الحمد لله وحده،
أما بعد، فقد راسلني أحد الأفاضل بكلام كتبه أحدهم في مدونته يقول فيه: " لو كانت هنالك آلية مباشرة يمكن للبشر من خلالها أن يعرفوا أحكام الله لما كان هنالك من سبيل آخر غير اتباع هذه الأحكام ولو بدت غير منطقية. ولكن الواقع غير ذلك، فالأحكام الفقهية هي نتيجة تفسير بشري ومحاكمة بشرية لنصوص سماوية، وبالتالي فالتسليم هنا لا يعني التسليم لله بقدر ما يعني التسليم لفهم بشري! فالمشكلة ليست في النص بتاتاً. المشكلة في فهم هذا النص، وهي عملية بشرية" اهـ.

ونقول ومن الله التوفيق، إنه لم يزعم أحد من العلماء أو طلبة العلم قط أن اجتهادات العلماء في معرفة مرادات الشارع = نصوص منزلة بوحي من السماء، لا يجوز لأحد أن يخالفها! وإنما قالوا هي توقيع أولي النظر والعلم عن رب العالمين، على وفق ما أداهم إليه نظرهم وعلمهم. والتوقيع يراد به إنزال نصوص الوحي على ما يُظن أنه محلها وتحقيق المراد منها. ولهذا كان العلماء ورثة الأنبياء، لأنهم أدرى الناس بكلام الأنبياء وبما أوحى الله به إليهم، وليس هذا لكونهم على اتصال غيبي بالرب جل وعلا، أو لكونهم يوحى إليهم كما يوحى إلى المرسلين، ولكن لكونهم قد تأهلوا بما بذلوا فيه أعمارهم من دراسة وتعلم وتفقه فيما أورثه المرسلون من نص ومن فهم محكم لذلك النص! فمن ادعى أن الأنبياء أورثوا نصا لا ضابط ولا قيد لفهم مراد الشارع منه، فقد رموا ذلك الميراث بأنه لا قيمة له! فإنما الدين عقد يربطه الإنسان في رقبته ليقول: هذا ما علمت أنه مراد ربي فتقلدته في عنقي واتبعت عليه الرسول! فإن لم يكن ثمة سبيل إلى معرفة مراد الله ورسوله مما ورثه علماء الدين من النصوص، فليسوا إذن على شيء، وليس ما معهم بميراث ذي قيمة أو فائدة أصلا، ولا ينبغي أن يكون هو الدين الذي يريد الله من العباد أن يموتوا عليه! فلو جوزنا أن ينفتح النص لكل صاحب هوى يفهمه على مزاجه وهواه، لما كانت له قيمة، ولما كان لأحد أن يقول: "هذا مراد صاحب النص من كلامه"!

ولهذا فإنه يلزم كل عاقل يدري معنى حفظ الدين في أمة خاتم المرسلين، الذي تكفل به رب العالمين جل وعلا كما في قوله: ((إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون))، أن يؤمن ويعتقد اعتقادا جازما أن فهم تلك النصوص على مراد صاحبها منها محفوظ معها، وأنه لم يتركه الله تعالى لأهواء الناس وأذواقهم، كما ذهب إلى ذلك فلاسفة التأويل المعاصرين فقالوا ما معناه إن العبرة ليست بمراد المتكلم من كلامه، ولكن بما يفهمه السامع منه أيا ما كان، فلا ضير في أن تتعدد الأفهام إلى درجة أن يؤخذ من النص نقيض ظاهره!! هذا جهل عظيم مبني على جهل من يفتقرون إلى مشكاة النبوة الخاتمة! لذا نقول إن ما يستجيز أصحاب الملل الباطلة أن يتعاملوا به مع نصوصهم من تلك النظريات الفلسفية الباطلة لا يلزمنا معاشر المسلمين في قليل ولا كثير، فإننا قوم قد حفظ الله فينا الذكر بتمامه! فالذي ورثه علماؤنا عن رسولنا عليه السلام كان نصا محفوظا بفهم محفوظ كان الإجماع عليه حجة ملزمة (بدلالة النص نفسه)، وليس نصا مجردا متروكا لكل أحد يفهمه كما يحلو له، حتى لا يملك أحد من علماء الملة ما به يقول لكل مخرف ضال: "أنت مخطئ، ما هكذا أراد الله من كلامه، وإنما أراد كذا وكذا، والدليل كذا وكذا"! بالله أي حفظ للذكر يكون هذا إن افتقر الدين الخاتم لتلك المرجعية العلمية الرصينة ميراثا محفوظا في معرفة مرادات الشارع من كلامه؟ إن القائل بهذا مكذب لله ورسوله، طاعن في أصل الشريعة! لا شأن لنا بما صنعه أهل الكتاب من تعامل مع النصوص بالهوى (ومنه تلك الفلسفات الحديثة في التأويل والتعامل مع النصوص التي يراد لنا اليوم معاشر المسلمين أن نقبلها وأن نطبقها على كتاب ربنا!)، فهم أهل بهت وتحريف ضيعوا الأمانة واشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، ولعنهم الله في القرءان بما عملوا! قد علمنا أن أصحاب الملل الأخرى لم يمن الله عليهم بما من به على أمة النبي الخاتم من التكفل بحفظ الذكر فيهم، وإنما خص الله بذلك أتباع النبي الخاتم وسبب له سائر الأسباب الكونية التي لا مقام لذكرها ههنا، لأنه النبي الخاتم المبعوث للعالمين إلى يوم الدين! فما بالنا نرتكس ونقول كما قال أولئك: لا حجة في فهم أحد من الناس على فهم غيره لتلك النصوص؟

لو صح هذا لجاز لكل جاهل غوي أن يتأول الكلام على هواه، وأن يفهم من الكلام ما لم يقل به أحد من العلماء من قبل، فإذا ما عورض وأنكر عليه أهل العلم قال لهم: "أنتم بشر تصيبون وتخطئون، وأنتم رجال وأنا رجل كذلك، وليس فهم السابقين للنصوص بحجة على فهمي، وليس عقل الأولين بحجة على عقلي!" فإذا بالمسألة تُصور - هكذا بكل سهولة - وكأنها دعوى عصبية لحجية عقل على عقل، وتقديم فهم بشري على فهم بشري مماثل، كما هو صنيع أهل الملل الأخرى دون سند من أثر أو دليل أو حجة علمية البتة! فهل حاول هؤلاء الفلاسفة يوما ما أن ينظروا في أصول ذلك العلم الذي به قال العلماء في ملتنا إن إجماع الأمة حجة ملزمة، وفهم السلف حجة على ما يخالفه؟ هل حاولوا يوما ما أن يقفوا على أدلة ذلك الأصل العظيم عندنا، قبل أن يرموا نصوصنا بذات القوس الذي رموا به نصوص أهل الملل الأخرى، ثم يأتي أهل الأهواء المفتونون بهم من بني جلدتنا ليعاملوا القرءان والسنة بمثل ذلك؟
إنني أسأل من كانت نحلتهم تقوم على استجازة الانخلاع من ميراث الفهم المحفوظ لنصوص ديننا: كيف يقبل الواحد منكم على نفسه أن يتكلم بكلام يأمر فيه وينهى من يجب عليهم طاعته، فيذهب كل واحد من أولئك المخاطبين بكلامه إلى تفسير الخطاب على هواه، فيعطل الأوامر والنواهي ويقلب مراد المتكلم رأسا على عقب؟؟ هذا لا يكون أبدا! فإن كان الواحد منكم لا يقبل مثل هذا على نفسه ولا يرتضيه، فكيف تقبلونه على ربكم الذي خلقكم؟ سبحان الله!

أنتم مخاطبون بعين ما خوطب به من قبل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإن فهم الواحد منكم خلاف ما فهموه جميعا، وزعم أن فهمه هو الحق، فأي شيء يلزم من ذلك يا عقلاء؟ لازم ذلك أنهم جميعا قد ضلوا وجهلوا بمراد الرسول عليه السلام مما أبلغهم به من الوحي، فلو صح هذا وأمكن أن يقع مثل ذلك فيهم، فكيف إذن يصح أن يقول الملك جل وعلا في القرءان: ((ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا))؟ وكيف يتصور في العقل أن يتركهم النبي الذي بعثه الله لهدايتهم، ليجمعوا على فهم باطل لخطاب ربهم، فلا يتبين بطلانه لأحد من الناس إلا قدرا في عقل رجل يأتي من بعدهم بقرن أو بقرون عدة؟ وكيف يصح مع ذلك أن يكون الله تعالى قد حفظ الذكر، وأن يكون قد جعل للمؤمنين سبيلا واحدة من اتبع غيرها استحق أن يصلى الجحيم وسوء المصير؟؟ بل إن وقوع مثل هذا في وجود النبي عليه السلام (وهو معلم الصحابة وإمامهم وهم تلامذته)، حقيقته الطعن في صدق الوحي أصلا وفي كون القرءان كتاب هداية للعالمين!! كيف يقع في الصحابة فهم باطل لنص من النصوص فينعقد عليه إجماعهم بلا مخالف منهم، ويكون ذلك تحت نظر أمين الوحي عليه السلام فلا يأتي من السماء نسخ ولا إصلاح لذلك الباطل، ثم يموت النبي ويبقى الناس من بعده على ذلك الضلال ينسبونه إلى مراد رب العالمين زورا وبهتانا، ويتوارثه الناس على أنه سبيل المؤمنين وليس هو كذلك؟؟
هل يعقل هؤلاء ما يلزم من نفي حجية إجماع القرن الأول – أو إجماع الأمة بعموم - على ما فهموه من نصوص هذا الدين؟ هل يعقلون أن حقيقته هدم الدين نفسه وتكذيب القرءان؟

فإن تبرأ القوم من نفي حجية هذا الإجماع، لزمهم قبول القول بتقدم فهم الأولين للنصوص (إجمالا) على أفهام من جاء بعدهم، لأن المتأخر إنما تتلمذ على المتقدمين، يتلمس منهم الوقوف على "سبيل المؤمنين" ومعرفة ما كان عليه القرن الأول من فهم لمراد صاحب الشرع من خطابه! وأقول "إجمالا" حتى لا يفهم أحدهم أن فهم الأولين محصور في رجل بعينه من بعد النبي عليه السلام، أو أن كلام أحد من الصحابة يكون حجة معصومة لا تعارض! هذا ليس ديننا ولا نقول كما تقول الروافض إن الأئمة موصولون بالوحي والراد عليهم كالراد على الله! وإنما ينظر العلماء عندنا في مدى دلالة كلام الصحابي على ما كان عليه الصحابة بعموم، فإن دلت القرائن على ذلك بلا معارض من دليل يرقى للمعارضة، قالوا به ولم يخالفوه لأن موافقة فتواه لمراد الله تعالى من النصوص أرجح من موافقة من يخالفه من المتأخرين في القرون اللاحقة لكونه أقرب إلى تعليم النبي عليه السلام، ولاعتبار سكوت أقرانه من علماء الصحابة والتابعين على فتواه بمثابة إقرار له عليها، لا سيما إن رأينا العمل قد جرى على ذلك القول في بلاد المسلمين (فهذه بعض القرائن التي أشرنا إليها آنفا).
والمتأخر في ديننا لم يأخذ عن المتقدم أحكاما شرعية وفقط، وإنما أخذ منه منهجا متكاملا لاستنباط الأحكام وتنزيلها على النوازل والمستجدات، فما كان فيه إجماع من الأولين فلا ينقضه برأيه، سواء كان ذلك الإجماع في أصل كلي أو في مسألة فرعية، وما كان فيه خلاف بينهم، لم يأت فيه بقول جديد يخالف جميع أقوالهم، فإن قولا كهذا لو كان الحق فيه لما كان من شأنه أن يخفى على علماء الأمة الذين بحثوا تلك المسألة نفسها في القرون الأولى، مع توافر الداعي إلى نقله إن قال به من يعتبر المجتهدون بخلافه بينهم، فيأتينا فيما ورثناه من جملة المذاهب المعتبرة التي انحصر فيها الخلاف! وأما ما استجد من النوازل مما لم يسبق أن مر الأولون عليه، فإن للنظر فيه واستنباط حكمه من الشرع قواعد كلية ما كان لميراث خاتم النبيين أن يخلو منها! فأين تلك القواعد ومن أين نتحصل عليها؟ عند العلماء الذين تخصصوا في دراستها وأفنوا فيها أعمارهم!
لذا فإن الله تعالى يقول: ((فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)). والعقل كذلك يوجب على العقلاء أن يرجعوا إلى أهل كل صنعة من صناعات العلم فيما يحسنون، فيقلدوهم فيما يقولون به ولا يقدموا آراءهم على علم العلماء المختصين، مع كونهم يعلمون أنهم لم يتأهلوا كما تأهل أولئك المختصون!

فإن كان مراد هذا الكاتب "بالآلية المباشرة" التي يمكن للبشر بها أن يعرفوا أحكام الله بلا واسطة، النبوة والوحي، فالنبوة إنما تكون في رجل يصطفيه الله تعالى ليبلغ قومه، فإذا ما قُبض ذلك النبي انقطع الوحي عن أولئك ليقضي الله فيهم وفي غيرهم أمرا كان مقدورا. ففيما عدا ذلك الطريق، فلا سبيل إلى معرفة أحكام الله على هذا النحو الذي يريده هذا الكاتب! وإنما هو ميراث محفوظ أورثه النبي عليه السلام لتلامذته، وأورثه التلامذة لتلامذتهم من بعدهم، وهكذا إلى يوم الدين، سبيلا واحدا سماه الله القرءان بسبيل المؤمنين.
فإن قال كما قال صاحبنا هذا إن ذلك الطريق على ما فيه من وسائل علمية للاجتهاد والنظر والبحث، لا يجعل الإنسان متبعا لحكم الله وإنما متبعا لما أداه إليه نظره وغيره من البشر، قلنا له وفي أي شيء جرى ذلك النظر أصلا، حتى انتهى منه الناظر إلى ما يظن أنه حكم الله؟؟ ألم يجر في نصوص الوحي وقواعده المحكمة المستندة إلى نصوص الكتاب والسنة؟ فكيف يكون ما انتهى إليه نظر المجتهد في ذلك ليس هو التسليم لحكم الله الذي كلفنا الله به؟؟ إنما كلفنا الله تعالى بما في وسعنا وبما نقدر عليه ((لا يكلف الله نفسا إلا وسعها))، فمن تلقى نصا عن الله تعالى وكان قادرا على البحث والنظر في تفسير ذلك النص وقادرا على إعمال أدوات تلك العلوم التي يرجى معها الوصول إلى ظن راجح بمعرفة مراد الله تعالى وحكمه منه ومن غيره من النصوص، فقد أدى ما عليه من التسليم لله تعالى ولحكم الشرع، ولا يقال له إنك سلمت لفهم البشر وليس لحكم الله! فلو لم يكن في ميراث النبوة من العلوم الشرعية ومن أصول النظر والبحث ما به يوصل إلى معرفة حكم الله تعالى، سواء بالقطع أو بغلبة الظن، لم يصح أن يكون ثمة سبيل للمؤمنين يجب اتباعه، ولا أن يكون الذكر قد حفظه الله كما تعهد بذلك صراحة في كتابه!!

ثم إن كل طريق يوصلنا إلى معرفة صحة نسبة النص إلى صاحبه أولا، وإلى فهمه على الوجه الصحيح واستخراج الأحكام والدلائل منه الشرعية منه ثانيا، سواء كان ذلك على سبيل القطع أو الظن، فإنه طريق معرفي صحيح عقلا، وهو ملزم موجب للعمل لأن من وصل إليه يراه حكم الله ولابد، إما بالقطع أو بظن قوي راجح! هب أن ملكا من الملوك أراد أن يرسل إليك خطابا، وقد علمت أنه لن يخاطبك إلا بهذا الخطاب، وأنه قد كلفك ببذل ما في وسعك لمعرفة مراده والعمل به على وجهه الصحيح، وقد بين لك أنك إن بذلت وسعك في فهم الخطاب وجمع ما يعينك على ذلك من الأدلة والقرائن، وصدقت في ذلك فلم تقصر أو تفرط أو تتبع هواك على خلاف الدليل، فلن يؤاخذك بالخطإ بل سيأجرك عليه، فأي شيء يضيرك أن يكون وصولك إلى فهم الخطاب ومعرفة الحكم المراد منه، من طريق ظني يحتمل الصواب والخطإ، ويرد عليه ما يرد على أعمال البشر؟ وكيف يكون في ذلك ما يُعترض به على حق أهل العلم بأدلة الشرع وقواعده في أن يقدم قولهم على قول من لم يتأهل للنظر كتأهلهم، أو يتمكن من أداة الفهم والاستنباط كتمكنهم؟

إن من أسخف ما يثيره العلمانيون من شبهات على مسألة تحكيم الشريعة، قولهم إن ما بين أيديكم أيها العلماء اجتهادات لبشر يصيبون ويخطئون، وأنتم تريدون أن تجعلوها مقدمة على كل ما يخالفها مما سواها من أعمال البشر، فما وجه تقديم عمل بشري على عمل بشري مثله، والكل سواء فيما يرد عليه من احتمالات يستلزمها النقص البشري؟ هذا في الحقيقة تسطيح للمسألة، وتسوية لقضيتين لا يمكن في العقل أن تكونا على السواء! فإن اجتهاد العالم الشرعي مادته ومرجعيته بالأساس: ميراث الأمة من نصوص الوحي وما معها من قرائن ودلائل تعين على معرفة مراد الشارع منها، وفهمها على وجهها الصحيح. فمن تأهل بما بتأهل به العالم الشرعي للنظر في ذلك التراث (وهي علوم لها مباحثها وأصولها التي يجب على من أراد الاستقلال بالبحث والنظر أن يتعلمها، تماما كما هو الشأن في كل صنعة من صناعات العلم عرفها الإنسان)، فإنما يصل من ذلك النظر إلى جنس من المعرفة لا يجوز لأحد من المسلمين أن يقدم عليه ما يخالفه! ذلك أن من كان من أهل تلك العلوم، وأداه اجتهاده وبحثه إلى قول ما، يظن أنه حكم الله في مسألة ما، فليس لأحد من الناس أن يعارضه إلا أن يكون محققا شروط الاجتهاد والنظر في نفسه، تماما كما لا ينبغي للعقلاء أن يقبلوا من أمي لا يقرأ ولا يكتب، أن ينتقد عملا أدبيا ربما تعثر بعض المتعلمين في فهمه واستيعاب ألفاظه وتراكيبه، أو أن يقبلوا من رجل لم يُعرف عنه دراسة الطب في حياته يوما ما، أن يعترض على تشخيص طبيب يعده من الثقات المقدمين على غيرهم في مجالهم، أو يغير بهواه في وصفة العلاج وجرعة الدواء التي كتبها له ذلك الطبيب!!

لذلك نقول إننا إذ ندعو العوام للتسليم لأهل العلم بدين الله تعالى، فلا ندعوهم لاتخاذهم أربابا من دون الله لا تُرد لهم كلمة ولا يُعترض على شيء مما يقولون! وإنما ندعوهم لاتخاذ أولئك العلماء برهانا لمعرفة أحكام الله تعالى وشريعته، يسألونهم وينزلون على أقوالهم وفتاواهم في ذلك ما داموا دون حدّ الأهلية العلمية في ذلك، يسلمون لهم كما يسلمون لغيرهم من أصحاب التخصصات العلمية الأخرى، كلٍّ في مجاله! ولا وجه والحالة هذه لأن يقال إن كون هؤلاء العلماء بشرا يصيبون ويخطئون، يُسقط عن أعناق غيرهم من البشر وجوب تقلد أقوالهم والعمل بها! فإن خطأ العالم لا يظهر للجهلاء، لأنهم لا يملكون من العلم ما به ينصبون الدليل والبرهان على وقوع ذلك الخطإ عنده إذا ما وقع! ولهذا وجب على العامي الذي لا يسعه أن يصل إلى استيفاء شروط الاجتهاد حتى يصل بنفسه إلى الحكم على ما هو مقبل عليه من عمل، أن يقلد من يثق في علمه وأهليته وفي براءته من الهوى فيما يفتي به، حتى مع علمه بأن هذا العالم يرد عليه ما يرد على البشر من احتمال الخطإ، لأنه ليس كل إنسان يسعه أن يكون عالما بكل ما يلزم العلم به للوصول إلى استنباط الأحكام الشرعية من النصوص في كل مسألة تطرأ عليه! ولأن الناس يتفاوتون في قدراتهم وأفهامهم وما تحصل لديهم من المعارف الشرعية، فقد يظهر للعامي أو من في حكمه أن الدليل على خلاف ما أفتاه به شيخه، فحينئذ يجب عليه أن يترك قول شيخه ولا يقلده على ما تبين له بطلانه، ولكن بشرط أن يكون قد استفرغ الوسع في بحث المسألة ودراستها وموازنة سائر ما فيها من أدلة، فلا يتعلق بدليل ويهمل ما سواه من الأدلة، أو يستخرج من النص دلالة لا يستياغ الخروج بها منه عند من حقق حد الأهلية للتعامل مع ذلك النص!

حتى العلماء لا يخلو أعلاهم كعبا وأرسخهم قدما وأعلاهم درجة في الاجتهاد والفقه من أن يكون مقلدا في بعض المسائل لاضطراره إلى ذلك! ولولا هذه الحقيقة التي استلزمتها طبيعة البشر المحدودة، ما أصبح الأئمة الأربعة أصحاب مذاهب متبوعة يتقلدها (إما في أصولها فقط أو في أصولها وفروعها كذلك) كل طالب علم في مستهل الطلب ولابد، بل ويفتي منها العلماء فيما لا يسعهم الوقت للاستقلال ببحثه، وقد رأوا حاجة الناس تدعوهم إلى استفتائهم فيه وسؤالهم عنه.
والعامي في الحقيقة عندما يقلد فإنه يستدل في ذلك بما يطيق الاستدلال به من القرائن الظنية رجاء الوصول إلى معرفة حكم الله تعالى. فمن كانت غايته أن يصل إلى معرفة أي العلماء قد شهد له أقرانه بالأهلية والتمكن وبحسن الديانة والورع، فإن هذا في حقه استدلال ظني يرجو معه أن يقل احتمال وقوع الخطإ فيما يتلقى من الفتوى إلى أقل ما يمكن، لأنه كلما كان العالم أكثر علما وتمكنا وأعلى في مرتبة الاجتهاد والفقه من أقرانه، كان الظن في إصابته أقوى واحتمال سداده في الفتوى أرجح، في مقابل احتمال الخطإ والزلل. ولهذا لا يصاب أحد من الناس بمرض في بدنه إلا تراه يتحرى أكثر الأطباء علما وخبرة وأحسنهم سيرة وأطولهم ممارسة! هذه أمور نقع فيها كل يوم، في كل مرة نلجأ فيها إلى أهل الذكر نسألهم في أمر ما، ومع ذلك لم نر أحدا من العلمانيين يعترض ويقول هؤلاء بشر أمثالنا يصيبون ويخطئون، وعندهم مذاهب يختلفون فيها ويتنازعون، فلا يصح أن نجعل كلامهم مرجعية لازمة الاتباع!

نعم الخلاف والنزاع سنة كونية ماضية في البشر لا زوال لها ولا ارتفاع! ومن زعم أن الله بعث المرسلين لإزالة مطلق الخلاف بين البشر ورفعه من الأرض فهو جاهل متمحض في الجهالة! إنما بعث الله الرسل وأنزل الكتب لهداية الناس، من آمن منهم واتقى ورضي بإخضاع رقبته لحكم ربه وتقديم ذلك الحكم على ما يخالفه! بعثهم ليجمعوا أتباعهم على الدين الحق، فيرتفع بذلك من بينهم – لا من الأرض كلها – جنس الخلاف المهلك، الواقع في أصول الاعتقاد في الخالق وصفته وفي اليوم الآخر وفي نبوة من أرسل من الرسل وما أنزل عليهم من الوحي وغير ذلك من أصول الإيمان التي يهلك من قامت عليه حجة الحق ثم مات على خلافها، أما مطلق الخلاف فلا يرتفع ولا يمكن أن يرتفع! يقول الملك جل وعلا: ((ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين . ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين))، فهو سبحانه لم يشأ أن يجعل الناس كلهم على الدين الحق، بل قضت حكمته أن يكون منهم المؤمن ومنهم الكافر، ففريق في الجنة وفريق في السعير. كما لم يشأ سبحانه كذلك أن يجعل المؤمنين منهم على عقل واحد ونظر واحد ورأي واحد في كل دقيقة من دقائق الدين، فمنهم المصيب ومنهم المخطئ، ومن خلافهم ما يستساغ لتقارب الأدلة فيه بين الأقول، ومنه ما لا يستساغ لقيامه على شبهة لا على دليل معتبر، ومنهم من يربو صوابه على خطئه ومنهم من يكثر خطؤه فينغمر فيه صوابه، ومنهم من يتبع الهوى ومنهم من يظلم نفسه ومن يقتصد، ومنهم من يقصد الحق فيخطئه فيؤجر، ومنهم من يقصد الباطل فيصيبه فيؤزر، ولله في خلقه الحكمة البالغة!

فمن ذا الذي يزعم أن محدودية البشر (التي لزم منها الاعتماد على الترجيح الظني والاجتهاد باتباع الأدلة ما قوي منها وما كان دونه في القوة كذلك، ومن ثم مطلق وجود الخلاف والنزاع بين العلماء)، يمكن الوصول منها إلى الطعن على الشريعة أو إلى تعطيل حق الملك جل وعلا في أن يقدم حكمه على كل حكم وشرعه على كل قانون، أو إلى التشغيب على فريضة علماء الشريعة في بيانها للناس وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، أو إلى التسوية بين اجتهاداتهم العلمية وفتاواهم، وبين آراء العوام الجهلاء؟
هذا الخطل المعرفي البيِّن، لو جاز في العقل لانسحب على بنيان المعرفة البشرية بأكمله بالهدم والإهدار! فإنه ما من مسألة من المسائل في أي فرع من فروع المعرفة البشرية، من أعلاها منزلة إلى أدناها، حتى صنعة الطهي في المطابخ، حتى صناعة لعب الأطفال وعرائس الفتيات، إلا وقد تخصص فيها أناس فحازوا ما يلزم لتمامها من العلوم والمعارف والمهارات، فوجب بالعقل أن يكون لهم "السلطان المعرفي" أو ما يعرف عند فلاسفة المعرفة وخبراء النشر العلمي الأكاديمي بعبارة scholarly authority في إرشاد كل من أراد الانتفاع بتلك الصنعة إلى أقوم الطرق وأعدلها إلى ذلك، من خلال ضبط ما في تلك الصنعة من مسائل ومباحث علمية! ووجب أن يكون لهم الحق العلمي كذلك في أن يحكموا على كل جهالة من كلام الدخلاء على صنعتهم بأنها باطل مهدر لا وزن له ولا قيمة! هذه السلطة العلمية المعرفية عبر عنها الله تعالى في القرءان وأسس عليها حكما شرعيا هو عين الحكمة وتمامها، فقال سبحانه وتعالى: ((فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون))! فوجب على كل مسلم عاقل مكلف أن يرجع فيما لا يعلم إلى من يُعد من أهل السلطان المعرفي في دائرة البحث في تلك المسألة التي جهلها، تماما كما يشهد العقل والفطرة المستقيمة بوجوبه على كل عاقل! فلماذا يحرص العلمانيون وأضرابهم من المتعلقين بأهداب "العقل" و"الفكر" زورا وبهتانا، على الحفاظ على تلك السلطة واحترامها في كل صناعات الفنون المعرفية، إلا عندما يكون الكلام في "قال الله وقال الرسول"؟؟ ولماذا لا يقول القائل منهم للطبيب (مثلا) حين يكتب له دواء يكرهه: أنت بشر تصيب وتخطئ وأنا لن أسلم جسدي إلى بشر مثلي، فإذا ما أفتاه من شهد له المسلمون بالعلم الشرعي وعلو المنزلة فيه بشيء يكرهه، هان عليه أن يلقي بكلمة كهذه في وجه من يفتيه ولا يبالي؟؟

إنه الهوى المحض! لا يقع الإنسان في التناقض المعرفي إلا من جهل أو هوى، فإن كان التناقض على هذا القدر من الجلاء والوضوح، لم يكن من المستساغ أن نتلمس له العذر بالجهل، وإنما هو الهوى لا غير، نسأل الله السلامة! هذا المعترض على "بشرية" الطريق الذي يتعامل به العلماء مع النصوص الشرعية، والله لا يجرؤ على أن يعترض كذلك على "بشرية" الطريق الذي يتعامل به الطبيب المختص مع ما يصفه له من أعراض المرض إذا ما ذهب إليه شاكيا من ألم في بطنه! ولا يجرؤ على أن يعترض على "بشرية" الطريق الذي به يتعامل المهندس الإنشائي والمقاول مع تصميم وتنفيذ سقف خرساني يرتفع فوق البيت لينام صاحبنا تحته! ولا يجرؤ على أن يعترض على "بشرية" الطريق الذي به يتوصل علماء الكيمياء الحيوية وعلم العقاقير إلى اختراع وصفة جديدة لدواء يرجى أن يكون سببا في علاج مرض ما، حتى مع إقرارهم بما لذاك الدواء من آثار جانبية لا يمكن اجتنابها!
فماذا يريد وماذا يشترط الواحد من هؤلاء على من يأتيه بحكم الله ورسوله حتى يسلِّم لذلك الحكم ويذعن؟ أيشترط أن يكون وحيا يأتيه من السماء كما يوحي الله إلى الأنبياء؟ أيشترط أن يخاطبه الله تعالى مباشرة دون حجاب؟ فبأي حق يشترط على خالقه شرطا كهذا، وقد علم أن الوصول إلى معرفة مراد الشارع الحكيم من خطابه يجزئنا فيه الظن الراجح إن تخلفنا عن القطع والجزم، وعلم أن لذلك الأمر علومه وأدواته التي تخصص فيها أناس فصاروا أهل "السلطة المعرفية" فيها، فلا يرد عليهم أقوالهم إلا من تعلم ما يلزم تعلمه والإلمام له للرد عليهم بعلم وبرهان؟ ماذا يشترطون قاتلهم الله وبأي حق يتكلمون بهذا الكلام؟
هو شرط واحد لا غير، يراه بجلاء من رفع الله عن عينيه تلك الغشاوة: أن يأتي الحكم وتصدر الفتوى على المزاج لا على خلافه! من أفتاهم في دينهم بما يحبون، حملوه على رؤوسهم ورفعوه، ومن نهاهم عما يحبون، داسوه بالأقدام وأسقطوه، وتركوه إلى من يكلمهم بما يحبون!
وهل خرجت النحلة الليبرالية والعلمانية إلى حيز الوجود إلا من أمثال تلك القلوب الخبيثة؟ وهل لكلمة "ليبرالية" معنى أصلا سوى التحرر من سلطان من يأمر الناس وينهاهم باسم الدين، كائنا من كان؟
((أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا))

إن الله لم يشترط علينا – من رحمته سبحانه – أن نصل بدليلنا في كل حكم ننسبه إلى الشرع إلى أن يكون دليلا قطعيا لا يتطرق إليه الظن، فإننا لا نطيق ذلك! وإنما حث المجتهدين على بذل الوسع واستفراغه في البحث والنظر، مع وعدهم بالأجر سواء أصابوا حكم الله أم أخطأوه! فلولا أن كان الدليل الظني موجبا للعمل عند فقد ما هو أقوى منه، ما أمكن أصلا أن يقع المجتهد في الخطإ والاشتباه، لأن القطعيات لا متسع فيها لتقليب النظر والترجيح كما هو الشأن في الظنيات. وحتى لو افترضنا تنزلا أن كان تكليفنا قاصرا على ما وصلنا إلى معرفته بالقطع وحسب، فلم يجب علينا العمل بما كان ثبوته ظنيا، فحتى القطع بمعرفة مراد الله من كلامه لا يوصل إليه – أي لا يصل إليه عامة البشر خلا الأنبياء والمرسلين - إلا من طريق جملة من "العمليات البشرية" من جنس ما يعترض عليه صاحبنا هذا! فالثبوت القطعي للقرءان نفسه لم يتحقق لنا إلا من اجتماع عدد لا حصر له من النقولات السمعية حتى صار متواترا بنقل الكافة عن الكافة! وكذلك يقال في الدلالة القطعية، التي طريق كونها قطعية: ثبوت الإجماع المطبق عليها في القرن الأول! فأي شيء يكون النقل بالتواتر والإجماع على دلالة النص، إن لم يكن "أعمالا بشرية"؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف يرضى صاحبنا أن يثق في صحة النص نفسه، فيسلم لتلك "الأعمال البشرية" وهو يعتقد أنه يسلم لله تعالى؟ نقول يلزمه في هذا نظير ما يقول في نقل ما سوى القرءان وما توارثه العلماء عن السلف من فهم النصوص واستنباط الأحكام منها! فإما أن يقبل بالتسليم لما دل الدليل على صحته، ظنيا كان أو قطعيا، كما هو صنيع العقلاء من بني البشر، وإما أن يرد ذلك كله وينقلب إلى الإلحاد لأنه لا يريد التسليم "لأعمال البشر"!!

إن نقلة النص هم أنفسهم من حملوا إلينا لغته وفهمه كما علمه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعملت به الأمة من بعده! فعندما نقول إن "فهم السلف" مقدم على فهم من خالفهم ممن جاء بعدهم، فإننا لا نحيل المسلمين بذلك إلى عقل بشري قاصر ندعي أنه أفضل من عقولهم البشرية القاصرة، أو إلى رجال نزعم أنهم معصومون يتكلمون بوحي السماء! وإنما نحيلهم إلى مرجعية علمية راسخة الأساس عظيمة البنيان، قوامها إجماعات قد زكاها القرءان نفسه ونص على حجيتها، وأقوال لجملة من العقول التي تلقت فهمها من تعليم الذي لا ينطق عن الهوى، فنقلته كما وعته (بما يشهد له من النص) إلى من جاء بعدها، فهي عين تحقيق وعد رب العالمين بحفظ الذكر إلى يوم الدين! فإذا كان كل هذا يعاب بأنه "عمليات بشرية" فلينظر صاحبنا هذا كيف يقف بين يدي ربه يوم القيامة فيعيب عليه أن خلقنا "بشرا"، وسيرى كيف يأتيه الجواب!

ليس هذا كلاما إنشائيا ولا هي خطابة جوفاء كما يحلو لأولي الأهواء أن يشغبوا على ما يقال لهم، وإنما هي أدلة عقلية واضحة، تكفي من كان طالبا للحق صادقا في إرادته، والله الهادي إلى سبيل الرشاد، والحمد لله رب العالمين.