النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: المقامة البوجلودية

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المشاركات
    2,867
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    19

    افتراضي المقامة البوجلودية



    المقامة البوجلودية

    حدثنا أبو النوادر السوسي قال:

    لبثنا بين العيدين, نرقب كرّ الجديدين, حتى أظلّنا يوم الأضحى, فراجت سوق الخرفان, وشُحذت المُدى وصُفّت الجفان, وساكنت الأنعام الأنام, فكنت أصحو على ثغاء وأنام, واعتلت السطوح ذوات وبر وصوف, ما بين قرناء وجلحاء, وما زالت في قضْم واجترار, وغفلة عن المدى والشِّفار, حتى حسنت أعطافها, وسمنت أردافها, وامتلأت شحما واكتنزت لحما.

    ثم حل العيد فسال الدم وأهريق, ونزلت سوس ثاني أيام التشريق, فمررت بمدينة تدعى الدشيرة, لأزور بعض بني العشيرة, وقفلت بعد الزيارة أمتطي السيارة, وبينا أنا أسير مبكّرا, ذاكرا ربي مكبّرا, إذ وجدتني في أخلاط وأجناس, من بشر وأشباه الناس , تهبّشوا وغصّت بهم الشوارع, وتوسّطهم خلق يحمل الكوارع, ورأيت فتيانا تسربلوا إهاب الأضاحي, وأغاروا على أهل تلك النواحي, وبدا كأن الخرفان والتيوس قد انتصبت, واقتصت من الأناسي وانتصفت, ومضت في زهو متبخترة, تصول بين الناس كأجناد مستهترة, تضرب المارة وتقبض الثمن, كأنها وحوش من غابر الزمن, يركض أمامها الصبيان في رعب, وتقرع لها الطبول كأنها في حرب, وخشيت أن أذوق الضرب بالكراع, فانتبذت ناحية أرقب الصراع, ثم أطللت حذرا من الزجاج, ونظرت إلى فتى صيّاح عجّاج, فسألته:
    "أي شيء هذا؟"
    فصرخ: "هذا من تراث الجدود, هذا موسم (بوجلود)."

    فوالله ما قاطعته وما راجعته, إيثارا للسلامة وخيفة الندامة, ثم أقبل فتى كالتيس يشتدّ ويهرول, ويقفز في نعلين ويولول, ويرغي ويزبد, وقد تقنّع بالسواد فلم تبد إلا عيناه, ولوّح لي بكراع في يمناه, ولما دنا من السيارة سرت القهقرى, حتى غاب عني واختفى بين الورى, فنزلت ويمّمت جهة الشمال, ضنا بعظامي وما معي من مال , فلاحت عصبة بأيديهم خرائط, قد اعتزلوا ناحية واستندوا إلى حائط, كانوا شقر الرؤوس سائحين, فطفقوا يتأملون الغادين والرائحين, ويصوّرون (بوجلود) ويعجبون, وينظرون إليهم يلعبون, وقد تجمعوا كسرب جراد منبث, ثم جاء كليب يلهث, وأتى السياح كالمستجير وأقعى, ونصب ذيله كأنه أفعى, فبشوا له كما يبش الحبيب لحبيبه, ولان لهم كما يلين العليل لطبيبه, فذا يفرك ناصيته, وذاك يجلس ناحيته, وهذا يهمس في أذنه همسة, وذلك يقبّله و يلمسه لمسة, وهذه تربت على كتفه, وتلك تذب الذباب عن أنفه, وهو بين أيديهم ساكن مستكين, حتى أشفقت على الجرو المسكين, وخشيت عليه الغيض بعد الفيض, والفقد بعد الوُجد, والسِّنان بعد الحنان, والصّفع بعد الرّفع, وتخيلته يقول:

    ولَكَمْ قلت إذ تعاظم سعدي ....... صاح لا صبر لي على غير بُعد
    صاح قد هالني وأرخى ذيلي .....وشجاني وِصالكم طول ليلي
    ليس سعدي بكم بملجمِ نحسي .....قد أحبّ الزّمان صفعي ورفسي


    ثم تفرست فيه, من ذيله لفيه, فإذا هو أمكر الجراء بلا مراء, هذا الهزهاز في مهمّة, وهؤلاء الأغراب في ملمّة, وما لبث رحال بن المحجوب أن جاء يرفل في بذلة, مشرق الوجه يُبدي جَذَله, فالتف حوله السياح, وحياه الهزهاز بالنباح, فحدثهم كأنه ما عرف يوما إلا لسانهم, وأيقنت أنه يخاتلهم ويستدرّ إحسانهم, ثم اصطفوا له صفّا, ومدّ يده مدّا, وأتوه فردا فردا, ثم رأيت كأنه يعدّ المال عدّا, ويدسّه في جيبه دسّا, فعلمت أنه قد أحكم أمره, ومكر مكره, ثم ساقهم إلى (بوجلود) سوْق الغنم, وانسل يترنم وقد حلا له النّغم.

    ولبثت مليا ثم غلبني الشوق لحديثه وأعاجيبه, فأدركته جالسا في مقهى فأمسكت بتلابيبه, وقلت: "لتصدقنني الخبر أو لأفضحنك", فقال: "عيد مبارك يا كريم, دعني أتلذذ بهذا (الآيس كريم), فإنه من كسب حلال, يا جميل الخلال, ثم أقص عليك خبري بعجره وبجره." والتهم قالب البوظة بالقشطة, وهو يركل تحت الطاولة قطة, ثم عدّل ربطة عنقه, ومر بطرفها على أشداقه وقال:

    "أدركني العيد وما لي وللهزهاز من عظم, وجعنا مجاعة لا يصفها نثر ولا نظم, حتى حلت لنا الجيفة, فخفت على نفسي خيفة, فسمعت بمهرجان يسمى (بوجلود), يتسربل فيه البشر الجلود, تنظمه جمعية (العرفان للمتشبهين بالخرفان), فبادرت وانتهزت الفرصة, وتجملت متشبها بأهل البورصة, ثم أتيت ساحة فندق فخم, يحرسه بواب ضخم, فابتدرته وانتهرته, وازدريته وازدجرته, حتى حسبني وزير السياحة, وشرع في الاستعطاف والنياحة, ثم دخلت فأتيت جماعة من السياح في البهو, فاستأذنتهم أن أقطع عليهم ما هم فيه من اللهو, ثم أعلنت عن مهرجان للتراث, وأنا أقضم حبة من كراث, وحدثتهم بالإنجليزي والإسباني, والفرنسي والألماني, فقلت هلموا بعد الغد (للكرنفال), هلموا للفرجة واصطحبوا الأطفال, وحين حضروا أخذت مائة درهم عن كل رأس, وقد دفعوا المال بطيب نفس, وإنما أتيت (بوجلود) ببعض المعجبين, أوليس هذا كسبا من عرق الجبين؟ ولما فرغ من حديثه سألته: ولِمَ لبست للنصارى ثياب أولي الشأن وتركت جلود الضّأن؟ فمر بيده على بذلته السوداء وقال بنبرة ماكرة: هذا كَتّان ناعم الملمس قد أكسبني ألفين, ولولا الورع لجعلتها ضعفين, فكيف ألبس الجلود كالأنعام, وأقطع نهاري أتسول الإنعام, وأصبر على ثغاء الغوغاء لأرجع بدريهمات بريح روث البهائم؟ ليس هذا من شيم أولي العزائم, بل أتجمل وأتطيب وألبس الجديد, ولا أمدّ يدي أستجدي فنحن في عيد."
    {‏ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} إبراهيم: 41

  2. #2

    افتراضي

    بارك الله فيك.
    أبشر نفسي قبلك أنك لن تفلت من طابع البادية ولو حشرت السيارة في المقامة

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المشاركات
    2,867
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    19

    افتراضي

    بارك الله فيك, والله لقد ضحكت من تعليقك, مهما فعلت فإن لغتي تشبه (الحرشاء) أكثر مما تشبه (الكرواصان) ماذا أصنع؟ المقامة تجر كاتبها إلى زمان آخر, فيحاول أن يجد له موطئ قدم في هذا العصر, لكني سأتبع هذا الداهية رحّال, حتى لو ركب الطائرة.
    {‏ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} إبراهيم: 41

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Nov 2011
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    1,276
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    أسلوب ناقد ،ساخر ،مضحك و قوي......
    أحسنت !
    رغم أنه في صغري كنت أحب عيد الأضحى أكثر, لما يقام بمناسبته من حفلات بوجلود و كرنفال "نظرة طفولية "!
    " الصدق ربيع القلب ..و زكاة النفس ..و ثمرة المروءة .. و شعاع الضمير الحي.. ومناط الجزاء الالهي (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ...) و إنَّ الضمائر الصحاح اصدق شهادة من الألسن الفصاح "
    -بتصرف-
    "حقُّ الواعِظ أن يتعظ ثمّ يعظ، ويبْصِر ثمّ يُبَصّر، ويهتدي ثم يَهدِي، ولا يكون دفترًا يُفيد ولا يستفيد، ومَسنًّا يحدُّ ولا يقطع، بل يكون كالشمس التي تُفيد القمرَ الضوء ولها أكثر مما تفيده"!
    -الراغب الأصفهاني رحمه الله-

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    May 2010
    المشاركات
    2,867
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    19

    افتراضي

    بارك الله فيك.
    عيد الأضحى من شعائر الإسلام, وهذه العادة الجاهلية البشعة لا مكان لها بين المسلمين, وحين يزول الجهل ستزول بالكلية.
    {‏ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} إبراهيم: 41

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. المقامة المصرية.
    بواسطة عساف في المنتدى قسم اللغة والشعر والأدب
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 01-09-2011, 01:45 AM
  2. المقامة الدمشقية
    بواسطة عساف في المنتدى قسم اللغة والشعر والأدب
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 07-03-2010, 07:19 AM
  3. المقامة الرمضانية
    بواسطة حازم في المنتدى قسم اللغة والشعر والأدب
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 09-03-2007, 12:20 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء