أعجبني الموضوع الذي افترعه الأستاذ "الذكي" عبدالواحد بخصوص "التصميم الذكي". فأردت أن اذكر هنا أركان التصميم الذكي أو باصطلاح بعض السلف "الصنعة" أو اثر "الصانع" فأقول التصميم له ثلاثة أركان:
الأول: التنظيم أو النظام organization أو order، ومن اللطيف أن الملحد الشهير عالم الفلك كارل سيجن قد اعترف بأن "مظاهر النظام في الكون كثيرة"، وهذا اعتراف جزئي بالتصميم.
الثاني: التعقيد complexity أي درجة تعقيد التنظيم أو النظام، فكلما زاد التعقيد كلما تمكّن معنى التصميم في الأثر المُشَاهَد.
الثالث: الغاية والوظيفة purpose and function، وهذه هي المسألة الكبيرة التي يدور حولها أكثر الخلاف.
ويجدر بي أن أنبه القاريء على أن هذه الأركان الثلاثة تنتمي للعالم "الأنتولوجي" Ontological أي هي عبارة عن كلامنا في تجليات الوجود من حيث هو وجود في الخارج. لذا يبقى الشق الآخر الذي لا يقل أهمية، وقليلٌ جداً من يوليه الأهمية التي يستحقها، ألا وهو الشق "الإبستمولوجي" Epistemological أي حقيقة أو طبيعة المعرفة، إذ أن العالم الأنتولوجي لا قيمة له ولا معنى له بالنسبة لنا إلا إذا تحول إلى معرفة، والمعرفة تفتقر إلى كائن عارف مدرك، وهذا هو الميدان الفسيح الذي تتفاوت فيه الخبرات والتجارب من فرد إلى فرد، بحيث يؤدي البناء الكلي لهذه التجارب والخبرات إلى توليد "خلطة إدراكية" معينة تحدد أو تؤثر في موقف صاحبها من قضية وجود الخالق أو آثار التصميم، أو بعبارة أخرى هو الأمر الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى نشوء ثلاثة أنواع من الحالات الإدراكية تؤول بصاحبها إلى موقف يتناسب مع طبيعتها، ولا رابع لهذه الحالات إلا من حيث تفاوت كل منها في التمكُّن أو القوة:
الأولى: حالة إدراكية تنجذب لدواعي الإلحاد، مثال: تقديم الغامض على الواضح، الانتباه للمظاهر التي تنم عن عشوائية والاهتمام بها في مقابل التقليل من قيمة المظاهر التي تنم عن إبداع أو عظمة أو إرادة...الخ.
الثانية: حالة إدراكية تنجذب لدواعي الشك، وهذه حالة بين الأولى والتالية، ويُطلق البعض على أصحابها اللاأدريين.
الثالثة: حالة إدراكية تنجذب لدواعي الإيمان، وهي عكس الأولى ومباينة للثانية، ويمكنكم عكس مفاهيم الأمثلة للحالة الأولى للوقوف على بعض سمات أصحابها.
ختاماً: إن كان لي من عبارة ألخص فيها الفرق بين الحالتين الأولى والثالثة، فهي عبارة توظف المفهوم الذي أحب أن أسميه "المتشابه الكوني" على غرار ما جاء في كتاب الله، إذ كما أن في القرآن "متشابه تنزيلي" فإن في الوجود المادي "متشابه كوني" فالأول في الآيات المتلوة والثاني في الآيات المشاهدة، وفي كلا الحالتين الفرق بين الملحد والمؤمن أن الثاني يرُد المتشابه إلى المُحكم في المتلوة والمشاهدة والثاني يعكس فيرُد المُحكم إلى المتشابه في كلا النوعين من الآيات إن كان له اتصال بكليهما أو في النوع المشاهد فقط إن كان اتصال خبرته بالعالم المادي الفيزيائي فقط. فهنا يأتي دور البُعد النفسي في أعمق مستوياته، ولذلك نجد القرآن لا ينفي وجود "متشابهات" فعلاً، في الآيات المتلوة أو المشاهدة، ولكنه في المقابل يخبرنا أن هذه المتشابهات لا أثر لها إلا بحسب الحالة الإدراكية التي تلاحظها، فالذين في قلوبهم زيغ يتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، والمؤمنون ينجذبون للمُحكم ويقولون كل من عند ربنا يخلق ما يشاء ويختار.
Bookmarks