عقيدة التحاكم
بين
الجفاء و الافتراء
جمعه ورتبه / طالب رضوان الله
المحتويات
الموضوع الصفحة
مقدمة .................................................. ............. 6
المبحث الأول ( ماهية التحاكم وما يختلط به من مفاهيم ) ............... (8ـ37)
ـ ما هية التحاكم ؟ ................................................. 8
ـ المعنى اللُغوى .................................................. . 8
ـ المعنى الإصطلاحى ................................................. 10
ـ شرح تعريف التحاكم........................................... ... 13
ـ بيان اشتراط النزاع والخصومة فى التحاكم .......................... 14
ـ بيان القبول والرضا فى التحاكم .................................... 16
ـ ملحوظة : التحاكم يُبنى على عمل الظاهر لا الباطن.................. 18
ـ المفاهيم التى تختلط بمفهوم التحاكم .................................. 18
ـ الحكم والقضاء .................................................. .. 19
ـ الحكم والفتوى .................................................. .. 23
ـ التحاكم والحكم .................................................. . 24
ـ التحاكم والتحكيم .................................................. . 25
ـ التحاكم والتصالح .................................................. .. 27
ـ التحاكم والاستجارة........................................ ......... 30
ـ التحاكم والتظلم .................................................. . 32
ـ التحاكم والاستشفاع........................................ ....... 33
ـ مثال لبيان ما تقدم من فروق........................................ 35
ـ صور خارجة عن معنى التحاكم ...................................... 37
المبحث الثانى : الحاكمية وعبادة رب البرية............................ ( 38_48)
ـ التحاكم وتوحيد الربوبية ........................................... 38
ـ التحاكم وتوحيد الأسماء والصفات.................................. 39
ـ التحاكم وتوحيد الإلوهية .......................................... 44
ـ التحاكم شرط فى الإيمان ........................................... 47
المبحث الثالث : شبهات حول الموضوع .......................... (94_110)
ـ توطئة هامة .................................................. ......... 49
ـ ماهو الطاغوت ؟................................................. .... 49
ـ ما هى صفة الكفر بالطاغوت ؟........................................ 52
ـ ملخص الشبهات المثارة حول الموضوع ............................... 53
ـ الشبهة الأولى : تعريف التحاكم بأنه العدول ........................... 57
ـ الشبهة الثانية : كفر دون كفر ....................................... 66
ـ الشبهة الثالثة : الاستضعاف العام فى ديار الكفر بمنزلة الضرورة المبيحة للكفر 72
ـ الشبهة الرابعة : الإيمان الباطن لايزول بمجرد مخالفات الظاهر ............. 75
ـ الشبهة الخامسة : الضرورات الخمس التى أمرنا الله بالمحافظة عليها ......... 78
ـ الشبهة السادسة : حلف الفضول ........................................ 80
ـ الشبهة السابعة : حادثة يوسف عليه السلام ............................. 85
ـ الشبهة الثامنة : حادثة أخوة يوسف .................................... 89
ـ الشبهة التاسعة : كلام الإمام الشيبانى .................................. 94
ـ الشبهة العاشرة : كلام الإمام ابن القيم ................................. 102
المبحث الرابع : قطوف من كلام أهل العلم حول المسألة ............ (111_117)
ـ العماد بن كثير .................................................. .. 111
ـ أبو بكر الرازى............................................ ........ 111
ـ الإمام البقاعى .................................................. .. 111
ـ ابن قيم الجوزية........................................... .. 112
ـ سليمان بن سحمان......................................... 112
ـ حمد بن عتيق.............................................. .. 113
ـ محمد بن إبراهيم آل الشيخ.................................... 113
ـ محمد الأمين الشنقيطى ......................................... 114
المبحث الخامس : مسألة هامة وفيها بيان حدود الإكراه .......... (118_126)
ـ عرض المسألة وتحديد معالمها ..................................... 118
ـ متى يجوز التحاكم للطاغوت ..................................... 120
ـ تعريف الإكراه........................................... ........ 122
ـ أنواع الإكراه........................................... ......... 122
ـ حد الإكراه المُلجىء.......................................... .... 123
الخاتمة .................................................. ............ 127
بسم الله الرحمن الرحيم
مُـقدمـة
الحمد لله الذي لا يغفر أن يُشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء … والصلاة والسلام على إمام الموحدين ، المأمور بتوحيد ربِّ العالمين ، والبراءة من الشرك والمشركين وبعد ...
فلما كانت مسألة التحاكم للقوانين الوضعية ، من مظاهر الشرك الجلية ، فى مجتمعاتنا الحالية ، ومن المسائل محسومة الحكم من قِبل ربِّ البرية ، ولكن لتلاطُم أمواج الفتن فى أيامنا هذه ـ نسألُ الله السلامة والعافية ـ ظهرت خلافات حول هذه القضية فى بعض صورها ؛ لذا أردتُ التطرق إلى هذا الأمر مبيناً ما أدين به لرب العالمين ؛ خشيةَ أن أكون من الهالكين ، فالمسألة ليست من الفروع التى يسع فيها الخلاف بل من صميم دعوة الأنبياء والمرسلين ، التى بلَّغوها عن رب العالمين ، فوجبت على جميع المكلفين ، من هنا كان استنادى إلى إرث السماء ـ الكتاب والسنة ـ هو الأساس ، وما ذكرته من كلام أهل العلم فعلى سبيل الاستئناس.... ثم أننى لا أدعى الإجتهاد أو الاعتداد ؛ لأمور لعل أهمها : أن القضية ليست محل اجتهاد فى النصوص أو اعتداد بالمنصوص مع مخالفة أهل الخصوص ، فعملى فى البحث ليس إلا بيان لما يفهمه أى موحد مريد للحق من كلام الله ورسوله مع تجميع ما يؤيد ذلك من كلام المحققين من أهل العلم قديماً وحديثاً ...
ولا أُطيل على القارىء فأترك له زمام فِكره ، ليدور بعقله وخُلده فى ثنايا هذا الموضوع الهام ، الذى سينتظم الحديث فيه ـ إن شاء الله تعالى ـ
من خلال المباحث التالية :
(1) ماهية التحاكم وما يختلط به من مفاهيم ؟.
(2) الحاكميــة وعبادة رب البريـــة .
(3) شبهات حول الموضـــــــوع .
(4) قطوف من كلام أهل العلم حول المسألة .
(5) أخيراً : مسألة هامة وفيها بيان حدود الإكراه .
المبحث الأول
ماهية التحاكُم وما يختلط به من مفاهيم
أولا : ماهية التحاكم ؟:
المعنى اللُغَوى :
حكم .. تأتى بمعنى ( منع ) ، قال الشاعر " جرير " :
أبَني حَنيفةَ أحْكموا سُفهاءَكم ..... إنّي أخافُ عليكُمُ أن أغْضَبا
أحكموا سفهاءكم فى الشطر الأول من البيت بمعنى امنعوهم من التعرض لي ، وسُمِّىَ الحاكمُ بين الناسِ حاكماً ؛ لأنه يمنع الظالم من الظلم ، قال الأصمعى : ( أصل الحكومة : رد الرجل عن الظلم ) ، وقال ثعلب عن ابن الأعرابي : قيل للحاكم حاكم لأنه يمنع من الظلم .
ويقال حَكَّمْتُ فلاناً .. بمعنى فوضت الأمر إليه ، وأطلقت يده فى الأمر .. والتحكِّيم فى اللغة يأتى على ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : المنع .. فيقال حَكَّمْتُ الرجل تحكِّيماً أى منعته مما أراد .
الوجه الثانى : التفويض وإطلاق اليد .. فيقال حَكَّمْتُ فلاناً فى مالى أى أطلقتُ إليه الحُكْمَ فيه .
الوجه الثالث : تصيير الغير حاكماً .. فيقال حَكَّمنا فلاناً فى الخصومة أى صيرناه حَكمَاً فيها .
فالتحكيم من المنظور اللغوى يعنى : تفويض الحُكم إلى الغير ؛ لفصل الخصومة ومنع الظلم .
أما التحاكُم فيأتى بمعنى التقاضى ، فيقال حكَمَ ، يحكُم ، حُكماً .. بمعنى : قضى ، يقضى ، قضاءاً ، قال ابن سيده : ( الحكم : القضاء ) ، وكذا قال الأزهرى .. ويقال عن يوم القيامة : يوم الفصل ، ويوم القضاء ، ويوم الحُكم .
ويقال حاكَمَهُ إلى الحاكِم أو إلى القاضى .. بمعنى دعاه إلى حُكمه وقضاءِه ، وتحاكما .. بمعنى احتكَّما ، والمحاكمة .. بمعنى المخاصمة إلى الحاكِم ، كما قيل " فى بيته يؤتى الحكَم " أى الحاكِم ، والحاكِم من نُصِّبَ للحُكم بين الناس ، أو من يُختار للفصل بين المتنازعين .
وفى الحديث " وإليك حاكمت " أى رفعت الحُكم إليك ولا حُكم إلا لك ، وقيل إليك خاصمت فى طلب الحُكم وإبطال من نازعنى .
فالتحاكُم من المنظور اللغوى يعنى : طلب الحُكم من الغير ؛ لفصل الخصومة ومنع الظلم.
وهذا ملخص ما ذكره أهل اللغة عن التحاكم .
انظر : ـ لسان العرب لابن منظور ، المؤسسة المصرية للتاليف والنشر ، جـ15 ، صـ 31 .
ـ القاموس المحيط للفيروزآبادى ، دار بيروت للنشر ، ط 1389هـ ، المجلد4 ، صـ 98 .
ـ مختار الصحاح للرازى ، المطبعة الأميرية بالقاهرة ، ط 3 ، جـ1، صـ228 .
ـ البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم المصرى ، باب التحكيم ، المطبعة العلمية ، ط1 ، جـ7 ، صـ 27 .
ـ المعجم الوسيط ، مجمع اللغة العربية ، مطبعة مصر ، ط 1380هـ، جـ 1 ، صـ 198 .
مما سبق نستنتج أن :
ـ التحكيم يعنى : تفويض الحُكم للغير .
ـ التحاكم يعنى : طلب الحُكم من الغير .. والفرق بينهما دقيق .
ـ الحُـكـم هو القضاء ويعنى : فصل الخصومة ومنع الظلم .
المعنى الإصطلاحى ( الشرعى ) :
ليس هناك ثمة فرق كبير بين كل من المعنى اللُغَوى والإصطلاحى لمفهوم التحاكم ،
قال تعالى : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) النساء " .
وجاء فى الحديث الصحيح ، أن عبد الله ابن عباس رضى الله عنهما قال : " كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَهَجَّدَ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: اللّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ أَنْتَ الْحَقُّ ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ ، وَلِقَاؤكَ حَقٌّ ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ ، وَالنَّارُ حَقٌّ ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ ؛ اللّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ ، وَبِكَ آمَنْتُ ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ ، وَبِكَ خَاصَمْتُ ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ ، فَاغْفِرْلي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ ، أَنْتَ إِلهِي لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ " .
هذا الحديث متفق عليه ، إذ رواه الشيخان البخارى ومسلم فى صحيحيهما ، فأخرجه الإمام البخاري فى : كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى ( يريدون أن يبدلوا كلام الله ) ، وأخرجه الإمام مسلم بن الحجاج فى : كتاب صلاة المسافرين وقصرها ، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه .
وجاء فى عمدة القارى شرح صحيح البخارى ، عند شرح حديث ابن عباس المتقدم : " ( .. وإليك حاكمت .. ) حاكمت أي كل من جحد الحق حاكمته إليك وجعلتك الحاكم بيني وبينه ، لا غيرك مما كانت تُحَاكِم إليه الجاهلية من صنم وكاهن ونار ونحو ذلك ، والمحاكمة رفع القضية إلى الحاكم . أهـ
وجاء فى النهاية فى غريب الأثر ، لابن الأثير : " ومنه الحديث [ وبكَ حاكَمْتُ ] أي رَفَعْتُ الحُكم إليك فلا حُكم إلاَّ لك . وقيل : بكَ خاصمْتُ في طَلَب الحُكم وإبْطالِ من نازَعَنِي في الدين وهي مُفَاعَلَةٌ من الحُكْم " اهـ . ( كذا قال : ابن منظور فى لسان العرب ، والزبيدى فى تاج العروس )
وقال ابن حجر فى فتح البارى : " قَالَ اِبْن بَطَّال : لَا يَجُوز لِلْقَاضِي الْحُكْم إِلَّا بَعْد طَلَب حُكْم الْحَادِثَة مِنْ الْكِتَاب أَوْ السُّنَّة " اهـ ( انظر : فتح البارى شرح صحيح البخارى ، للحافظ ابن حجر العسقلانى ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب ما جاء فى اجتهاد القضاة ، جـ 20 ، صـ 375 ) .
من هنا كان التحاكم من المنظور الشرعى هو : طلب حُكم جهة معينة ؛ لفصل خصومة أو مظلمة .. وهو بذلك يعنى التقاضى والاستفتاح ، والاستفتاح من الناحية اللغوية والشرعية يأتى بمعنى التحاكم وهو طلب الحكم .
قال تعالى : " رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) الأعراف "
وقال تعالى : " وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) سورة إبراهيم "
جاء فى تفسير الطبرى لآية الأعراف المتقدمة ما نصه : " حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن مسعر، عن قتادة ، عن ابن عباس قال : ما كنت أدري ما قوله : ( ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) ، حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول:"تعاالَ أفاتحك" ، تعني : أقاضيك .
وحدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) ، يقول : اقض بيننا وبين قومنا .
وحدثني المثنى قال ، حدثنا ابن دكين قال ، حدثنا مسعر قال ، سمعت قتادة يقول : قال ابن عباس : ما كنت أدري ما قوله : ( ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) ، حتى سمعت ابنةَ ذي يزن تقول: " تعالَ أفاتحك ".
وحدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله: ( افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) ، أي : اقض بيننا وبين قومنا بالحق .
وحدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور قال ، حدثنا معمر ، عن قتادة : ( افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) : اقض بيننا وبين قومنا بالحق .
وحدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي ، أما قوله : ( افتح بيننا ) ، فيقول : احكم بيننا .
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال الحسن البصري : افتح احكم بيننا وبين قومنا ، و( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ) ، [الفتح: 1] حكمنا لك حكمًا مبينًا .
وحدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : " افتح " : اقض.
وحدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير قال ، حدثنا مسعر ، عن قتادة ، عن ابن عباس قال : لم أكن أدري ما ( افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) ، حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها :" انطلق أُفاتحك " .
وجاء فى تفسير المحرر الوجيز لابن عطية لآية سورة إبراهيم المتقدمة ما نصه : " و « الاستفتاح » طلب الحكم ، والفتاح : الحاكم " اهـ .
وهذا التعريف للتحاكم بأنه : " طلب حُكم جهة معينة ؛ لفصل خصومة أو مظلمة " من أوضح التعريفات التى تبرز مدلول كلمة التحاكم ، وتفرِّق بينه وبين الحكم والقضاء والفتوى من ناحية ، كما تفرِّق بينه وبين التحكيم والتظلم والتصالح والاستجارة والاستشفاع من ناحية أخرى.
وسيتم بيان ذلك من خلال بعدين رئيسين هما :
البُعد الأول : شرح تعريف التحــاكم وبيان دلالاته .
البُعد الثانى : بيان المفاهيم التى تختلط بمفهوم التحاكـم .
البُعد الأول : شرح تعريف التحــاكم وبيان دلالاته وشروطه :
(1) شرح التعريف :
التحاكم هو : " طلب حُكم جهة معينة ؛ لفض خصومة أو مظلمة " .
ـ طلب ... كلمة تدل على الاختيار والإرادة .
ـ حكم ... قولنا حكم ؛ لنفرق بين التحاكم وما يختلط به من مفاهيم مثل :
التصـالح : الذى يعنى طلب الصلــــــح وتحقيق التراضى .
التظـلم : الذى يعنى طلب رفع الظلم عن النفس ، أو عن الغير .
الاستشفاع: الذى يعنى طلب الشفاعـــــــــــة .
الاستجارة: التى تعنى طلب الجـــــــوار والمنعة والآمان .
ـ جهة ... كلمة تنسحب على أى هيئة أو منظمة فردية كانت أو جماعية .
ـ جهة معينة ... لفظة تدل على الترك والعدول ، فوصف الجهة بأنها معينة ، يدل على ترك جميع الجهات والعدول عنها ، إلى هذه الجهة على سبيل التعيين والتحديد ، كما يدل على تفضيل هذه الجهة والرضا بها وبما يَصدُر عنها من أحكام وتشريعات .
ـ لفض خصومة أو مظلمة ... عبارة تدل على اشتراط حدوث خصومة ومُدَاراءة فى التحاكم ؛ لأنه قد عُلم بالاستقراء فى دنيا الناس أن التحاكم لايحدث إلا فى حالة وجود تنازع وخصام .. وهذا ما سنزيده إيضاحاً فى السطور التالية من خلال استعراض كلام أهل العلم .
(2) بيان اشتراط النزاع والخصومة فى التحاكم :
قال الله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) سورة النساء "
وقال تعالى : " وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ (10) سورة الشورى .
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ عند تفسيره لآية النساء المتقدمة ، ما نصه : " وهذا أمر من الله، عز وجل، بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة، كما قال تعالى: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } [الشورى:10] فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولهذا قال تعالى: { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي: ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ }
فدل على أن من لم يتحاكم في مجال النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر.
وقوله: { ذَلِكَ خَيْرٌ } أي: التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله. والرجوع في فصل النزاع إليهما خير { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } أي: وأحسن عاقبة ومآلا كما قاله السدي وغير واحد. وقال مجاهد: وأحسن جزاء. وهو قريب. " اهـ
جاء فى المبسوط للسرخسى : " عَنْ عَامِرٍ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، اخْتَصَمَا فِي شَيْءٍ فَحَكَّمَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَتَيَاهُ فِي مَنْزِلِهِ ، قَالَ زَيْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَلَّا أَرْسَلْت إلَيَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ ، وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّهُ كَانَ يَقَعُ بَيْنَهُمْ مُنَازَعَةٌ وَخُصُومَةٌ .. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَكُونُ قَاضِيًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خُصُومَةٍ حَكَّمَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " اهـ ( انظر : المبسوط ، للسرخسى ، كتاب أدب القاضى ، صـ 14 )
وجاء فى موطن آخر من نفس المصدر : " كَانَ بَيْنَ عُمَرَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مُدَارَأَةٌ بَيْنَهُمَا فِي شَيْءٍ فَحَكَّمَا بَيْنَهُمَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَأَتَيَاهُ فَخَرَجَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إلَيْهِمَا وَقَالَ لِعُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَلَا تَبْعَثُ إلَيَّ فَآتِيكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : " فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحُكْمُ " فَأَذِنَ لَهُمَا فَدَخَلَا وَأَلْقَى لِعُمَرَ وِسَادَةً فَقَالَ : عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذَا أَوَّلُ جَوْرِكَ . وَكَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ زَيْدٌ لِأُبَيٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَوْ أَعْفَيْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْيَمِينِ فَقَالَ عُمَرُ يَمِينٌ لَزِمَتْنِي ، فَلَأَحْلِفُ فَقَالَ : أُبَيٌّ رَحِمَهُ اللَّهُ : بَلْ يُعْفَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَيُصَدِّقُهُ . وَالْمُرَادُ بِالْمُدَارَأَةِ الْخُصُومَةُ وَاللَّجَاجُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ) وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ ثَابِتِ بْنِ شَرِيكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ( لَا يُدَارِي ، وَلَا يُمَارِي ) أَيْ لَا يُلَاجي ، وَلَا يُخَاصِمُ " اهـ( انظر : المبسوط ، للسرخسى ، كتاب القاضى ، باب الحكمين ، صـ 354 )
ملحوظة : قد يُقال ان المسلم مُطالب بالتحاكم لشرع الله فى كل كبيرة وصغيرة ، وإن لم تتواجد ثمة خصومة أو نزاع ... ويمكن الرد على ذلك ، بأنه لابد من خصومة فى التحاكم وإن كانت الخصومة عبارة عن نزاع داخلى لدى الفرد يجعله متردد بين أمرين فى فهم مسألة شرعية او حكم شرعى ، الأمر الذى ينتج عنه نزاع داخلى يدفع هذا الفرد إلى التحاكم ، إما إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهذا هو تحاكم المسلمين ، وإما إلى مقالات الفلاسفة والصابئة وغيرهم من أهل الشرك والإلحاد وهذا هو تحاكم المشركين .
يقول ابن تيمية رحمه الله : " وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا } . فَذَمَّ الَّذِينَ أُوتُوا قِسْطًا مِنْ الْكِتَابِ لَمَّا آمَنُوا بِمَا خَرَجَ عَنْ الرِّسَالَةِ وَفَضَّلُوا الْخَارِجِينَ عَنْ الرِّسَالَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهَا كَمَا يُفَضِّلُ ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ يُفَضِّلُ الصَّابِئَةَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالدُّوَلِ الْجَاهِلِيَّةِ - جَاهِلِيَّةِ التُّرْكِ وَالدَّيْلَمِ وَالْعَرَبِ وَالْفُرْسِ وَغَيْرِهِمْ - عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ وَكَمَا ذَمَّ الْمُدَّعِينَ الْإِيمَانَ بِالْكُتُبِ كُلِّهَا وَهُمْ يَتْرُكُونَ التَّحَاكُمَ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيَتَحَاكَمُونَ إلَى بَعْضِ الطَّوَاغِيتِ الْمُعَظَّمَةِ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَمَا يُصِيبُ ذَلِكَ كَثِيرًا مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ وَيَنْتَحِلُهُ فِي تَحَاكُمِهِمْ إلَى مَقَالَاتِ الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ أَوْ إلَى سِيَاسَةِ بَعْضِ الْمُلُوكِ الْخَارِجِينَ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ مُلُوكِ التُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ " اهـ ( انظر : مجموع الفتاوى ، كتاب التفسير ، فصل مسائل التكفير والتفسيق من مسائل الأسماء والأحكام ، جـ 12 ، صـ 339 ) .
(3) بيان القبول والرضا فى التحاكم :
قال الله تعالى : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) "
جاء فى تفسير الإمام الرازى لهذه الآية ما نصه : " المسألة الثالثة : مقصود الكلام ان بعض الناس أراد أن يتحاكم إلى بعض أهل الطغيان ولم يرد التحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم . قال القاضي : ويجب أن يكون التحاكم إلى هذا الطاغوت كالكفر ، وعدم الرضا بحكم محمد عليه الصلاة والسلام كفر ، ويدل عليه وجوه : الأول : انه تعالى قال : { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } فجعل التحاكم إلى الطاغوت يكون ايمانا به ، ولا شك أن الايمان بالطاغوت كفر بالله ، كما أن الكفر بالطغوت إيمان بالله . الثاني : قوله تعالى : { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } إلى قوله : { وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً } [ النساء : 65 ] وهذا نص في تكفير من لم يرض بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام " اهـ.
انظر يرحمنى الله وإياك كيف فرَّق أهل العلم بين التحاكم للطاغوت والرضا بحكم الطاغوت ، وبيَّنوا أنَّ كل واحدٍ منهما كفرٌ مستقلٌ بذاته .
جاء فى المبسوط للسرخسى : " وَإِذَا حَكَّمَ رَجُلَانِ حَكَمًا فِي خُصُومَةٍ بَيْنَهُمَا مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ فَتَجَاحَدَا وَقَالَا لَمْ تَحْكُمْ بَيْنَنَا وَقَالَ الْحَاكِمُ بَلْ حَكَمْتُ ، فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِ الْحُكُومَةِ " اهـ ( انظر : المبسوط ، للسرخسى ، كتاب القاضى ، باب الحكمين ، صـ355 ) .
والمعنى الظاهر من كلام السرخسى رحمه الله : أن الحكم يقع صحيحاً ، وتحاكمهما يثبُت صريحاً ، ولا عبرة بجحودهما للحكم وعدم رضاهما به بعد صدوره .
وأصرح من ذلك ماجاء فى دُرَرَ الْحُكَّامِ فِي شَرْحِ غُرَرِ الْأَحْكَامِ : " لِأَنَّهُ مُحَكَّمٌ مِنْ جِهَتِهِمَا فَيَتَوَقَّفُ حُكْمُهُ عَلَى رِضَاهُمَا فَإِنْ قِيلَ التَّحْكِيمُ يَثْبُتُ بِاتِّفَاقِهِمَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ الْإِخْرَاجُ إلَّا بِاتِّفَاقِهِمَا قُلْنَا شَرْطُ وُجُودِ الشَّيْءِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ شَرْطًا لِبَقَاءِ ذَلِكَ الشَّيْءِ كَمَا فِي الْبِنَاءِ ( لَا بَعْدَهُ ) أَيْ لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ بَعْدَ حُكْمِهِ لِأَنَّهُ صَدَرَ عَنْ وِلَايَةٍ عَلَيْهِمَا كَالْقَاضِي إذَا قَضَى ثُمَّ عُزِلَ لَا يَبْطُلُ قَضَاؤُهُ " اهـ ( دُرَرَ الْحُكَّامِ فِي شَرْحِ غُرَرِ الْأَحْكَامِ ، لمُحَمَّدِ بْنِ فَرَامُرْزِ بْنِ عَلِيٍّ ، باب التحكيم ، فصل ما تقضى فيه المرأة ، جـ 8 ، صـ 399 )
من هنا يتضح أن الرضا فى مسألة التحاكم يكون قبل صدور الحكم ؛ لأنه مرتبط باختيار جهة فض النزاع ، والتى تحدث فى بداية عملية التحكيم ، وأن الحكم إذا صدر من الجهة المُحكِّمة التى وقع عليها الاختيار صار حكمها مُلزِماً ، وتعيَّن إنفاذه دون أن يتوقف ذلك على رضا الخصمين أو أحدهما
يقول الشوكانى رحمه الله : " فقد قررنا لك فيما سبق أن التحكيم جار مجرى إلزام النفس بالقبول لما حكم به فلا يجوز الرجوع عنه " اهـ ( انظر : السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار ، محمد بن على الشوكانى ، جـ4 ، صـ304 )
ويقول فى موضع آخر من نفس الكتاب : " لأن الخصمين ألزما أنفسهما بقبول ما حكم به المحكم بينهما فكان هذا الإلزام هو سبب اللزوم " اهـ ( المصدر السابق ، جـ4 ، صـ 206)
(4) ملحوظة : التحاكم يُبْنَى على عمل الظاهر لا الباطن :
جاء فى تَقْرِيبَ الْأَسَانِيدِ وَتَرْتِيبَ الْمَسَانِيدِ : " قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بْنُ الْعَرَبِيُّ جَاءُوا مُحَكِّمِينَ لَهُ فِي الظَّاهِرِ وَمُخْتَبِرِينَ فِي الْبَاطِنِ هَلْ هُوَ نَبِيُّ حَقٍّ أَوْ مُسَامِحٌ فِي الْحَقِّ فَقَبِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إفْتَاءَهُمْ وَتَأَمَّلَ سُؤَالَهُمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّحْكِيمَ جَائِزٌ فِي الشَّرْعِ انْتَهَى " ( تَقْرِيبَ الْأَسَانِيدِ وَتَرْتِيبَ الْمَسَانِيدِ ، زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْعِرَاقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، جـ 8 ، صـ152 )
فتأمل عقيدة أهل العلم والتحقيق ، رزقك الله الفهم والتوفيق ، فهذا الإمام العَلم أبو بكر بن العربى القرطبى الأندلسى ، قاضى قضاة الأندلس فى زمانه ، المتوفى فى القرن السادس الهجرى ، يُبرهن بجلاء على فساد معتقد أهل الكفر والإرجاء ، فيقول رحمة الله عليه ، مُفسِّراً لحال اليهود الذين نزل فيهم قول الله تبارك وتعالى : " وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) سورة المائدة " .. أقول تأمل أرشدك الله ، كيف قال عنهم ابن العربى رحمه الله : جَاءُوا مُحَكِّمِينَ لَهُ فِي الظَّاهِرِ وَمُخْتَبِرِينَ فِي الْبَاطِنِ .. أى أن حقيقة أمرهم التى أضمروها فى مكنون نفوسهم اختبار هذا النبى لا التحاكم إليه إذ أن حكم المسألة ثابت عندهم فى التوراة ، ورغم ذلك وصفهم الله سبحانه وتعالى بظاهر فعلهم وهو أنهم متحاكمين ومحكِّمين .
البُعد الثانى : المفاهيم التى تختلط بمفهوم التحاكم :
ويتم بيانها من خلال استعراض الفرق بين كلاً من ..
(1) الحــكم والقضـاء . (2) الحكــم والفتوى .
(3) التحـاكم والحكـم . (4) التحـاكم والتحكيم .
(5) التحـاكم والتصالح . (6) التحاكم والاستجارة .
(7) التحــاكم والتظلم . (8) التحاكم والاستشفاع .
(1) الحكـم والقضاء :
لما كان الثابت عند أهل اللغة أن الحكم يأتى بمعنى القضاء ( انظر : مادة حكم فى مصنفات أهل اللغة ، مثل " لسان العرب لابن منظور ، مختار الصحاح للرازى ، تاج العروس للزبيدى " ) .
ومادة " قضى " تأتى فى القرآن الكريم على أربعة أوجه :
الوجه الأول : قضى بمعنى حكم .. قال تعالى " قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) سورة طه " ، وقال تعالى " وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) سورة غافر "
الوجه الثانى : قضى بمعنى أمر .. قال تعالى " وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) الإسراء "
الوجه الثالث : قضى بمعنى خلق .. قال تعالى " فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فصلت "
الوجه الرابع : قضى بمعنى فرغ .. قال تعالى " يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) سورة يوسف "
ومادة " حكم " تأتى فى القرآن الكريم بمعنى " قضى " .. قال تعالى " قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112) سورة الأنبياء " فكلمة ( احْكُمْ ) فى الآية بمعنى ( اقضى ) كما جاء فى تفسير الوجيز للواحدى ، التفسير الكبير للرازى ، وتفسير اللباب لابن عادل ، وتفسير روح المعانى للألوسى ... وغيرها من التفاسير .
وفى موضع آخر يخبرنا القرآن أن الحكم هو القضاء ، قال تعالى " فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) النساء " فانظر يرحمك الله كيف ذكر الله تبارك وتعالى كل من الحكم ( يُحَكِّمُوكَ ) والقضاء ( قَضَيْتَ ) فى نفس المسألة ونفس الآية .. ثم تأمل قوله تعالى ( مِمَّا قَضَيْتَ ) ولم يقل ( مما حكمت ) رغم أنه سبحانه أوجب عليهم فى صدر الآية أن يُحكِّموه صلى الله عليه وسلم ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ) . . إذا تأملت هذا عرفت أمرين :
الأمر الأول : الصلة الوطيدة بين كل من الحكم والقضاء ، وأنه يمكن أن تحل إحدى الكلمتين محل الأخرى .
الأمر الثانى : إذا اجتمعا لفظى الحكم والقضاء قُدِّم الحكم على القضاء ، فصار الحكم يُقصد به مجرد صدور القرار المُلزِم بفصل الخصومة ، وصار القضاء يُقصد به تنفيذ هذا القرار المُلزِم .. وهذا ما سنزيد بيانه بعون الله تعالى فى طيات السطور التالية .
وهناك من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن القضاء يأتى بمعنى الحكم ، إذ قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما بعث معاذاً وفداً إلى اليمن قال له : " إن عُرض لك قضاء فبما تحكم " ؟ قال : أحكم بكتاب الله ، قال : " فإن لم تجد "، قال : فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " فإن لم تجد"، قال : أجتهد رأيي ولا آلو ، فضربه صلى الله عليه وسلم في صدره وقال : " الحمد لله الذي وفقَّ رسول رسول الله لما يرضي رسول الله " ، رواه الإمام أحمد وجماعة بإسناد حسن .
إذا ثبت لك أن الحكم فى الشرع يأتى بمعنى القضاء وأن القضاء من معانيه الحكم ، فاعلم أن القضاء الذى يأتى بمعنى الحكم يُقصد به فى مصطلح الفقهاء : فصل الخصومة أو المظلمة على سبيل الإلزام .
يلاحظ أن عبارة ( على سبيل الإلزام ) جاءت هنا ؛ لتفرق بين التصالح الذى يكون فض النزاع فيه على بيل التراضى ، وبين الحكم الذى يكون فض النزاع فيه على سبيل الإلزام .
قال تعالى : " وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) سورة ص "
وجاء فى تفسير البحر المحيط لأبى حيان : لقول الله تعالى " رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ(83) سورة الشعراء " ما نصه : الحكم هو الفصل بين الناس بالحق .اهـ
جاء فى تفسير فتح القدير للشوكانى : لقول الله تعالى " وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) سورة الأنبياء " ما نصه : الحُكم : هو فصل الخصومات بالحق . اهـ
جاء فى مُعِينَ الْحُكَّامِ فِيمَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ مِنْ الْأَحْكَامِ : " فَحَقِيقَةُ الْقَضَاءِ : الْإِخْبَارُ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ " قَضَى الْقَاضِي " أَيْ : أَلْزَمَ الْحَقَّ أَهْلَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى ( فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ) أَيْ أَلْزَمْنَاهُ وَحَكَمْنَا بِهِ عَلَيْهِ وقَوْله تَعَالَى ( فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ ) أَيْ أَلْزِمْ بِمَا شِئْت وَاصْنَعْ مَا بَدَا لَك .. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ : حَقِيقَةُ الْحُكْمِ إنْشَاءُ إلْزَامٍ أَوْ إطْلَاقٍ .. وَالْحُكْمُ فِي اللُّغَةِ : الْقَضَاءُ أَيْضًا ، فَحَقِيقَتُهُمَا مُتَقَارِبَةٌ " اهـ ( انظر : معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الحكام ، لابن عبد الرفيع ، جـ1 ، صـ 10 ـ 11 ) .
فالحُكم والقضاء كلاهما وسيلة لفض النزاع بين الناس وتحديد صاحب الحق ، لذا اشترط الفقهاء صفات متماثلة فى كل من القاضى والحاكم ، وذكروا أن الحاكم كالقاضى فى حق الخصمين .
جاء فى المبسوط للسرخسى ما نصه : " عَنْ عَامِرٍ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، اخْتَصَمَا فِي شَيْءٍ فَحَكَّمَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَأَتَيَاهُ فِي مَنْزِلِهِ قَالَ زَيْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَلَّا أَرْسَلْت إلَيَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ ، وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّهُ كَانَ يَقَعُ بَيْنَهُمْا مُنَازَعَةٌ وَخُصُومَةٌ وَلَا يَظُنُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْا سِوَى الْجَمِيلِ ، وَإِنَّمَا كَانَ يَقَعُ ذَلِكَ عِنْدَ اشْتِبَاهِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ عَلَيْهِمْ وَيَتَقَدَّمُونَ إلَى الْقَاضِي لِطَلَبِ الْبَيَانِ لَا لِلْقَصْدِ إلَى التَّلْبِيسِ وَالْإِنْكَارِ .. فَأَتَى زَيْدٌ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِوِسَادَةٍ وَكَانَ هَذَا مِنْهُ امْتِثَالًا لِمَا نَدَبَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ ( إذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ ) ، وَقَدْ بَسَطَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رِدَاءَهُ حِينَ أَتَاهُ وَلَكِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَسْتَحْسِنْ ذَلِكَ مِنْهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَقَالَ هَذَا أَوَّلُ جَوْرِك ، وَفِيهِ دَلِيلُ وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي كُلِّ مَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْهُ ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ يَخْفَى عَلَى زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلَكِنْ وَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّ الْحَكْمَ فِي هَذَا لَيْسَ كَالْقَاضِي " اهـ ( انظر : المبسوط ، محمد بن أبي سهل السرخسي ، كتاب الصلح ، باب الحكمين ، جـ 7 ، صـ 89 ) .
جاء فى بدائع الصنائع : " فَكَانَ الْحُكْمُ مِنْ الْحَكَمَيْنِ بِمَنْزِلَةِ حُكْمِ الْقَاضِي الْمُقَلَّدِ ، إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ فِي أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ .( مِنْهَا ) : أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لَا يَصِحُّ .( وَمِنْهَا ) : أَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْحُكْمُ ، حَتَّى لَوْ رَجَعَ أَحَدُ الْمُتَحَاكِمَيْنِ قَبْلَ الْحُكْمِ ؛ يَصِحُّ رُجُوعُهُ ، وَإِذَا حَكَمَ صَارَ لَازِمًا .( وَمِنْهَا ) : أَنَّهُ إذَا حَكَمَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ ، ثُمَّ رُفِعَ حُكْمُهُ إلَى الْقَاضِي ، وَرَأْيُهُ يُخَالِفُ رَأْيَ الْحَاكِمِ الْمُحَكَّمِ ، لَهُ أَنْ يَفْسَخَ حُكْمَهُ " اهـ ( انظر : بدائع الصنائع فى ترتيب الشرائع ، علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني ، كتاب أدب القاضى ، فصل فى بيان من يصلح للقضاء ، جـ 14 ، صـ 410 ) .
الفرق بين الحكم والقضاء :
يقول صاحب الفروق اللغوية : " الفرق بين القضاء والحكم : أن القضاء يقتضي فصل الأمر على التمام من قولك قضاه إذا أتمه وقطع عمله ومنه قوله تعالى " ثم قضى أجلا " أي فصل الحكم به " وقضينا إلى بني إسرائيل " أي فصلنا الإعلام به وقال تعالى " قضينا عليه الموت " أي فصلنا أمر موته " فقضاهن سبع سماوات في يومين " أي فصل الأمر به ، والحكم يقتضي المنع عن الخصومة من قولك أحكمته إذا منعته قال الشاعر: أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم * إني أخاف عليكم أن أغضبا ، ويجوز أن يقال الحكم فصل الأمر على الاحكام بما يقتضيه العقل والشرع فإذا قيل حكم بالباطل فمعناه أنه جعل الباطل موضع الحق " . اهـ ( انظر : الفروق اللغوية لأبى هلال العسكرى ، جـ1 ، صـ431 ) .
والحُكم يشمل ثلاث مراتب ، المرتبة الأولى : الثبوت ( وهو ما يثبت عند الحاكم من أدلة وبينات ) ، المرتبة الثانية : صدور القرار المُلزم ، المرتبة الثالثة : التنفيذ ( وتنفيذ القرار المُلزم هو القضاء ) .
من هنا كان القضاء أخص من الحكم وفرعٌ منه ، كما أن الحكم بمعنى القضاء إذا انفردا ، وأعم من القضاء إذا اجتمعا .
(2) الحكم والفتوى :
الفتوى والفُتيا فى اللغة هى : ما أفتى به الفقيه . ( انظر : تاج العروس للزبيدى ، باب الواو والياء ، فصل الفاء ) .
جاء فى المصباح المنير : " و ( الفَتْوَى ) بالواو بفتح الفاء وبالياء فتُضم وهي اسم من ( أَفْتَى ) العالم إذا بَيَّنَ الحُكم و ( اسْتَفْتَيْتُهُ ) سألته أن يفتي " ( انظر : المصباح المنير ، ابن المقرى الفيومى ، كتاب الفاء جـ2 ، صـ 462 ) .
وجاء فى النهاية فى غريب الحديث : " [ أنّ أربعة تَفَاتَوْا إليه عليه الصلاة والسلام ] : أي تَحاكَمُوا من الفَتْوى . يُقال : أفْتَاه في المسألة يُفْتِيه إذا أجابَه . والاسْم : الفَتْوَى " ( انظر : النهاية فى غريب الحديث ، ابن الأثير ، حرف الفاء ، باب الفاء مع التاء ، جـ 2 ، صـ 778 ) .
ـ أما الفتوى فى الإصطلاح فتُعنى : تبيين الحكم الشرعى للسائل عنه .
جاء فى التعريفات للجرجانى : " الإفتاء بيان حكم المسألة " اهـ .
جاء فى المحيط فى اللغة لإسماعيل بن عباد ( ت 385 هـ ) : " وأفْتَى الفَقِيْهُ يُفْتي إفْتَاءً: إذا بَيَّنَ المُبْهَمَ، وهي الفُتْيَا " اهـ .
جاء فى التوقيف على مهمات التعاريف لخلوف بن محمد ( المتوفى فى القرن الثانى عشر الهجرى ) : " الفتوى والفتيا ذِكر الحكم المسؤول عنه للسائل " اهـ .
إذا عَرِفْت أنَّ الفتوى هى : إظهار الحكم الشرعى للسائل ، وقد سبق لك أن عرفت فيما تقدَّم أن الحكم هو : فصل الخصومة أو المظلمة على سبيل الإلزام .
من هنا كان الفرق بين الحكم والفتوى ، أن الحكم أو القضاء يكون على وجه الإلزام أما الفتوى فتكون من غير إلزام .. فهما يجتمعان فى إظهار حكم الشرع فى المسألة وينفرد القضاء أو الحكم عن الفتوى بالإلزام .
(3) التحاكم والحكم :
إذا كان التحاكم هو : " طلب حكم جهة معينة ؛ لفصل خصومة أو مظلمة " ، وأنَّ الحُكم هو : " فصل الخصومة أو المظلمة على سبيل الإلزام " .. فاعلم أن التحاكم عملية تسبق عملية الحكم ، فعملية التحاكم يظهر فيها دور المتحاكمين ، بينما عملية الحكم فيظهر فيها دور الحاكم أو القاضى ، ومعلوم عرفاً وعقلاً أنَّ دور المتحاكم يسبق دور الحاكم والقاضى فى عملية الحكومة .
يقول الماوردى رحمه الله : " سماع البينة لايجوز إلا بعد التحاكم " اهـ ( انظر : الحاوى الكبير ، الماوردى ، كتاب أدب القاضى ، جـ 16 ، صـ 644 )
ومن المعلوم أنَّ سماع البينة من الخصوم يكون قبل الحكم .
وقال ابن حجر فى فتح البارى : " قَالَ اِبْن بَطَّال : لَا يَجُوز لِلْقَاضِي الْحُكْم إِلَّا بَعْد طَلَب حُكْم الْحَادِثَة مِنْ الْكِتَاب أَوْ السُّنَّة " اهـ ( انظر : فتح البارى شرح صحيح البخارى ، للحافظ ابن حجر العسقلانى ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب ما جاء فى اجتهاد القضاة ، جـ 20 ، صـ 375 ) .
إذا تأملت كلام ابن حجر المتقدم أفادك عدة فوائد ،
الفائدة الأولى : أن كل حاكم متحاكم وليس بالضرورة أن يكون كل متحاكم حاكم .. بمعنى أن كل حاكم فى حقيقة أمره متحاكم بدءاً ورأساً إلى شرع ، وهذا الشرع إمَّا شرع " الرحمان " وإمَّا شرع " الشيطان " .
فالذى يتحاكم إلى شريعة الرحمن ويحكم بها يتحقق فيه وصفان ، هما كونه ( متحاكم & وحاكم ) متحاكم إلى شريعة الرحمان وحاكم بها، وهو بذلك عالماً ـ أى عالماً بما يحكم به وليس بالضرورة أن يكون عالماً فى كافة فروع الشريعة ـ فضلاً عن كونه مسلماً .
والذى يتحاكم إلى شريعة الشيطان ويحكم بها يتحقق فيه وصفان أيضا هما كونه ( متحاكم & وحاكم ) ، وهو بذلك طاغوتاً فضلاً عن كونه كافراً .
الفائدة الثانية : أن التحاكم فى اصطلاح الفقهاء يعنى طلب الحكم ، وهو ما نستشفه من قول ابن حجر المتقدم حين قال : " طَلَب حُكْم الْحَادِثَة مِنْ الْكِتَاب أَوْ السُّنَّة " .
الفائدة الثالثة : أن التحاكم عملية تسبق عملية الحكم ، إذ أوجب رحمه الله على القاضى ألا يحكم فى مسألة إلا بعد أن يتحاكم هو أولاً إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
(4) التحاكم والتحكيم :
التحكيم فى مصطلح الفقهاء يعنى : " تَوْلِيَةُ الْخَصْمَيْنِ حَاكِمًا يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا " ( انظر : البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم المصرى ، الدر المختار الحصفكي )
وقد أوضحنا من قبل أن التحاكم هو : " طلب حكم جهة معينة ؛ لفصل خصومة أو مظلمة " .
ومن ثم فالفرق بين التحاكم والتحكيم يتجَّلى فى وجهين هما :
الوجه الأول : التحكيم أعم من التحاكم :
ـ فمن المنظور اللُغوى .. نجد أن مادة " تحَاكمَ " تأتى على وزن " تفاعل " ، والتفاعل يتم فى الأعم الأغلب بين طرفين ، هما فى عملية التحاكم ( المتحاكم والحاكم ) .
أما مادة " تحكيم " فتأتى على وزن " تفعيل " وهى صيغة مبالغة أعمق فى المعنى والدلالة من " تفاعل " ، وفيها يتم أكثر من تفاعل ، ففى عملية التحكيم يحدث نوعين من التفاعل .
أحدهما بين الطرفين المتحاكمين وبعضهما البعض ؛ حتى يتم الاتفاق فيما بينهما على تنصيب حاكماً يفصل خصومتهما ، والتفاعل الآخر يتم بين هذين الطرفين من جانب وبين الحَكَمْ الذى ارتضياه ليفصل بينهما من جانب آخر .
ـ ومن المنظور الشرعى .. نجد أن التحكيم هو : تولية الخصمين حاكماً يحكم بينهما ، ويفوضوا الأمر إليه فى خصومتهما . أما التحاكم فهو طلب حكم جهة معينة لفض خصومة أو مظلمة ، وبذلك تتحقق عملية التحاكم من أحد الطرفين المتخاصمين ، ولا يُشترط فى التحاكم اجتماعهما على تحكيم ( تولية ) شخصاً بعينه .
مثال توضيحى : حدثت خصومة بين طرفين ،
_ فإذا أراد أحد الطرفين ، اللجوء إلى جهة معينة ( وهذا هو التفاعل الذى يتم بين أحد الطرفين والجهة المُحكِّمة ) ، عُد هذا تحاكماً فى المنظور الشرعى ، بل وفى المنظور العرفى والعقلى أيضاً .
ـ أما إذا اتفقا الطرفان فيما بينهما ( وهذا هو التفاعل الأول ويتم بين الطرفين المُتخاصمين ) على تولية حاكماً معيناً ليفصل خصومتهما ، ( هذا هو التفاعل الثانى ويتم بين الطرفين والحكم المُولَّى ) صارت هذه العملية تحكيماً .
فعند الحديث عن عملية التحاكم يقول الله تبارك وتعالى : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) النساء " .
وقد تواترت النصوص فى أن الآية نزلت فى شأن رجلين أحدهما من الأنصار يدّعى الإيمان ـ أى أنه كان مسلماً فى الظاهر ـ والآخر يهودى مشرك ، وأن المسلم كان يدعو اليهودى إلى الطاغوت ـ سواء كان كعب ابن الأشرف أو كاهناً فى المدينة أو غير ذلك ـ فى الوقت الذى كان يدعوه فيه اليهودى إلى النبى صلى الله عليه وسلم ؛ لأن اليهودى صاحب حق ويعلم يقيناً أن محمداً نبىُ الله ورسوله ولن يأخذ الرِشوة . ( انظر : تفسير الطبرى 8/509 ، أسباب النزول للواحدى صـ 161 وفيه أن اسم الأنصارى قيس ، وصححه ابن حجر فى فتح البارى5/ 38 ) .
وعند الحديث عن عملية التحكيم يقول الله تبارك وتعالى : " فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
ومن المعلوم أن الآية نزلت فى شأن رجلين مسلمين كلاهما اتفق على تحكيم النبى صلى الله عليه وسلم ، ولكنها عاتبت الصحابى الذى لم يرضى بحكم النبى صلى الله عليه وسلم ولم يستسلم لقضائه .. ثم أنَّ هذه الآيات جميعُهَا نزلت لتقرر قضية التحاكم والتحكيم جملةً وتفصيلاً حالاً ومآلاً فى كل عصرٍ ومِصْرٍ .
الوجه الثانى : التحاكم يسبق التحكيم :
قال الزمخشرى فى أساس البلاغة : " حاكمته إلى القاضى : رافعته ، وتحاكمنا إليه واحتكمنا ... وحاكمه إلى الله وإلى القرآن إذ دعاه إلى حكمه " اهـ ( انظر : أساس البلاغة ، الزمخشرى ، جـ 1 ، صـ 94 ) .
ويقول الخليل فى معجم العين : " وحاكمناه إلى الله : دعوناه إلى حُكم الله " اهـ ( انظر : معجم العين ، الخليل بن أحمد ، جـ2 ، صـ67 ) .
فتأمل أرشدك الله إلى ما يحبه ويرضاه ، كيف بيّنَ أهلُ العلمِ رحمهم الله أنَّ مجرد دعوة الخصم إلى حُكم جهة معينة يعد تحاكماً .
(5) التحاكم والتصالح :
التصالح فى اللغة مشتق من الإصلاح ، والإصلاح نقيض الإفساد ، فيقال أصلح إذا أتى بالخير والصواب ، وأصلح الشىء أزال فساده ، وأصلح بينهما أو ذات بينهما أو ما بينهما من عداوة ونزاع برضا الطرفين ، والمصالحة والتصالح خلاف المخاصمة والتخاصم .. قال الراغب : والصلح يختص بإزالة النفار بين الناس .
المعنى الشرعى للتصالح .. لا يخرج عن كونه يعنى : " طلب الصلح وتحقيق التراضى بين المتخاصمين "
قال الله تعالى : " وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) الحجرات "
جاء فى حديث أبى شريح الذى رواه أبو داود وغيره :
* نص الحديث : " عن أبي شريح: أنه كان يُكنَى أبا الحكم . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله هو الحكم . وإليه الحُكم ، فقال: إنَّ قومي إذا اختلفوا في شئ أتوني فحكمت بينهم فرضى كلا الفريقين. فقال: ما أحسن هذا. فما لك من الولد ؟ قل: شريح ومسلم وعبد الله . قال: فمن أكبرهم ؟ قلت : شريح . قال : فأنت أبو شريح " رواه أبو داود وغيره .
* الشاهد من الحديث : قول أبى شريح ( إنَّ قومى إذا اختلفوا فى شىء أتونى فحكمت بينهم فرضى كلا الطرفين ) وردَ الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله (ما أحسن هذا) ، ويعلق عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ على هذا الحديث فى مصنفه (( قرة عيون الموحدين )) قائلاً : ( .. فالمعنى والله أعلم أن أبا شريح لما عرف منه قومه أنه صاحب إنصاف وتحر بالعدل بينهم ، ومعرفة ما يرضيهم من الجانبين صار عندهم مرضياً وهذا هو الصلح ، لأن مداره على الرضا لا على الإلزام ) ا.هـ
إذن الصلح جائز بين المسلمين إلا صُلحاً حرَّم حلالاً أوأحلَّ حراماً .
الفرق بين التصالح والتحاكم
فالتصالح والتحاكم يُفضُّ بهما النِزَاع ، غير أنه فى حالة الحكم لا بُدَّ فيه من توليةٍ من القاضي أو الخصمين ، بينما فى حالة الصلح يكون الاختيار فيه من الطرفين أو من متبرع به .
فالصُلح هو عقد وُضِعَ لرفع المنازعة بعد وقوعها بالتراضي ، وهذا عند الحنفية .
وزاد المالكية على هذا المدلول : العقد على رفعها قبل وقوعها - أيضاً - وقايةً ، وجاء في تعريف ابن عرفة للصّلح : أنّه انتقال عن حقّ أو دعوى بِعِوَض لرفع نزاع ، أو خوف وقوعه ، ففي التّعبير " خوف وقوعه " إشارة إلى جواز الصُلح ؛ لتوقّي منازعة غير قائمة بالفعل ، ولكنّها محتملة الوقوع .
كما يختلف الحكم عن الصّلح من وجهين :
أحدهما : أنَّ الحكم ينتج عنه حكم قضائي ، بخلاف الصُلح فإنّه ينتج عنه عقد رضائى يتراضى عليه الطرفان المتنازعان . وفرقٌ بين الحكم القضائي والعقد الرضائي .
والثاني : أنَّ الصُلح يتنازل فيه أحد الطّرفين أو كلاهما عن حق ، بخلاف الحكم فليس فيه نزول عن حق .
وَالْحُكْمُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ : عِبَارَةٌ عَنْ قَطْعِ الْقَاضِي الْمُخَاصِمَةَ وَحَسْمِهِ إيَّاهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ .
وَقَيْدُ الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ هُوَ لِإِخْرَاجِ الصُّلْحِ الَّذِي يَجْرِي بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ هُوَ أَلْفَاظُ الْقَاضِي كَأَلْزَمْت أَوْ حَكَمْت أَوْ أَنْفَذْت الْقَضَاءَ عَلَيْك ، فالصُّلْحَ هُوَ عَقْدٌ يَرْفَعُ النِّزَاعَ بِالتَّرَاضِي بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ ... والْحُكْمُ ، هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ قَطْعِ الْقَاضِي الْمُخَاصَمَةَ وَحَسْمِهِ إيَّاهَا . اهـ ( انظر : درر الحكام فى شرح مجلة الأحكام جـ13 صـ63،302 ) .
متى يصير الصلح تحاكماً غير جائز :
قال محمد بن إبراهيم آل الشيخ : " أما بالنسبة لما انتهى عند قُضاة العشائر فإنْ كان ذلك عن طريق الصلح ولم يتضمن هذا الصلح تحليل محرم أو تحريم حلال فالصلح صحيح ، وإن كان يتضمن هذا الصلح فذلك غير صحيح ؛ لأن المعروف عن مشائخ العشائر الجهل وعدم العلم بالأحكام الشرعية فالتحاكم إليهم من باب التحاكم إلى الطاغوت أما لو كان التحاكم من الخصمين إلى رجل صالح للقضاء فإن حكمه ينفُذْ عليهما " ( انظر فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ ـ الخطاب رقم 666 بتاريخ 5/6 /1386 الموجه من فضيلته إلى وزير الداخلية بالمملكة ) .
(6) التحاكم والاستجارة :
الاستجارة فى اللغة مشتقة من : أجَارَ يُجيرُ إجارةً .. بمعنى أعاز يعيز إعازةً ، أعان يعين إعانةً .
قال صاحب تاج العروس : " أجارَهُ : أَعَاذَهُ . قال أبو الهَيْثَم : ومَن عاذَ بالله ، أي استجار به أجارَه اللهُ ، ومَن أجارَه اللهُ لم يُوصَلْ إليه وهو سُبْحَانَهُ وتعالَى يُجِيرُ ولا يُجَارُ عليه .. أي يُعِيذُ ، وقال الله تعالى لنَبِيِّه : قُلْ إنِّي لن يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ .. أي لن يَمْنَعَنِي .. وفي الحديث : ويُجيرُ عليهم أدْنَاهم .. أي إذا أَجارَ واحدٌ من المسلمين حُرٌّ أو عَبْدٌ أو امرأَةٌ واحداً أو جماعةً من الكُفّار وخَفَرَهُم وأَمَّنهُم جازَ ذلك على جميع المسليمن لا يُنْقَض عليه جِوَارُه وأَمانُه " اهـ . ( انظر : تاج العروس ، للزبيدى ، مادة جور ) .
ويقول صاحب مختار الصحاح : " الخَفِيرُ المجير تقول خفر الرجل أي أجاره وكان له خفيرا يمنعه وبابه ضرب وكذا خَفَّرَهُ تَخْفِيرا و تَخَفَّر بفلان استجار به وسأله أن يكون له خفيراً " اهـ( انظر مختار الصحاح ، للرازى ، باب الخاء ، جـ1 ، صـ 196 )
وجاء فى المعجم الوسيط : " استأمن إليه استجاره و طلب حمايته ، و يقال استأمن الحربي استجار و دخل دار الإسلام مستأمناً و فلانا طلب منه الأمان و ائتمنه .. استجار بفلان استغاث به و التجأ إليه وسأله أن يؤمنَّه ويحفظه وفي التنزيل العزيز : "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره " ( انظر المعجم الوسيط ، باب الهمزة ، جـ1 ، صـ 59 ، باب الجيم ، جـ1 ، صـ 205)
والمعنى الشرعى للاستجارة ... لا يخرج عن كونه طلب العون والنُصرة والجوار والمِنعَة .
قال صاحب طلبة الطلبة : " الِاسْتِجَارَةِ وَهى سُؤَالُ الْأَمَانِ يُقَالُ اسْتَجَارَهُ فَأَجَارَهُ قَالَ تَعَالَى ( وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ ) " اهـ ( انظر : طلبة الطلبة ، عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ النَّسَفِيُّ ، كتاب المناسك ، جـ1 ، صـ 424 )
وجاء فى لسان العرب : " قال الله تعالى لنبيه : قل لَنْ يُجِيرَني من الله أَحدٌ .. أَي لن يمنعنى من الله أَحد والجارُ والمُجِيرُ هو الذي يمنعك ويُجْيرُك واستْجَارَهُ من فلان فَأَجَارَهُ منه ، وأَجارَهُ الله من العذاب أَنقذه ، وفي الحديث " ويُجِيرُ عليهم أَدناهم " أَي إِذا أَجار واحدٌ من المسلمين حر أَو عبد أَو امرأَة واحداً أَو جماعة من الكفار وخَفَرَهُمْ وأَمنَّهم جاز ذلك على جميع المسلمين ، لا يُنْقَضُ عليه جِوارُه وأَمانُه .. وأَما قوله عز وجل : وإِذْ زَيَّنَ لهم الشيطانُ أَعْمَالَهُمْ وقال لا غالَب لَكُم اليومَ من الناسِ وإِني جَارٌ لكم .. قال الفرّاء : هذا إِبليس تمثل في صورة رجل من بني كنانة ، قال وقوله : إِني جار لكم .. يريد أَجِيركُمْ أَي إِنِّي مُجِيركم ومُعيذُكم من قومي بني كنانة فلا يَعْرِضُون لكم وأَن يكونوا معكم على محمد صلى الله عليه وسلم ، فلما عاين إِبليس الملائكة عَرَفَهُمْ فَنَكَصَ هارباً فقال له الحارثُ بن هشام أَفِراراً من غير قتال ؟! ، فقال : إِني بريء منكم إِني أَرَى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ الله واللهُ شديدُ العقاب .. قال : وكان سيد العشيرة إِذا أَجار عليها إِنساناً لم يخْفِرُوه " اهـ ( انظر : لسان العرب ، ابن منظور ، مادة جور ، جـ4 ، صـ 153 )
ـ قال تعالى حاكيا عن عيسى عليه السلام : " فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) آل عمران .
ـ ويدخل حلف الفضول فى هذا المعنى حيث قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَدْ شَهِدْت فِي دَارِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبّ أَنّ لِي بِهِ حُمْرَ النّعَمِ وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْت .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : " وَأَمّا حِلْفُ الْفُضُولِ فَحَدّثَنِي زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ قَالَ تَدَاعَتْ قَبَائِلُ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى حِلْفٍ فَاجْتَمَعُوا لَهُ فِي دَارِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جُدْعَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، لِشَرَفِهِ وَسِنّهِ فَكَانَ حِلْفُهُمْ عِنْدَهُ بَنُو هَاشِمٍ ، وَبَنُو الْمُطّلِبِ ، وَأَسَدُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى . وَزُهْرَةُ بْنُ كِلَابٍ ، وَتَيْمُ بْنُ مُرّةَ فَتَعَاقَدُوا وَتَعَاهَدُوا عَلَى أَنْ لَا يَجِدُوا بِمَكّةَ مَظْلُومًا ْدَخَلَهَا مِنْ سَائِرِ النّاسِ إلّا قَامُوا مَعَهُ وَكَانُوا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ حَتّى تُرَدّ عَلَيْهِ مَظْلِمَتُهُ فَسَمّتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ الْحِلْفَ حِلْفَ الْفُضُولِ " .
وذلك مثل: إستجارة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمطعم بن عدى، واستجارة الصديق بابن الدغنة ، واستجارةالفاروق بالعاص بن وائل ، واستجارة عثمان بن مظعون بالوليد بن المغيرة .
من هنا كان الفرق بين الاستجارة والتحاكم واضحا ، فالتحاكم : طلب حكم ، والاسستجارة : طلب جوار ومنعة وعون وآمان .
(7) التحاكم والتظلم :
التظلم لغةً هو / شكاية الظلم . ( انظر : المعجم الوسيط جـ 2 صـ 57 ، القاموس المحيط جـ3 صـ 255 ، لسان العرب جـ 12 صـ 373 ) .
والتظلم شرعاً هو / قيام المتظلم برفع المظلمة إلى من له سلطان أو ولاية ؛ لرفع الظلم عن نفسه أو عن مسلم غيره ، وهى رخصة شرعية . ( انظر : كتابى " رياض الصالحين ، روضة الطالبين " للنووى باب ما يباح من الغيبة ، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز صـ43 ، إحياء علوم الدين للغزالى جـ2 ، صـ 145 )
وشروط التظلم هى / أن لايكذب المتظلم ، ولا يثنى ، ولا يدع نصيحة يتوقع لها قبولا ( انظر : إحياء علوم الدين للغزالى جـ2 ، صـ 145 ) .
والتظلم مشتق من الظُلم , والظُلم حرام قطعاً بالنصوص المتواترة في القرآن الكريم والسنّة الشّريفة وإجماع المسلمين ، ورفع الظُلم واجب شرعاً على كلّ مسلمٍ .
والعلاقة بين التظلم والتّحاكم أنّ التّحاكم وسيلة لفضّ التظلم والنّزاع بين النّاس .
... من هنا كان التحاكم عملية تتم عقب مرحلة التظلم ، فالتحاكم ليس إلا طلب الحكم فى المظلمة الكائنة بين طرفى النزاع .
ملحوظة : مع الأخذ فى الاعتبار أنه فى بعض الأحيان قد يكون هناك تظلم بعد عملية التحاكم ، لكن فى الغالب الأعم يكون التظلم عملية تتم قبل عملية التحاكم ، وفى كلتا الحالتين فالفرق واضح بين التظلم والتحاكم ، كما بيَّنا أعلاه .
(8) التحاكم والاستشفاع :
الشفاعة في الشرع هي : التوسط للغير بجلب خير له أو دفع شر عنه ، ويعرِّفها بعض العلماء بقوله : الشفاعة هي سؤال الخير للغير ، والشفاعة في أمور الدنيا المقصود بها : شفاعة إنسان لآخر عند السلطان أو صاحب الجاه أو المنصب ؛ ليقضي له حاجته ، وهي نوع من أنواع التعاون بين المسلمين.
قال تعالى فى سورة النساء الآية 85 : " مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا " . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه السائل أو طُلِبت إليه حاجة قال: " اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء " .
قال صاحب التعريفات : " الشفاعة هي : السؤال في التجاوز عن الذنوب من الذي وقع الجناية في حقه " اهـ . ( انظر : التعريفات للجرجانى ، باب الشين ، الجزء الأول ، صـ 41 )
جاء فى المبسوط للسرخسى ما نصه : " عَنْ عَامِرٍ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اخْتَصَمَا فِي شَيْءٍ فَحَكَّمَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ... وَكَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ أَعْفَيْت أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْيَمِينِ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا ، وَلَكِنْ أَحْلِفُ فَتَرَكَ لَهُ أُبَيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ ، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَرْوُونَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِزَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هذا أول جورك .. وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ الْمَيْلِ إلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ صَرِيحًا وَدَلَالَةً ، وَأَنَّ مَجْلِسَ الشَّفَاعَةِ غَيْر مَجْلِسِ الْحُكُومَةِ ُ " اهـ ( انظر : المبسوط ، للسرخسى ، كتاب أدب القاضى ، صـ 14 )
والشفاعة في الدنيا على قسمين :
قسم محمود ومشروع ، وهو الشفاعة في الأمور المباحة التي يترتب عليها جلب النفع للمسلم دون التعدي فيها على حق من حقوق الله عز وجل أو حقوق الناس .
وأما القسم الثاني : فهي الشفاعة التي يترتب عليها إسقاط حد من حدود الله عز وجل ، أو ظلم لأحد من الناس ، أو إبطال حق .
وقد وردت أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم تحذر من الشفاعة في الحدود إذا بلغت السلطان .
ومنها : حديث عائشة رضي الله عنها " أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ ، فَقَالَ : وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا : وَمَنْ يَجْتَرِى عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ ، حِبُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا ، إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ ؛ وَأيْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا " أخرجه البخاري في : كتاب الأنبياء : باب حدثنا أبو اليمان ، ومسلم فى : كتاب الحدود : باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود .
ويقول صلى الله عليه وسلم : من حالت شفاعته دون حد من حدود الله عز وجل فقد ضاد في الله أمره . . . الحديث .
وقد نص العلماء رحمهم الله تعالى على أن الشفاعة لا تُقبل في الحدود إذا بلغت الحاكم ، يقول الإمام النووي رحمه الله عند ذكر الإمام مسلـم لحديث عائشة السابق وغيره يقول : " ذَكر مسلم رضي الله عنه في الباب الأحاديث في النهي عن الشفاعة في الحدود وأن ذلك هو سبب هلاك بني إسرائيل ، وقد أجمع العلماء على تحريم الشفاعة في الحد بعد بلوغه إلى الإمام للأحاديث المتواترة الواردة فى هذا الشأن وعلى أنه يحـــرُم التشفع فيه " ( انظر : شرح صحيح مسلم للنووي 11 / 186 )
... من هنا كان الاستشفاع أمر يتم عقب عملية التحاكم ، بل عقب صدور الحكم .
ملحوظة : مع الأخذ فى الاعتبار أنه فى بعض الأحيان قد يكون هناك استشفاع قبل عملية التحاكم ، لكن فى الغالب الأعم يكون الاستشفاع عملية تتم عقب عملية التحاكم ، وفى كلتا الحالتين فالفرق واضح بين الاستشفاع والتحاكم ، كما بيَّنا أعلاه .
مثال لبيان ما تقدم من فروق :
وبعد أن أسهبنا فى الحديث حول هذه الفروق ، ودعمناها بكلام الله ورسوله بفهم أهل العلم المحققين من السلف ، نرى أن نسوق مثالاً تطبيقياً توضيحياً ؛ تبصيراً للمعانى وتأصيلاً للمبانى ؛ خشية أن يغوص المبتدىء فى كلام أهل العلم بلا ضابط ولا رُوية ، وحتى لا يحَار طالب العلم فى هذه الفروق دون أن يربطها بِصُلب موضوع البحث ، وهو بيان كُنه التحاكم المُكَّفِر ومناطاته وشروطه وصوره ، وبيان الفرق بينه وبين التصالح والتظلم والاستجارة والاستشفاع .. وغيرهم ، إذ يُعدّ الخلط بين هذه المصطلحات تمييعاً لعقيدة التحاكم وتشويشاً لواقع الأمة .. قال تعالى : " فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) سورة هود "
وهذا المثال كالتالى : إذا كانت هناك خصومة بين طرفين ، وحدث ما يلى : ـ
ـ أراد أحد الطرفين ( مجرد إرادة قلب فحسب ) طلب حكم جهة معينة ؛ لفصل هذه الخصومة ، فيُعدّ هذا الطرف متحاكماً ، ثم يُنظر إلى هذه الجهة ، إن كانت جهة طاغوتية فالتحاكم إليها تحاكم للطاغوت ، وإن كانت جهة مسلمة فلا حرج ، وهذا كحال المسلم الذى يدعى الإيمان مع إرادة التحاكم الى كعب بن الأشرف .
ـ إذا اتفقا الطرفان فيما بينهما على تولية شخصاً يفصل خصومتهما ، صارت هذه العملية تحكيماً ، وهى أشمل من التحاكم , وهذا كتحكيم الزبير بن العوام والصحابى للنبى صلى الله عليه وسلم فى شراج الحره ، وكتحكيم على بن أبى طالب ومعاوية بن أبى سفيان رضى الله عنهما لكتاب الله حقناً لدماء المسلمين .
ـ إذا اتفقا الطرفان فيما بينهما على تولية شخصاً ، يُصلح بينهما ويُرضِى كل طرف منهما ، بحيث يكون كل طرف منهما مستعداً للتنازل عن جزء من حقه فى سبيل تحقيق التراضى والوئام مع خصمه ، فهذا يُعدّ تصالحُاً لا تحاكماً ، وهذا كحال أبى شريح فى الجاهلية حينما كان يلجأ إليه قومه ليصلح بينهم فيرضى كل من الأطراف المتنازعة , واستحسان النبى صلى الله عليه وسلم ذلك منه .
ـ إذا طلب أحد الطرفين النُصرة على خصمة من السلطان أو الحاكم ذو السلطة والقوة ، فهذا الأمر يُعدّ استجارة أو استعانة بمخلوق فيما يقدر عليه ، ولا يُسمّى تحاكماً ، ولا يخلو هذا الأمر من قيام هذا الطرف بعرض مظلمته على ذاك الحاكم ذو السلطان ، ويُعدّ هذا الفعل منه تظلُماً وهذا كحال حلف الفضول الذى قال عنه النبى صلى الله عليه وسلم لو دعيت لمثله فى الإسلام لأجبت ، إلا إذا طلب هذا الطرف المُتظَّلم من ذاك الحاكم أن يفصل الحكم فى هذه المظلمة ، فيصير فعله هذا تحاكماً ، فمجرد رفع الشكاية تظلم ، بينما طلب الحكم فى هذه الشكاية فلا يكون إلا تحاكم .
ـ القرار الذى يَصدُر من الحاكم الذى وقع الاختيار عليه ، إذا صدر على سبيل الإلزام سُمِّى هذا القرار حُكماً ، وإذا صدر على سبيل التراضى سُمِّى هذا القرار صُلحاً ، وإذا دخل فى حيز التنفيذ سُمِّى قضاءاً .
ـ بعد صدور الحكم وقبل عملية التنفيذ استشعر أحد الطرفين بظلم الحاكم وهول الحكم الصادر عليه من الحاكم ، فاستشفع بأحد المقربين للحاكم أو بالحاكم نفسه ؛ ليخفف عنه الحكم الصادر ضده ، فيصير هذا الفعل استشفاعاً لا تحاكماً , وهذا كحال أخوة يوسف عندما استشفعوا عند أخيهم عليه السلام قبل أن يعرفوه بتخفيف الحكم الصادر بشأن أخيهم بنيامين ، قال تعالى : " قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبً شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) سورة يوسف " وكاستشفاع أسامة بن زيد رضى الله عنه عند النبى صلى الله عليه وسلم فى شأن المخزوميه التى سرقت .
ثانياً: صور خارجة عن معنى التحاكم :
طلب النجدة من الطاغوت أو شرطته ؛ لإطفاء حريق أو إنقاذ غريق أو رد هجوم عدو .. يدخل فى الاستجارة ، ولا يَمُت للتحاكم الكفرى بصلة ؛ لأن هناك فرقٌ كبير بين الاستجارة التى تعنى طلب الجوار والمنعة والنصرة ، وبين التحاكم الذى يعنى طلب الحكم .. كما بيَّنا ذلك فى السطور السابقة .. فهذه أمور بذاتها ليست تحاكماً إلا إذا أدت بصاحبها إلى الوقوع فى التحاكم المُكَفِّر .
كذا الحال بالنسبة لاستخراج البطاقات الشخصية ورخص المرور وتأشيرات السفر .... وغيرها ، كذلك الالتزام بالتنظيمات الإدارية والجمركية والمرورية ونحوها ، كل هذه أمور مباحة لا تَمُت إلى التحاكم الكفرى بصلة ، فهذه الأمور ما هى إلا طلب استخراج مستندات تُثبت حقوقاً وواجبات ، وليست طلب حكم جهة معينة لفصل خصومة أو مظلمة كما بيَّنا سابقاً فى تعريف التحاكم ، كما أنها ليست أموراً تشريعية تُحلِّل حراماً أو تُحرِّم حلالاً أو تضع أحكاماً تفصل نزاعاً ـ بذاتها ـ ونحو ذلك ، ولكن يأتى التشريع من ورائها ، أى أنها فى ذاتها إبتداً أمور تنظيمية لو فعلها المسلم فى دار الحرب لا حرج عليه "وإن كانت فى ديار الإسلام أولى " أما إذا لم يقم بعملها فسيُعاقب بقانون الطاغوت ويقع فى التشريع أو الحكم أو كلاهما ، إذا أُكتُشف أنه لم يقوم بعمل البطاقة الشخصية أوجواز سفره ، وإنما هي بطاقات ومستندات للتعريف بصاحبها وموطنه وأوصافه ، وكذا الإلتزام بالإشارة الضوئية أوبتعليمات عسكرى المرور . وفي ذلك مزايا ومصالح كثيرة لا تخفى على ذى لُب.
والتعامل بالنقود المنقوش عليها صور الطاغوت ليس فيه حرج ؛ ففتية الكهف كان معهم نقوداً منقوشاً عليها صورة طاغوت عصرهم دقلديانوس ، وقد كانت الدنانير الذهبية البيزنطية والدراهم الفضية الفارسية عملتين عالميتين ، طبقا لمعاهدة بينهما لا ينازعهما فيها أحد ، فأقرَّها النبي صلى الله عليه وسلم عند المسلمين فكانوا يتعاملون بها وتُقَّسم بها الزكاة ، وقد أهدى قيصر للنبي صلى الله عليه وسلم دنانير فقسمها بين أصحابه ، وأقَّر النبي صلى الله عليه وسلم ما اصطلحوا عليه من أوزان النقود لأنها كانت توزن ، وكانت تعطى بها الجزية ويُعرف بها نِصَاب الزكاة ، وكانت بعض النواحي تتعامل بالذهب وأخرى بالفضة على عادتهم قبل الإسلام ، وكان على هذه النقود مذبح النار وحارساها في الوسط والكتابة تحيط بها ، وكانت باللغات الفارسية والرومية ، ثم تطورت شيئاً فشيئاً إلى اللغة العربية .
Bookmarks