ1، صـ50 :
    من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكم الطاغوت وتحاكم إليه .
    ويقول أيضا فى الفوائد، صـ47 :
    لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليهما واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الآراء والقياس والاستحسان وأقوال الشيوخ، عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم وظلمة في قلوبهم وكدر في أفهامهم ومحق في عقولهم، وعمتهم هذه الأمور وغلبت عليهم حتى ربي فيها الصغير، وهرم عليها الكبير، فلم يروها منكرا .

    سليمان بن سحمان :-
    قال فى الدرر السنية ، المجلد العاشر ،كتاب حكم المرتد ،وذلك عندما سئل عن التحاكم إلى الطاغوت بحجة الإضطرار ،قال: فمن اعتقد أن تحكيم شريعة الإسلام، يفضي إلى القتال والمخالفة، وأنه لا يحصل الاجتماع والألفة، إلا على حكم الطاغوت، فهو كافر عدو لله ولجميع الرسل؛ فإن هذا حقيقة ما عليه كفار قريش، الذين يعتقدون أن الصواب ما عليه آباؤهم، دون ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم.
    المقام الثاني: أن يقال: إذا عرفت أن التحاكم إلى الطاغوت كفر، فقد ذكر الله في كتابه أن الكفر أكبر من القتل، قال: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}، وقال: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}، والفتنة: هي الكفر; فلو اقتتلت البادية والحاضرة، حتى يذهبوا، لكان أهون من أن ينصبوا في الأرض طاغوتا، يحكم بخلاف شريعة الإسلام، التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم.
    المقام الثالث: أن نقول: إذا كان هذا التحاكم كفرا، والنّزاع إنما يكون لأجل الدنيا، فكيف يجوز لك أن تكفر لأجل ذلك؟ فإنه لا يؤمن الإنسان، حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وحتى يكون الرسول أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين. فلو ذهبت دنياك كلها، لما جاز لك المحاكمة إلى الطاغوت لأجلها، ولو اضطرك مضطر وخيرك، بين أن تحاكم إلى الطاغوت، أو تبذل دنياك، لوجب عليك البذل، ولم يجز لك المحاكمة إلى الطاغوت.أ.هـ

    حمد بن عتيق :ـ
    قال ردًّا على من قاس الاضطرار على الإكراه في الكفر : « قال تعالى : {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} فشرط بعد حصول الضرر أن لا يكون المتناول باغياً ولا عادياً والفرق بين الحالتين لا يخفى على ذي عين ـ ثم يقال أيضاً : وهل في إباحة الميتة للمضطر ما يدل على جواز الردة اختياراً ؟ وهل هذا إلا كقياس تزوج الأخت والبنت بإباحة تزوج الحر المملوكة عند خوف العنت وعدم الطول فقد زاد هذا المشبه على قياس الذين قالوا : {إنما البيع مثل الربا} »
    يقول صاحب شرح رسالة تحكيم القوانين :ـ
    يقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله : (وتأمل ما في الآية الأولى، وهي قوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإنْ تنازعتم في شيء فردُّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلاً..} ) يقول تأمل (كيف ذكر النّكِرة ) ماهي النكرة في الآية؟ (هي قوله: "شيء" في سياق الشرط، وهو قوله جلّ شأنه: "فإنْ تنازعتم" المفيد العمومَ فيما يُتصوّر التنازع فيه جنسا وقدرًا) في أي جنس من أجناس التنازع وفي أي قدر أيضا وفي أي أمر كان كبيرا أو صغيرا (ثم تأمل كيف جعل ذلك شرطا في حصول الإيمان بالله واليوم الآخر، بقوله: {إنْ كُنتُم تؤمنون بالله واليوم الآخر}) كلمة شيء هي أعم كلمة في اللغة كما يقول اللغويون ؛ لأنها تطلق على الكبير والصغير وكل ما يمكن أن يطلق عليه ، فهي عامة تماما لأنها جاءت نكرة في سياق الشرط ؛ فمثلا يمكن أن يطلق شيء على الله سبحانه وتعالى كما في قوله عز وجل : "قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم" إذن الله تبارك وتعالى يجوز أن يطلق عليه شيء ، لكن أي شيء هو ؟ هو جلّ وتعالى أعظم وأكبر من كل شيء .
    رأيت الله أكبر كل شيء محاولة وأكثرهم جنوداً
    وكذلك يطلق على أدنى أو أتفه ما يمكن أن يسمى شيئا.
    فالقضية الكبرى لو تخاصم اثنان أو تنازعا في مملكة عظيمة ، هذه نقول : إن القضية هذه شيء ، وكذا لو تنازعا في درهم أو ربع درهم لقلنا إنهما قد اختصما وتحاكما أو تنازعا في شيء .
    إذن فإذا تنازعتم في أي شيء كائنا أيُّما كان النزاع ، في أسماء الله وصفاته ، أو في الإيمان ، أو في القدر ، أو في أمور العقيدة أو في حكم من الأحكام الفقهية أو في الحقوق والدماء والأعراض والأموال ..إلخ .
    إذن كل أجناس وأنواع القضايا تدخل في وجوب التحاكم ورد التنازع فيها إلى الله ورسوله لأنها من ضمن كلمة شيء في قوله :"فإن تنازعتم في شيء" ولهذا قال في الآية الأخرى :"وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله" من شيء كائنا ما كان ، فأيضا في هذه الآية نجد الشرط أيضا :"وما اختلفتم" فحكم هذا الشرط "من شيء" ، وتقدمها أيضا الجار لزيادة تأكيد العموم ، وهو التحاكم إلى الله سبحانه وتعالى ورد التنازع إلى الله عز وجل في كل شيء ، بحيث لا يخرج شيء عن ذلك. أهــ .

    الشنقيطى :ـ
    جاء فى تفسيره (أضواء البيان) ، جـ1 ، صـ204 ، دار إحياء التراث العربى ، طـ1 ،
    قوله تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله } الآية .
    أمر الله في هذه الآية الكريمة ، بأن كل شيء تنازع فيه الناس من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم . لأنه تعالى قال : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } [ النساء : 80 ] وأوضح هذا المأمور به هنا بقوله : { وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله } [ الشورى : 10 ] الآية ، ويفهم من هذه الآية الكريمة أنه لا يجوز التحاكم إلى غير كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وقد أوضح تعالى هذا المفهوم موبخاً للمتحاكمين إلى غير كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مبيناً أن الشيطان أضلهم ضلالاً بعيداً عن الحق بقوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت وَقَدْ أمروا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً } [ النساء : 60 ] وأشار إلى أنه لا يؤمن أحد حتى يكفر بالطاغوت بقوله : { فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت وَيْؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } [ البقرة : 256 ] .
    ومفهوم الشرط أن من لم يكفر بالطاغوت لم يستمسك بالعروة الوثقى وهو كذلك ، ومن لم يستمسك بالعروة الوثقى فهو بمعزل عن الإيمان . لأن الإيمان بالله هو العروة الوثقى ، والإيمان بالطاغوت يستحيل اجتماعه مع الإيمان بالله . لأن الكفر بالطاغوت شرط في الإيمان بالله أو ركن منه ، كما هو صريح قوله : { فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت } [ البقرة : 265 ] الآية.
    ويقول أيضا ـ نفس المصدر ـ فى تفسير الآية 26 من سورة الكهف:
    قوله تعالى: {وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا}. قرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن عامر ولا يشرك بالياء المثناة التحتية، وضم الكاف على الخبر، ولا نافية ـ والمعنى: ولا يشرك الله جل وعلا أحداً في حكمه، بل الحكم له وحده جل وعلا لا حكم لغيره ألبتة، فالحلال ما أحله تعالى، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه. والقضاء ما قضاه. وقرأه ابن عامر من السبعة. ولا تشرك بضم التاء المثناة الفوقية وسكون الكاف بصيغة النهي، أي لا تشرك يا نبي الله. أو لا تشرك أيها المخاطب أحداً في حكم الله جل وعلا، بل أخلص الحكم لله من شوائب شرك غيره في الحكم. وحكمه جل وعلا المذكور في قوله: {وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا} [18/16] شامل لكل ما يقضيه جل وعلا. ويدخل في ذلك التشريع دخولاً أولياً.
    وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الحكم لله وحده لا شريك له فيه على كلتا القراءتين جاء مبيناً في آيات أخر. كقوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [12/40] وقوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ...}الآية [12/67]، وقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ...}الآية [42/10]، وقوله تعالى: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِىِّ الْكَبِيرِ} [40/12]، وقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [28/88]، وقوله تعالى: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [28/70]، وقوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [5/50]. وقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} [6/114]، إلى غير ذلك من الآيات.
    ويفهم من هذه الآيات كقوله: {وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا} [18/26]، أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله. وهذا المفهوم جاء مبيناً في آيات أخر. كقوله: فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة الله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [6/121] فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم. وهذا الإشراك في الطاعة، واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى ـ هو المراد بعبادة الشيطان في قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [36/61،60]، وقوله تعالى عن نبيه إبراهيم: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} [19/44]، وقوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً} [4/117] أي ما يعبدون إلا شيطاناً، أي وذلك باتباع تشريعه. ولذا سمى الله تعالى الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ...}الآية[6/137]. وقد بين النَّبي صلى الله عليه وسلم هذا لعدي بن حاتم رضي الله عنه لما سأله عن قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ...}الآية[9/31]، فبين له أنهم أحلوا لهم ما حرم الله، وحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم في ذلك، وأن ذلك هو اتخاذهم إياهم أرباباً.
    ومن أصرح الأدلة في هذا: أن الله جل وعلا في سورة النساء بين أن من يريدون أن يتحاكموا إلى غير ما شرعه الله يتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون، وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب. وذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [4/60].
    وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور: أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم.
    ويقول أيضاً في تفسير قوله تعالى :-  إِنّ هَـَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلّتِي هِيَ أَقْوَمُ  [سورة الإسراء: 9]
    " ومن هدي القرآن للتي هي أقوم – بيانه أن كل من اتبع تشريعاً غير التشريع الذي جاء به سيد ولد آدم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه ، فاتباعه لذلك التشريع المخالف كفر بواح مـخرج من الملة الإسلامية..... والعجب ممن يُحَكِّم غير تشريع الله ثم يدعي الإسلام
    كماقال تعالي :أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) النساء و كماقال تعاليوَمَن لَّمْ يَحْكُم‏ ‏بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون[سورة المائدة: 44] و قال تعالي أَفَغَيْرَ اللّهِ‏ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً‏ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ . سورة الأنعام: 114

  6. افتراضي

    المبحث الخامس
    مسألة هامه وفيها بيان حدود الإكراه

    المسألة هى :
    هل يجوز للمسلمين الموجودين فى سجون ومعتقلات الطاغوت اليوم ـ فك الله أسرهم وأزال كربهم وأزَّلَ عدوهم ـ أن يتظلموا عن طريق محامٍ يرفع شكايتهم ومظلمتهم لمحاكم الطاغوت ؟ .
    لا يمكننا أن نُعطى جواباً وحكماً على هذه المسألة ، وفقاً لما نشتهيه أو نظُنه أو نميل إليه .. ثم ننتزع الأدلة من القرآن والسنة وكلام أهل العلم ؛ لمحاولة تدعيم أهوائنا وشهواتنا ؛ لتتشح بالوشاح الشرعى .. بل علينا أن نبسُط الأمر من الوجهة الشرعية ؛ لنُبين حكم الله ورسوله فيه ـ فالله قد أكمل دينه وحد حدوده ـ ثم نسقطه على واقع المسألة ، فلا نحيف عن طريق أهل الحق ، ولا نَزِّل فَنَضِّل ونُضِّل ـ نسأل الله السلامة ـ .
    قال ابن القيم رحمه الله : (( عادتنا في مسائل الدين كلها دقها وجلها أن نقول بموجبها ولا نضرب بعضها ببعض ولا نتعصب لطائفة على طائفة بل نوافق كل طائفة على ما معها من الحق ونخالفها فيما معها من خلاف الحق لا نستثني من ذلك طائفة ولا مقالة ونرجو من الله أن نحيا على ذلك ونموت عليه ونلقى الله به ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ نقلا عن طريق الهجرتين ، فصل مراتب المكلفين )) .


    وبناءاً على ما سبق يمكننا الإجابة عن هذا السؤال من خلال هذه الإطروحات :
    ـ ما التوصيف الشرعى لهذا الفعل .. تظلماً أم تحاكماً ؟ إن كان تظلماً ، فما حدوده ؟ .. وإن كان تحاكماً ، فما شروطه ؟ .. ومتى يصير التظلم تحاكماً ؟ ـ متى يجوز التحاكم للطاغوت ؟ .. أفى حالة الضرورة ؟ أم لابد من الإكراه ؟
    ـ ماهية الإكراه ؟.. وما هى أنواعه ؟ .. وما هى حدوده ؟
    ـ هل الحبس والسجن إكراه وعذر شرعى لإتيان الكفر ؟
    وسيتم الجواب عن كل هذا ـ إن شاء الله ـ فى ضوء محورين رئيسين ، فتدبرهما ..
    المحور الأول : التوصيف الشرعى لهذا الفعل ( تظلماً .. أم .. تحاكماً ) :
    التظلم لغةً هو / شكاية الظلم . ( انظر : المعجم الوسيط جـ 2 صـ 57 ، القاموس المحيط جـ3 صـ 255 ، لسان العرب جـ 12 صـ 373 ) .
    والتظلم شرعاً هو / قيام المتظلم برفع المظلمة إلى من له سلطان أو ولاية ؛ لرفع الظلم عن نفسه أو عن مسلم ، وهى رخصة شرعية . ( انظر : كتابى " رياض الصالحين ، روضة الطالبين " للنووى باب ما يباح من الغيبة ، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز صـ43 ، إحياء علوم الدين للغزالى جـ2 ، صـ 145 )
    وشروط التظلم هى / أن لايكذب المتظلم ، ولا يثنى ، ولا يدع نصيحة يتوقع لها قبولا ( انظر : إحياء علوم الدين للغزالى جـ2 ، صـ 145 ) .
    نفهم من ذلك أن التظلم هو مجرد طلب رفع الظلم عن النفس أو عن الغير من ذوى السلطان والولاية ، وبهذه الصورة يمكن أن نسميه بـ " الاستعانة على تغيير المنكر " .. ( انظر : تفسير الألوسى ـ روح المعانى ـ الآية 12 ، سورة الحجرات ) .
    أما عن علاقة التحاكم بالتظلم .. فاعلم أرشدنى الله وإياك ، أن التحاكم عملية تتم عقب مرحلة التظلم ، فالتحاكم ليس إلا طلب الحكم فى هذه المظلمة ، وهذا ما بينَّاه فى مطلع البحث .
    وبهذا نفهم طبيعة السؤال المتقدم ومناطه ، فلو اقتصر الأمر على مجرد رفع هؤلاء المسلمين شِكايتهم وتضرُرِهم " تظلُمهم " للطاغوت أو لأى سلطة داخلية أو خارجية " كمنظمة حقوق الإنسان " وغيرها .. لكان ذلك تظلماً جائزاً شرعاً وداخلاً فى باب الاستعانة والاستنصار بذو السلطان فيما يقدر عليه .. أما توكيل محامى برفع هذا التظلم لمحاكم الطاغوت ، فلا يُعقل عرفاً أو شرعاً أن نُسمِّى ذلك " تظلماً " ؛ لأن دور المحامى ليس إلا طلب الحكم والتقاضى فى هذا التظلم وهذه الخصومة من قبل محاكم الطاغوت ، وهذا هو جوهر التحاكم .
    المحور الثانى : متى يجوز التحاكم للطاغوت ؟
    إذا علمت أن التحاكم عبادة كسائر العبادات ، إذا صُرفت للطاغوت أو لشرعه أو لمن ينوب عنه صارت شركاً بالله ، وإذا علمت أن الله تعالى قد أخبرنا على لسان رسوله أن : ( الفتنة أشد من القتل ) ،
    قال ابن كثير فى تفسير هذه الآية191 " وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ " من سورة البقرة : قال أبو العالية، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع ابن أنس: الشرك أشد من القتل.
    يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب :
    والشبهة التي أدخلت عليك، هذه البُضيعة التي في يدك، تخاف تضيع أنت وعيالك، إذا تركت بلد المشركين ، وشاكٌ في رزق الله، وأيضا قرناء السوء ، أضلوك كما هي عادتهم ،
    وأنت - والعياذ بالله - تنْزل درجة درجة ، أول مرة في الشك ، وبلد المشركين وموالاتهم ، والصلاة خلفهم ، وبراءتك من المسلمين مداهنةً لهم ، ثم بعد ذلك طِحت على ابن غنام وغيره ، وتبرأت من ملة إبراهيم ، وأشهدتهم على نفسك باتباع المشركين ، من غير إكراه ، لكن خوفاً ومداراةً .

    وغاب عنك قوله تعالى ، في عمار بن ياسر وأشباهه : {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} إلى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} ، فلم يستثن الله إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان ، بشرط طمأنينة قلبه .

    والإكراه لا يكون على العقيدة ، بل على القول والفعل ، فقد صرَّح بأنَّ من قال المُكفِّر، أو فعله ، فقد كفر ، إلا المُكره بالشرط المذكور ، وذلك : أنَّ ذلك بسبب إيثار الدنيا ، لا بسبب العقيدة . فتفكَّر في نفسك ، هل أكرهوك ، وعرَّضوك على السيف ، مثل عمار ، أم لا ؟ وتفكَّر : هل هذا بسبب أن عقيدته تغيرت ، أم بسبب إيثار الدنيا ؟ ( انظر الدُّرَرُ السَّنِيَّةُ في الأجوبة النجدية جـ13 صـ61 )
    ويقول الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن :
    " الفتنة هي الكفر فلو إقتتلت البادية والحاضرة حتى يذهبوا لكان أهون من أن ينصبوا في الأرض طاغوتاً يحكم بخلاف شريعة الإسلام ".اهـ
    ويقول الشيخ سليمان بن سحمان :
    ( إذا كان هذا التحاكم كفراً والنزاع إنما يكون لأجل الدنيا فكيف يجوز لك أن تكفر لأجل ذلك ؟ فإنه لا يؤمن الإنسان حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وحتى يكون الرسول أحب أليه من ولده ووالده والناس أجمعين . فلو ذهبت دنياك كلها لما جاز لك المحاكمة إلى الطاغوت لأجلها , ولو أضطرك مُضطر وخيَّرك بين أن تحاكم إلى الطاغوت أو تبذل دنياك لوجب عليك البذل ولم يَجُز لك المحاكمة إلى الطاغوت ))انتهى
    إذا فهمت ما تقدم ، فاعلم أن الشرك بالله لايُباح إلا فى حالة واحدة فقط هى " الإكراه المُلجىء التام " كما يعبر عنه أهل العلم ، ولبيان ذلك نقول مستعنين بالله :
    قال تعالى : مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) النحل.
    وَصَحّ عن النبى صلي الله عليه وسلم أنه قال :" إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ ، والنسيان،وما استكرهوا عليه "... أخرجه أحمد، وابن ماجة، والطبراني .
    (1) تعريف الإكراه :
    الإكراه لغةً هو / حمل الإنسان على أمر يكرهه ( انظر : اللباب في شرح الكتاب لعبدالغني الغنيمي الدمشقي الميداني الحنفي جـ 4 - صـ 16كتاب الإكراه ) .
    والإكراه شرعاً هو / ـ إلزام الغير بما لا يريده وهو يختلف باختلاف المكره والمكره عليه والمكره به .. ( عمدة القاري ،كتاب الإكراه )
    / ـ حمل الغير على فعل بما يعدم رضاه دون اختياره لكنه قد يفسده وقد لا يفسده ..( اللباب في شرح الكتاب ، كتاب الإكراه ) .
    / ـ اسم لفعل يفعله المرء بغيره فينتفي به رضاه أو يفسد به اختياره من غير أن تنعدم به الأهلية.. (المبسوط للسرخسي ، جـ 7 - صـ 269) .
    (2) أنواع الإكراه :
    ( ملجىء تام ، غير ملجىء ناقص ) بيان ذلك ..
    قال صاحب بدائع الصنائع : " وَأَمَّا بَيَانُ أَنْوَاعِ الْإِكْرَاهِ فَنَقُولُ : إنَّهُ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَالِاضْطِرَارَ طَبْعًا كَالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ وَالضَّرْبِ الَّذِي يُخَافُ فِيهِ تَلَفُ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ قَلَّ الضَّرْبُ أَوْ كَثُرَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِعَدَدِ ضَرَبَاتِ الْحَدِّ ، وَأَنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ تَحَقُّقُ الضَّرُورَةِ فَإِذَا تَحَقَّقَتْ فَلَا مَعْنَى لِصُورَةِ الْعَدَدِ ، وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمَّى إكْرَاهًا تَامًّا ، وَنَوْعٌ لَا يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَالِاضْطِرَارَ وَهُوَ الْحَبْسُ وَالْقَيْدُ وَالضَّرْبُ الَّذِي لَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ ، وَلَيْسَ فِيهِ تَقْدِيرٌ لَازِمٌ سِوَى أَنْ يَلْحَقَهُ مِنْهُ الِاغْتِمَامُ الْبَيِّنُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَعْنِي الْحَبْسَ وَالْقَيْدَ وَالضَّرْبَ ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْإِكْرَاهِ يُسَمَّى إكْرَاهًا نَاقِصًا . ( وَأَمَّا ) النَّوْعُ الَّذِي هُوَ مُرَخَّصٌ فَهُوَ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ مَعَ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا وَهُوَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ مَعَ ثُبُوتِ الرُّخْصَةِ ، فَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي تَغَيُّرِ حُكْمِ الْفِعْلِ وَهُوَ الْمُؤَاخَذَةُ لَا فِي تَغَيُّرِ وَصْفِهِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ الْكُفْرِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ بِحَالٍ فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ قَائِمَةً إلَّا أَنَّهُ سَقَطَتْ الْمُؤَاخَذَةُ " اهـ ( نقلا عن : بدائع الصنائع فى ترتيب الشرائع للكاسانى كتاب الإكراه )
    ومذهب جمهور المسلمين قديماً وحديثاً ، بدعيهم وسنيهم ، أن الكفر الصريح لايُرَّخص إلا فى حالة الإكراه التام الملجىء دون الناقص غير الملجىء .. لكنهم اختلفوا فى شروط وحدود هذا الإلجاء .
    قال بن عبد البر فى التمهيد : الإكراه إن كان ملجئاً وهو الذي لا يبقى للشخص معه قدرة ولا اختيار. اهـ [ جزء 1 - صفحة 120 ]
    وقال الشوكانى فى السيل الجرار: وأما قوله وبالإكراه فوجهه واضح إذا بلغ الحد الذي يصير به الفعل منه كلافعل وأما لو بقي له فعل فلا يجوز كما تقدم في باب الإكراه.اهـ (جـ 4 - صـ 409 ) .
    (3) حد الإكراه الملجىء :
    ذهب جمهور أهل العلم من ( المالكية ، الأحناف ، الحنابلة ) إلى أن الإكراه التام الملجىء لايتحقق إلا فى حالات خاصة كالقتل والقطع والضرب الذي يخاف فيه تلف النفس أو العضو قل الضرب أو كثر ، أما الحبس والقيد والضرب الذي لايخاف منه التلف , وليس فيه تقدير لازم سوى أن يلحقه منه الاغتمام البين من هذه الأشياء أعني الحبس والقيد والضرب , فهذا النوع من الإكراه يسمى إكراهاً ناقصاً .
    عند الشافعية :
    قال ابن حجرالعسقلانى (وَاخْتُلِفَ فِيمَا يُهَدَّد بِهِ فَاتَّفَقُوا عَلَى الْقَتْل وَإِتْلَاف الْعُضْو وَالضَّرْب الشَّدِيد وَالْحَبْس الطَّوِيل ، وَاخْتَلَفُوا فِي يَسِير الضَّرْب وَالْحَبْس كَيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ .) أهـ،
    وقال أيضا (وَاخْتُلِفَ فِي حَدّ الْإِكْرَاه فَأَخْرَجَ عَبْد بْن حُمَيْد بِسَنَدٍ صَحِيح عَنْ عُمَر قَالَ " لَيْسَ الرَّجُل بِأَمِينٍ عَلَى نَفْسه إِذَا سُجِنَ أَوْ أُوثِقَ أَوْ عُذِّبَ " وَمِنْ طَرِيق شُرَيْح نَحْوه وَزِيَادَة وَلَفْظه " أَرْبَع كُلّهنَّ كُرْه : السِّجْن وَالضَّرْب وَالْوَعِيد وَالْقَيْد " وَعَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ " مَا كَلَامٌ يَدْرَأ عَنِّي سَوْطَيْنِ إِلَّا كُنْت مُتَكَلِّمًا بِهِ " وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُور ، وَعِنْد الْكُوفِيِّينَ فِيهِ تَفْصِيل »، (انظر : فتح البارى جـ12) وقد حمل بعض أهل العلم على أن السوطين بحق الصحابي ابن مسعود ـ رضى الله عنه ـ هي مبرحة يُخشى عليه منهما التلف لضعف ونحالة جسمه ..والله أعلم .
    وقال النووى فى المجموع : قال الشافعي رحمه الله وان قامت بينة على رجل أنه تلفظ بكلمة الكفر وهو محبوس أو مقيد ولم يقل البينة أنه أكره على التلفظ بذلك لم يحكم بكفره، لان القيد والحبس إكراه في الظاهر.اهـ ( جـ 19 صـ 225 ) .

    عند المالكية :
    جاء فى المحصول للرازي : في أن المكره على الفعل هل يجوز أن يؤمر به ويتركه المشهور أن الإكراه إما أن ينتهي إلى حد الإلجاء أو لا ينتهي إليه فإن انتهى إلى حد الإلجاء امتنع التكليف لأن المكره عليه يعتبر واجب الوقوع وضده يصير ممتنع الوقوع والتكليف بالواجب والممتنع غير جائز وإن لم ينته إلى حد الإلجاء صح التكليف به [ جـ 2 - صـ 449 ] .
    عند الاحناف:
    جاء فى أصول البزدوي " واما الفصل الآخر فهو فصل الاكراه وهو ثلاثة أنواع نوع يعدم الرضاء ويفسد الاختيار وهو الملجىء ونوع يعدم الرضاء ولا يفسد الاختيار وهو الذي لا يلجئ ونوع آخر لا يعدم الرضاء وهو أن يهتم (بمعنى يلحقه الهم والغم ) بحبس ابيه أو ولده وما يجري مجراه ( جـ 1 - صـ 357 )
    عند الحنابلة :
    هو قول الجمهور والراجح ، يقول ابن تيمية : (تأملت المذاهب فوجدت الإكراه يختلف باختلاف المكرَه عليه، فليس الإكراه المعتبر في كلمة الكفر كالإكراه المعتبر في الهبة ونحوها، فإن أحمد قد نص ّ في غير موضع أن الإكراه على الكفر لايكون إلا بالتعذيب من ضرب ٍ وقيد ولايكون الكلام إكراها . اهـ ( انظر : الدفاع عن أهل السنة والأتباع) لحمد بن عتيق ص 32، و (مجموعة التوحيد) ص 419 ضمن الرسالة الثانية عشرة لحمد بن عتيق أيضا ) .
    والحجة لقول الجمهور هو سبب النزول، فإن ( عمـار بن ياسـر ) لم يتكلم بالكفر حتى عذّبه المشركون، وعلى المشهور فإن هذا هو سبب نزول قوله تعالى (من كَفَر بالله من بعد إيمانه إلا من أكرِهَ وقلبه مطمئن بالإيمان) النحل 106
    قال ابن حجر : (والمشهور أن الآية المذكورة نزلت في عمار بن ياسر، كما جاء من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال «أخذ المشركون عماراً فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا، فشكي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، قال: فإن عادوا فعُد». اهـ ( انظر فتح البارى جـ12 ) .

    مماسبق نستنتج أن :
    ـ رفع التظلم إلى الطاغوت على سبيل الشكاية أو الاستعانة بنفوذه على تغيير المنكر أمر مباحا شرعا .
    ـ أما توكيل محامى برفع هذا التظلم ، فهذا أمرا خارجا عن معنى النظلم ، وداخلا فى دائرة التحاكم المنهى عنه شرعا .. لأنه يتحول من مجرد رفع المظلمة إلى طلب الحكم فى هذه المظلمة .
    ـ أن هذا الفعل إذا صدر ممن هو قابع فى غياهب السجون فى ظلمات الحبس والقيد .. يعد رخصة شرعية فى حقه (( إكراه ملجىء )) ، وفقا لما ذهب إليه فقهاء الشافعية .. رغم كونه مخالف لرأى جمهور أهل السنة والجماعة .. فيصير تركه أحوط للدين وأسلم لمرضاة رب العالمين ، لاسيما والمقام مقام كفر وإيمان . والله أعلم .








    الخـــاتـمـــة

    أعلم يرحمنى الله وإياك أن الله أرسل رسله مبشرين ومنذرين بلسان قومهم ، وأنزل معهم الكتب ؛ ليحكموا بين الناس بالحق ، وأيدهم بالمعجزات والآيات ، ولم يحل بين الناس وبين الحق بشىء ،،، ثم أنهم أتتهم شياطين الإنس والجن ، فجعلت بينهم وبين الحق حواجب وحواجز .. فتارة يغرقونهم فى الشهوات ؛ ليتكالبوا على الدنيا ولا يفيقوا إلى الدين ـ فمثلا يقولون لهم أن الله أمرنا بالمحافظة على المال والعرض و.... بل هى من الضرورات الخمسة التى يجب حمايتها مهما كانت الوسائل ، ونسى المسكين أو تناسى أن أول وءآكد ضرورة أمرنا الله بالمحافظة عليها وحمايتها هى الدين ـ ، فهل عند المسلم ما هو أعز وأغلى من دينه ؟!!
    ومن أبى ذلك أنهالوا عليه بتيارات من الشبهات ، فلا يصل إلى الحق الذى لاحت له بوارقه .. لكن ما هم بضارين بذلك إلا من هو صال الجحيم ، ولا ينجو من ذلك إلا من جاهد فى سبيل الله باحثاً عن الحق مريداً للخير والفلاح فى الدارين .
    قال تعالى : ( ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ) .
    وقال تعالى : ( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ) .
    وقال تعالى : ( ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) .
    ......اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدنى لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقبم . الحمد لله رب العالمين .
    جمعه ورتبه / طالب رضوان الله ..

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 10-01-2010, 09:32 PM
  2. دعوة للقراءة: لماذا تدعم إيران القضية الفلسطينية؟!!
    بواسطة مسلمة84 في المنتدى قسم الحوار العام
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 03-28-2010, 08:08 PM
  3. عقل المراة بين نظرية الهزار لعمرو خالد والتحليل الجاد
    بواسطة المطيعي في المنتدى قسم المرأة المسلمة
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 12-23-2007, 09:48 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء