النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: القراءات المعاصرة للقرآن الكريم والغايات الأيديولوجية

  1. #1

    افتراضي القراءات المعاصرة للقرآن الكريم والغايات الأيديولوجية

    القراءات المعاصرة للقرآن الكريم والغايات الأيديولوجية - نصر أبو زيد أنموذجا
    [محاضرة الجمعية العلمية السعودية للقرآن الكريم وعلومه – اللجنة الفرعية بأبها بتاريخ 22 / 10 / 1432هـ ]
    أ.د. أحمد سعد الخطيب

    لقد أحسن منظمو اللقاء اختيار الجمع في العنوان (القراءات) فهي قراءات لا قراءة لأنه إذا ما روعيت نسبية القراءة وتعدد القراء والإتاحة للقارئ أن يختلف حتى مع نفسه في قراءة جديدة وهكذا بلا تناهي فلا غرو كان التعبير بقراءات من الدقة بمكان.
    إذا كان الأمر كذلك فما مفهوم القراءة ؟
    مفهوم القراءة
    يطرح مصطلح القراءة في الأدبيات المعاصرة كبديل عن مصطلحات التفسير والتأويل والشرح والتدبر والتعبير ونحو ذلك
    ومصطلح القراءة هو أثر ونتيجة لنظرية التلقي التي أعطت القارئ سلطة مطلقة في تأويل النص وفهمه بناء على ما ترسب لديه من ثقافة وفكر ومنطلق.
    ونظرية التلقي هذه هي آخر المطاف بعد أن مر النقد الأدبي في الغرب بعدة مراحل بدأت بمراعاة رؤية المؤلف ونقد النص وقراءته من خلالها
    ثم انتقلت السلطة للنص بعيدا عن سلطة المؤلف فيما يعرف بنظرية موت المؤلف
    ثم انتقلت السلطة للقارئ المتلقي وأتيح له أن يفهم النص كيفما أراد دونما قيود.
    ومن هنا صيغ مصطلح القراءة انطلاقا من سلطة القارئ في فهم النص وإعادة إنتاجه.
    وإنتاجية القراءة كما يبين علي حرب: "قد تكون شرحا للنص أو تفسيرا له، وقد تتعدى التفسير والشرح لكي تكون تأويلا، وصرفا لما يحتمله الكلام من المعاني الدلالات، وقد تتعدى التفسير والتأويل، فتتجاوز المؤلف ومراده أو المعنى واحتمالاته لتكون تسريحا وتفكيكا للبنى والآليات التي تسهم في تشكيل الخطاب وإنتاج المعنى "( )
    ومصطلح القراءة يحمل من الرحابة والسعة ما جعل المتمسكين به ينظرون إليه على أنه مخرج من الضيق إلى السعة بلا قيد ولا ضابط إذ تكون السلطة فيه للقارئ لا للنص ولا للمؤلف ولا لأي شيء آخر سوى القارئ.
    ولذا فإن سمة التوسع وعدم المحدودية في التعامل مع النص قد ظهرت على تعاريفهم لهذا المصطح على تعددها
    وأما عن سر اختياري لنصر أبو زيد كأنموذج للدراسة ، فلأنه في نظري منظر العلمانية الأول في عملية تأويل النص الديني بغرض تحميله غايات أيديولوجية ماركسية وعلمانية ، كما أنه أكثرهم فطنة وذكاء ، بل خبثا ودهاء ، في محاولاته المتكررة تمرير ما يعمل على ترسيخه في المجتمع من أهداف ، وتقويض ما يدبر لتقويضه من مظاهر الدين ، من خلال عملية التأويل التي يعتقدها ويمارسها ، ولا يقبل بسواها.
    حقيقة القراءة المعاصرة ودور الماركسية في التكريس لها
    لكي نقف على حقيقة القصد من القراءات المعاصرة للقرآن الكريم لابد من العود إلى الوراء –تقريبا- قرنا من الزمان يزيد عن ذلك ويقل عنه ، وذلك أنه بعدما أفلس الطاعنون في أصل القرآن ومصدريته الإلهية ويئسوا من إمكانية إقناع المجتمع المسلم بقبول الشك في القرآن و الحكم ببشرية مصدره.
    أقول: بعد ذلك بدأوا يفكرون في طرق جديدة يتسورون بها على القرآن الكريم ووسائل أخرى تقود إلى نفس النتيجة التي يرومون الوصول إليها وهي نزع القداسة عن القرآن الكريم .
    فاتفقوا على أن يكون الهدف لغة القرآن – اللغة العربية – فحكموا بجمودها وادعوا قصورها عن أن تكون لغة العلوم الحديثة كالطب والهندسة وعلوم الطبيعة وغيرها وهو ما زال أثره حتى الآن باقيا.
    وقد انتحلوا في سبيل بلوغ هدفهم حججاً واهية من بينها : أن قواعدها صعبة ، والكتابة فيها غير ميسرة ، وأن التطور قد أصاب اللغات الأوروبية ، فَلِمَ لا تتطور لغتنا كما تطورت لغاتهم ؟
    وقال في هذا قائلهم: نحن نملك اللغة كما كان القدماء يملكونها.
    وقائل هذا هو طه حسين الموسومُ زعما بأنه عميد الأدب العربي الذي قاد حملة شرسة ضد اللغة العربية لغة القرآن ودعا إلى استبدالها بالعامية والدارجة المحكية.
    ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل دعا بعضهم إلى استبدال حروف كتابتها بالحروف اللاتينية كما فعلت تركيا أتاتورك.
    ثم أوغل طه حسين في هجومه على لغة القرآن في كتابه (الشعر الجاهلي) منطلقا من إنكاره لوجود الشعر الجاهلي مدعيا أنه منحول إسلاميا لأنه يعي أن الشعر هو ديوان العرب ودستور لغتهم ووسيلة الحكم بإعجاز القرآن ومصدريته الإلهية .
    وظلت مدرسة طه حسين التخريبية ممتدة بعد وفاته ممثلة في تلاميذه وتلاميذ تلاميذه وهكذا بالإسناد المتصل ، ظلت هذه المدرسة وفية لمنهج شيخها مطورة له فكانت رسالة "الفن القصصي في القرآن" لمحمد أحمد خلف الله أثرا لمقولة طه حسين في كتابه عن الشعر الجاهلي " للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفى لإثبات وجودهما التاريخى، فضلا عن إثبات هذه القصة التى تحدثنا بهجرة إسماعيل وإبراهيم إلى مكة… ونحن مضطرون إلى أن نرى فى هذه القصة نوعا من الحيلة فى إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية، والتوراة والقرآن من جهة أخرى" أ . هـ في الشعر الجاهلي ص
    ومحمد أحمد خلف الله ومعه شكري عياد هما أستاذا نصر حامد أبو زيد ( )، وهما في الوقت نفسه تلميذا أمين الخولي ، وأمين الخولي هو زميل طه حسين في كلية الآداب ويعتبره بعض العلمانيين امتدادا لطه حسين ، بينما يعتبره آخرون منهم رائد التجديد في الدراسات القرآنية.
    المهم أنه خلال هذه الفترة التي نتكلم عنها كان الطريق إلى الطعن في القرآن الكريم هو الطعن في لغته مما حفز كثيرا من المخلصين أمثال الرافعي والعقاد وزكي مبارك ومحمود شاكر وعلماء الأزهر وكثيرين آخرين ، حفزهم للدفاع عن لغة القرآن والكر على الطاعنين بكل سبيل وفي كل طريق.
    ثم بعد ذلك شيـء للماركسية أن تجد لها طريقا ومدخلا في بلداننا العربية الإسلامية وهي فلسفة طرحت نفسها طرحا شموليا بديلا عن كل شيء حتى الأديان حيث حكمت عليها بأنها تخدير للشعوب.
    ونتيجة لهذا نشأ جيل من المثقفين يحملون المبادئ الماركسية وراحوا يروجون لها لكنهم فوجئوا بوقوف القرآن عقبة أمامهم يسد عنهم كل طريق ويغلق في وجوههم كل باب ، ولأنهم قانعون بأن مواجهتهم للقرآن مواجهة ظاهرة لن تكون في صالحهم فقد تخفوا تحت مظلة الهرمنيوطيقا الغربية أو فن التأويل ، ليحققوا من خلال التأويل ما عجزوا عن تحقيقه من خلال المواجهة الصريحة مع القرآن.
    إنها محاولة لتقويض الإسلام من الداخل ، وتفكيك النص المقدس وإفراغه من مضمونه بواسطة التأويل الزائف.
    ومن المواربة والمداراة الماركسية أن تجد باحثا في قامة حسن حنفي وهو معروف بماركسيته المتجذرة يطرح نفسه لقرائه بوصفه يسارًا إسلاميًا.
    ومما يؤكد لنا الدور الرئيس الذي تقوم به الماركسية في ممارسة القراءة المعاصرة للقرآن الكريم هو أن أخطر القائمين بها ماركسيون في الأصل ويريدون إسقاط المفاهيم الماركسية على القرآن الكريم من خلال عملية التأويل.
    وهذا يبدو واضحا في كتابات حسن حنفي ونصر حامد أبو زيد ومحمد شحرور ومحمد عابد الجابري.
    وقد أجاد الدكتور محمد عمارة في الكشف عن هذه الصلة بين الماركسية والقراءات المعاصرة للقرآن الكريم وذلك في كتابه القيم التفسير الماركسي للإسلام وذلك من خلال نقده لأنموذج نصر أبو زيد.
    وعلى هذا فإن أهم أغراض وأهداف القراءات المعاصرة هي ذاتها أغراض الماركسية بالدرجة الأولى وهي أهداف لا شك أنها تتقاطع مع أهداف سائر الفلسفات المادية الملحدة وكذا المذاهب المتحررة التي ترى في القرآن عقبة في سبيل تحقيق أغراضها كالليبرالية وغيرها وإن اختلفت هذه كلها فيما بينها في الماهية والمنطلقات والوسائل ، وكانت المطية الموصلة إلى الهدف هي وسيلة فن التأويل أو الهرمنيوطيقا الغربية.
    ولئن سأل سأل: ما سر التقارب والتواد بين الماركسيين والليبراليين وهم أعداء الأمس ؟
    فالإجابة عند الدكتور محمد عمارة وهو الخبير بالقوم تكمن في الاتفاق في الهدف وهو محاصرة المد الإسلامي.
    يقول الدكتور عمارة في كتابه التفسير الماركسي للإسلام:
    " الماركسيون العرب المعاصرون إلا قليلا منهم – وخاصة بعد سقوط مشروعهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي – قد احترفوا حرفة التصدي للمد الإسلامي المعاصر ، وأقاموا لذلك جبهة أو بالأحرى دخلوا لذلك في الجبهة التي ضمت أعداءهم التاريخيين من الإمبرياليين . إلى الليبراليين .. إلى نظم العسكر وحكومات وجماعات التبعية والفساد."( )
    ومن هنا سادت المادية الجدلية أو الدياليكتيك الماركسي على هذه القراءات رافعة صوت الطبيعة والمادة على صوت الوحي والغيب. مؤكدة على أن الواقع هو منشئ الوعي والدين والأخلاق وليس العكس ؛ وأن الوحي ما هو إلا من خيال الأنبياء ناتج عن ظروف الفقر واليتم والاضطهاد وبالتالي فإن القرآن هو ابن الواقع فهو منتج ثقافي تاريخي وليس له وجود في عالم الغيب لأنه ليس مفارقا للواقع ، كما سيأتي بيان ذلك .
    يقول نصر أبو زيد في كتابه مفهوم النص:
    من الواقع تكون النص (القرآن) , ومن لغته وثقافته صيغت مفاهيمه , فالواقع هو الذي أنتج النص .. الواقع أولاً والواقع ثانياً والواقع أخيراً .
    لقد تشكل القرآن من خلال ثقافة شفاهية , وهذه الثقافة هي الفاعل والنص منفعَل ومفعول .. فالنص القرآني في حقيقته وجوهره منتج ثقافي , والمقصود بذلك أنه تشكل في الواقع والثقافة فترة تزيد على العشرين عاماً .. فهو ديالكتيك صاعد وليس ديالكتيك هابطاً( ) ... والإيمان بوجود ميتافيزيقي سابق للنص يطمس هذه الحقيقة ... والفكر الرجعي في تيار الثقافة العربية هو الذي يحول النص من نص لغوي إلى شيء له قداسته .
    ويقول أيضا:
    « إن النصوص وإن تشكلت من خلال الواقع والثقافة تستطيع بآلياتها أن تعيد بناء الواقع ولا تكتفي بمجرد تسجيله أو عكسه عكسًا آليًا مرآويًا بسيطًا »( )
    وهذا كله مبني على قوانين الديالكتيك الماركسية.

    الهرمنيوطيقا أو فن التأويل
    يرى أصحاب القراءات المعاصرة أن (التأويل أو ما يعرف بالهرمنيوطيقا) قد أسهم في تفسير النصوص، حيث يقوم المتلقي- القارئ - بتأويل الغامض، للخروج بحقيقة القصد. وبهذا تكشف القراءة التأويلية احتمالات النص الممكنة، وتتخلص من سلطة المعنى الأحادي، ومن عنف القراءة المغلقة، لأن النص الجيد، هو إمكان مفتوح على اتجاهات كثيرة...( )‏
    ولعل قائلا أن يقول:
    وماذا في التأويل ؟ أليس التأويل مصطلحا متداولا إسلاميا ؟
    في الواقع أن بعض رموزنا ينخدعون بالمصطلح ويظنون أن التأويل في الفكر العلماني هو نفسه التأويل في الفكر الإسلامي ، وهذه تهمة يجب أن نبرئ منها التأويل في الفكر الإسلامي.
    إن التأويل عندنا في اصطلاح المتأخرين من علماء الأصول:
    هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به.
    فإن كان المعنى المرجوح مجازيا ، كان من اللازم توفر قيد تعسر الحمل على الحقيقة وشرط وجود رابط بين المعنيين الحقيقي والمجازي.
    أما مفهوم التأويل في الفكر العلماني حداثيا كان أو ما بعد حداثي ، فهو واسع جدا يجاوز كل حد حيث أطلق العِنان لكل قارئ أن يحكِّم رأيه في النص بلا قيد. لأن القارئ في الفكر الحداثي وما بعده منتج مبدع وليس شارحا مستهلكا ، ومن ثم فإن القراءة مع النص بمثابة نص آخر.
    لكن هذا النص الآخر (المؤوِّل) لا يخلو بالضرورة من خبث الغرض ، فالحال أنه لا توجد قراءة بريئة كما يعترف العلمانيون ، فالأغراض والغايات الأيديولوجية قد تكون حاضرة أثناء القراءة ، وقد لا يستطيع القارئ التخلص منها.
    وإذا كانت القراءة غير بريئة باعترافهم ، فمن غريب المفارقات محاولة القراء المعاصرين إقناع المجتمع المسلم بأن الهرمنيوطيقا تصلح آلة للتفسير وبديلا عن أصوله وقواعده الحاكمة ، وأن نتائجها تصلح بديلا عن التفاسير المتداولة ، حتى لو كان هذا التفسير منقولا عن صلى الله عليه وسلم ، أو عن سلف الأمة ، أو عن علمائها المؤتمنين على تبيان كتاب ربهم ، بالسير على خطا المنهج السديد في التفسير
    ، وليس بالهرمنيوطيقا المنفلتة.
    الحميمية المنهجية بين التأويل العلماني والتأويل الصوفي:
    ولأجل هذه الانفلاتية غير المنضبطة ، في التأويل غير المنضبط في الفكر العلماني ، ترى التقارب المنهجي واضحا بين هذا الفكر والفكر الصوفي في عملية التأويل.
    فالقدر المشترك بين التأويل الصوفي للنص الكريم من ترك التقيد بقواعد اللغة ومدلولات مفرداتها وتراكيبها ، وكذا ترك التقيد بما يقتضيه الخروج بمعنى اللفظ من حقيقته إلى مجازه ، من شرط تعسر الحمل على الحقيقة ، وشرط وجود رابط بين المعنيين الحقيقي والمجازي.
    أقول: هذا القدر المشترك بين الفريقين من الهدر العلمي هو الذي مكّن لهذا الوئام أن يقوم ، وأن يتنامى من خلال بحوث العلمانيين عن ظاهرة التأويل عند المتصوفة ، ومنهم نصر أبو زيد الذي كتب عن ظاهرة التأويل عند ابن عربي صاحب الفتوحات المكية.
    القراءات المعاصرة استمرار لموجة التأويل الزائف وتمرير الأفكار الأيديولوجية:
    وليس يخفى على معتن بفكره الإسلامي أن النص القرآني قد تعرض لمحاولات من التأويل خدمة لأهداف ومبادئ أيديولوجية عبر القرون التالية لنزول القرآن الكريم على قلب النبي صلى الله عليه وسلم (أعني الاستغلال المذهبي كما هو الحال في الفكر الرافضي والاعتزالي)
    ولا تزال هذه الموجة التأويلية المغرضة مستمرة حيث يستثمر تأويل القرآن الكريم المتحرر من قيوده المعتد بها في تراثنا لتحقيق أغراض قد سلف التدبير لها إيجابية كانت أو سلبية حسبما يقصد المؤول، ولعل فلسفة التأويل هذه قد وجدت لها مناخا خصبا مؤيدا بالطاقات الفاعلة في المجتمعات بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حيث تنامى التأويل وزاد أُوارُه.
    حيث أصبح التأويل وحده وسيلة هؤلاء الذين يريدون إحلال المفاهيم المعاصرة في المجتمع المسلم ويفرضونها عليه ، بل يكسبونها شرعية دينية بإقحامها على النص القرآني بطريق التأويل ، لأنه عندهم –أي النص القرآني- وإن كان ثابتا من جهة المنطوق فإنه –زعما- قابل لكل فكرة من جهة المفهوم، بل هو قابل لقراءات غير متناهية تنتج أفكارا غير متناهية، وهنا نفتقد الحقيقة الواحدة لتصبح لدينا حقائق ، لا بل أوهام وخيالات فردانية، لأن الحق واحد لا يتعدد .
    وفي ظل التحرر وعدم القيود وفي ظل انفلات زمام التفكير والتأويل لا يصبح للحقيقة معيار. فقط يصبح الفرد معيار نفسه هو من يحدد أهدافه ووسائل الوصول إليها عبر سياسة هو من يختارها دون نظر إلى أي موروثات دينية أو اجتماعية.
    ولئن سألت: كيف تنطلق عملية التأويل بلا ضابط مع كتاب إلهي كالقرآن الكريم ؟
    فإن الإجابة جاهزة عند نصر أبو زيد الذي يرى أن " القرآن قد تحول من لحظة نزوله من كونه (نصاً إلهياً ) وصار فهماً (نصاً إنسانياً ) لأنه تحول من التنزيل إلى التأويل "
    وهذا تخفيف لمقارنة له بين القرآن والنبي عيسي عليه السلام، حيث يرى أنه كما أن كلمة الله تجسدت في عيسي بن مريم، فكذلك كلام الله تجسد في اللغة ، وعلي هذا، ولازم هذا أنه على المسلمين أن ينفوا عن القرآن الطبيعة الإلهية ويثبتوا له الطبيعة البشرية.ضرورة أنهم ينفون عن المسيح الطبيعة الإلهية ويثبتون له الطبيعة الإنسانية .
    وإذا كان كلام الله قد تجسد في اللغة العربية بحسب صياغة أبي زيد واللغة العربية نحن نملكها كما كان القدماء يملكونها بحسب تعبير طه حسين ، فإن التأويل المنفلت يطال كل ما في القرآن باعتبار أنه عنده نص تاريخي ، وهذه التاريخية عنده" تنطبق على النصوص التشريعية , وعلى نصوص العقائد والقصص , وهي تحرك دلالة النصوص وتنقلها في الغالب من الحقيقة إلى المجاز . أ هـ من كتابه (نقد الخطاب الديني)
    موقف أصحاب القراءات المعاصرة من القرآن الكريم
    عرض ونقد
    أولا- النقد الخارجي للقرآن الكريم أو النقد الأعلى
    إن عملية النقد الخارجي في القراءات المعاصرة قد تمت على أساس تفسير ظاهرتي النبوة والوحي تفسيرا ماديا بحتا يتفق وقوانين الطبيعة ، وليس خرقا لها كما هو كذلك في التفسير الإسلامي للظاهرتين.
    إن النبوة في الإسلام منحة إلهية لا دخل للكسب فيها , وإن الوحي هو المنهج الإلهي الذي أمر الرسول بتبليغه ، وليس له فيه إلا البلاغ ، وهو في الإسلام نص إلهي كامل باللفظ والمعنى اسمه القرآن.
    فماذا تقول القراءة المعاصرة عن الظاهرتين ؟
    أولا- موقفهم من النبوة:
    يبدأ تبيان موقفهم من القرآن الكريم في بيان موقفهم من النبوة ، فما هو موقفهم من النبوة ؟
    لأن الماركسية تؤمن بأسبقية الواقع على الوعي ، بل تؤمن بأن " كل الأفكار الحاصلة في الوعي هي انعكاسات الأشياء والأحداث الواقعية" كما يقول أنجلز ، فإن القراء المعاصرين من الماركسيين ، قد عملوا على تفسير مقام النبوة تفسيرا ماديا ناشئا عن الواقع وليس مفارقا له ، فرأوا أن النبوة تفوق بشري وعبقرية وذكاء وقدرة فائقة على توظيف الخيال ، كما هو الحال بالنسبة للشعراء والمفكرين ، وغيرهم من أصحاب القدرات الخاصة .
    يوازي نصر أبو زيد بين كل من الأنبياء والشعراء ومن أسماهم بالعارفين في قدرتهم على استخدام المخيلة العقلية بدرجة تفوق قدرات غيرهم من البشر العاديين.
    يقول أبو زيد في كتابه مفهوم النص:
    "إن الأنبياء والشعراء والعارفين قادرون دون غيرهم على استخدام فاعلية المخيِّلة في اليقظة والنوم على السواء، وليس معنى ذ لك بأي معنى من المعاني التسوية بين هذه المستويات من حيث قدرة المخيلة وفاعليتها فالنبي يأتي على رأس قمة الترتيب، يليه الصوفي العارف، ثم يأتي الشاعر في نهاية الترتيب."( )
    وعلى هذا فالنبوة في ظل هذا التصور لا تكون ظاهرة مفارقة للواقع ولا وثبا عليه ولا تجاوزا لقوانينه ، إذ تصبح النبوة بناء على هذا التصور مندمجة في الواقع ، ولها نظائر في العالم الخارجي ممثلة في الشعراء والفلاسفة والعارفين على حد تعبيره.
    ومن هذا المنطلق دأب كثير منهم على وصفه صلى الله عليه وسلم بالعبقرية ، تفاديا لوصفه بالنبوة أو الرسالة.
    وفي حوار لي مع أحد هؤلاء أجابني بهذا الوصف ، عندما قلت له أنى لأمي عربي لم يخلد إلى معلم أن يأتي بما عجزت البلغاء عن الإتيان بسورة من مثله ؟
    فلما قال إنها العبقرية . أجبته بأن العبقرية تتكرر ، ففي كل حين تظهر عبقرية جديدة تضاف إلى ما سبقها وربما تنفي ما سبق ، أما الذي لا يتكرر هو النبوة حيث ختمت به صلى الله عليه وسلم ، وكونها ختمت به والتحدي لا زال قائما ولم يجرؤ عبقري على معارضة معجزته في حياته ولا بعد وفاته ، فهذا دليل على عدم صحة الوصف بالعبقرية ، ولأنه صلى الله عليه وسلم قد أعلن عن نفسه أنه رسول وكذا وصفه ربه في معجزته بذلك أيضا ، فقد لزم التسليم حيث لا معارضة ، مع توفر الدواعي على مثلها.
    ولسنا ندري لمَ لمْ ينسب محمد صلى الله عليه وسلم القرآن إلى نفسه لو كان نتاج عبقريته وخياله وذكائه ؟
    يقول الشيخ دراز في سفره النفيس جدا "النبأ العظيم " ) جوابا عن هذا السؤال:
    في الحق أن هذه القضية لو وجدت قاضياً يقضي بالعدل لاكتفى بسماع هذه الشهادة التي جاءت بلسان صاحبها على نفسه ، ولم يطلب وراءها شهادة شاهد آخر من العقل أو النقل ، ذلك أنها ليست من جنس "الدعاوى" فتحتاج إلى بينة ، وإنما هي من نوع "الإقرار" الذي يؤخذ به صاحبه ، ولا يتوقف صديق ولا عدو في قبوله منه ، إذ أي مصلحة للعاقل الذي يدعي لنفسه حق الزعامة ويتحدى الناس بالأعاجيب والمعجزات لتأييد تلك الزعامة – نقول أي مصلحة له في أن ينسب بضاعته لغيره وينسلخ منها انسلاخاً .
    الذي نعرفه أن كثيراً من الأدباء يسطون على آثار غيرهم فيسرقونها أو يسرقون منها ما خف حمله وغلت قيمته وأمنت تهمته ، حتى إن منهم من ينبش قبور الموتى ويلبس من أكفانهم ويخرج على قومه في زينة من تلك الأثواب المستعارة ، أما أن أحداً ينسب لغيره أنفس آثار عقله وأغلى ما تجود به قريحته فهذا ما لم تَجُدْ به يد الدهر بعد.
    ثانيا- تفسيرهم المادي لمفهوم الوحي
    وكما رأى أصحاب القراءات المعاصرة النبوة صورة واقعية تشبه إلى حد كبير ما عليه الشعراء ، رأوا كذلك أن مفهوم الاتصال بين النبي والملك في عملية الإيحاء ، ليس خروجا عن الواقع ولا تجاوزا له ، وأن الثقافة العربية كانت مهيأة لقبول فكرة الوحي ، من خلال ما كان شائعا عندهم وسائدا وقت البعثة من إمكانية الاتصال بين الإنس والجن فيما يعرف بالكهانة فهو الذي مهد السبيل ، لابتكار فكرة الوحي واختراعها ، ثم لتقبلها مجتمعيا.
    وبحسب رأي نصر أبو زيد : انه لو تصورنا خلو الثقافة العربية قبل الإسلام من هذه التصورات لكان استيعاب ظاهرة الوحي أمراً مستحيلاً من الوجهة الثقافية، فكيف كان يمكن للعربي أن يتقبل فكرة نزول ملَك من السماء على بشر مثله ما لم يكن لهذا التصور جذور في تكوينه العقلي والفكري.
    وبالتالي فظاهرة الوحي أو القرآن كانت جزءاً من مفاهيم الثقافة العربية آنذاك، فالعربي كان يدرك أن الجني يخاطب الشاعر ويلهمه شعره، ويدرك أن العراف والكاهن يستمدان نبوءاتهما من الجن، لذلك فإنه لا يستحيل عليه أن يصدّق بملك ينزل بكلام على بشر.

    وكأن العرب بناء على كلامه لم يعترضوا على فكرة الإيحاء نفسها لكون الثقافة المعاصرة للنزول قد استوعبت أشياء قريبة من فكرة الوحي عبر الكهانة.
    فهل هذا صحيح ؟
    هل صحيح أن العرب لم يعترضوا على فكرة الإيحاء نفسها ؟
    فلنرجع إلى القرآن الكريم لنلتمس الجواب:
    إن القرآن يحكي لنا في بعض آياته نفي المشركين رسالة البشر واعتراضهم على كون المرسل إليهم هو واحد منهم.
    قال تعالى:
    [وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ 91 وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ] (الأنعام: 91 ، 92)
    وقال سبحانه:
    [وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً 94 قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً 95] (الإسراء: 94 ، 95 )
    وهكذا تمضي الآيات لتؤكد أنهم لم يقبلوا فكرة الوحي ، على عكس ما يدعي أبو زيد من كونهم قد تقبلوها لوجود شبيه لها في الواقع والثقافة.
    ولم يكن إذعان من أذعن مؤمنا بالله ورسوله إلا خضوعا لسلطان الوحي لما وفق لإدراك المعجزة التي لا تقاوم القرآن الكريم ، وليس لأي سبب خارج الرسالة والمنهج ، كما يزعم الماديون الماركسيون أصحاب القراءات المعاصرة للقرآن الكريم.
    وأعود لأبي زيد الذي عمل هنا على دعم ماركسيته في أسبقية الواقع على الوعي ،بشيء من الدراسة الأنثروبولوجية التي يؤمن بأهميتها أرباب القراءات المعاصرة لتفكيك النص –القرآن الكريم- وإخضاعه لعوامل تاريخية.
    لأن البعد التاريخي للنص الكريم هو الذي يعول عليه هؤلاء لتفكيك جذور النص كما يطمحون ، وذلك بعد أن يئسوا من إمكانية الطعن في القرآن من خلال مصدره وقوة لغته وبلاغته.
    والنص الآتي يكشف في غير مواربة صدق ما أقول وهو نص سمين ثمين لأنك لن تعثر على هذه الصراحة وذاك الوضوح في كتاب لأصحاب القراءات المعاصرة بما فيهم أبو زيد نفسه:
    لأن هذا النص قد وقع في حوار كان قد أجري على بعض مواقع الإنترنيت وعمره الآن ثمان سنوات أو يزيد مع نصر أبو زيد حالة كونه متخفيا تحت اسم مستعار هو البسطامي وكنت أحاوره مرة بلقبي الخطيب ومرة بلقب مستعار هو"مسافر"وذلك ليتوهم المحاورون الملاحدة أن محاوريهم من المسلمين كثر ، حيث كنا في هذه الفترة نفتقد اهتمام علماء المسلمين وباحثيهم بمناقشة المشتبهين.

    قال البسطامي تعليقا على سؤال صديق له عن حكمة التكرار في القرآن الكريم ، وقد نقل له كلام العلماء في هذا ثم علق قائلا:
    وبغض النظر عن التكلف الذي قد يصل حد السماجة في كثير من هذه التعليلات المعلولة –يقصد تعليلات العلماء لظاهرة التكرار- .. إلا أنني أرى أن محاولات الطعن في بلاغة القرآن وفصاحته غير ذات جدوى .. خاصة أن النص المقدس ولو كان بشرياً يكتسب سلطته بحسب الفضاء الثقافي الذي يعمل فيه حتى يتعالى ويصبحَ عصياً على التجاوز والنقد وهذه عظمة الفن والأسطورة والنصوص الدينية والتراتيل والأناشيد .
    ولذا فإن البحث في تاريخية هذا النص ودنيويته أكثر جدوى من محاولة الالتفاف عليه بالنقض أو الإبطال أو التقليل من فصاحته وبلاغته .
    البحث التاريخي يفكك جذور هذا النص ومفرداته من خلال الثقافة التي نشأ فيها دون أن يعنى بالتخطئة أو الرفض لأننا حين نفعل ذلك سندخل في دوامة شروط الفصاحة ومعايير البلاغة وهي تفاصيل غير منضبطة شأن كل ما يتصل بجماليات النص الأدبي
    وأنا الآن أحاول أن أفهم كيف أثر هذا النص في سلوك مليار شخص بحيث أصبحوا يستمدون منه كل شيء حتى أدق تفاصيل منجزات عصرهم يحاولون جاهدين التماس أصل لها في نص مضى على حبكه قرن ونصف ، إن مثل هذا الايمان المطلق والعميق بنص ساذج بسيط محكي بلغة شخصية رائعة وبليغة ومؤثرة يدعوا للعجب والكثير من التأمل حيث الكلمات تتجاوز حدود الوعظ والتذكير ليحصل نص مقدس فريد يسيطر على تصرفات من يؤمن به وسلوكه ونظرته للحياة وما بعدها ويجعله على استعداد لازهاق روحه لمجرد الدفاع عنه .
    لا أدري .. في فمي ماء
    قلت للبسطامي:
    مج الماء الذي في فمك حتى لا يعيقك عن الكلام!!
    تتساءل ما الذي جعل القرآن يتبوأ هذه المكانة بين المسلمين وهم يزيدون على المليار رغم تباعد المكان ، ولو قارنت بن القرآن الكريم الذي نزل منجما في ثلاث وعشرين سنة ورغم ذلك لم ينقض ما نزل منه آخرا ما نزل أولا وكله في البلاغة والفصاحة في قمة لا يبلغ شأوها كلام آخر لو أرجعت البصر كرة أو كرتين في هذا الكتاب الخالد ثم نظرت في كلامك الذي هو عدة سطور ورأيت ما فيه من التناقض الواضح حيث بدوت مادحا قادحا مثبتا نافيا رغم ثقتي بأنك على مستوى عال من الثقافة - كما ينبي عن ذلك علو أسلوبك – لو فعلت ذلك لوضح لك جواب سؤالك.
    والعجب حقا ممن يزعم بشرية هذا الكتاب ويدعي أنه منتج ثقافي لحقبة معينة في التاريخ ثم هو لم يسأل نفسه لماذا لم ينتج مثله في ثقافته أو في غيرها من الثقافات ؟
    ولماذا لم يثبته المنتج لنفسه بدل إلصاقه بإله هو في نظر المخالف مخترع ؟
    ولماذا اكتفى المنتج لنفسه برتبة النبوة والرسالة ولم يتطلع إلى الألوهية وقرآنه هذا يدعمه كإله كما دعمه رسولا ؟

    يا ليت قومي يعلمون......
    يقول الواقع: إن الكاذب قد يكذب ليلصق بنفسه ما ليس له ، لكنه ينكر أن يكذب الصادق الأمين لينفي عن نفسه ما هو شرف له وفخار
    فليتك حين تقف على السر أن تطلعنا عليه.
    الصلة بين القرآن والشعر عند أبي زيد
    وكما جعل أبو زيد بين النبوة والكهانة صلة ما كذلك جعل بين القرآن والشعر نسبا فيقول:
    "والنص القرآني منظومة من مجموعة من النصوص , وهو يتشابه في تركيبته تلك مع النص الشعري , كما هو واضح من المعلقات الجاهلية مثلاً , والفارق بين القرآن وبين المعلقة من هذه الزاوية المحددة يتمثل في المدى الزمني الذي استغرقه تكون النص القرآني , فهناك عناصر تشابه بين النص القرآني ونصوص الثقافة عامة , وبينه وبين النص الشعري بصفة خاصة , وسياق مخاطبة النساء في القرآن المغاير لسياق مخاطبة الرجال هو انحياز منه لنصوص الصعاليك "
    إنها المركسة مرة أخرى وثالثة ورابعة ......وكأن القرآن الكريم صدى للشعر الكائن في الواقع لا أنه شيء خارج عن الواقع.
    وقد يقول قائل:
    أليس القرآن قد نقل وصف القرآن للرسول بأنه شاعر وأنه كاهن ؟ ثم نفاه بقوله [وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ 41 وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ 42 ] (الحاقة:41 ، 42) فلم لا يكون أبو زيد محقا في قوله: إن العرب تقبلوا فكرة الوحي لدعم الواقع للفكرة ؟
    والجواب أننا ذكرنا أن العرب استنكروا الفكرة ولم يتقبلوها بشهادة القرآن.
    وأما عن وصفهم القرآن بأنه شعر أو كهانة ، ووصف الرسول بأنه شاعر أو كاهن ، فهو عندي وصف الصدمة الأولى ، إذ إنهم لما سمعوا القرآن وأدركوا تميزه على كلامهم وصفوه بأفضل ما يعرفون ، فهم لا يعرفون من الكلام أبلغ من الشعر ومن القوة الذاتية للأفراد أفضل من الكهان الذين كان لهم اتصال بالجن ، حيث كانت العرب يفزعون إليهم بين الحين والآخر ليرسموا لهم خطا مستقبلهم ، ويلجئون إليهم قبل أسفارهم ليباركوا لهم سفرهم ، أو ليردوهم عنه.
    لكن لما استفاقت العرب من هول الصدمة بدأوا يفكرون ويدركون أنهم امام نص هو نسيج وحده بلا نظير ولا شبيه ، وأنه لعلو بلاغته المجاوزة لطاقة البشر لا يقاوم ولا يعارض ، وأنه ليس أمامهم إلا الإذعان له ، خصوصا أنه قد تحداهم واستنفر هممهم ليعارضوه بسورة منه ، ومع توفر الدواعي للقيام بأمر هذه المعارضة قد ضعفوا وعجزوا.
    ومن ثم فإن الوليد بن المغيرة في لحظة يقظة لضميره اعترف بفضل القرآن ونفى عنه أن يكون شعر شاعر أو زمجرة كاهن. وقال كلامه الذي اشتهر اشتهار الأمثال:
    "لقد رأينا الكهان فما هو بزَمْزَمَة الكاهن ولا سجعه‏.‏ و لقد عرفنا الشعر كله رَجَزَه وهَزَجَه وقَرِيضَه ومَقْبُوضه ومَبْسُوطه، فما هو بالشعر، ولقد رأينا السحرة وسحرهم، فما هو بنَفْثِهِم ولا عقْدِهِم‏.‏ قالوا‏:‏ فما نقول‏؟‏ قال‏:‏ والله إن لقوله لحلاوة، ‏وإن عليه لطلاوة‏‏ وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه يعلو ولا يعلى "
    لكنه عاد بعد ذلك إلى غفوة ضميره وغفلته وقارب بينه وبين السحر ليكسب ود قومه في قصة لا تخفى على مستمعينا الكرام.

    المغزى والمعنى
    نظرية المغزى والمعنى، نظرية غربية ترى أن النص له مغزى وله معنى.
    وأصل هذه النظرية لديسوسير، وهو عالم لغوي معروف، وهو يعتبر أول من طرح نظرية المعنى والمغزى في قراءة النصوص اللاهوتية والأدبية في الفكر الغربي.
    أما المعنى فالمقصود به الدلالة اللغوية للنص. وهو عند "هيرش" المفكر الأميركي ثابت مندمج في كيان النص لا يتغير من عصر إلى عصر ، ولا من قارئ إلى قارئ…( )
    لكن هذا لا يرضي أبو زيد الذي قيد معنى النص بدلالته في زمن نزوله.
    فبعد أن عرّف المعنى بأنه الدلالة اللغوية للنص ، أضاف بأنه أيضا: الدلالة التاريخية المستنبطة من السياق. ثم يفسر العبارة بقوله:أي: دلالة النص في زمن نزوله.
    وأما المغزى ، فهو أهداف النص ومقاصده الأساسية، أو هو: ما يدل عليه المعنى في السياق التاريخي الاجتماعي للتفسير.
    فلا بدّ إذن من أخذ المغزى من المعنى، وفي بطن كل معنىً مغزى. وعلى ذلك فالتأويل الآن يجب أن ينطلق من المغزى أو المقصد. هكذا يقولون.
    وقد يبدو للبعض هذا الكلامُ مشرقًا ، بتوهم أنه يشيد بمقاصد القرآن ويمضي في طريقها، وأن المغزى الذي يتكلمون عنه هو نفسه مجموع مقاصد القرآن التي يوليها العلماء اهتماما بالغا ، ويعمل كثيرون من أهل التخصص الآن على تمكينها كعلم من علوم القرآن قائم بذاته له أصوله وقواعده وضوابطه وتطبيقاته.
    عموما لن نتعجل الحكم بل سنتركه لكم ، وذلك بعد استعراض الفكرة وتطبيقاتها عند نصر أبو زيد.
    فقط نشير إلى أن هذا النمط من القراءة شائع بوفرة عند نصر أبو زيد وشيخه حسن حنفي.
    يقول نصر أبو زيد:
    والتحقيق التاريخي سيمكننا من استعادة السياق الغائب، فندرك فحوى كلام الله ودلالته، ونميز بين "التاريخي" و"الأزلي". عندها سنكتشف مثلا أن كل "الحدود العقابية" من قطع يد السارق وجلد الزاني والزانية، والعين بالعين والسن بالسن ... الخ أنها قيم سابقة على القرآن.
    ويمكن أن ندرك أن الأزلي في القرآن هو تحقيق العدل بالعقاب، أما شكل العقاب فهو التاريخي ، وسندرك أننا لا يصح أن ننحاز للتاريخي على حساب الأزلي.
    يعني بهذا الكلام أن شكل العقاب في الحدود الشرعية إنما هو خاص بعصر القرآن الكريم بحيث لا يتعدى لونُ العقاب هذه الفترةَ التاريخية وهذا هو المعنى، أما الآن فلا يجوز لنا أن نعتمد شكل العقاب الذي حدده القرآن لما يعرف بالحدود الشرعية ، فهذا المعنى قد انتهى ، حيث جاء دور المغزى ، والمغزى أو المقصد هو العقاب ، وليس شكل العقاب ، بحيث يمكننا الآن أن نعتمد ما نشاء من أشكال العقاب التي تقرها القوانين الوضعية لهذه الجرائم.
    وهو بهذا يستغل هذا التطور التأويلي في القفز على ثوابت الشريعة بإيهامنا أحكام القرآن لها نسقان معنوي ومغزوي وأنهما لا يلتقيان إلا في إطار عام مع لزوم اختلاف الشكل بينهما بما يتمشى وروح العصر.
    وهذا مثال آخر:
    وذلك قوله تعالى:{ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}(النساء:11)، حيث تقول القراءة المعاصرة انطلاقا من نظرية المعنى والمغزى: إن المعنى هو أن حظ الأنثى (الأخت) نصف حظ الذكر (الأخ) لكن هذا المعنى هو معنى تاريخي. والمغزى هو إعطاء الحقوق كاملة للمرأة.
    وعلى هذا فالآية في القراءة الجديدة يجب أن تنطلق من مغزاها لا من معناها
    ويتحسسون مؤيدا لكلامهم عن طريق ربط هذا الحكم بالواقع العربي وقت النزول ، لتبدو آية المواريث كنص سجالي أراد أن يعالج حالة اجتماعية معينة كانت حاصلة وقت التنزيل فتقول القراءة المعاصرة عن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا}(النساء:19)، في هذه الآية تفسيران، أحدهما المعنى الظاهر، وهو وراثة المرأة، بمعنى أن تكون المرأة جزءًا من الميراث، وهذا من عادات الجاهلية قديماً. والآخر أن ترثوا أموال النساء، على حذف المضاف، وهو من المجاز.
    ثم يقولون: لما جاء الإسلام منع أن تكون المرأة جزءاً من الميراث، بل أعطاها الميراث، لكنه تجنب أن يعطيها حقها كاملاً لأسباب اجتماعية كثيرة، على أمل أن تستوفي حقها في المستقبل. فالمغزى هو عدم التفريق بين الذكر والأنثى، ولا بدّ أن نقرأ الآية قراءة مختلفة، بحيث يكون المعنى للذكر مثل حظ الأنثيين، والمغزى للذكر مثل حظ الأنثى، فيتساويان في الميراث.
    وقد تأثرت بعض الدول الإسلامية فقننت حق المرأة في الميراث وجعلته موازيا لحق الذكر.
    وفي نظر أبي زيد أننا لا بدّ أن نفرق بين السياق السجالي أو السردي والسياق الشرعي، فهذه الآية لم تأت بالسياق الشرعي، وإنما جاءت بالسياق السجالي، حيث كان هناك سجال مع المشركين في هذا الموضوع فأرادت الآيات أن تنقل ما كان عليه المشركون لا أن تشرع ما ينبغي أن يكون عليه المسلمون.
    وبهذه الطريقة يقرأ أبو زيد سائر الآيات التي تحدثت عن المرأة والرجل وظن فيها أن للرجال حظا على النساء
    كآية القوامة وهي قوله تعالى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}(النساء:34)، فهذه عنده من السجال أو الوصف في زمن النزول، وليس من التشريع الدائم.
    ومن ثم فإن القراءة الصحيحة عنده هي أن نعتبر أن هذه الآيات من الآيات السجالية الوصفية، لا من الآيات الشريعية، فتكون القوامة مثلاً بحسب الظروف والأحوال، وبالتالي يمكن أن تكون المرأة قوامة على الرجل، أو بالعكس، بحسب الظروف والأحوال.
    قال: لأن الله تعالى يقول:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}(النساء:34)، فذكر للقوامة سببين: التفضيل والنفقة. والتفضيل ربما يختلف اليوم عما كان عليه زمن النبي(صلى الله عليه وسلم) وقد تكون المرأة اليوم أفضل من الرجل. وكذا الحال في النفقة، فقد تكون المرأة اليوم أكثر نفقة من الرجل وعليه فإن القوامة يمكن أن تكون هنا.
    فهو لا يقرأ التفضيل على أنه تفضيل للرجل على المرأة، إنما هو أمر نسبي، فهناك أمور يفضل فيها الرجل وأخرى بالعكس، وهذا صحيح، لكن التفضيل الذي يلائم القوامة هو تفضيل الرجل، بدليل قوله تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}(النساء:32).
    ولهذا أيضاً يقول أبو زيد: "القوامة إذن مسؤولية يتحملها من يستطيع من الطرفين الرجل أو المرأة أو يتشاركان فيها بحسب ملابسات الأحوال والظروف"، فيمكن في رأيه أن تكون القوامة يوماً للمرأة ويوماً للرجل بحسب الظروف والأحوال، وحجته في ذلك أن السياق في الآية ليس سياقاً تشريعياً، إنما هو سياق وصفي وسجالي. وبالتالي فإن معنى النص أن الرجال قوامون على النساء، لكن المغزى هو المساواة بينهما.
    وفي تعدد الزوجات يقول: إن سياق الآيات سياق وصفي، جاء لنصرة المرأة، لأن الرجل كان يتزوج ما يشاء، فجعل القرآن حداً أعلى لذلك وهو أربع نساء، وذلك يناسب تلك العقول التي كانت تتجاوز هذا العدد بكثير، وبالتالي فإن العدد سيكون في الأزمنة التالية هو امرأة واحدة. فالمعنى هو جواز الأربعة، والمغزى الاقتصار على الواحدة.
    يقول أبو زيد: هكذا يحلّق التأويل في سماوات النص خارج سياق مكانه وزمانه ولغته، إذ يتعامل مع اللغة بوصفها فضاءً مستقلاً عن سياق التداول والاستعمال والعرف.
    والآن هل يمكن لقائل أن يقول: إن كلام العصرانيين عن المغزى يمكن أن يتفق مع كلامنا عن المقاصد ؟!!
    والحق أن هذه معركة يجب أن نحسمها

  2. #2

    افتراضي


    موضوع رائع وماتع وهام جزاك الله خيرا ًأخي ..
    ويكشف النقاب عن أكاذيب الدفاع عن أمثال نصر هذا وأمثاله وتلاميذه ..
    ويفضح السوأة من جذورها يوم طعن طه حسين في القرآن والسنة !!..
    والله المستعان ..

    متابع أخي ..

  3. #3

    افتراضي

    أخي أبا حب الله ، جزاكم الله خيرا على مروركم ولطفكم ، ونفع الله بكم وبارك جهودكم.

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. القراءات و الأحرف للقرآن الكريم
    بواسطة محمد إسماعيل في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 05-21-2010, 02:43 AM
  2. إعلان: صدر حديثاً : القراءات المعاصرة للقرآن الكريم في ضوء ضوابط التفسير
    بواسطة محمد كالو في المنتدى المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 11-16-2009, 08:46 PM
  3. نحو فهم سليم للقرآن الكريم
    بواسطة د. هشام عزمي في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 11-30-2004, 07:08 AM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء