إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .
و أشهد أن لا إله إلى الله ، و أن محمدا عبده ورسوله بلغ الرسالة ونصح الأمة و كشف الله به الغمة و جاهد في سبيل الله حتى أتاه اليقين .
أما بعد :
فيزعم الملاحدة أن لو كان التوجه إلى الله أمراً فطرياً لما عبد النّاس آلهة شتى .
والجواب : أن الإنسان إذا لم يهتد إلى الله تعالى فإنه يُعبِّد نفسه لأي معبود آخر ليشبع في ذلك نهمته إلى التدين ، وذلك كمن استبد به الجوع فإنه إذا لم يجد الطعام الطيب الذي يناسبه فإنه يتناول كل ما يمكن أكله ولو كان خبيثا ليسد به جوعته .
والفطرة تدعو المرء إلى الاتجاه إلى الخالق ، لكنّ الإنسان تحيط به مؤثرات كثيرة تجعله ينحرف حينما يتجه إلى المعبود الحق مثل ما يغرسه الآباء في نفوس الأبناء ، وما يلقيه الكتّاب والمعلمون والباحثون في أفكار الناشئة يبدّل هذه الفطرة ويقذرها ، ويلقي عليها غشاوة ، فلا تتجه إلى الحقيقة .
و رغم أن الناس مفطرون على الإيمان بخالق مدبر إلا أن الفطرة قابلة للتغير و الانحراف بفعل مؤثرات خارجية ، وهذا الانحراف كان هو السبب في وجود الوثنيات والشرك في الأمم السابقة ، وهو أيضا سبب الشرك و الضلال في زمننا الحاضر .
و هذه المؤثرات هي :
أولا : الشياطين : وهي المؤثر الخارجي الأصلى والأول في هذا الأمر كما يتضــح ذلك من حديث عياض بن حمار السابق عرضه .
ثانيا : البيئة : سواء كانت من الجو المحيط داخل الأسرة - وبوجه خاص الوالـــدان - ، أو من خلال المجتمع خارج مستوى الأسرة .
وهذا المؤثر قوى وخطير وعليه تكون النشأة ، وبسببه ينطمس كثير من نور الفطرة إن لم تطمس بالكلية . كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأبواه يهودانه أو ينصــرانه أو يمجسانه .
ثالثا : الغفلـة : وقد ذكر الله سبحانه هذا المؤثر في سورة الأعراف حين قال : " أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين " .
ولا شك أن هناك عوامل أخرى مؤثرة كالإعلام ووسائله ، وكالدراسة وأساليبها وما يدرس فيها ولكن عندما نمحصها نجد أنه يمكن أن تندرج تحت واحدة من هذه الثلاث .
و كثيراً ما تنكشف الحجب عن الفطرة ، فتزول عنها الغشاوة التي رانت عليها عندما تصاب بشدة ، أو تقع في مأزق لا تجد فيه من البشر عوناً ، وتفقد أسباب النجاة ، فكم من ملحد عرف ربّه و رجع إليه عندما أحيطت به شدة ، وكم من مشرك أخلص دينه لله لضرّ نزل به قال تعالى : ﴿ حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصفٌ وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئنِ أنجيتنا من هذه لنكوننَّ من الشاكرين ﴾ .
و لا يصح لنا أن نستنتج من توجه البشر إلى اللّه في الشدائد بأنّ الإيمان وليد الخوف والرهبة من الطبيعة الغاضبة كما يدعي الملاحدة بل الخوف مجرد وسيلة تكشف الغطاء عن ذلك الإيمان المغروس في أعماق البشر ، المودوع في الفطرة وكذلك تكون فطرة الإيمان باللّه و التدين و حب الجمال واكتناز الثروة وطلب العلم رغم أنّها أُمور مجبولة مع فطرتنا ومعجونة مع خلقتنا فهي لا تظهر ولا تتفتّح ولا تبرز في كل الأوقات والظروف ، ولا تتجلّى في عالم الذهن في كل الأزمنة والأحوال ما لم تتهيّأ الظروف المناسبة لها في وجودنا .
و غاية قول الملاحدة لو كان التوجه إلى الله أمراً فطرياً لما عبد النّاس آلهة شتى الدلالة على انتكاس ما أودع الله في الناس من فطرتهم على الإيمان به و توحيده لا نفي فطرة وجود الخالق .
و قد ثبت وجود إله خالق فالكل مفطور على وجود خالق ،و لا دليل على وجود أكثر من إله خالق ، فلا يصح ادعاء أكثر من إله و لو كان هناك خالق غير الله لادعى الخلق ، و لم يدع أحد غير الله لنفسه الخلق إلا خذله الله في الدنيا و افتضح أمره ، أما الله سبحانه فقد دعا لنفسه بالخلق عن طريق رسله و أنبيائه و لم ينازعه أحد و الكون يشهد بوحدانية الخالق للنظام و التناسق الذي في الكون .
قال اليافعي : (( لَا يعرف الله سُبْحَانَهُ إِلَّا بِصِفَات الْكَمَال الْمُطلق وَإِلَّا لَكَانَ نَاقِصا وَالنَّقْص محَال عَلَيْهِ تَعَالَى وَمن جملَة الْكَمَال كَونه وَاحِدًا متوحدا بِالْملكِ مُنْفَردا بتدبير المملكة غير مشارك فِي الْخلقَة وَالْأَمر لِأَن الشّركَة يلْزم مِنْهَا الْمحَال أَو النَّقْص الْمُؤَدِّي إِلَيْهِ لأَنا إِذا فَرضنَا إِلَهَيْنِ وفرضنا إِرَادَة أَحدهمَا شَيْئا وَإِرَادَة الآخر نقيضه كإيجاد شَيْء وَعدم إيجاده أَو تحريكه وتسكينه فإمَّا أَن يحصل مرادهما فيجتمع النقيضان أَو لَا يحصل مُرَاد وَاحِد مِنْهُمَا فيرتفعان وَالْكل محَال أَو يحصل مُرَاد أَحدهمَا دون الآخر فَيلْزم عجز من لم يحصل مُرَاده فَلَا يكون إِلَهًا لنقصه فَلَزِمَ أَن لَا يكون الْإِلَه إِلَّا وَاحِدًا )) .
و قال الشيخ الهراس : (( إذا تعددت الآلهة فلا بد أن يكون لكل منهم خلق و فعل ، و لا سبيل إلى التعاون فيما بينهم ؛ فإن الاختلاف بينهم ضروري، كما أن التعاون بينهم في الخلق يقتضي عجز كل منهم عند الانفراد .
والعاجز لا يصلح إلها، فلا بد أن يستقل كل منهم بخلقه وفعله، وحينئذ؛ فإما أن يكونوا متكافئين في القدرة، لا يستطيع كل منهم أن يقهر الآخرين ويغلبهم، فيذهب كل منهم بما خلق، ويختص بملكه؛ كما يفعل ملوك الدنيا من انفراد كل بمملكته إذا لم يجد سبيلا لقهر الآخرين، وإما أن يكون أحدهم أقوى من الآخرين، فيغلبهم، ويقهرهم، وينفرد دونهم بالخلق والتدبير، فلا بد إذا مع تعدد الآلهة من أحد هذين الأمرين : إما ذهاب كل بما خلق، أو علو بعضهم على بعض .
و ذهاب كل بما خلق غير واقع؛ لأنه يقتضي التنافر والانفصال بين أجزاء العالم، مع أن المشاهدة تثبت أن العالم كله كجسم واحد مترابط الأجزاء، متسق الأنحاء، فلا يمكن أن يكون إلا أثرا لإله واحد و علو بعضهم على بعض يقتضي أن يكون الإله هو العالي وحده )) .
و ليس تعدد الآلهة ذريعة لترك عبادة الإله الحق فلو كنت قاضيا و أمامك أشخاص و كل منهم يدعي أيحق لك أن تقول لا يوجد حق ، بسبب تعدد مدعي الحق و البينة على المدعي و الحق له .
هذا والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
Bookmarks