من أشهر ما يتفرعن به الملحدون على الموحدين , أسئلة من قبيل :لماذا يخلقنا الله وهو غني عنا؟ ,لماذا خلق الشر؟ ..لماذا فعل كذا وكذا ..إلخ ,,,بعيدا عن الأجوبة التفصيلية اللائقة بكل سؤال ,يهمني هنا أنهم يوردون هذه الأسئلة على محمل الاحتجاج العقلي الذي هو مما ساقهم لطريق الإلحاد بزعمهم, وحقها أن تطوى في لفافة مهملة وتلقى في أقرب مزبلة (بعد حذف ألفاظ الجلالة منها!), فإذا جُمِع منها حزمة من ألف سؤال على هذه الشاكلة ووضعت على إحدى كفتي الميزان العلمي لبقي على حاله غير شاعر بأن شيئا ما قد حُط عليه..وبيان ذلك : أنه ما من إنسان إلا وهو مدرك أن العقل أداة محدودة الإدراك ,كأي حاسّة.. كالعين إن شئت والأذن وغيرها ,وقد روي عن الشافعي قوله: (إن للعقل حداً ينتهي إليه كما أن للبصر حداً ينتهي إليه) ,فإذا سلّم المخالف بأن العقل في حقيقته : أداة إدراكية كأي حاسة أي: ذات حدود , فقد انتقض كل قائم موهوم في حجته التي بناها من آلاف الأسئلة من هذا القبيل ,ولو فرضنا أن حد العقل ممثل بدائرة نصف قطرها "س" فثم دائرة "ص" أوسع بآلاف آلاف المرات وهي التي ينتمي إليها كل ما كان خارج إطار مدركاته الفكرية ..فإذا ثبت أن المتراجحة (ص > س ) بطل أن يكون في السؤالات عن الأفعال والصفات رائحة حجة, لأن الإحاطة بحكمة الخالق مستحيلة بداهة بل يمتنع درك ما دون ذلك بمفاوز تنقطع دونها القدرة على الحسبان,فغير غريب أن توجد أسئلة متعلقة به سبحانه ومحلها الطبيعي إذن أن تكون في المساحة التي بين الدائرة س والدائرة ص , وإذا وجد احتمال أن نوع السؤال قاض بأن يقع جوابه على مسافة أبعد عن مركز التفكير بمسافة أكبر من (س) فلا يبقى أي احتمال لأن يكون ما يلقيه هؤلاء من هذا الضرب من الأسئلة : حجةً برهانيةً..يقول أبو إسحاق الشاطبي: (إن الله جعل للعقول في إدراكها حداً تنتهي إليه لا تتعداه, ولم يجعل لها سبيلاً إلى الإدراك في كل مطلوب , ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري تعالى في إدراك جميع ما كان وما يكون وما لا يكون إذ لو كان كيف كان يكون , فمعلومات الله لا تتناهى ومعلومات العبد متناهية)..فإن قال قائل:أنا لا أعتقد أن العقل محدود فكيف تثبت دعواك؟ قيل : لا يخلو الأمر من حالين:
-إما أن أثبت لك ذلك فتقتنع ..
-وإما أن أعجز ! فعلى الأول: الأمر واضح ..وعلى الثاني:عجزي عن الإثبات هو عين دليل "محدوديته " لأنه يعني أن عقلك أدرك ما عجز عنه عقلي ..فلو جاء شخص أعقل منك ,لبيّن لك مواضع الخلل في فكرك ولأقام الحجة في بعض ما خفي عليك سواء في هذا الأمر أو بعامة ,والنزاعات بين الفلاسفة الذين قدسوا العقل من أعظم شاهد ..وهذا كله تحقيق للمقصود من أن العقل محدود , وأيا كان الخط الفلسفي الذي عليه الملحد فإنه لا يستطيع التنكر لـ"محدودية" العقل ,سواء جعل المعرفة منوطة بالحس وحده أو العادة أو التجارب أو إلخ, إما تصريحا وإما بالمقتضى فما تكاد تند كلمة لهم في وصف العقل إلا وكانت مشتملة على ما يدل على إقرارهم بهذا..على أن في الجهل بتأويل الحكمة من بعض أفعال الله تحقيقا لسنة الابتلاء (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا )
Bookmarks