وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين
تحديد لمعى كلمة "أمة" في القرآن الكريم
إن شاء الله تعالى نبدأ من هنا
إن الكلمة المقالة هي الوعاء الذي يحوي المعنى .. والتسمية المطلقة تقتضي علماً مطلقاً في المعنى (الكلام) ... وعلماً مطلقاً في الوعاء المصاغ لاحتواء المعنى (القول) .... وأي ابتعاد عن المطلق في المعنى أو في الوعاء تفقد التسمية مطلقها
ــــــــ
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴿هود: ٨﴾
وقد قال في تفسيرها البغوي : وأصل الأمة : الجماعة ، فكأنه قال : إلى انقراض أمة ومجيء أمة أخرى
ـــــــــ
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ﴿يوسف: ٤٥﴾
قال البغوي في تفسيرها تذكر قوليوسفاذكرني عند ربك"بعد أمة "بعد حين وهو سبع سنين
إن التفسير الجذري الذي فيه كلمة "أمة" وكلمة "أمي" تتبعان نفس الجذر اللغوي "أمم" فإننا نرى أن المعنى الذي وصل له العلماء هو وجه سياقي .. لا يشترط به دائماً التعارض مع الوجه الجذري أو الوجه الاستنباطي أو الوجه العددي ولكن يمكن أن يكون مكملاً أحياناً
حيث نرى دائماً أن كلمات القرآن فطرية لا تخلط إطلاقاً بين المعاني فالكلمات:
أمة ... جمع ... حزب ...طائفة ...زمرا ...قوم ...فوج .. يمكن أن نعطيها جميعاً معنى سياقي واحد "جماعة" ولكن اختلافها الجذري إنه بالضرورة على علاقة باختلاف مدلول كل كلمة وتميزها عن غيرها
فعند البحث في المعنى الجذري لكلمة "أمة" الواردة في السياق القرآني (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ) نجد التالي:
{أمة وأمي} لهما نفس الجذر "أمم"
أمم : الذي يعني القصد والجهة
الأمُّ، بالفتح: القَصْد
الأُمَّةُ: الطريقةُ والدينُ
الأمي في القرآن :بقي على فطرته ولم يشرك كمن حوله
أمة: جماعة مؤمنة
تبيان:
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ﴿يوسف: ٤٥﴾
ترتبط الآية السابقة بالآية
﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴿٤٢﴾﴾
قال يوسف عليه السلام للساقي الذي ظن أنه سينجو أن يذكره عند ربه أي الملك فأنسى الشيطان ذلك الساقي أن يذكر يوسف عليه السلام في مقام الملك والذي كني في هذه الآية ب"رب" فلبث يوسف في السجن بضع سنين
ثم تأتي الآية:
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ﴿يوسف: ٤٥﴾
تذكر الساقي بعد موت ربه حيث ذُكر الملك قبل ذلك ب"رب" وبعد أن مات وتولى ابنه .... فقال تعالى عنه "الملك" للدلالة على وجود شخصين مختلفين كنى أحدهما رب والآخر ملك
ولكن لماذا كناه تعالي ب"أمة" لعلنا هنا نعود لنبي الله إبراهيم عليه السلام
(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) يلاحظ هنا من صياغة الآية أن إبراهيم عليه السلام لم يكن من المشركين كجميع من حوله بل كان على فطرة الله "أمة" قانتاً حنيفاً فأمية العقيدة الفاسدة ليس مجال ذم وإنما فخر واعتزاز
وعندما ذهب المفسرون على السياق بأن إبراهيم عليه السلام قد جمع من وجوه الخير ما يجتمع بأمة كاملة فهذا الذي قلته في تبياني يضاف للمعنى ولا ينقضه
فلو أخذنا بالمعنى السابق لكلمة "أمة" على أنها اسم صفة تميز صاحبها بالفطرة يكون هذا استدلالاً على أن اللفظ في سورة يوسف "ربك" و "ربه" إنما قصد به رجل مؤمن بالله "على الفطرة" وبهذا يخالف من حوله في عقيدتهم وهذا الرجل الموصوف ب "أمة" مات أو انتهى أمره لذا قال تعالى (بَعْدَ أُمَّةٍ) أي بعد هذا الرجل الأمي بعبادة الأوثان
{{ونحن نعلم سابقاً أن الفراعنة هم الذين كانوا يحكمون مصر وعلى الرغم من ذلك لم يرد لفظ "فرعون" في سورة يوسف على أنه حاكم مصر وإنما الملك ... وهذا ما بينته المخطوطات بوجود قوم من الهكسوس حكموا مصر فترة تقدر ب200 سنة وكان قبلها وبعدها فرعون هو الحاكم (من أقوال الشعراوي رحمة الله عليه)}}
من السياق الماضي يتضح لنا أن كلمة "أمة" تحمل الصفات الإيجابية غالباً وليس دائماً حيث كل من خالف من حوله وبقي على فطرة الله هو أمي
فلو كان القوم يعبدون الأوثان فالأمي لن يعبد الأوثان وهذا ايجابي
فلو جاء للأمي "لمن على الفطرة" رسول فكذبه أصبح معنى اللفظ سلبي
لذا نرى الله تعالى يقول:
{أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ} فهنالك اختلاف بين الأمم حسب درجة الإيمان
وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ﴿المؤمنون: ٥٢﴾ ويمكن أن نسمى أمة واحدة رغم اختلافنا بشرط تقوى الله
{وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} نقول الحمد لله تعالى أن جعلنا أمة واحدة
{ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ } بالرغم من أن "أمة" تعني وجود الفطرة نقية ولكن هذا لا يكفي عندما يوجد رسول ومنهج فالمطلوب إتباعه فالفطرة السليمة لا تحتوي منهج عدل والمنهج يأتي به رسول من الله تعالى
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَـٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ ﴿الأعراف: ٣٨﴾
والآية السابقة توضح ما ذهبنا إليه فتلك الأمم كانت على الفطرة والإيمان ولكنهم ضلوا فأدخلهم الله نارا أعاذنا الله وإياكم منها
رب اغفر وارحم وانت خير الراحمين
Bookmarks