النتائج 1 إلى 12 من 12

الموضوع: مقالاتٌ مختارة

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Oct 2011
    المشاركات
    1,524
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    2

    افتراضي مقالاتٌ مختارة

    الحمد لله الذي شرف البشرية بالهدى والقرآن المبين، وأنزله تبيانا لكل شيء ورحمة للمؤمنين، جمع فيه الأصول والفروع وأصلح به الدنيا والدين، فاستمسك عبادُه بالعروة الوثقى رغم أنوف العَلمانيين، وأمر بالعدل وتوعد بالويل المطففين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، فإياه نعبد وإياه نستعين، وأن محمداً عبده ورسوله أكمل الخلق وأشرف المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين ومن تبعهم من عبادك الطاهرين.

    أما بعد :

    سلسلة أنقلها من المقالات المختارة، التي صادفتها عرضاً هنا وهناك، مما يتوافق ومقاصد المنتدى، فتكون من باب الانفتاح على إبداعات أهل الفضل في عالمنا العربي، خاصة وأن الصراع الإسلامي العلماني على أشده في هذه الأيام، ونحن في خضم هذه الثورات والحراكات الشعبية المباركة.

    وسأحط الرحال بالقارئ الكريم في بلاد المغرب الأقصى، نطالع سوياًّ ما جاد به يراع الكتّاب المغاربة في هذا الباب، من مقالات منثورة على صفحات الجرائد والمجلات، فتكون بذلك محفوظة في خزانة المنتدى لا يطويها النسيان، على أن يضيفها أهل الإشراف إلى فهرس المنتدى .

    والله الموفق .


    كيف تصبح العلمانية من عوامل الاستبداد؟
    محمد الراجي - أستاذ الفلسفة وعلوم التربية-.

    أواجه الأستاذ أحمد عصيد بحقيقة قام بقلبها رأسا على عقب. إنه بمقاله يمشي على رأسه بدل أن يمشي على قدميه. وأعتذر مسبقا عن هذا الوصف الذي اقتبسه من كارل ماركس في وصفه لفيلسوف الديالكتيك هيجل. وإنما أقصد أن ما قاله صحيح لو وضع العلمانية مكان الدين، كما سأبين للقارئ الكريم مستعملا في الغالب نفس عبارات مقالته.

    وقبل ذلك، لابد أن أسجل ثلاث ملاحظات قاعدية:

    أولا: من حيث المنهج الذي اعتمده عصيد، يتبنى بل يعيش فكريا في زمن عربي غير زماننا وإشكالية غير إشكالية الربيع العربي، وهي إشكالية النهضة العربية كما طُرحت في القرن التاسع عشر حيث كان النقاش الشهيرة آنذاك بين أحد رواد فكر النهضة الشيخ جمال الدين الأفغاني وأحد رواد فكر الاستعمار الفرنسي لمصرالمستشرق إرنيست رينان. الأول أي جمال الدين الأفغاني أسس لنظرية التوفيق بين الإسلام والحضارة الأوروبية من جهة منتوجها العلمي والديموقراطي الذي وصفه بالمنتوج الإنساني، على خلفية أن كل ما هو إيجابي في الحضارة الغربية "بضاعة ردت إلينا" إيمانا منه أن الحضارة الإسلامية لعبت دورا كبيرا في خروج الأوروبيين من عصر الظلمات إلى عصر الأنوار. والثاني رينان يبشر بضرورة الفصل بين الإسلام والدولة إذا أرادت الدول الاسلامية الالتحاق بالركب الحضاري، على خلفية نظرية ماكس فيبر الذي أرجع فضل ظهور الحضارة الأوروبية والتقدم العلمي إلى الأخلاق المسيحية البروتيستانتية. خلاصة استنتاجات رينان ‏عن الإسلام، في محاضرته الشهيرة «الإسلام والعلم» (1883) «أن كل من جال في الشرق أو في إفريقيا صُدم بالدائرة الحديدية التي تُغلق عقل المؤمن هناك، ما يجعله رافضاً ‏بالمطلق للعلوم، وغير قادر على الانفتاح على ما هو جديد» وأصدر الحكم على الإسلام ونظامه الاجتماعي انطلاقا من التجربة الأوروبية مع الدين الكنسي المعارض للعلم ودولته الكهنوتية القاتلة للحرية. قال رينان: "ليس أضرّ بالحريّة من نظام اجتماعي يسيطر فيه الدين سيطرة مطلقة على الحياة المدنية. ولم نر في الأزمنة المعاصرة إلا مثالين من هذا النظام أحدهما العالم الإسلامي والثاني الدولة البابوية السابقة. مع أنّ البابوية الزمنية لم تحكم إلا رقعة محدودة والإسلام سيطر على أجزاء شاسعة من الكرة الأرضية فرض فيها أشدّ التعاليم معارضة للرقي ومنها مبدأ قيام دولة على وحي مزعوم وتنظيم المجتمع بمقتضى اللاهوت". وهو نفسه الكلام الذي يكرره الحداثويون العرب واللاحقون بهم من الأمازيغ العلمانيين إلى اليوم، رغم المسافة الزمنية بينهم وبين رينان.

    ثانيا: من الناحية التاريخية، هناك حقيقة قفز عليها عصيد إلى الوراء، وهي أن الاستعمار قد انتصر لرؤية رينان بكل الوسائل العسكرية والمالية والإعلامية، وخلف وراءه بعد "الاستقلال" طبقة سياسية موالية له تحتكم على المستوى الواقعي إلى العلمانية وليس إلى الدين، في جميع الدول الإسلامية تقريبا، رغم الدساتير التي تنص على "إسلامية الدولة"، وتحتكم إليها بشكل متطرف في تركيا وتونس اللتين صرحتا بعلمانية الدولة في الدستور. هذه هي الحقيقة التاريخية التي قفز عليها الأستاذ عصيد إلى الوراء، فبقي يعيش وهم إشكالية قديمة حسمت لصالح العلمانية.

    ثالثا: من الناحية الواقعية، وكنتيجة لما سبق، يجد الناس اليوم الكثير من الحساسية تجاه الحداثة العلمانية وليس الدين لأنها من أسباب الإستبداد والتخلف. وواقع الشعوب العربية والإسلامية لا يمكن أن يرفع بخربشة قلم هذا أو ذاك، حيث ظلت تتخبط هذه الشعوب في وضعية الإستبداد السياسي والتخلف الإجتماعي والفكري التي لازمته منذ أزيد من قرن مع موجة حكم العلمانيين تابعي رينان وتابعي تابعيه إلى قيام ثورة الربيع العربي .

    إذن، مشروع الحداثيين العلمانيين هو العودة بإفراط إلى السلف الأوروبي الخالص، جوابا على الإشكال الرئيسي الذي حاول العقل العلماني الإجابة عليه هو : لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟ والحقيقة أنّه في الوقت الذي كان فيه الحكام، في عدد من الدول العربية الإسلامية، يحاولون تطبيق الحداثة العلمانية ، كانت هذه الدول تبتعد وتبتعد، على جميع المستويات، وتزداد الفوارق بينها وبين الدول المتقدمة. إنها العودة إلى السلف الأوروبي. وأي سلف؟ سلف القرون الثلاثة الماضية حيث المعاداة للدين في الحياة العامة! وأما اليوم فإن جميع سياسات الحكومات الأوروبية تقريبا هي سياسات الأحزاب الديموقراطية المسيحية التي تحتكم في برامجها إلى الانجيل البروتيستانتي أو الكاثوليكي، وبشكل مفضوح في الحملات الانتخابية لبوش وأوباما!

    وبعد، أتفق مع العلماني على "أن العائق الرئيسي الذي حال دون اقتباس المسلمين لأسباب التقدم من الدول الغربية هو ظروف الإستعمار التي جعلت العالم الإسلامي في وضعية الممانعة ضد قيم الغرب الديمقراطي، حيث كان النموذج الغربي مشخصا في وجدان المسلمين في الاحتلال والغزو والاضطهاد الاستعماري والاستغلال الرأسمالي للدول المستضعفة"، لكن مدعي الحداثة والعلمنية خانتهم ذاكرته فأصر على العودة، بعد الاستقلال، إلى الخصوصيات الأوروبية التاريخية باعتبارها منقذا وباعثا على النهضة المستقلة عن الدين الاسلامي، مستلهما أفكار رينان وصورته الذهنية التي احتفظ بها عن عصر النهضة الأوربية وعصر الظلام الأوروبي معا، ونسي التاريخ المظلم للحداثيين العلمانيين ومآسي استبدادهم على الشعوب العربية والاسلامية، حيث ظهر العلمانيون في لبنان بعد إسقاط الخلافة الاسلامية العثمانية سنة 1923، كما انبعثت الحداثة الاشتراكية في العراق وسوريا ومصر والجزائر واليمن وليبيا وحداثة الحكومات العلمانية المغربية اليمينية منها واليسارية وغيرها من البلدان الاسلامية. لقد ظهرت الحداثة العلمانية وتمكنت مدججة بكل الوسائل القمعية "الديموقراطية" التي ورثها الحداثيون من الاستعمار الديموقراطي. ولكن النتيجة للأسف كانت التخلف والاستبداد ، ليصبح كل مشروع الحداثيين مختزلا في التحكم والاستبداد ومحاربة الفضيلة وإشاعة الحرية الجنسية وقمع الحرية الفكرية وإغلاق دور القرآن وسجن آلاف من المتدينين..الخ.

    معنى الحداثة: لا أظن أحدا من المسلمين، في عصرنا، ينكر أهمية الحداثة في الحياة المعاصرة و دورها في حياة الأفراد المادية والشخصية بالدرجة الأولى، إذا كان معناها أسباب التقدم والرقي والازدهار. رغم ذلك لا تأثير، بل لا وجود لهذه الحداثة في المجتمعات العربية والإسلامية التي قطعت شأوا بعيدا في التخلف الإقتصادي والعلمي والتكنولوجي وحتى الفكري والفني والأدبي، رغم علمنة الدولة والمجتمع وإخراج الدين من المجال العام وحصره في أحسن الأحوال في الأحوال الشخصية. إذ لا نكاد نفحص أسباب التخلف والإستبداد في الدولة فحصا دقيقا حتى نجد أنفسنا في مواجهة قضايا وأفكار وسلوكات وذهنيات ذات صلة من قريب أو من بعيد بالعلمانية ، إما بشكل مباشر أو بشكل يمر عبر وسطائها ومثقفيها وأحزابها الذين يمارسون وصايتهم على المجتمع باعتبارهم أصحاب السلطة أو "مثقفي" الحداثة والديموقراطية، وهم في الشأن العام لا يومنون بالحلال والحرام ولا يعتبرون الثواب والأخلاق في السياسات العامة. الأمر الذي يؤكد ارتباط العلمانية بأوضاع الاستبداد التي تعاني منها الكثير من المجتمعات التي تشغل فيها العلمانية وظيفة عقيدة الدولة والنظام الاجتماعي المهيمن والسائد.

    إن المتأمل النزيه في هذا الموضوع سيصل بلا شك إلى تحديد العوامل التالية التي تبرز الأسباب العميقة لارتباط الاستبداد والتخلف عضويا باستعمال العلمانية في الحياة السياسية:

    1) استعمال السلطة للحداثة العلمانية كأحد وسائل التحكم والإخضاع، عبر إشاعة الفساد والانحلال.

    2) تحول العلمانية بسبب ارتباطها بالسلطة إلى نظام اجتماعي قهري يفرز بنيات راكدة، تنتج أزماتها التي تتفاقم وتتشعب وتغتني كل واحدة منها بالأخرى. ويتم حراسة هذه البنيات ومراقبتها من طرف مؤسسات الدولة السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية التي تصبح بشكل آلي مصنعا لإعادة إنتاج نفسها، بدل إحداث التغيير المنشود نحو التقدم والازدهار ، بل يصبح التغيير في منظور الخطاب السائد متمثلا في عملية إعادة إنتاج الموروث العلماني بقوالب جديدة وبنفس المضامين، ضدا على مصالح الشعوب وضمانا لمصالح السلطة ومصالح حلفائها الداخليين والخارجيين. تؤدّي هذه العملية حتما إلى تكريس التأخر الإجتماعي والفكري والأخلاقي وإلى شيوع ظواهر النفاق الإجتماعي والديموقراطية الإحتفالية السطحية وموضة "اسلاموفوبيا".

    3) ينتج عن العامل السابق البحث عن شرعنة الواقع الجاهلي المنحل من خلال المرجعية العلمانية وأفعال السلف الأوروبي، ويؤدي ذلك إلى تبرير، باسم الحداثة، كل مظاهر الجاهلية الأولى والبدائية كالإلحاد والإباحية والشذوذ الجنسي وأكل رمضان في الأماكن العامة. وبهذا يتم اغتيال المجتمع في قيمه وإغراقه بالتدريج في مستنقع الجاهلية والتخلف.

    4) تبادل الأدوار والخدمات بين السلطة وقوى التقليد والتبعية الممثلة في "مثقفي " الحداثة والتيارات العلمانية الحليفة، وهو ما يؤدّي إلى إحكام الوصاية على المجتمع الذي تطبق عليه كماشة العلمانية، ويتمّ ترويضه لصالح النسق الإستبدادي المهيمن.

    5) إضعاف الوعي الإسلامي الديمقراطي لدى الأفراد عبر دفعهم من خلال التعليم ووسائل الإعلام وكل القنوات التي تحتكرها السلطة، إلى اعتبار العلمانية نظاما شاملا ومفروضا على كل مناحي الحياة ، ونسقا ملزما للجميع (نظام بنعلي التونوسي نموذجا).

    الحقيقة التي تتضح مما سلف أنّ السبب الحقيقي لتشبث "المخزن" المغربي المتمثل في لوبي الفساد الذي يضرب دائما عرض الحائط الدستور بسلطاته العلمانية، هو الحيلولة دون التأسيس لحكم ديمقراطية راشد بمعنى أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، وضمان استمرارية النسق الاستبدادي القائم على التبعية واقتصاد الريع ونهب الثروات ونشر الفساد وتعميق التفاوت، وهو ما يعني أننا لم نتحرر بعد من الماضي الاستعماري الغاشم.
    التعديل الأخير تم 11-23-2011 الساعة 08:00 PM

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Oct 2011
    المشاركات
    1,524
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    2

    افتراضي حديث في الحداثة

    حديث في الحداثة
    الشيخ محمد الفزازي

    بسم الله الرحمن الرحيم

    لن أجعل من بحثي هذا بحثا تاريخيا فأطرح سيرة (شارل بودلير) الفرنسي (1821 / 1867) الذي يعتبر عند بعض الباحثين المبشر الأول للحداثة، لكن لا بأس أن أقول بأن (شارل بودلير) هذا دعا بكل قوة إلى التسيب الخلقي والتمرد الكلي على القيم ومعاقرة كل رذيلة بتلذذ سادي.

    كما لن أطرح سيرة مواطنه الفرنسي أيضا (غوستاف فلوبير 1821 - 1880 )

    ولا بأس أن أشير إلى رأس الحداثيين المدعو (أدونيس، علي أحمد سعيد ) من سورية أول داعية إلى الحداثة في العالم العربي.

    ( أدونيس، علي أحمد سعيد ) نصيري سوري ويعد المروج الأول لمذهب الحداثة في البلاد العربية، وقد كتب رسالته الجامعية التي تقدم بها لنيل درجة الدكتوراة في جامعة ( القديس يوسف) في لبنان بعنوان [الثابت والمتحول] رسالة دعا فيها إلى محاربة الله تعالى؟

    ومن بلادنا المغربية هناك من لا يزال ينسج على نفس المنوال كعبد الله العروي مثلا، وآخرون من دونه ممن لا فكر لهم ولا علم وإنما هم مقلدة كالببغاوات والقردة... جعلوا لأنفسهم تأطيرات جمعوية فراحوا يهذون بالطامات التي يجرحون بها مشاعرنا وكراماتنا من غير خجل ولا وجل، حتى إذا قال لهم قائل اتقوا الله رموه بالنفاق الاجتماعي... والإرهاب الفكري... وأشياء أخرى.

    ليس المقصود من هذا المقال هو الغوص في تاريخ (الحداثة) بشكلها التفصيلي لتسليط الضوء على أسباب ظهورها وكيفية انتشارها والمراحل التاريخية التي قطعتها حتى وصلت إلينا بغثها وسمينها، حتى ظنها بعضهم بحبوحة السعادة وواحة الرقي والتقدم والازدهار وعنوان التنوير والإبداع والتحرر من قيود الاستعباد والإرهاب الفكري... في إشارة إلى الإسلام وعلماء الإسلام في الجملة..

    إنما المقصود من هذا البحث المختصر هو التعريف بهذا الكائن (الحداثة) التي يرددها كثير من الناس عن علم وعن غير علم. وأنا أجزم أن الكثير من المغاربة الداعين إلى الحداثة لا يقصدون محاربة الله تعالى ولا محاربة دينه الإسلام. بل كم من الدعاة إلى هذه الحداثة يحافظون على صلواتهم ويؤدون واجباتهم الدينية بكل اعتزاز وافتخار ولا يدور في خلدهم طرفة عين أنهم يحاربون الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وإذن هؤلاء مثلي تماما... فأنا أيضا مسلم والحمد لله... وأنا من الدعاة إلى الحداثة. بل أمارسها يوميا باستعمال أرقى ما وصلت إليه التكنولوجيا المعاصرة: شبكة الإنترنيت، وما أدراك ما الشبكة.

    وهذا يعني أنني وكل المغاربة الذين يدينون بدين الحق مع كونهم حداثيين لا يفهمون الحداثة على طريقة أدونيس أو شارل بودلير ولا حتى العروي... غير أن هناك من بني جلدتنا من يدعو إلى الحداثة كما دعا إليها المتفسخون قديما وحديثا مثل حداثة محمد أركون الجزائري، والعراقي الماركسي عبد الوهاب البياتي.

    والشاعر الفلسطيني محمود درويش وهو عضو الحزب الشيوعي الإسرائيلي أثناء إقامته بفلسطين المحتله، ونصر أبو زيد الذي كفره علماء الأزهر وحكموا بتطليق زوجته بسبب دعوته للحداثة بكل تنكرها للإسلام والقيم السماوية... فما كان إلا أن فر وإياها إلى حيث يستقبل المرتدون عن دينهم استقبال الأبطال الفاتحين، مثله مثل سلمان رشدي وتسليمة نسرين... وآخرين.

    وإذن ما هي الحداثة في أصلها؟ وماذا نقبل منها وماذا نرد؟

    الحداثة في أصلها تعني التمرد على كل ما هو قديم، والإعراض عن كل القيم المتوارثة... ويدخل في هذا الدين والعقائد والعادات والأخلاق والشعر واللغة... وغير ذلك. من هنا عمد المبشرون الأوائل بالحداثة إلى التفسخ الخلقي ونشر الإباحية والدعوة إلى الفوضى الجنسية وتزيين التعاطي للخمور والمخدرات باعتبارها داعما قويا لكل إباحية وشذوذ...

    وتكلم من تكلم عن الحداثة في السياسة والحكم، والحداثة في الاقتصاد، وفي الزراعة والتجارة والتعليم... إلخ، كما تكلم غيرهم في الحداثة في جانبها المؤسستي والتنظيمي في الإدارة والحكم وفي الجانب العلمي التجريبي ولا سيما في مجالات استعمال الآلات والتقنيات والتكنولوجيا.

    ومن المعلوم أن اليسار في العالم العربي والإسلامي عموما جريا على سيرة اليسار الغربي الذي استطاع محاصرة الديانات في دور العبادة، لا تبرحها، هو من يرفع راية الحداثة أكثر من غيره، حتى إنه ليجعل منها برنامجه الانتخابي ومرجعيته الفكرية وأنها رمز الدولة العصرية وأنها ترمي إلى التعددية والانفتاح على العالم واحترام الرأي المخالف وحرية المرأة... دون أن يتطرق للتفاصيل التي تضعه في مواجهة الأمة غير المستعدة للتخلي عن تاريخها وتقاليدها فضلا عن دينها وقيمها ولغتها...

    ولئن كان هناك يساريون يدعون إلى الحداثة لكن ليس على أساس محاربة الإسلام والقيم واللغة ، وأن كل ما يقصدونه هو الحداثة في جانبها التقني والآلي والعلمي حتى يتم تحديث الدولة في مؤسساتها وعمرانها وبنياتها التحتية وفي تحديث جيشها وأمنها ومجالات البحث العلمي فيها واستعمال التكنولوجيا لصالح الإنسان ونفعه... وأن الحرية سواء للمرأة أم للرجل تنضبط بقيم الدين الحنيف إلخ فلا فرق بيننا _ أنا ومن على شاكلتي _ في هذا التوجه وبينهم. لذا لا ضير أن أعلن على رؤوس الأشهاد بأنه إذا كان هذا هو المقصود بالحداثة فأنا حداثي وألف مرة حداثي وإن كنت أعتقد أن هذه المسائل كلها لا تخرج عن مجالات التشريع الإسلامي، فبعضها منصوص عليها بالنص، وبعضها يدخل في المباح والمندوب، وبعضها يمكن اعتباره من المصالح المرسلة، وهكذا... لكن شخصيا لا يضيرني أن يقول شخص ما هو حداثي بهذا الاعتبار. والضير والضرر هو الالتزام الحرفي بالحداثة وفق ما دعا إليها من سميتهم آنفا ثم التهجم على المعتصمين بدينهم وقيمهم ولغتهم بأنهم ظلاميون ومتخلفون ورجعيون ومتزمتون... إلى آخر ما في جعبتهم من قاموس التعيير وخسيس التعبير.

    إن ما أحب الإشارة إليه هو أن المسلم لم يكن في يوم من الأيام خصما أو حاجزا أمام تحديث المجتمع في هيكلته الإدارية والتنظيمية... ولا في عصرنة المجتمع بالتقنيات والتكنولوجيا ولا ما يرد عليه من الغرب والشرق من صناعات وأدوات وأجهزة وغير ذلك مما وفر على الناس الطاقات والأوقات وكثيرا من الأتعاب والمجهودات. بل إن المسلم الحق يعتبر ذلك من ضروريات العصر ومتطلبات الحياة الكريمة. وها هم المتدينون والملتزمون بدينهم أو من نسميهم بالإسلاميين أولئك الذين يوصفون ظلما وبغيا بالظلاميين... لا يختلفون في شيء في تسلقهم الدرجات العلى في مجالات العلم والظفر بالشواهد العليا في كل الفنون العلمية من طب وصيدلة وهندسة وتخصصات علمية مختلفة... كما لا يختلفون في شيء عن استعمال التقنيات العصرية في حياتهم اليومية... مع من ينعتون أنفسهم بالحداثيين... بل ربما وجدت من (الإسلاميين) من لا يجارى في هذا المجال.
    تبقى الحداثة في الدين والقيم والأخلاق واللغة على فهم ملاحدة فرنسا وروسيا وغيرهم منذ منتصف القرن التاسع عشر فما بعده لا قيمة لها عندنا نحن أهل القبلة مهما نعتنا المخالف بالنعوت القبيحة ولن يزيدنا ذلك إلا تشبثا بديننا واعتصاما بهويتنا وإصرارا على عرضنا وكرامتنا.

    والجدير بالذكر أن الحداثة فيما يرجع إلى عمقها الفلسفي والتاريخي وإلى الأهداف الحقيقية المتوخاة من اعتناقها ونشرها تبقى مهمة النخبة الضيقة ولا سبيل إلى تعميم ذلك بين أفراد الشعب الذي له من الحصانة الدينية والإيمانية ما يجعل الحداثي المنحل يفكر ألف مرة قبل أن يعرض تصوره الفلسفي والتاريخي عرضا واضحا على الشعوب... وإن كان للأسف قد تسرب إلى بعضنا من مظاهر الإباحية والمعصية ما قد تسرب، لكن ليس على أساس اعتناق مذهب (أدونيس) أو غيره، ولكن ضعفا أمام شهوة أو خضوعا لنزوة... مع استغفار الله تعالى... وكم هناك من فرق بين من يعاقر خمرا أو دعارة أو مجونا وهو موقن بمعصيته لربه لا يستنكف بين حين وآخر أن يطلب التوبة والغفران من خالقه... ومن يقترف ذلك باسم الحداثة بكل فخر واعتزاز... كما نرى هذه الأيام من أناس جعلوا من مؤخرتهم برنامجهم السياسي وعنوانا لحداثتهم القذرة. وهذا عبد الحميد أمين أحد رموز حركة 20 فبراير الحداثي جدا يقول بالحرف في شريط مصور له نشر على جريدة هسبريس الإلكترونية قبل أيام: [أين هو الضرر بالنسبة لشاب يمارس الجنس مع شابة ؟ لا نرى الضرر في ذلك.] (انظر ردي عليه في هسبريس وعلى موقعي الخاص وصفحتي على الفايسبوك).

    لماذا جعلنا الحداثة بضاعة يسارية في مقابل الجمود والمحافظة (وهذا في أحسن الأحوال) بضاعة إسلامية؟ حتى إذا ما قال أحدهم هذا حداثي فهم على الفور أن المقصود هو اليساري؟ إنها مغالطة.

    إذن هناك حداثة وحداثة، فعن أي حداثة نتحدث؟

    أما حداثة الإطاحة بكل ما هو قديم، والانقلاب على كل ما هو تاريخي من دين وقيم وأخلاق وأنماط حياة وشعر وأدب ولغة... وحداثة بعثة الفوضى الجنسية ونشر الإباحية والشذوذ الجنسي وتعاطي الخمور والمخدرات... وحداثة استغلال المرأة في أنوثتها وجمالها واستغلال حسنها لتكديس الأموال على حسابها... فهذه حداثة سلبية وحضارة إبليسية لا تستهوينا ولا نمكن لها في مجتمعنا إلا في غفلة من أمرنا، حداثة من هذا القبيل مرفوضة وموضوعة تحت أقدامنا ولا كرامة.

    وأما حداثة تطوير المجتمع والسعي إلى عصرنته بتمكينه من استعمال كافة التقنيات والتكنولوجيا... لتزدهر فلاحته، وينمو اقتصاده، ويتكاثر عمرانه وتتحسن معيشته، في السكن والتعليم والإعلام والتغطية الصحية وبناء البنية التحتية...إلخ، فهذه حداثة نحن أحق الناس بها وأهلها، دعوة وممارسة، لا يزايد علينا فيها أحد.

    وهذا ما يجب أن يعلمه الناس بما فيهم الحداثيون أنفسهم ليعلموا فيما إذا كان فهمنا لهذه الحداثة فهما موحدا بيننا وبينهم أم لا.

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Oct 2011
    المشاركات
    1,524
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    2

    افتراضي ٱلحداثة" موضوعًا للمُساءَلة من قِبل "ٱلإسلام"!

    ٱلحداثة" موضوعًا للمُساءَلة من قِبل "ٱلإسلام"!
    الأستاذ عبد الجليل الكور

    من المعروف أنَّ المُسلِمَ يَبتدئ أفعالَه بالبسملة («بـﭑسم ٱللّهِ، ٱلرَّحمان ٱلرَّحيم») في الوقت نفسه الذي يبدأ آخرُون - من غير المُسلِمين أو من المُسلمين الغافِلين- كُلَّ ما يَأْتُونَه من أفعالٍ بِذِكْرِ أسمائهم أو تأكيد أَنَاهُم كأنّ نِسبةَ الأفعال إلى مُكتسبِها يُعبِّر حقيقةً عن جَريانها السببيّ على يَدَيْه و"بـﭑسمه" وليس مجرد عادةٍ يَكفُر النّاسُ بواسطتها فضلَ مُنْطِقهم الذي جعل "ٱللُّغةَ" تَسْتَعْمِلُهم من حيث إنَّهم يَظنُّون أنَّهم لها فاعِلُون!

    من هنا تَبْدأُ مُساءَلةُ "ٱلإسلام" لـ"ٱلحداثة". فأنتَ الذي تَجِدُ نفسَكـ كما لو كُنتَ "ٱلفاعلَ ٱلحقيقيَّ" لِكُلّ ما يَصدُر عنكـ، إنَّكـ ما إِنْ تُحقِّقْ في أمر "ذاتِكـ" بالنِّسبة إلى شُروط ٱلوجود وٱلفعل في هذا ٱلعالَم حتى تَقِفَ على أُمِّ نقائصكـ: ما أنتَ سوى ٱلتّجلِّي الظاهر لـ"بِنيَةٍ فاعِلةٍ" تُحدَّدُ، بواسطة "ٱلعِلْم"، في ما يُسَمَّى تارةً «نسق ٱلتّفاعُلات بين ٱلقُوى ٱلكُبرى وٱلصغرى في ٱلكون» (أو "نِظام ٱلعالَم") ؛ وتارةً أخرى في "ٱلبنيات ٱلتّاريخيّة وٱلِاجتماعيّة" (أو، بإيجاز، في "ٱلمُجتمع" و"ٱلتّاريخ")! تُرَى، ما "نِظام ٱلكون" وما "نظام ٱلمُجتمع/ٱلتّاريخ" الذي بِـﭑسم أحدهما أو بـﭑسمهما كِلَيْهما تَفعلُ وتَتحدَّث طَوْعًا أو كَرْهًا؟

    يَهْدِينا "ٱلعِلْمُ ٱلحديث" (بل "ٱلعلم ٱلحَدَاثِيّ" في ظنِّ بعضهم) إلى أنّ الأمر يَتعلّق بـ«نَسَقٍ من ٱلبِنْيات غير ٱلواعية ٱلمُحَدِّدة لإمكان ٱلفعل ٱلإنسانيّ في هذا ٱلعالَم كجُملةٍ من ٱلعَلاقات المَشروطة». فبِـﭑسْمِ هذه "ٱلبِنْيات" لا تَفْتأُ تَفعلُ وتتكلّمُ أنت الذي تُنْكِرُ على المُسْلِم تَسليمَه ﭐبتداءً بأن كُلَّ ما كان ويكون في هذا العالَم إنّما هو «بِـﭑسْمِ ٱلكائنِ ٱلأَكْمَلِ ٱلمُتَعالِي»، أيْ « بِـﭑسم ٱللّهِ الذي لا إلَاهَ إِلَّا هُو»، وليس « بِـﭑسْمِ نَسقٍ من ٱلبنيات غير ٱلواعية ٱلتي تُمَكِّنُكَـ - هكذا!- من ٱلفعل في هذا ٱلعالَم» ؛ إِلَّا أَنْ يكونَ هذا هو "ٱلِاسم ٱلآخر" الذي يَرتضيه "ٱلعِلمُ" للتّعبير عن "ٱللّه" عز وجَلَّ! فَأَيُّ "عقل" أو "تعقيل" يَستطيعُ أنْ يُقِيمَ المُفاضلَة الحَداثِيّةَ بين إيمانٍ بـ«كائنٍ مُطلَقِ ٱلوُجود وٱلقُدرة وٱلإرادة وٱلعلم» وإيمان بـ«بِنَاءٍ فِكْرِيٍّ يَجعلُ كل ٱلفعل في هذا العالَم مَعْلُولًا لعَلاقاتٍ غير واعية وغير مُتَعَيِّنة»؟! وكيف يجب، على مُستوى "ٱلحداثة"، أنْ تُضْمَنَ المَعْقُوليّةُ فقط لهذا ٱلإيمانِ ٱلأخير؟!

    إنّ الذي يَغِيب عن إدراكـ كثيرين أو يُتجاهَلُ عَمْدًا إنّما هو الأصلُ ٱلإيمانيُّ في كل ما يُنْسَب من تَفَرُّدٍ وسُمُوٍّ إلى "ٱلحداثة". فأهَمُّ ما يُقَوِّمُ "ٱلحداثةَ" يَتمثل في أنَّ "ٱلعَقْل"، كَكُلِّيٍّ بشريٍّ، حَقُّهُ أَنْ "يُفَعَّلَ" وَ"يُحَكَّمَ". فهل يُقْبَلُ "ٱلعقل" من لدن الإنسان الحَدَاثي من دُونِ إيمان؟ كيف يُمْكِنُكـ أنْ تُصَدِّقَ "ٱلحداثةَ" (وقِوَامها "ٱلعقل") من دون أنْ "تُؤْمِنَ" (ولو بِإِيمانٍ خَفِيٍّ في نفسكـ يَستعصي ظهورُه وإظهارُه على وعيكـ نفسه) بـ"قيمة ٱلعقل" في ذاته؟ فإِنْ أنتَ آمَنْتَ أو كُنْتَ مُؤمنًا بـ"ٱلعقل"، ماذا يُضِيرُكـ أنْ تَتَفَكَّر في وضعِ غَيْركـ مِمَّنْ يُصَرِّحُ بإيمانه بأصلٍ آخرَ يَرى فيه الكِفايةَ في تأسيس كل ما هو ذُو قيمةٍ في عالَم البشر؟

    ومن ثَمّ، فإنَّ إيمانَ المُسْلِم باللَّه لا يُمكنُ أنْ يَجعلَه "غَيْرَ حَدَاثِيٍّ" أو مُعارِضًا لـ"ٱلحداثة" كما يَتوهَّم كثيرٌ من "ٱلمُتحادِثِين" الذين يَبْدُون مُتَحَفِّزِينَ لِمُساءَلةِ ﭐعتقاداتِ غَيْرِهم ويُعْرِضُون عن التّساؤُل عن أساس ﭐعتقاداتِهم نفسِها! وإِلَّا، فإنَّ ٱعتمادَ الحداثيِّ على "ٱلعقل" يَجعلُه "مُؤمنًا بأصلٍ" تمامًا كما يُؤمِن المُسلمُ بأصل، وبالتّالي فهو "قَدَامِيٌّ" و"مَاضَوِيٌّ" على النّحو نفسه الذي يُعدّ به المُسْلِم "قَدَامِيًّا" و"ماضويًّا" في نظر أدعياء "ٱلحداثة"!

    وبهذا تَعْلَمُ أنّ مُنَاهَضةَ "ٱلأصل ٱلإيمانيّ" في ذاته لا يُعْطِي "ٱلحداثةَ" أيَّ ﭐمتيازٍ في مُساءَلتها إيمانَ المُسلم بِرَبِّه أصلا لكل ما سواه، بل بالعكس إنّ ٱلِامتيازَ كُلَّه حاصِلٌ للمُسلم في مُساءَلَتِهِ "ٱلحداثةَ" فيما تُخْفِي كَوْنَهُ أَصْلًا إيمانيًّا وتَبْنِي عليه، رغم ذلكـ، أفضليتَها تُجاه "ٱلإسلام"!

    ذلكـ بأنَّ "ٱلإيمانَ ٱلحَدَاثِيَّ" بـ"ٱلعقل" يَحتاجُ أكثر من الإيمان الإسلاميّ باللَّه إلى الأصل المُقَوِّم، إذْ كيف تَستطيع أنْ تكتفي بالإيمان بـ"ٱلعقل" أصلًا في التّوجيه إلى العمل من دون الإيمان بـﭑلصَّلاح الكُلِّيِّ للأمر أو ٱلإلزام العقلي؟ وهل يُمكنُكَـ أنْ تُؤمن بإِمكانِ الأمر العقليّ من دون أنْ تُقِرَّ، في الوقت نفسه، بالأصل الدّينيّ لِمِثْل هذا الإيمان؟! ومَتَى كان يُقْبَلُ الأمْرُ أو الإلزامُ من دون قَبُول معنى "ٱلخُلُق" أو "ٱلدِّين" كأصلٍ للإلزام، أصل مُتَجَذِّرٍ ﭐجتماعيًّا وتداوُلِيًّا؟! إنّكـ لَتَرَى، شيئًا فشيئًا، أنَّ المُساءَلة فِعْلٌ يَحِقُّ بِكُلِّ جدارةٍ للمُسلِم أنْ يُمَارِسَهُ على "ٱلحداثةِ"، فلا يبقى - إذًا- حِكْرًا لها ومَفْعُولُهُ أو موضوعُه دائمًا وبامتيازٍ "ٱلإسلام"!

    وأَكثر من ذالكـ، فليس من المُسَلَّم أبدًا أنْ تكون "ٱلحداثةُ" مَقصورةً فقط على "ٱلواقع ٱلغربيّ"، لأنَّ المُفْتَرض في "ٱلحداثة" أنْ تكون سَيْرورةً عالميّةً يَدخلُ فيها الفعل البشريّ المُتعلق بكُلِّ "ٱلعصر ٱلحديث". ولهذا، فإنّ جِمَاع الإنتاج البشريّ منذ القرن السابع عشر على مستوى الكرة الأرضيّة كُلِّها يُعَدُّ "حديثًا" أو "حَداثيًّا" بهذا القدر أو ذاكـ، من حيث إنّه يَخضع لشروط الإنتاج في العصر الحديث التي تَتحدَّد في ٱلِامتداد العالَميّ للاقتصاد، وﭐزدياد ﭐنفكاكـ الإنسان من رِبْقَة العبوديّة، وتنامي التّرشيد في التّنظيم والتّدبير ؛ مِمَّا يَجعلُ "ٱلحداثةَ" تتعارض، على الأصحّ، مع "ٱلجَداثَة" كاجْتِرَارٍ لِقِيَمٍ تُراثيّةٍ مَيِّتَةٍ وﭐستمرارٍ في تقليد السّلف وعدم تحصيل وﭐستعمال وسائل "ٱلإِحْدَاث" المُسْتَقِّل. لَكنَّها لا تتنافى مع "ﭐستحياء ٱلتُّراث" و"ﭐستلهام ٱلماضي"، لأنّ هذا هو الأصل في قيام "ٱلحداثة" الغربيّة نفسها. إِذًا، فلا "ٱلإسلامُ" يُعَدُّ بالتّحديد "جَدَاثَةً"، ولا "ٱلحداثة" خِلْوٌ من كل "آثار ٱلماضي" و"بقايا ٱلتُّراث"!
    غَيْرَ أَنَّ ما يجعل "ٱلإسلامَ" وعَالَمَه مَقْصِدًا للطّالِب والطّامِع، ومَثارًا للمُتسائِل والباحث، إنّما كَوْنُه يُعْرَضُ (ويُفْرَضُ) في معظم الأحيان - من قِبَل مُحْتَرِفِي الخطاب الغربيِّين والمُتَغَرِّبِين- كخَصْمٍ عَنِيدٍ لـ"ٱلحداثة" (وهي تُعَدُّ بـﭑلتّحديد، في ظنِّهم، "غَربِيَّةً" و"مُتَغَرِّبَةً" مَعًا)، وكَوْنُه يُبْعَدُ ويُسْتَبْعَدُ كَنِدٍّ كُفُؤٍ أو مُفْتَرَضٍ لها. فهل هناكـ نوع من ٱلِاستعداد المُعْطَى والمَوْقُوف حَصْرًا لِلإِنسان الغربيّ ("اليُوناني/الرُّوماني" و"اليهوديّ/النَّصْرَانِيِّ") يَجعلُه بالأصالةِ مُبْدِعَ "ٱلعَقْل"، المُتَبَحِّرَ في "ٱلعِلْم"، المُتَفَنِّنَ في "ٱلتِّقَانَة"، عَاشِقَ "ٱلحريّة"، بانِيَ "ٱلسِّلْم"، رَاعِيَ "ٱلعدل" والماضي في "ٱلتّقدُّم" من دون كل العالَمِين؟ وبـﭑلعكس، هل ثَمَّةَ ضَرْبٌ من القَدَر الطبيعيّ الذِي يَحْكُم حصرًا طِبَاعَ الإنسان "ٱلعربيّ-ٱلمُسْلِم" فيَجعله أسيرَ "ٱلخُرافة"، هَائِمًا في أودية "ٱلشِّعر"، مَهْوُوسًا بـ"ﭐلتقاليد"، مُتَيَّمًا بـ"ﭐلفوضى" و"ٱلتَّسَيُّب"، حريصًا على "ٱلتّسلُّط" و"ٱلِاستبداد"؟ وكيف يكون "ٱلإسلامُ" - بما هو بالتّحديد، كما يَعتقد "ٱلمُتحادِثون"، نقيض "ٱلحَداثة" ما دام لم يَقبَلْ المصيرَ التّحديثيّ للدِّين كما قَبِلَتْهُ "ٱلنَّصْرَانيّة/ٱليهوديّة" من قَبْلُ- شَدِيدَ ٱلِامتناع عن مُقتضيات "ٱلتّحديث" ومُثِيرًا لِلاهتمامِ إلى الحدِّ المعروف، إنْ لم يَكُنْ يُسَائِلُ بعُمْقٍ "ٱلمشروعَ ٱلحداثِيَّ" في أُصوله كما في أبعاده ومآلاتِه؟

    من اللافِت أنّ "ٱلإسلام" صار يبدو في العالَم المُعاصر كما لو أنّه لم يُوجَدْ إِلَّا لِيَكُون مُمَثِّلًا لِجِماعِ صِفاتِ النّقيض الذي يجب، في جميع الأحوال، تَفاديه وﭐستحضارُه فقط كَشاهِدٍ يَصْلُح لِلتَّحْذيرِ منه! وقد يكون النّظرُ إلى "ٱلإسلام" على هذا النّحو عاديًّا جِدًّا ما دام يأتي من قِبَل الغربِيِّين المُتَشبِّعِين بمَفاخر "ٱلحداثة" وأمجادها. لكنْ أَنْ يُماثِلَهُ نَظَرُ المُتَغرِّبِينَ من المُسلمين وأبنائهم، وأنْ يَصيرَ في الغالِب نظرًا أَشَدَّ ﭐنتقادًا وﭐنتقاصًا لِـ"ٱلإسلام"، فَأَمْرٌ يَدُلُّ في الحقيقة على أنَّ صفة النّقيض المُسْنَدَةَ إليه ليس فيها قَصْدُ الوصف وإنّما يُرادُ بها، في العُمق، الوَصْمُ الأَقْوَى: فهذا "ٱلإسلام" القُرُونِيُّ، المُمْتَدُّ في الأرض، والمُهَيْمِنُ على الجماهير عَامِّيِّها وخَاصِّيِّها، يُعَدُّ في الواقع عَقَبَةً كَأْدَاءَ أمام مشروع "ٱلحداثة" بما هو مشروعٌ تَنْويريٌّ-تَعْقِيليٌّ وتحريريٌّ-تَحديثيٌّ (وحَاشَا أن يكون، في زعمهم، مشروعًا ﭐستيطانيًّا وﭐستغلالِيًّا!). ولِهذا فإنّ "ٱلإسلامَ"، بصفته كذالكـ، ليس سوى «مَنَّاع لِلْخَيْرِ، مُعتدٍ، أَثِيم»، إِذْ هل هناكـ ما هو أَشَدُّ شرًّا وإِثْمًا من مَنْعِ نَشْر وﭐنْتِشار الخَيْرات القادمة من "ٱلغرب" وحِرْمان الشعوب المُسَمَّاة "إسلامِيَّةً" من ٱلِاستفادة منها؟!

    وهكذا يُمْكِنُكَـ أنْ تَتصوَّرَ حَجْمَ الآثارِ التي يُمكنُ أنْ تَتَرَتَّبَ على المُمَاثَلة بين "ٱلإسلام" و"ٱلتّخلُّف" (عن مَوْكِب "ٱلحداثة"). فَسُرْعانَ ما يُنْتَقَلُ إلى المُمَاثَلةِ الأُخْرَى التي يكون فيها "ٱلإسلامُ" عَدُوَّ "ٱلتقدُّم" و، من ثَمّ، عَدُوَّ "ٱلإِنسانيّة". وهل هناكـ نتيجةٌ منطقيّةٌ أكثرُ من هذه لذالكـ النّوع من التّناوُل الذي غَلَبَ بين المُهْتَمِّينَ والباحثينَ والصِّحَافِيِّينَ، الغربيِّين والمُتغرِّبِين، والذي لا يظهر فيه "ٱلإسلامُ" سوى بصفة الشّاهدِ السَّلْبِيِّ لـ"ٱلحَداثة" الغربيّة والمُتغرِّبة؟! وبـﭑلتالي، ليس من الغريب في شيء أنْ يَتحوَّل "ٱلإسلامُ" بـﭑلنِّسبة إلى مُعْظَم الغربيِّين، وعند كثير من المُتغرِّبين، إلى خَصْمٍ مُتَّقًى من كل ناحية، وعَدُوٍّ مُحارَبٍ بكل ثمن!

    إنّ الكيفيّاتِ التي يُتَناوَلُ بها "ٱلإِسلامُ" مُتعدِّدةٌ ومُختلفةٌ ليس فقط لِتَعدُّد وﭐختلاف الأهداف المُتَوخَّاةِ من كُلِّ تَناوُلٍ، ولكنْ أيضا، وبـﭑلخصوص، بـﭑلنِّسبة إلى الجوانب السَّلْبِيَّة التي يُشَدِّدُها التَّناوُل ٱلِاتِّهَامِيُّ الذي يَبقى المُثِيرَ أو المُسْتَثِيرَ الأَقوى لِكثِيرٍ من الأعمال المُتعرِّضة لِـ"ٱلإسلام". وإِنَّ من أشد العوامل تعزيزًا لهذا التّناوُل مُواجَهة بعض المُسلِمين له بنوع من ٱلِاستماتة في دفع تُهَمِه التي تزداد ﭐستحكامًا وٱلتصاقًا كُلَّما ﭐزداد دفعُها، لأنّها في واقع الأمر ضَرْبٌ من الكائنات التي لا تَستطيعُ أنْ تَستمِرَّ في الوُجود إلَّا بِقَدْرِ ما تُدْفَعُ وتُنْفَى ؛ في حِينٍ أنّ السَّيْرَ الطبيعيَّ لِلأُمور يَقتضي تركَهَا تَأْكُلُ ذَاتَها أو تَتَّخِذُ حَيِّزًا في نُفُوس وأذهان من لا يَضْمَنُونَ وُجُودَهم نفسَه إِلَّا بإنتاج وإعادة إنتاج مِثْل تلكـ ٱلتُّهَمِ الممجوجة والشُّبَه المَكْرُورة!

    لذالكـ، ففي مُواجَهة المُساءَلة ٱلِاتِّهاميّة التي تَنْصبُّ على أبعاد القوة والمُقاوَمة وٱلِامتداد في "ٱلإسلام" مُشَدِّدَةً جوانبَ التّهديد والخطر ومُبْرزةً إمكانات العداء ووقائع الرّفض، ما فَتِئَت تتبلور المُحاولاتُ ٱلِاختزاليّةُ والتّبسيطيّةُ، حيث تُصبح "ٱلشّريعة" تعبيرًا عن حاجات ظرفيّة لمجتمع قَبَليّ أو، في أحسن الأحوال، مجرد قانون "وضعيّ" قديم ؛ ويَصيرُ "ٱلأمرُ بالمعروف والنّهيُ عن ٱلمنكر" وصايةً دينيّةً أو تفتيشًا كَنَسيًّا من قِبَل رجال الدِّين ؛ وتَتحوَّلُ "ٱلشُّورى" إلى آليّة لتشريع ﭐلِاستبداد ؛ ولا يَعُودُ "ٱلجهادُ" سِوَى دِفَاعٍ عن النّفس أو ﭐسترهاب سياسيّ ؛ ويُنْظَرُ إلى "ٱلدّعوة إلى ٱللّـه" كـﭑحتكار لِلإسلام أو تعبير أُحاديٍّ عن ٱلحَقِّ ؛ وتُعتبَرُ مُناهَضةُ الظُلْم والعُدوان "إرهابًا" خَوَارِجيّا أو تَعصبًّا أعمى. وبهذا الصدد، قد لا يَعْدَمُ المرءُ وُجُودَ نوع من الكتابات التي تكاد تُفْرِغ "ٱلإسلام" من أهمِّ ما فيه ولا تحتفظ منه إلا بجوانب "ٱلمُسالَمة" و"ٱلوَدَاعة" و"ٱلسَّمَاحة"، بل لا يَتورَّع أصحابُها عن السُّكُوت التامِّ عن بعض أحكام "ٱلشّريعة" والذّهاب إلى حَدِّ ﭐستبعاد بعض "ٱلأُصول" تمامًا ؛ وكل ذالكـ من أجل التّطابُق ٱلِامتثاليّ وٱلِانتهازيّ مع تَوَهُّماتِ خُصومه أو مَصالِح أدعيائه.

    ونجِدُ، من جهةٍ أخرى، أنّ الذين يَقَعُونَ تحت وطأة "ٱلنُّزوع ﭐلنّظَريّ" يَأْخُذون في الصَّوْغِ الفِكْرَانِيِّ لِلإسلامِ بتخريجه على شكلِ أنْظارٍ مُجرّدةٍ وأفكارٍ مُتَّسِقة تَغِيبُ عنها تَرَدُّدَاتُ العملِ وتَنَاقُضَاتُ المُمارَسةِ. فَلا يَعُودُ الأمرُ مُتعلقًا بـ"ٱلإسلام/ٱلدِّين" الذي يَشمَلُ مجموعَ أفعال المُسلمِ ٱلِاعتقاديّةِ وٱلمُعَامَلِيَّةِ على أساس أنّها أفعالٌ تَعَبُّديّةٌ وخُلُقِيَّةٌ وَفْقَ أُصول وأحكام "ٱلشريعة"، وإنّما يَصير فقط "ٱلإسلام/ٱلمِثال" كنَسَقٍ من الفِكَرِ المُجرّدة التي تَدُلُّ على النّظر الإِنسانيّ في عُمْقِه وﭐتِّساعه وتحليقه، والتي لا تَقتضِي في عُمُومها أيَّ تَوجيهٍ للسُّلوكـ أو ٱلتزامٍ خُلُقيّ. ومثل هذا "ٱلإسلام" النَّظَرَانيّ أو الفِكْرَانيّ لا يعدو أنْ يَكون ﭐشتغالا فنّيّا ولَهْوا ﭐحْتِفَاليّا بصورة "ﭐلإسلام/ﭐلدِّين" في حُدود ألعاب هذا العالَم وحده. وإنّ هذا "ٱلإسلام" لهو الأَجْدَرُ بأنْ يُسَمَّى "عَلْمانِيًّا"، لأنّه ﭐنشغالٌ لَاهٍ بهذا "ٱلعالَم" بما هو "عَلْمٌ/أَثَرٌ" قَائِمٌ بِذاتِه.

    أمّا الذين يَرَوْنَ أنَّ التّغييرَ في هذا ٱلعالَم لا يَكُونُ إلَّا تاريخيًّا وسياسيًّا، فيَذْهبُون في تأريخ و/أو تَسْيِيسِ "ٱلإسلامِ" كُلَّ مَذْهَبٍ، حيث يَجْعَلُونهُ نِتَاجًا تاريخيًّا لِشُروطٍ مُحدَّدةٍ في المكان والزّمان. ومن ثَمّ، فهو عقيدةٌ أو دعوةٌ ذاتُ مقاصدَ سياسيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مَحْكومةٍ تاريخيًّا بِمَنطقِ الصراعِ المَصلحِيِّ بين أحزابٍ وعَصَبِيَّاتٍ. وفي هذا المنظور، يَصْعُبُ أنْ يكون "ٱلإسلامُ" شيئًا آخرَ غَيْرَ عَامِلٍ ثقافيٍّ ثَبَتَ تاريخيًّا أنَّ له القدرةَ على ﭐسْتِنْفَارِ الحُشُودِ العاميّة وقيادتها. وكُلُّ "ٱلطاقة ٱلرُّوحيّة" التي يُمْكِنُ أن يُمَثِّلَها "ٱلإسلامُ/ٱلدِّين" لا تُحَدَّدُ إلَّا من جهة كون تاريخ المجتمعات الإسلاميّة، قديمًا وحديثًا، قد أثبت نجاعتَه كعامل سياسيّ.

    حقًّا، إنّ "ٱلإسلام" لا يُمْكِنُه، في الواقع الفعليّ، إلَّا أنْ يكون تاريخيًّا وسياسيًّا معًا، لأنَّهُ يُوجد بالضرورة ضمن هذا العالَم حيث يَتِمُّ الفعلُ البشريُّ تَدَافُعًا وتَنَازُعًا بواسطةِ خُطَطٍ وَفْقَ شُرُوطٍ ﭐجتماعيّةٍ وتاريخيّة مُحَدَّدةٍ. غير أنَّ تأريخَ وتَسْيِيسَ "ٱلإسلَامِ" على ذالكـ النّحو لا يَستطيعُ أنْ يُفَسِّرَ "ٱلتَّعَالِيَ ٱلرُّوحيَّ" فيه الذي يجعله يَتجاوزُ، في واقع التّجرِبة، المُحَدِّدَاتِ العاجلةَ المُتعلّقةَ بضروراتِ "ٱلتّاريخِ" ورِهاناتِ "ٱلسياسةِ" نحو المَطالِبِ الآجلةِ لِلحياةِ الآخِرةِ. ومن هُنا، فإنّه لا يَصِحُّ ٱلِاستسلام بِكُلِّ سُهولةٍ للمنظور الذي لا يُرِيدُ أنْ يَرَى في "ٱلإسلامِ" سِوَى "ﭐنعكاسٍ ثقافيٍّ" لِشُروطٍ تاريخيَّةٍ وسياسيّةٍ مُعَيَّنَةٍ.

    إنّ كَوْنَ "ٱلإسلام" يُعَاشُ ضِمْنَ الشُّرُوطِ الواقعيّةِ لهذا العالَمِ يُوجِبُ على كُلِّ مَنْ يُرِيدُ أنْ يَتناولَهُ أنْ يَسعى، ما وَسِعَهُ الأمرُ، إلى أنْ يكون على بَيِّنَةٍ مِمَّا يَفْرِضُهُ عليه ٱلِانغِمَاسُ الطبيعيُّ والبديهيُّ في مجاله الخاص من تَحْرِيفاتٍ وتَضليلاتٍ. وهذا ما لا يَتأَتَّى إلَّا على أساسِ مُمارَسةٍ عِلْمِيَّةٍ تَعْرِفُ كيف تتجاوز ٱلِاستسهالَ السّاذجَ لِلْمُتَرسِّلِينَ، ولا تَكتفي بـﭑلِانزواء في "ٱلقَفَصِ ٱلحديديِّ" لِمَنْهجيّةٍ مَوضُوعَانِيَّةٍ لا تُلْقِي بَالًا إلى تَجليّاتِ "ٱلذّاتيّة" فتَكونُ، من ثَمّ، مَيَّالَةً إلى ﭐحتقارِ ٱلِانعكاسيَّةِ النقديّة وما يُمْكِنُها أنْ تُسْهِمَ به في تسديدِ العملِ المعرفيّ والمنهجيّ بما هو عَمَلٌ يَبْتنِيه "فاعلٌ ٱجتماعيّ" مشروط وليس محض إنجاز تَصطنعه "ذاتٌ عارِفةٌ" مُقتدرِةٌ.

    فما يَلْزَمُ، إذًا، تَوْضِيعُهُ ليس هو فقط "ٱلإسلام/ٱلتّديُّن" بِـﭑلنسبةِ إلى شُرُوطِهِ الموضوعيَّةِ، وإنّما أيضا مَجموعُ العلاقاتِ التي تَرْبِطُنا به أو نُقِيمُها معه، أيْ من جهةِ كَوْنِنا مُسلِمِينَ في حالةِ ما إذا كُنَّا كذالكـ، ومن جِهةِ كَوْنِنا دَارِسِينَ لَهُ نَطْلُبُ معرفتَهُ بفعلِ أسبابٍ ودوافعَ لا نُعِيرُها، في كثيرٍ من الأحيانِ، كُلَّ ما تَسْتَحِقُّهُ من ﭐهتمامٍ.

    ذاكـ هو الرِّهَانُ الموضوعُ أمامَ "دِراسات ٱلإسلامِ". وإنّه لَرِهَانٌ عظيمٌ لو كان "أنصافُ الدُّهاة" يَعلَمُونَ. إذْ مِنَ الضروريِّ أنْ نَعْرِفَ أَنَّ "ٱلإسلامَ" (بما هو واقعٌ حَيٌّ) وسَعْيَنَا لِتَوْصيفهِ وتفسيرِهِ (بما هو كذالكـ) كِلَيْهِمَا مُحَدَّدَانِ بِشُروطٍ واقعيَّةٍ يَجب تَوْضِيعُهَا على النّحو الذي يَجْعَلُنا نَتجاوزُ "ٱلمركزيةَ" بكل أنواعها وتَلْوِيناتها ويُمَكِّنُنَا، بالتّالي، من بناءِ خِطابٍ فكريٍّ ومعرفيٍّ أشدَّ كِفَايةً ونَجاعةً.

    وعلى أساس مثل ذالكـ العمل يُمكن تَعرُّف وتَفهُّم "ٱلإسلام" في إطار واقعِ "ٱلحداثة" الذي تَعِيشُهُ أُمَّةُ المُسلِمينَ كَرْهًا ويَتَطَلَّعُ بَعْضُ أبنائِهَا إلى أن يَعِيشُوهُ طَوْعًا بِمَزِيدٍ مِنَ الدِّرايَةِ والتَّمَكُّنِ لِكَيْ يُقِيمُوا حداثَتَهم إسلامًا على النحو الذي يَلِيقُ بِتَميُّزِ أُمَّتِهم ويَحفَظُ مَنْزلتها "أُمّةً وسطًا" و"أُمّة شاهدةً" بين أُمم العالَم.

    ومن حيث إنّ الأمر يَتعلَّق بإقامةِ "حداثةِ ٱلإسلام"، فإنّهُ لا مجال للتّرَدُّد في القول بِأنَّ الإسهامَ فيها يَتطلَّبُ جُرأةً على المألوفِ ويحتاجُ إلى سَنَدٍ من التَمَكُّنِ بعيدًا عن ﭐدِّعَاءات المُفَرِّطِين من القَاعِدِينَ الذينَ قَنِعُوا مِنَ "ٱلإسلام" بمَظاهره ("ٱلتَّأَسْلُم")، وبعيدًا أيضًا عن آمَالِ المُفْرِطِينَ في التَّوَهُّمِ من الذين يَغْلُونَ في تقدير قوة "ٱلإسلام" وإمكاناته والذين يندفعون، بوعي أو من دونه، نحو جعل "ٱلإسلام" مجرد "مَثَل أعلى" يَنْزِل فوق الواقع، أيْ بالتّحديد فوق طاقة البشر ("ٱلإسلامانيّة").

    ففيما وراء سُبُل هؤلاء وأولئكـ، ثَمَّةَ سَبِيلٌ يُمكِنُ أَنْ تَجْعَلَ "ٱلإسلام" يُضاهِي غيرَه من قُوَى العملِ في هذا العالَم، وذالكـ بصفته يُمَثِّلُ الرُّوحَ المُنَاسِبةَ لِلْوَضْعِ البَشرِيِّ في خُضوعِهِ لِكُلِّ الشُّروطِ المُحَدِّدَةِ لِوُجُودِ الإِنسانِ كَمَخلُوقٍ كَادِحٍ إلى رَبِّه كَدْحًا من أجل مُلاقاته. فـ"ٱلإسلامُ" دينُ مُجاهَدةٍ/جِهادٍ يَخوضه المؤمن في سبيل ٱللّـه للقيام بأمره على الحق وبحق. وبهذا التحديد، يُكوِّن "ٱلإسلام" مجالا رُوحيًّا للدخول في مُمارَسةٍ عَمَلِيّة ومُعَامَلِيّة تَقُومُ على "ٱلمُغَالَبَةِ في ٱلجُهدِ ٱلعُمرانِيِّ" بأرضِ ٱللّـه الواسعة. ولذا، كان "ٱلجِهاد" - كما بيَّن رسول ٱللّـه (صلّى ٱلله عليه وسلّم)- ذِروةَ سَنام "ٱلإسلام"، إِذْ حتّى حِينما تَقْضِي الضرورةُ المُكْرِهَةُ على خَوْضِه كـ"قِتَالٍ"، فإنّه يبقى "مُغَالَبَةً في ٱلجُهدِ ٱلعُمرانِيِّ"، فَلَا قَتْلَ لِلأطفالِ أو الشيوخ أو العُبَّادِ أو العُزَّل من النّاس، ولا إفسادَ في الأرضِ بتخريبِ البُيُوتِ وإِهلاكِـ الحَرْثِ والنَّسْلِ وتَدْنِيسِ المَعابِدِ والعِبادِ كما هو دَأْبُ المُفسدين/المُبطلين/الظالِمين، الذين لا يَجِدُونَ غَضاضةً في ﭐسْتِرْهابِ النَّاسِ خارج كل شَرْعٍ وخُلُقٍ.

    ومن المؤسف أنّ "ٱلغربيين" كانوا ولا يزالون مُفسدِين/مُبْطلِين/ظالِمين بِكُلِّ المعاني التي ليس أقلّها التّحالُفُ مع مُفْسدِين/مُبْطِلين/ظالِمين في كل زمانٍ ومَكانٍ، ومن بَيْنِ المُسلِمِينَ أَنْفُسِهم. وليس هُناكـ ما هو أَبْعَدُ عُتُوًّا مِمَّا ﭐرْتَكَبُوهُ ولا يزالون في "فلسطين" و"العراق" و"أفغانستان" و"الصومال" و"الشيشان".

    وما كان لَهُمْ أنْ يَفعلوا شيئًا من ذالكـ لو أنّ المسلمين كانوا قَائِمينَ حَقًّا بِأَمْرِ ٱللّـه، لأنّ "ٱلإسلام/ٱلدِّين" هُوَ وَحْدَهُ الذي يُمْكِنُهُ أن يَقُومَ في وَجْهِ ٱلمُفسدين/ٱلمُبطلين/ٱلظالِمين، من حيث إنّه يَحْفَظُ "رُوحَ ٱلجهاد" قائمةً إلى يَوْمِ القيامة، وعليها يُرَبِّي فَيَصْنَعُ الإنسَانَ القائِمَ بالقسط وعلى الحَقِّ، مُلْزِمًا إيّاه أن يكون قَوَّامًا عَليهما بِكُلِّ ما آتَاهُ ٱللّـه من قُوَّةٍ وما حُمِّلَهُ من أَمَانةٍ. وهذه هي "قَائِمِيَّةُ" الإنسانِ التي تجعلُه يَكْرَهُ "ٱلفسادَ" و"ٱلبَاطِلَ" و"ٱلظُّلْمَ"، فيَسْعَى مُجَاهِدًا (أيْ مُغالِبًا غيره في "ٱلجُهد ٱلإحسانيّ") لإقامة عُمْران الأرض وَفْق أصول "ٱلصّلاح" و"ٱلحقّ" و"ٱلعدل"، وهي الأُصول المُقوِّمة لشرع ٱللّـه كما ﭐكتمل في "ٱلإسلام/ٱلدِّين" وكما وَصَّى به - سبحانه- عبادَه المُسلمين المُخاطَبين تمييزًا بصفتهم مُؤمنين: «ولا تَهِنُوا ولا تحزنوا وأَنتم الأَعْلَوْنَ إنْ كُنتم مُؤمنين!» (آل عمران: 139). فالتّحقُّق بالإيمان يُعْلِي من هِمّة المُسلِم إذْ يَفُكُّـ رقبتَه من الإذعان لغير ٱللّـه فيَجعلُه لا يَكسِبُ أعمالَه بحصرها في طلب "ٱلحياة ٱلدُّنيا" وإنّما بتعليقها دومًا بمصيره في "ﭐلحياة ﭐلآخرة". ولذا، فليس ثمة ما هو أشدّ مُساءَلةً للحداثة من "ﭐلإسلام" الذي يعمل على تحرير العباد من سطوة أهوائهم في ﭐدِّعائها "ﭐلإحداث" من دون ﭐللّـه، ومن سُلطان أرباب البشر في إرادتهم ﭐغتصابَ حقِّ الإحياء ونعمةِ الإبقاء.

    ولأنّ "ٱلإسلام" إيمانٌ يُعاش ٱطمئنانًا إلى قضاء ٱللّـه وقَدره وليس ٱستسلامًا لحوادث ٱلِابتلاء ومُحدَثات ٱلأهواء، فإنّه يبقى قوة إحياءٍ وتجديد بما لا قِبَل لغيره به، حتّى لو كان تلكـ "ٱلحداثة" المزعومة التي صارت إلى نقيضها فيما يُسمّى "ما بعد ﭐلحداثة"، بل "ٱللّاحداثة" التي تُوشكـ أنْ تَجعل "ٱلإنسان" - من جرّاء سلسلة من أفعال ٱلنَّقْض- تجسيدًا/تجسُّدًا لـ"ٱلشّيطان" بعد أنْ أُنجزَ "موتُ ٱلإنسان" تَدْهيرًا وتَدْنِيَةً وصُدِّق "موتُ ٱلإلاه" جُحودًا وتعطيلًا. «وﭐللّـه غالبٌ على أمره، ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون!» (يوسف: 21).

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Oct 2011
    الدولة
    فلسطين - المُباركةَ -
    المشاركات
    951
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    بارك الله فيكم شيخنا ابن عبد البر وفي هذه المقالات الطيبة .
    يقول عبد الرحمن بن مهدي : ((لان أعرف علة حديث واحد أحب الي من أن أستفيد عشرة أحاديث)) .
    و يزيد هذا العلم أهمية أنه من أشد العلوم غموضا ، فلا يدركه الا من رزق سعة الرواية ، و كان مع ذلك حاد الذهن ثاقب الفهم دقيق النظر ، واسع المران .
    قال أحمد بن صالح المصري : ((معرفة الحديث بمنزلة الذهب و الشبه فان الجوهر انما يعرفه أهله ، و ليس للبصير فيه حجة اذا قيل له: كيف قلت: ان هذا الجيد و الرديء))

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Oct 2011
    المشاركات
    1,524
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    2

    افتراضي

    أكرمكم الله أيها المحدث وأبقاك .

    مراجعات الفزازي:

    الديموقراطية بين الأصول المرفوضة والممارسات المفروضة
    الشيخ محمد الفزازي

    الجزء الأول

    بسم الله الرحمن الرحيم

    حق لكثير من المتتبعين أن يستفسروا عن الانقلاب الكبير الذي يبدو أنه حصل في تصوري للديموقراطية بين الأمس واليوم. فكان لزاما علي ألا أترك استفسارات هؤلاء المتتبعين تذهب أدراج الرياح.

    أقول حق للمستفسرين أن يستفسروا حول هذا التحول لأني أنا صاحب كتاب (الشورى المفترى عليها والديموقراطية) وصاحب كتاب (لماذا لا نشارك في الانتخابات الديموقراطية) وصاحب محاضرات كثيرة جدا في هذا الموضوع كتلك التي عنوانها: (الديموقراطية ذلك الصنم) ... وفي المقابل أنا من أكثرت التصريحات بعد خروجي من السجن بإمكانية تأسيس حزب إسلامي، أو الانخراط في حزب العدالة والتنمية أو حزب النهضة والفضيلة... إلخ. وكل ذلك مخالف تماما لما كنت عليه من قبل. الشيء الذي جعل بعض المتسرعين يرميني بأغلظ النعوت ويلغ في عرضي مكفرا ومبدعا ومفسقا... هذا يتعالم من هنا، وذاك يزمجر من هناك...

    صحيح هناك من أرسل إلي رسائل في الموضوع بعضها سري وبعضها منشور على اليوتوب في شبكة الإنترنيت... وبعض العلمانيين يرى أنه ولي توبتي وأن محاوراته المتكررة لي هي التي حاصرتني فكريا إلى أن أعلنت تراجعي عن "تطرفي" ومنهجي "التكفيري" . وبعضهم كتب في جريدة "الخبر" عدد: 80 تحت عنوان بالخط العريض: [ مراجعات فكرية.. الفيزازي مطلوب سلفيا أو جهاديا ! ] كتب بالحرف:

    [استبشرت خيرا عندما أصبح الفيزازي يتحدث عن الديموقراطية وحرية التعبير والانتخابات والأحزاب والثوابت الوطنية... وهي أشياء كان ينكرها على المغاربة وأصبح يؤمن بها على ما يبدو. وبما أن الظن إثم، بعضه أو كله، فإنني أصدق الرجل وأنتظر أن تبدي لي الأيام ما كنت جاهلا. وأتمنى أن يكون صادقا، ولربما تفيده وتفيد البلاد والعباد "توبته" أو " أوبته" في استقطاب المتطرفين إلى الإسلام المغربي المتسامح الذي يسع الناس جميعا ويدعوا الشأن الديني لأمير المؤمنين وأجهزة الدولة لصيانة حقوق الله وعباده]
    [ياأيها الديموقراطيون الفضلاء، دعوا الإسلاميين يقتربون منا وشجعوهم على الاعتدال ولا تقصوهم من الفضاء العمومي، لإعلان مراجعاتهم لعل الله أن يحيي، على أيديهم، القلوب المتحجرة للمتزمتين.]

    هكذا...

    إن كل ما تفتقت عنه عقلية الملاحظين في الجملة لم يكن على شكل استفسار أو سؤال بقدر ما كان (نصيحة) أو (توجيها) من أجل التراجع عن الموقف الجديد الذي وصفه بعضهم ب(قلب المعطف) وبعضهم ب(بيع القضية) و (إجراء صفقة مع الدولة وفق أجندة معينة... ) وغالى بعضهم فحكم علي ب(الردة عن الإسلام والركون إلى الذين ظلموا...) زعموا، ومن أجل العودة (إليهم) هم أهل التوحيد والجهاد ومحاربة أمريكا والصليبيين والصهاينة والطواغيت والحكومات المرتدة والإثخان في الذين كفروا... إلى غير ذلك من الكلام الكبير والأوهام والتخيلات التي لا تمت إلى الواقعية والعقل بصلة.

    وأنا قبل توضيح المراد من الموضوع أحب أن أذكر أن كل تلك الانتقادات (والنصائح) لم ترد عن أي عالم أو مؤهل للنصح في هذا الموضوع الكبير، فقط هناك بعض المتصدرين للحديث والخطابة الذين صدقوا أنهم في مستوى التوجيه والتصحيح والتحليل والترجيح... فوعظوني بكلام لا علم فيه ولا فقه.

    تحجر كل هؤلاء (الناصحين) على فكر واحد ووحيد منغلق يجعلهم لا يعيرون أي انتباه لما يحدث حولهم يوميا من تغييرات في كل الجهات وتغيرات على كل الجبهات، سواء على مستوى الأنظمة أم على مستوى الحركات الإسلامية أم على مستوى مواقف العلماء الجديدة وعلى رأسهم السلفيون. أم على مستوى الحراك الشعبي في العالم العربي... أم على مستوى الحركات الجهادية نفسها. لا يفرقون في ذلك بين متحرك وثابت، ولا بين أصل وفرع، ولا بين محكم ومتشابه...

    عدم الاستفادة من مراجعات وتراجعات علماء ’’الجهاد’’ من داخل السجون العربية وخارجها خاصة وأن كثيرا منهم كان من كبار المؤطرين للمجاهدين وتكفير الديموقراطية والديموقراطيين مثل الشيخ الدكتور فضل واسمه الحقيقي (السيد إمام عبد العزيز الشريف) والمعروف باسمه المستعار (عبد القادر بن عبد العزيز) صاحب كتاب (الجامع في طلب العلم الشريف) وكتاب (العمدة في إعداد العدة)... وبمناسبة ذكر الدكتور فضل فلا بأس أن أدل الإخوة طالبي المعرفة إلى أن هذا الدكتور الذي كان يعتبر شيخ الجهاد والمجاهدين، والمؤسس الفعلي لجماعة الجهاد المصرية أنه كتب كتبا ورسائل جديدة ينتقد فيها بشدة الشيخين أيمن الظواهري وأسامة بن لادن رحمه الله، أشهرها (ترشيد الجهاد في مصر والعالم) و(التعرية لكتاب التبرئة) في رده على الدكتور أيمن الظواهري.

    بعد هذا أتطرق إلى موضوع التحرير الأساس وهو:

    (الديموقراطية بين الأصول المرفوضة والممارسات الفروضة)

    إنني لا أشك طرفة عين في أن أي مذهب فلسفي أو فكري يقوم على إقصاء الإسلام الحنيف من واقع الحياة لدى المسلمين، أو تفضيل الشريعة الوضعية الوضيعة على شريعة الله الرفيعة، أو يرى سمو ما شرعه الإنسان على ما شرعه الرحمن... لا أشك في أن مذهبا كهذا هو مذهب مرفوض شرعا وعقلا ومناف للإيمان...، وأن القائلين به والمروجين له معتدون وظالمون بكل المقاييس.

    فلماذا قلت من قبل إن الديموقراطية صنم يعبد من دون الله في الوقت الذي أقول فيه الآن بإمكانية المشاركة السياسية في البلاد؟

    أما الديموقراطية الصنم فقد قلته بالنظر إلى أصولها الإيديولوجية والتاريخية، وهي أصول تعتمد التنظير لشؤون الدنيا دون الآخرة، ولقضايا الأرض دون اعتبار السماء، ولحقوق الإنسان وفق منظور معين دون حقوق الله تعالى وفق منظور الشرع بالنسبة للمسلمين على الأقل، وهو ما يعنينا نحن الآن في الصميم.

    فرفض شريعة الله جملة وتفصيلا، والتشريع بدلا عنها بما يضادها ويخالفها، وتقديم اجتهادات الإنسان على محكمات الكتاب والسنة أو التعسف في تأويل المحكمات والاجتهاد من غير مجتهد ولا داع... كل ذلك عندي مرفوض، وألف مرفوض. وكل ذلك حق لي أن أصفه بالصنم الذي يعكف عليه الذين لا يعلمون.

    بل إن العلمانية التي تعترف بالإسلام دينا لكن مجردا عن شريعته ومقتصرا على شعيرته هي عندي صنم من الأصنام. {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85]

    والعلمانية في بلادنا كائن غير شرعي، ومتسلل بدون (أوراق)، يعمل ضدا على الدستور والقوانين، وإسلامية الدولة وإمارة المؤمنين. وضدا على الديموقراطية نفسها التي من أبجدياتها التسليم للأغلبية. ولا يشك عاقل في المغرب أن الأغلبية الساحقة مسلمة تحب الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتحب الإسلام وتؤمن بشريعة أرحم الراحمين.
    والجديد في الأمر اليوم، هو النظر إلى الديموقراطية من حيث مدلولها عند عامة المسلمين حكاما ومحكومين.

    فلا يجوز – والحالة هذه - الانعزال الاختياري عن حركة التغيير الجارفة المعتمدة للآلية الديموقراطية التي لا وسيلة غيرها تحقق الحد الأدنى من تحقيق الذات مع الأطراف المتعددة من الفاعلين السياسيين الذين هم من سيضع لنا سياسة النظام، ونظام السياسة التي سنخضع لها طوعا أو كرها، إذا نأينا بجانبنا عن مزاحمتهم ومسابقتهم نحو مصدر التخطيط والتقرير...

    هؤلاء السياسيون العلمانيون وغير العلمانيين... من مختلف المدارس الإيديولوجية والمشارب الفكرية هم من سيخطط لمستقبلنا ومستقبل أولادنا وأحفادنا سنين طويلة. ونحن المصنفين في دائرة السلفيين وأولادنا وأهلونا الذين علينا بعد ذلك السمع الطاعة في المكره والمنشط...

    فهل من الحكمة والحق والعقل والمنطق... أن نترك من ليس له أي رغبة في شريعة الله تعالى، وليس له أي برنامج يرضي فيه الشعب المسلم فضلا عن إرضاء ربه...يخطط ويضع البرامج السياسية والاقتصادية والثقافية والتعليمية... وغيرها – الداخلية والخارجية - وفق منظوره الإيديولوجي بما هو عندنا نحن أهل القرآن والسنة باطل ومرفوض؟ أم لا بد من مزاحمته على أصوات الشعب لتحقيق أهداف هذا الشعب في حماية عقيدته وهويته وجلب إليه ما يمكن من المصالح وتكثيرها، ودرء عنه ما يمكن من المفاسد وتقليلها؟
    ولا أقصد هنا الأحزاب الوطنية الكبرى التي لا تعادي الإسلام بل هي متمسكة به، ولكنها فقط تمارس السياسة وفق اجتهاد معين نختلف معها فيه أو نتفق...

    اليوم، تغير كل شيء...

    لم تعد هناك تلك الديموقراطية القائمة على التزوير والكذب ونتائج 99 % وشراء أسماء الفائزين قبل الشروع في الانتخابات... والإعلان عنها قبل فرز الأصوات أصلا، وإن كان الحنين إلى تلك الممارسات لا يزال يخالج المنتفعين واللوبيين...

    والعامل الجديد اليوم ، هو استعداد عاهل البلاد أن يجعل من العملية الانتخابية عملية شفافة ونزيهة، لمحاصرة سماسرة الانتخابات على الطريقة (البصرية) وذوي خزائن السحت الذين يتربصون بأصوات الفقراء لشرائها نصرة للمفسدين... وإبقاء للمغرب في ظلمات الفساد والإفساد، أي إعطاء المسوغ الفعلي والدليل العملي لحركة 20 فبراير وجماعة العدل والإحسان وكل ذوي النزعة الثورية على مواصلة التظاهر بل على استقطاب المترددين والرافضين لهذه المسيرات التي تخبو شعلتها في هذه الأيام رغم وجود ما يمنيها ويغذيها بسقوط القذافي اللعين وتضييق الخناق على رقبة بشار الأسد السفاح وعلي عبد الله صالح المحروق....

    أقول: لقد تحول اهتمامي من البحث الفلسفي والتاريخي والإيديولوجي للديموقراطية إلى اهتمامي بالنظر إلى المضامين المقبولة شرعا وعرفا عند عامة المسلمين دون الانحباس في العناوين أو الأصول المرفوضة والتي لا يعلمها كثير من الناس.

    إنني لم أنس ما قلته من قبل في آليات الديموقراطية ذاتها، لكن ماذا تريدون أن نفعل وليس أمامنا في إثبات الذات وتحقيق العدل والانعتاق من التهميش... غيرها؟

    لذا لا بد من استحضار مدلول الديموقراطية ذاته لدى عامة الناس في بلاد المسلمين، حكاما ومحكومين، ومنها بلادنا المغربية، وهذا المدلول هو:

    الديموقراطية تساوي العدل، والكرامة والحرية ومنها حرية اختيار الحاكم ومحاسبته عند الاقتضاء...، أي أن النظر إلى أصولها الإيديولوجية والتاريخية المرفوضة غير مراد عند الناس البتة... اللهم إلا عند بعض المنظرين العلمانيين واللادينيين والذين لا يمثلون أي نسبة تذكر من سكان وطننا.

    هؤلاء المنظرون على قلتهم لا يمكن أن يكون لهم أي تأثير في الساحة الإسلامية عموما والمغربية خصوصا بشرط أن يتأهب العلماء وطلبة العلم إلى ولوج العمل الحزبي والجمعوي وخوض غمارات الانتخابات في ظل نسختها الجديدة التي أفرزها (الربيع العربي) وإقامة تحالفات وتكتلات على أساس المشروع الإسلامي الضخم والبرامج الإصلاحية العميقة في مواجهة أي تكتل علماني أو لا ديني...

    والعامل القديم الجديد اليوم كذلك، دستور الدولة الذي ينص على إسلامية الدولة وإمارة المؤمنين... وهو ما يصب صبا في نجاح المشروع الإسلامي نجاحا منقطع النظير... وكل دعوة في الاتجاه المعاكس لإسلامية الدولة إنما هي دعوة لاغية وباطلة دستوريا وشعبيا... فقط نقول: أين العلماء؟

    والعامل الأساسي الآخر يتمثل في إفلاس كل البرامج غير الإسلامية التي تعاقبت علينا طيلة عقود... فما جنينا منها إلا ثمار التخلف والبطالة والأمية والمرض...وتفشي الجريمة والرذيلة وكل الموبقات... لهذا ليس لهذه البرامج الآن أي حظ في استمالة صوت الناخب ولا أي ثقة في من يطرحها... وقد طرحوها من قبل... فكان الفساد والكساد والظلم والاستبداد...

    (يتبع)

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Nov 2011
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    1,276
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي

    جزاك الله خيرا الأخ إبن عبد البر على هذا الطرح الجميل و المفيد.
    " الصدق ربيع القلب ..و زكاة النفس ..و ثمرة المروءة .. و شعاع الضمير الحي.. ومناط الجزاء الالهي (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ...) و إنَّ الضمائر الصحاح اصدق شهادة من الألسن الفصاح "
    -بتصرف-
    "حقُّ الواعِظ أن يتعظ ثمّ يعظ، ويبْصِر ثمّ يُبَصّر، ويهتدي ثم يَهدِي، ولا يكون دفترًا يُفيد ولا يستفيد، ومَسنًّا يحدُّ ولا يقطع، بل يكون كالشمس التي تُفيد القمرَ الضوء ولها أكثر مما تفيده"!
    -الراغب الأصفهاني رحمه الله-

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Oct 2011
    المشاركات
    1,524
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    2

    افتراضي الرد على دعاة القتل العمد عن سبق إصرار وترصد

    الرد على دعاة القتل العمد عن سبق إصرار وترصد
    عبد الحميد أمين (نموذجا)

    كتبه الشيخ محمد الفزازي / بطنجة

    الجزء الأول

    ومع عبد الحميد أمين بعض الحقوقيين مثل أمينة بوعياش، وأحمد الزايدي، وخديجة الرياضي، وآخرون... وكل من قال بقولهم انطلاقا من نفس المرجعيات والقناعات...

    بسم الله الرحمن الرحيم

    أطلقت جريدة هسبريس مشكورة مجموعة من المرئيات (فيديوهات) يظهر فيها الذين ذكرت أسماءهم قبله وهم يحدثوننا بأفكار أضعها الآن في ميزان الشرع والقانون والأخلاق... وآخذ منها تصريح عبد الحميد أمين في هذا الجزء الأول وهو يخاطب مستمعيه تحت عنوان: المحرمات الدينية، ثم أعرَج لاحقا إن شاء الله على أقوال الآخرين قولا قولا.

    يقول عبد الحميد أمين:

    [طبعا نحن مع حرية التعبير وحرية المعتقد وبالتالي بالنسبة إلينا لا يجوز تحريم مثل هذه القضايا ونحن لا نرى مثلا بالنسبة للإجهاض، أين هو الضرر بالنسبة للمجتمع في أن يتم إجهاض وتقنين هذا المجال؟...طبعا هذه المسائل يجب أن تكون مقننة. أين هو الضرر بالنسبة لشاب يمارس الجنس مع شابة؟ لا نرى الضرر في ذلك. أين هو مثلا الضرر بالنسبة لإنسان يفطر في رمضان ولو كان ذلك بشكل علني؟... طبعا يجب الأخذ بعين الاعتبار التاريخ والثقافة السائدة لا يجب استفزاز المشاعر العامة ولكن من الناحية القانونية في نفس الوقت لا يجب معاقبة من يقوم بالإفطار ولو العلني في شهر رمضان]

    سي عبد الحميد أمين، ومن معك، اتقوا الله ! { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً. تكادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً}

    لقد ضربتم عرض الحائط حق الله سبحانه قبل حق البشر، واعتديتم على دين المغاربة اعتداء مباشرا، وطعنتم هذا الشعب في عرضه طعنا غير مسبوق، ودعوتم إلى الفتنة من أوسع أبوابها... ثم انتقدتم أنفسكم بأنفسكم كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا داعين إلى عدم استفزاز المشاعر العامة، في حين أنتم رؤوس الحية في هذا الاستفزاز... وقلتم بأن الحرية ليست فوضى وأنتم تعيثون في الأمة فسادا وفوضى عقدية وجنسية وخلقية وقانونية لولا أن الله تعالى سلم بأن جعلكم قلة الأقلية لحلت بنا كوارث لا نقوم منها أبدا...

    فقولك: [بالنسبة إلينا لا يجوز تحريم مثل هذه القضايا] (الإجهاض والزنا والإفطار في رمضان، والإعلان به... ) فيه اعتراض صريح على رب العالمين لأنه سبحانه هو من حرم قتل النفس إلا بالحق، وهو من حرم الزنا، وهو من حرم الإفطار في رمضان وهو من أوجب الصيام فيه، وجعل المجاهرة بالإفطار العلني من أكبر الكبائر... فكيف تقول: [لا يجوز تحريم مثل هذه القضايا]؟ من أنت ياعبد الله حتى تقول لله ما يجوز تحريمه وما لا يجوز؟ ألهذا الحد يتم التطاول على مقدسات الأمة على مرأى ومسمع من الخلائق كلها؟ أهكذا تفهمون احترام الأديان؟ أهذه هي حرمة الله عز وجل عندكم وأنتم تزعمون أنكم مسلمون؟ أين إيمانكم بالله سبحانه وبرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبكتابه الكريم القرآن العظيم؟

    إن الاشتغال بالتحريم والتحليل مهمة علماء الشريعة، ومهمة المجالس العلمية. والإفتاء في القضايا العامة للأمة مهمة المجلس العلمي الأعلى... وما عهدناك ياسي أمين من العلماء ولا حتى من طلبة العلم وقد رصدت في قولك (يفطرون) بفتح الياء والطاء وفي جملتين متفرقتين... مع أن الفعل رباعي يا أستاذ، أفطر وليس فطر... ومضارعه يفطر بضم الياء وكسر الطاء، لكن ماذا أقول وأنت من هنا أتيت، من الجهل، ولو علمت لخشيت ربك: {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء}

    والعلماء لا يجتهدون مع النص، إنما يجتهدون في استنباط الأحكام من النص وفهمه وتنزيله على واقعهم تنزيلا صحيحا، فلماذا تركب هذا المركب الصعب وأنت في غنى عن كل هذا؟ أين التخصص؟ لمَ حشرت أنفك فيما ليس لك فيه معض ولا مستمسك؟ هل عرفت جزاء القول على الله تعالى بغير علم؟ لا، بل أنت تعلم أن الله حرم هذا، أنت الآن تحارب الله. أترضى أن تكون عدوا لله؟

    لكم كل الحرية في اعتقاد ما تشاؤون، وفي التصرف كما تشاؤون {لا إكراه في الدين} لكن ليس لكم أي حق في الاعتداء على مقدساتنا الإسلامية وعلى رأسها توقير الله عز وجل وتقديره حق قدره. افعلوا ذلك إن شئتم في ما بينكم وفي أنديتكم لكن دون تسريب ذلك إلى مسامعنا لتجرحوا مشاعرنا وتؤذونا ببالغ الأذى... نحن في المغرب أمة مسلمة في أغلبيتها الساحقة، وليس لأحد الحق في أن يملي علينا ما هو الحلال وما هو الحرام... و(يصحح) لله تعالى تشريعاته السمحة والحكيمة بجهالات موغلة في الظلمات.

    لقد سألت ثلاثة أسئلة تخص الإجهاض والزنا والإفطار العلني في رمضان وكلها جاءت بالسؤال: [أين هو الضرر...؟]

    فإليك الجواب على سؤالك الأول: (أين هو الضرر بالنسبة للمجتمع في أن يتم إجهاض وتقنين هذا المجال؟) على أن يليه الجواب عن كل سؤال في أجزاء أخرى من هذا النقاش الذي أردته هادئا وهادفا.

    إن الإجهاض هو إسقاط الجنين من بطن أمه تحت أي ذريعة كانت شرعية وغير شرعية. والمشروع منها هو ما هدد حياة الأم بالموت فقط، أي أن الإجهاض جائز بل واجب في حالة ما إذا أكد الطبيب الشرعي أن الأم معرضة للموت يقينا إذا لم تتخلص من جنينها.

    الواجب هو الحفاظ على حياة كل من الأم وجنينها معا، فإن كان ولا بد من التخلص من أحدهما لعلة شرعية وضرورة قاهرة إبقاء على حياة أحدهما، فالتخلص من الجنين حينها هو الأول والأولى إبقاء على أكبر المصلحتين... والمصلحة الكبرى هنا هي حياة الأم إجماعا واتفاقا.

    فيما عدى هذا قسم العلماء الحمل إلى مرحلتين. الأولى ما كان قبل زرع الروح في الجنين، والثانية ما بعد زرع الروح فيه أي بعد أربعة أشهر من الحمل، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا ف *** سَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَار *** اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين}

    وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال : [ إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفةً ، ثم يكون علقةً مثل ذلك ، ثم يكون مضغةً مثل ذلك ، ثم يُرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ، ويُؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أم سعيد ] رواه البخاري و مسلم .

    فقوله تعالى {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} هو كقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحديث [فيُنفخ فيه الروح] وهو بعد إتمام مائة وعشرين يوما، أي أن الجنين بعد أربعة أشهر يكون إنسانا جسدا وروحا، وإسقاطه جريمة قتل بكل ما للكلمة من معنى.

    وبما أنك لا ترى ضررا في الإجهاض دون أن تحدد أي مرحلة تقصد، قبل زرع الروح أم بعده، فأنت لا ترى الضرر في القتل، أنت تشرعن للقتل يا سي عبد الحميد أمين. {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} فأي ذنب ارتكبه هذا الجنين حتى تحكم عليه بالإعدام؟ أين عقيدتك في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يقدس الحياة البشرية ويحرم إزاهاقها تحت أي ذريعة؟ أين الحق في الحياة الذي تدعون إليه اعتمادا على المواثيق الدولية والقيم الكونية وهو ما فتئتم ترددونه ليل نهار لإسقاط حدود الله تعالى الخاصة بالقتل الواردة في هذا الحديث الذي رواه الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما: عن ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عِنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّي اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: [لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَث: الثَّـيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَة]

    إنك تدعو لقتل من لا يستحق القتل، قتل الجنين البريئ، فكم من الأرواح تريد إزهاقها لو استجيب لشرعنة ما تدعو إليه؟ إنها ملايين الأرواح. هل أنت مستعد للقاء ربك بقتل ملا يين الأرواح؟ {وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت} وفي نفس الوقت تدعو لتعطيل حكم الله تعالى في القتل. أي إلغاء حكم الإعدام الذي نزل به الكتاب وبينته السنة وأجمعت عليه الأمة. فأي مصير اخترته لنفسك يا أستاذ وأنت مقبل على الله قريبا بعد أن بلغت من العمر عتيا؟

    إن الحمل عن طريق الاغتصاب، أو التغرير بالفتاة ووعد كاذب بالزواج بها... فتم الحمل لا يجيز قتل النفس البريئة ولا يجوز تحميل الجنين جرم أمه... لأن أمه في كل الحالات أخطأت في تمكين شخص من نفسها في الحرام، وهي لا بد أن تتحمل تبعات خطئها وليس بإنزال أقصى العقوبة (الإعدام) بجنينها البريء. وأما الحامل المغتصبة وتحت الإكراه فهي بريئة ابتداء ولا شيء عليها البتة وليست آثمة عند الله وعند الناس سواء..


    تسأل عن الضرر في الإجهاض؟ سبحان الله ! كيف تسأل عن الضرر في القتل؟ قتل أضعف مخلوق لا حول له ولا قوة، ولا ذنب له سوى أنه وجد تحت طائلة فتواك الجهلاء المتجردة من كل رحمة وشفقة ومن كل إنسانية. أي قلب تحمله في صدرك يا سي عبد الحميد أمين؟

    عجبت لما تطرحونه من علة في جواز الإجهاض على إطلاقه كقولكم بأن هذا موجود في المجتمع، وتتساءلون لماذا لا يقنن وتنتقل ممارسته من الخفاء إلى العلن بحماية القانون؟ كأن كل موجود في المجتمع مهما كان حراما علينا أن نشرعنه ونعترف به ونحميه بالقانون ما دام يمارس في الخفاء من قبل آحاد الناس ...

    وهكذا يجب أن نسمح بالزنا ونشرعنه ونحميه بالقانون ونمارسه في الملأ بحجة أنه موجود. وهكذا أيضا بالنسبة لشرب الخمر وتناول المخدرات والشذوذ الجنسي والقتل والسرقة وأكل الربا... كل ذلك موجود، وكل ذلك يجب أن نقننه ونحلله ولا يجوز تحريمه من أحد حتى من الله الواحد الأحد لأنها أعمال موجودة والناس أحرار في ما يفعلون. إنه منطق يجعل فعل البشر حجة على الشرع وليس الشرع هو الحجة على البشر.

    لقد زعمتم أن تحريم الناس لما حرمه الله تعالى ورسوله من هذه الموبقات نفاق اجتماعي كما قالت بوعياش، فتحريم الخمر عند الناس نفاق، لأن كثيرا من المغاربة يشربونه، وتحريم الإجهاض عندهم نفاق لأن كثيرا من الناس يفعلونه، وهكذا فكل من حرم ما حرمه الله تعالى منافق عند أستاذتنا بوعياش بحجة أنه موجود ويفعله الناس.

    حسبنا الله ونعم الوكيل.

    يليه الجزء الثاني إن شاء الله تعالى

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Oct 2011
    المشاركات
    1,524
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    2

    افتراضي خطاب "ٱلحَداثة/ٱلخَباثة" وتهافُت "ٱلمُتحادِثين"

    خطاب "ٱلحَداثة/ٱلخَباثة" وتهافُت "ٱلمُتحادِثين"
    عبد الجليل الكور


    قد لا يُدرَكُـ، في بادئِ ٱلرأي، أنَّ كُلَّ "ما هو حديثٌ" لا يَتحدَّدُ كـ"شيءٍ جديد" فقط بما هو "حَادِثٌ" كُتِب له أن يَقع ويَطرأ في هذا العالَم بشُروطه المُحدِّدة طبيعيًّا وٱجتماعيًّا وتاريخيًّا، بل بما هو "بِدْعٌ مُحدَثٌ" يُخالِف تمامًا ما سبقه من "حوادث" إلى الحدِّ الذي قد يبدو فيه خارِقًا. ولهذا فإنّ "ٱلحَداثةَ/ٱلجِدَّةَ" لا ترتبطُ بمجرد فِعْلِ "ٱلحُدُوث/ٱلإحداث" إمكانًا وتَحقُّقًا كما لو كان هذا يَكفي لإثبات أصالةِ وجدارةِ "ٱلحديث" بالنِّسبة إلى ما يُضادُّه ممّا يُوصَمُ عادةً بـ"ٱلقديم" أو "ٱلتّقليديّ" أو "ٱلماضويّ" (وحتّى "ٱلرَّجْعيّ" أو "ٱلمُحافِظ")، وكما لو أنّ الأمرَ كلَّه قائمٌ في مدى ثُبوت "ٱلحُضور ٱلآنِيِّ" (أو، إنْ شئتَ، "ٱلحَاضِريّة" التي يُسمِّيها بعض كُتّابنا "ٱلرّاهنيّة"!).

    ويَتّضح، من ثَمّ، أنّ "ٱلحديثَ/ٱلجديدَ" لا يَتعلّق بكل "حَدثٍ" سواءٌ أكان واقعًا مُتقلِّبًا أمْ فِكْرًا مُتبدِّلًا أمْ كلامًا مُتحوِّلا. ذلكـ بأنّ من "ٱلحَدث" في حياةِ "ٱلإنسان/ٱلبَشر" ما هو لَصيقٌ بما يَعتريه باستمرار من حاجةٍ إمّا إلى ٱلتَّخلُّص من فَضَلات جسمه بإلقائها "خَبَثًا" يَحْدُث في اليوم مرّةً أو أكثر (خصوصا عند "ٱلأحداث" من ٱلوِلْدان وٱلصِّبْيان) وإمّا إلى مُسايَرةِ ما تُوسوِس به له نفسُه الأمّارةُ بالسوء "خُبْثًا"! فهل يَصِحّ، إذًا، أنْ يُنظَر إلى حوادثِ وأحداثِ "ٱلعصر ٱلحديث" من دون ٱستحضارِ خَبائِث النُّفوس وأخباث الأعمال كما تتجلّى أفكارًا في "ٱلحَداثة/ٱلخَباثة"؟

    يَحسُن، ٱبتداءً، ٱلِانتباهُ إلى أنّ كونَ "ٱلحَداثة" لا تَقبل واقعيًّا أن تُفصل عن "حَدَثان ٱلدَّهر" (أيْ عن مجموع "ٱلنّوائب" و"ٱلحوادث" التي تَتخلّل حياة النّاس فتجعلُها مُراوَحةً بين "ٱلجِدّة" و"ٱلقِدَم" لصُعوبة ٱلمُزايَلة بين "ٱلحاضر" و"ٱلماضي") يُوجب الوقوفَ على تجذُّرها في ٱلمَعيش ٱلبشريِّ كما تُحدِّده شروطُ الوُجود والفعل بهذا ٱلعالَم، ممّا يقتضي - في جميع الأحوال- ألا يُنظرَ إليها إلا بصفتها ٱجتهادًا بَشريًّا مشروطًا، بهذا القدر أو ذاكـ، في ٱلِانفكاكـ عن مجموع ٱلإكراهات التي تتعلّق بأحداث الحياة في تعبيرها عن الإنسان بما هو ذاتٌ فاعلةٌ - حَسَب ما يظهر- بوعيٍ نافذٍ وإرادةٍ حُرّةٍ وعزيمةٍ لا تَفتُر.

    وإنّ كونَ "ٱلحَداثة" يُراد لها أن تُحيلَ، في آن واحد، إلى كُلٍّ من "ٱلعقل" (كفكر قائمٍ على مُمارَسة المُساءَلة النّقديّة تمحيصًا وتعليلا) و"ٱلحُريّة" (كرُشْدٍ بلا وصايةٍ وٱستقلال دون تبعيّة) و"ٱلتّقدُّم" (كصَيْرورةٍ دائمةٍ من النُّمو وٱلِازدهار والتّوسُّع) يَجعلُها من المَواضيع التي تَحظى، عند أكثر النّاس، بامتياز لا يَكاد يُضاهى. وبالتّالي، لا يَعود خافيًا أنّه ليس ثمّة ما هو أهمّ وأحسن، في خضم التّنازُع حول مُختلِف ٱلِامتيازات، من أنْ يُبديَ ٱلمرءُ ٱهتمامَه بـ"ٱلحَداثة"، بل أنْ يُركِّز عليها عملَه وقولَه حتّى لا يَفُوته شيءٌ من أفضالها وخيراتها. وهذا ما يُمكن أنْ يُلاحَظ غالبًا في كُلّ ما يَميل إليه الذين يَحرِصُون على ٱدِّعاء "ٱلحَداثة" تعاقُلا و/أو تحرُّرًا و/أو تقدُّمًا.

    ومن أجل ذلكـ، فإنّ أخذَ "ٱلحَداثة" بدلالتها على «مجموع مَكاسب الفعل البشريِّ في هذا العصر الحاضر كإنجازٍ عقليّ مُتحرِّر ومُتقدِّم» لا يَجعلُها تُمثِّل "حُضورَ" أو "حاضريّةَ" الإنسان بما هو فاعليّة قائمة بالأساس على "ٱلعقل" و"ٱلحُريّة" و"ٱلتّقدُّم" إلا في المدى الذي يَثبُت أنّ كُلّ (أو، على الأقل، جُلّ) مَكاسب الفعل البشريّ الحديث كانت خيرَ تمثيلٍ للإنسان بصفته ذاتًا لا تَنْفكّـ عن "ٱلعقل" و"ٱلحُريّة" و"ٱلتّقدُّم". وٱلحال أنّ الفكر المعاصر، منذ أكثر من قرن، لم يُمْعِنْ في نَقْضِ شيء بقدر ما أمعن في نقض "ٱلذّات" بكل صفاتِها تلكـ، حيث لم يَعُدْ مُمكنًا تصوُّر "ٱلحَداثة" خارج كونها ٱجتهادًا - مُحدَّدًا ومحدودًا- في إنجازِ "مشروع يُستكمَل باستمرار"، بل لقد أُعيدَتْ أكثر من مرة مُراجَعةُ مفاهيم "ٱلعقل" و"ٱلحريّة" و"ٱلتّقدُّم" بما يَنأى بها عن أساطير "ٱلتّنويريِّين" في تفاؤُلهم ٱلسّاذج ويُحيطها بكثير من الحذر والتّواضُع. ولذا، فكل إصرار على رَبط "ٱلحداثة" بفُتوحاتِ عقلٍ مُتحرِّرٍ أصلا ومُتقدِّم دَوْمًا ليس سوى تضليلٍ يَأبى إلا أنْ يَتعاطى "ٱلحَداثة" تَكالُبًا وتَواقُحًا بالشكل الذي يَستنزل مَطلَبَ "ٱلِاجتهاد" إلى دَرَكاتِ "ٱلخَباثة" فلا يَعودُ إلا تَعالُمًا بلا تحقيق و/أو تَحادُثًا بلا تجديد!

    حقًّا، ما أكثر وأعظم مُنجزَات "ٱلعصر ٱلحديث" التي تُعدّ - على مُستوى تجليّات "ٱلعقل" و"ٱلحريّة" و"ٱلتّقدُّم"- بُنْيانًا يَعِزُّ نظيرُه في كل عصور الماضي. غير أنّ الأمر لا يَستقيم، بهذا الصدد، إلا باستحضار جُملةِ الإخفاقات والمَفاسد التي تُلازِم جوهريًّا تلكـ المُنجزات ويَصعُب فعليًّا إدراجُها في خانةِ الآثار العَرَضيّة أو ٱلتّبِعات الهامشيّة. وحَسْبُ المرء، هنا، أنْ يَذكُر أنّ الوُجودَ والفعلَ الإنسانيِّين لا يَصِحُّ ٱختزالُهما في حَداثةٍ لا تُفعِّل "ٱلعقل" إلا تألُّهًا مُتنزِّلا أو تَعالِيًا وَسيليًّا، ولا ترى في "ٱلحُريّة" إلا تَسيُّبًا إباحيًّا أو تَوحُّدًا فَرْدانيًّا، ولا تَتصوّر "ٱلتّقدُّم" إلا إنتاجيّةً ٱستغلاليّةً أو نُموًّا ٱستهلاكيًّا. وإلا، فإنّ مَآل "ٱلحَداثة" بعد قرون من التوسُّع الهيمنيِّ وٱلِاستغلاليِّ إلى "ٱلعولمة" في ٱتِّجاه "ٱلتّنميط ٱلأُحاديّ" المُشتغل بآليّة "ٱلفوضى الخلاقة" لا يُعبِّر عن "ٱلوضع ٱلبشريّ ٱلحديث" إلا بما هو إحدى بقايا "ٱلماضي" المُنفلتة من إِسار "ٱلتّنوير" عقلا تشارُكيًّا و"ٱلتّحرير" تقدُّمًا تضامُنيًّا!

    وأكثر من ذلكـ، نجد أنّ "ٱلحَداثةَ" - بمُقتضى أنّ كل النّاس الموجودين خلال فترةٍ ما يَطمحون إلى أنْ يَعيشوا وُجودَهم في حداثته (أو كحداثةٍ)- ما فتئت تُعرَض (وتُفرَض) في الغالِب بصفتها مُتعارِضةً مع "ٱلماضي"، ليس "ٱلماضي" فقط في دلالته على «مجموع مَكاسب الفعل البشريّ بما هي مُنجزَات تُعبِّر عمّا كان وٱنقضى»، وإنّما أيضا ذاكـ "ٱلماضي" في دلالته على «رُسوخ ٱلتّقليد وفُشوِّ ٱلِاتِّباع». ولهذا، فإنّ تصوُّر "ٱلحَداثةَ" بما هي "ٱلجِدّة" كما تتمثّل في "ٱلمُحدَثات/ٱلمُستجدّات" التي تختلف - بهذا القدر أو ذاكـ- عن "ٱلمَورُوثات ٱلقديمة" يَمنع من إدراكِـ أنّ كلّ ٱلنّاس في فترة ما لا يَشتركون في هذه "ٱلحَداثة" بنفس الكيفيّة والقَدْر. ذلكـ أنّ "ٱلأحداث/ٱلصِّغار" لا يَخلُفون فقط "ٱلقُدامى/ٱلكبار" أو يَختلفون بما هم "أخْلاف/لاحقون" عن "ٱلأسلاف/ٱلسّابقين"، بل أيضا يَختلفون فيما بينهم على النّحو الذي يُؤكِّد تنازُعَهم وتفاوُتَهم في إنجاز حداثتهم بما يُوجب تَبيُّن أن "ٱلحَداثةَ" لا تنفكّـ مُطلقًا عن "ٱلتّعدُّد" و"ٱلتّناقُض" و"ٱلتّفاوُت".

    فالنّظر، إذًا، إلى "ٱلحَداثة" بصفتها مُناهَضةً للموقف القائم على "حِفْظ ٱلماضي" (كتقليد مُتّبَع أو تقاليد مَرْعيّة) يُقيمها في صورة مُلاحَقةٍ لـ"ٱلحديث/ٱلجديد". لكنّ ما ينبغي ٱلِانتباه إليه هو أنّه ليس كل جديد مُفيدًا، ولا كل قديم خِلْوًا من الفائدة، وإنّما المُعتبَر دائما أنّ "ٱلقِيَم ٱلنّافعة" - بما هي ضالّة العاقل- ليست حِكْرًا لفترةٍ تاريخيّة أو فئة بشريّة بعينها سواء أكانت مَاضيةً أمْ حاضرةً. وإذا كان ليس من الصعب قَبُول أنّ الماضي لا يخلو البتّة من "ٱلقيم" التي تقبل أنْ تُستحضر، فإنّ ما قد يَصعُب قَبُوله أنّ ذلك الأمر يَقتضي تأكيد أنّه، من جهة، لا "حديثَ/جديدَ" من دون قديم يُوجد كأصلٍ أو سبَبٍ له و، من جهة ثانية، لا "حديثَ/جديدَ" إلا ويصير قديمًا. ومن هنا، فإنّ "ٱلحَداثة" أبعد من أن تكون بلا "أُصول" مُؤسِّسة سواءٌ أَنُظر إليها كأسباب أمْ كقِيَم أمْ كشُروط.

    وإذا كان من الشّائع أنْ تُحدَّد "ٱلحَداثة" بما هي "إِحداثٌ"، فإنّ ما يَغيب (أو يُغيَّب) مع ذلكـ هو أنّ شُروط "ٱلوضع ٱلبشريّ" في ضرورتها وتداخُلها تجعل فاعليّةَ الإنسان غير مُمكنةٍ إلا بالنِّسبة إلى ٱلتّأسيس ٱلِاجتماعيّ وٱلتّاريخيّ الذي يَشتغل بالأساس من خلال آليّة "ٱلِاتِّباع/ٱلتّقليد" التي لا تكاد يُعترف بها إلا في "ٱلمُحاكاة" لدى الأطفال والتي يُنسى دورُها الجوهري في "ٱلتّنشئة ٱلِاجتماعيّة" المُنتجِة للفاعِلين. ولذا، فإنّه لا سبيل إلى ٱعتبار الفعل الإنسانيّ كـ"إِحداث" يُنشئُ موضوعَه ٱبتداءً فيُوجِدُ نفسَه خَلْقًا وتخلُّقًا إلا بجعل الإنسان في مَقامِ إلاهٍ مُتنزِّل على شاكلةِ تلكـ "ٱلذّات" (الديكارتيّة) القائمة كـ"جوهر مُستقلٍّ بنفسه ومُدرِكـ لها كحُضور دائم"، ممّا يُقيمها كـ"فاعل/مُبدِع" يَخلُق أفعالَه "بَدائعَ" من لا شيء وعلى غير مثال سابق. وهذا هو مفهوم "ٱلإبداع" الذي يُعدّ من قِبَل كثيرين "رُوح ٱلحَداثة"، رُوحها المُتعالِيَة على "ٱلضرورة ٱلِاجتماعيّة" بكل مُحدِّداتها ٱلتّاريخيّة وٱلِاقتصاديّة وٱلسياسيّة وٱلثقافيّة.

    لكنْ بالقدر نفسه الذي نجد أنّ مفهوم "ٱلإحداث/ٱلإبداع" ذاكـ يُظهر الجانب ٱلِادِّعائيّ في "ٱلحَداثة" بما هي "تَحرُّرٌ"، فإنّه يعمل على إخفاءِ حقيقةِ أنّ القدرةَ على "ٱلإنشاء/ٱلبِناء ٱلفنيّ" مُتجذِّرةٌ بعمقٍ في الوجود التّاريخيّ والبنيويّ للفاعلين الذين لا يستطيعون في الواقع أن يَنتزعوا ٱستقلالَهم المُراد إلا حينما يَمتلكون - بفعلِ مُمارَسةٍ ٱنعكاسيّةٍ غير عاديّة- الوسائلَ النّظريّة والعَمليّة الكفيلة بتعزيز فُرصهم في جعل "بُطلان/إبطال سِحْر ٱلعالَم" (disenchantement du monde) يَتّخذُ صورةَ سياسةٍ واقعيّة وعِلْميّة تجعل "ٱلحُريّة" المُقوِّمة لـ"ٱلمسؤوليّة" مَنُوطةً فِعْليًّا بـ"ٱلمَعقوليّة" كعملٍ جماعيٍّ مُؤسَّسٍ موضوعيًّا ومُسدَّدٍ معرفيًّا.

    هكذا، حينما يُؤكَّد أنّ "ٱلحَداثة" تزدوج بـ"ٱلخَباثة" في خطابِ "ٱلمُتحادِثين" بيننا، فليس المقصود شيئا آخر غير أنّها "خَباثة" بمعنى الدّعوة إلى ٱعتماد "ٱلحداثة" بالإخلاد إلى "خَبَثِ" ٱلأرض تكالُبًا وتكاثُرًا أو بمُسايَرةِ "خُبْث" النّفس الأمّارة بالسُّوء تظاهُرًا وتفاخُرًا. ذلكـ بأنّ الميلَ إلى عَرْضِ "ٱلحَداثة" كما لو كانت إذْعانًا محتومًا لمُقتضيَات "ٱلعصر ٱلحديث" ليس سوى تعبير عن أمرٍ واقعٍ لا يُردُّ له قضاء، أمر يُفيد أنْ يُسْلِمَ المرءُ مَقادَه لأزِمّةِ عصره مُمثّلةٍ، بالخصوص، في سيرورة "ٱلتّدهير/ٱلتّدْنِيَة" التي صارت تَفرِض على الإنسان المُعاصر أنْ يَحصُر كل هَمِّه في حُدود هذا "ٱلعالم ٱلدُّنيويِّ" باعتباره يُكوِّنُ ليس فقط الأُفق المُشتركـ بشريًّا، وإنّما أيضا بصفته غايةَ الوُجود والفعل البشريَّيْن. وينبغي أنْ يكون بيِّنًا أن "ٱلحَداثة" بهذا المعنى هي "ٱلخَباثة" بعينها حيث إنّها تَشُدّ هِمّةَ الإنسان المُعاصر إلى "ٱلعمل ٱلدُّنيويِّ" بما هو قَدرٌ أرضيٌّ بلا عاقبةٍ أُخرويّة، كأنّ "ٱلتّنوير ٱلحَداثيّ" لا يُفترَض فيه أنْ يُمكِّن دَوْمًا من "ٱلتّحرُّر" من كل الإكراهات وليس فقط من تلك المُتعلِّقة حصرا بالماضي الذي يُراد له يُطَّرح بتقاليده البالية ومُعتقداته المَوثُوقة!

    وفي ذلكـ المستوى بالضبط، يَتجلّى تهافُت خطاب "ٱلمُتحادِثين" كخطابٍ لا يَكتفي بتعاطي "ٱلحَداثة" تواقُحًا وتخابُثًا، بل يَذهب إلى حدِّ الوقوع في "ٱلتّعالُم" و"ٱلتّعاقُل" من خلال تشديدِ "أصالةِ ٱلحَداثة" كـ"إحداثٍ جذريٍّ" يقوم في صورةِ "لَوْح ممسوح" (أو "صفحة بيضاء") خِلْوٍ من كل آثار ٱلماضي ومُعدٍّ لإنشاءِ "بِدْعٍ مُحدَثٍ" يَستوي بَديعًا ساحرًا أمام أنظار العالَمين أو بين أيديهم ؛ وهو الأمر الذي يَفضحُ ذلكـ "ٱلتّطرُّف ٱلحَداثيّ" الذي يُراد به حصرُ المسألة كلِّها كما لو كانت مسألةَ حياةٍ أو موتٍ في السِّجال المُفتعَل والمُحتدِم بين "حداثةٍ طليعيّةٍ" (تُتصوَّر كإنجاز يُصطنَع دائمًا في صورةِ "إحداثٍ" و"إبداعٍ") و"سَلَفيّة رَجْعيّة" (يُنظر إليها كنُكوص نحو "أُصولٍ" يُطلَبُ حِفْظُها كاملةً وخالصةً بواسطة "ٱلتّقليد" و"ٱلِاتِّباع").

    وهكذا لا تَعُود "ٱلحَداثة" سيرورةً نافِذةً لـ"بُطلان/إبطال سِحْر ٱلعالَم" إلا في المدى الذي تَكُون أيضا سيرورةً ٱنعكاسيّةً على الدّوام تَكفُل المُساءَلة تأسيسًا وتجديدًا حتّى بالنسبة إلى ما يُعدّ "حَداثةً"، بل ضدّها حينما تَتعيّن فتَصيرُ تقليدًا آسِرًا وسُنّة مُتّبعةً بعيدًا عن كل ٱجتهادٍ ونقدٍ. فالِانخراط في "ٱلحَداثة" لا يكون، إذًا، بمجرد ٱدِّعاء "ٱلِانقطاع عن ٱلماضي" زُهدًا في قِيَمه وتجاهُلا لعطاءاته وٱلتّظاهُر، من ثَمّ، بـ"ٱلِانقطاع إلى ٱلحاضر" عُكوفًا على "قِيَم ٱلعصر" وتشرُّبها ٱستهلاكًا وٱجترارًا ؛ وإنِّما يكون بالِاقتدار على ٱمتلاكـ "مجموع ٱلقِيَم ٱلحيويّة" (سواء أتعلّقت بالماضي أمْ بالحاضر) من موقع "ٱلِاجتهاد" في مُساءَلتها وتجديدها حتّى لو ٱقتضى الحالُ مُراجَعةَ "قِيَم ٱلحاضر" في تكلُّفها وتحلُّلها على ضوء "قيم ٱلماضي" في بساطتها وصرامتها.

    وبدلا من "ٱلحَداثة ٱلقِشْريّة" التي تَدّعي ٱلِانقطاع عن " تقاليد ٱلتُّراث" في الوقت نفسه الذي تُرسِّخ ٱلتّبعيّة لـ"تُراثِ ٱلعصر"، فإنّه يجب تأسيس ضربٍ من "ٱلحَداثة ٱلبِنائيّة" يكون قِوامُها أنّ "ٱلتّجديد" الذي من شأنه أن يُعطِّل كل مَيْلٍ إلى "ٱلتّقليد" لا يَتأتّى إلا باجتهادٍ مُزدوِجٍ يُتِيحُ ٱلِانفكاكـ عن قُيود الماضي وإكراهات الحاضر في آنٍ واحدٍ، ممّا يُوجب أنْ يُقامَ العملُ "مُغالَبةً في ٱلجُهد ٱلعُمرانِيّ"، أيْ أنْ يكون بالتّحديد "مُجاهَدةً/جِهادًا" على النّحو الذي يُفعِّل "ٱلعقلَ" مُشارَكةً ومُغالَبةً في "ٱلجُهد ٱلتّنويريّ وٱلتّحريريّ" بعيدًا عن ٱستسهالِ المُتواكِلين في ٱتِّجاهِ سَلَفِ الماضي وعن ٱستعجالِ المُتكاسِلين في ٱتِّجاهِ سَلَفِ الحاضر.

    ولأنّ مثل تلكـ "ٱلحَداثة ٱلبِنائيّة" تُسفِّهُ أحلامَ دُعاةِ التّقليد بين المُنافِحين عن "ٱلتُّراث" سَلَفيّةً أو تَسلُّفًا وبين المُنتصرين لـ"مُنجزَات ٱلعصر" تَبعيّةً أو تحادُثًا، فإنّها لنْ تُقابَل إلا بالتّشكيكـ والتّبخيس من كلا الفريقين ليس فقط لِاضطرارهما إلى الدِّفاع عن توجُّههما التّقليديّ الصريح أو المُضمر، بل أيضا لوُقوعهما تحت وطأةِ ٱلِاستسهال وٱلِاستعجال ٱللّذين بقدر ما يُعفيان من بَذْل الجُهد الكافي إتقانًا في العمل وإحسانا في المُعامَلة، فإنّهما يَدفعانِ إلى خَوْض المُغالَبة بالإمعان في "ٱلتّخابُث" لإخفاء تَهافُتِ خطابٍ يَبتغي الأصالةَ ٱدِّعاءً وتكاسُلا ولا يَتوانى عن تطلُّبِ المشروعيّة تَظاهُرًا وتَجاهُلا.

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Oct 2011
    المشاركات
    1,524
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    2

    افتراضي هل يطبق حزب العدالة والتنمية المغربي شرع الله ؟

    هل يطبق حزب العدالة والتنمية شرع الله ؟

    أحمد الشقيري الديني - عضو الأمانة العامة في حزب العدالة والتنمية -

    " نحن في حزب العدالة والتنمية لن نطبق شرع الله، سنطبق برنامج حزب العدالة والتنمية ...سنحتكم للقانون والدستور...ولن نضع شرع الله في موقع المحاسبة.." هكذا صرح بعض الفضلاء في برنامج حواري على إحدى القنوات الفضائية، وهو تصريح يحمل من الفساد ما سنبينه بإذن الله من عدّة أوجه:

    الوجه الأول: قوله " نحن في حزب العدالة والتنمية لن نطبق شرع الله، سنطبق برنامج حزب العدالة والتنمية .." يوحي بأن برنامج حزب العدالة والتنمية مخالف لشرع الله، وهو ما لا يرتضيه المغاربة الذين صوّتوا للحزب فضلا عن مناضليه، فمن المعلوم أن حزب العدالة والتنمية ينطلق من المرجعية الإسلامية كما تنص على ذلك معظم الأوراق والأطروحات التي أنتجها منذ تأسيسه، كما أن الدستور ينص على سمو هذه المرجعية، والدولة على رأسها أمير المومنين.

    الوجه الثاني: حزب العدالة والتنمية لا يمكنه، هو ولا غيره من الأحزاب، تطبيق شرع الله بحذافيره، ومن فعل الممكن لا يلام على ترك مالا يمكن فعله، لأن فعل الواجب والمستحب يكون بقدر الاستطاعة، وقد قال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه عمر: "يا أبت، مالك لا تنفذ في الأمور، فو الله لا أبالي في الحق لو غلت بي وبك القدور. فقال له أبوه عمر: لا تعجل يا بني، فإن الله تعالى ذم الخمر في القرآن مرتين وحرّمها في الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعوه وتكون فتنة".

    وروي عن ميمون بن مهران أن عبد الملك بن عمربن عبد العزيز قال له يا أبت ما منعك أن تمضي لما تريد من العدل، والله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك، قال يا بني إنما أنا أروّض الناس رياضة الصعب، إني لأريد أن أحيي الأمر من العدل فأؤخر ذلك حتى أخرج معه طمعا من طمع الدنيا فينفروا من هذه ويسكنوا لهذه.

    وعن خالد بن يزيد عن جعونة قال: دخل عبد الملك على أبيه عمر فقال يا أمير المؤمنين ماذا تقول لربك إذا أتيته وقد تركت حقا لم تحيه وباطلا لم تمته؟ قال اقعد يا بني ان آباءك وأجدادك خدعوا الناس عن الحق، فانتهت الأمور إلي وقد أقبل شرها وأدبر خيرها، ولكن أليس حسبي جميلا أن لا تطلع الشمس علي في يوم إلا أحييت فيه حقا وأمت فيه باطلا حتى يأتيني الموت وأنا على ذلك؟

    فإذا كان هذا هو الحال والعهد قريب بعصر النبوة، وأحكام الشريعة قائمة وشعائر الدين لم تندرس بعد، فكيف به اليوم بعد أربعة عشر قرنا من الزمان، انتقل فيها لواء القوة والحضارة من المسلمين إلى غيرهم،ووطئت جيوش الإفرنج أرضهم، واستحكمت آراؤهم ونظرياتهم في عقول غير قليل من أبناء المسلمين، واختلط تعليمهم وإعلامهم وثقافتهم بتلك الآراء والنظريات والفلسفات، فنشأت قيم ودول وقوانين وأجيال من أبناء المسلمين على الغزو الثقافي، تدافع عمّا تعتبره الحق والعدل والتقدم والتنوير،وتستهجن موروثها الثقافي، وتعتبر المكان الطبيعي والوحيد للدين هو المسجد، لا دخل له في المعاش أو القيم أو السياسة والاقتصاد أو القضاء والحكم بين الناس.

    الوجه الثالث: اختزال الشرع الإسلامي في تطبيق الحدود خلل منهجي أصاب العقل الحركي الإسلامي منذ مطلع القرن الماضي مع سقوط الخلافة الإسلامية على يد أتاتورك، واستبدال الأحكام الشرعية التي لم تواكبها اجتهادات تسايرالتطور الذي يعرفه المجتمع، بالقوانين الفرنسية أو الإنكليزية، ثم انتصر مبدأ سمو القوانين الدولية مع سقوط المعسكر الشرقي وبروز ما يسمى ب"النظام الدولي الجديد" الذي تقوده الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون، وأصبحت الحدود الشرعية تنعت بالأحكام القاسية أو الهمجية لمخالفتها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومن تمّ بدأت تظهر مثل هذه التصريحات الشاذة : "نحن لن نطبق شرع الله.." على لسان مسؤوليين قياديين في الحركة الإسلامية لطمأنة الغرب وحلفائه الحداثيين في بلاد المسلمين، من غير اعتبار لمشاعر كتلة ناخبة مهمّة ذات توجه سلفي، تستفزها مثل هذه التصريحات الطائشة، وقد تدفعها إلى نزوعات متطرفة إذا لم تجد في الساحة السياسية من يستوعب مطالبها ويقترب من خطابها.

    الوجه الرابع: حزب العدالة والتنمية تعاقد مع الناخبين على تطبيق ما يمكن تطبيقه من شرع الله، وهو محاربة الرشوة والفساد والاستبداد، وتنزيل مقتضيات الدستور، وتفعيل صندوق الزكاة لمحاربة الهشاشة والفقر، وإحداث قوانين للبدائل الإسلامية في التعاملات المالية لإنعاش الاقتصاد ، وتشغيل الشباب الحامل للشهادات لتيسير سبل الزواج، وإصلاح التعليم والإعلام لإعادة الاعتبار للقيم الدينية والهوية الإسلامية، والاعتناء بأئمة المساجد والقائمين عليها تعظيما لشعائر الله وإقامة الصلاة، وتنمية العالم القروي من أجل محاربة الأمية والجهل وتفشي الشعوذة والقبورية ، ومحاصرة آفة انتشار الخمر والمخدرات والدعارة خصوصا في صفوف التلاميذ والطلبة...، وكلها مقاصد إسلامية عظيمة عليها يقوم جزء مهم من البرنامج الحكومي الذي وضعه الحزب مع حلفائه في الأحزاب السياسية الأخرى، ولا يمكن مطالبة الحزب بما لم يتعاقد عليه مع الشعب المغربي، وهذه إحدى بديهيات الديمقراطية.

    الوجه الخامس: قاعدة "التخلية قبل التحلية" كما يقول علماء السلوك، تعني في علم السياسة ترتيب الأولويات والتدرج في الأحكام، فمن غير المعقول أن تطبق حد السرقة في مجتمع طبقي يأكل فيه القوي الضعيف وتستأثر فيه فئة قليلة بالمال دون السواد الأعظم الذي يكابد من أجل رغيف أو دواء أو كراء، ومن غير المعقول أن تطبق حد الخمر في مجتمع تعمل الأسواق الكبيرة بتواطؤ مع بعض النافذين على تقريب الخمر من المواطنين، ومن غير المعقول أن تطبق حد الزنا في مجتمع ارتفع فيه معدل الزواج إلى 30 سنة والشباب لا يجد الشغل لبناء أسرة والعري قد عمّ السهل والجبل وكأن لسان حال العاريات يقول " هيت لك..."، فهل الشباب كله في مقام ورع يوسف عليه السلام؟ على أن هذه الكبائر من المحرمات تبقى قطعية، جاء تحريمها على لسان سائر الأنبياء، وهذه الحدود لا تسقط بالتقادم، والإسلام جاء رحمة للعالمين، لم يأت لقطع الأيدي والأرجل، فحرمة الإنسان في الإسلام عظيمة ولهذا شرع القصاص لئلا يظلم الناس بعضهم بعضا.

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Oct 2011
    المشاركات
    1,524
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    2

    افتراضي ﭐلكذبُ سياسةً وﭐلسِّياسةُ كذبًا!

    اﭐلكذبُ سياسةً واﭐلسِّياسةُ كذبًا!

    الأستاذ عبد الجليل الكور

    «إيّاكم والكذبَ، فإنّ الكذبَ يَهدِي إلى الفُجور، وإنّ الفجورَ يَهدِي إلى النّار! وإنّ الرَّجُلَ لَيَكذِبُ ويَتحرّى الكذبَ حتّى يُكتَبَ عند اللّـه كذّابًا. وعليكم بالصدق، فإنّ الصدق يَهدِي إلى البِرّ، وإنّ البِرّ يَهدِي إلى الجنّة! وإنّ الرَّجُل ليَصدُق ويَتحرّى الصدقَ حتّى يُكتبَ عند اللّـه صدِّيقًا.» (حديث نبوي مُتّفق عليه، واللفظ لأبي داود)

    «لم يُكذَبْ قطُّ كما يُكذَبُ في أيّامنا، ولم يُكذَبْ بلا حياء وعلى نحوٍ منهجيٍّ ودائمٍ كما يُكذَبُ الآن.» (ألكسندر كُوارِي)

    «ما كان الصدقُ قطُّ في عِدَاد الفضائل السياسيّة، ولطالما ٱتُّخِذَ الكذبُ وسيلةً مُبرَّرةً تماما في الشؤون السياسيّة. ومن تَجشَّمَ عناءَ التّفكير بهذا الصدد، فلا يُمكنه إلا أنْ يَندهش من رُؤيةِ إلى أيِّ حدٍّ أَهمل فكرُنا السياسيّ والفلسفيّ التقليديّ أن يَهتمّ، من جهة، بطبيعة العمل و، من جهة أخرى، باستعدادنا، بواسطة الفكر والكلام، لتشويه كلِّ ما يَظهر بوُضوح كواقع حقيقيّ.» (حنّا أرندت)

    قد غدا ٱلنّاسُ، في مُعظمهم، يَكْذِبُون كما يَتنفّسون ويَكذِبُون إلى حدٍّ يُجيزُ القولَ بأنّه لم يَعُدْ ثمّةَ خُلُقٌ أجدرُ بالإنسان من "ﭐلكذب" ٱفتراءً وتخرُّصًا. وإنّهم لا يَفعلون ذلكـ فقط لأنّ "ٱلكذبَ" ٱزدادت أهميّتُه كسلاحٍ ناجعٍ في مَعارِكـ "ﭐلكَسْب" و"ﭐلبقاء"، وإنّما يَفعلونه أيضا لأنّه صار جُزءًا لا يَتجزّأ من "ٱلفضيلة ٱلمدنيّة" المُتعلِّقة بـ"تدبير شُؤون ﭐلمَعاش"، حيث نجد أنّ من أشدِّ النّاس كذبًا أولئكـ الذين يَتعاطون "ٱلسياسة". ولهذا، إذا كان "ٱلكذبُ" في العادة يُمثِّل نوعًا من "ٱلسِّياسة/ٱلكِياسة" لدى عامّة النّاس (يَأتون "ٱلكذبَ" سياسةً)، فإنّه يُعدّ أساسَ المُمارَسة اليوميّة لدى مُحترفِي "ٱلسِّياسة" (يجعلون "ٱلسِّياسةَ" كذبًا).

    ومن حيث إنّ "ٱلكذبَ" خداعٌ وتغليطٌ بصدد "ٱلواقِع" (الذي يُنظَر إليه كموضوع للحقيقة)، فإنّ تعوُّدَه إلى حدِّ تبريره أخلاقيًّا وٱستغلاله عَمليًّا (خصوصا في مجال "ﭐلتّدبير ﭐلسياسيّ" للشُّؤون العُموميّة) يَبرُز كإحدى أشدِّ آفاتِ الإنسانيّة في الفترة المُعاصرة. ذلكـ بأنّ إخفاءَ "ٱلواقِع" أو تحريفَه بواسطة "ٱلكذب" قد صار مرغوبًا ومُبرَّرًا خصوصا في "ﭐلعمل ﭐلسياسيّ" (ورَديفه "ﭐلعمل ﭐلإعلاميّ")، على النّحو الذي جعله "فعلا إنجازيًّا" يَحظى بالأولويّة في خضّم ٱلنّزاع حول ٱستمالة "ٱلشّعب" وتسخيره بكل وسائلِ "ٱلتّمْنِيَة" و"ٱلتّلْهيَة".

    ومن المُلاحَظ، بهذا الصدد، أنّ بعض "أنصاف ٱلدُّهاة" كثيرًا ما يأخُذُهم الزّهْوُ حينما يُردِّدون القول الشّائع بأنَّ «ٱلسِّياسة فنُّ ٱلمُمكِن»، كأنّ الواحدَ منهم بمجرد النُّطق بهذه العبارة يكون قد أمسكـ بلطيفةٍ من الحقائق أو بديعةٍ من الفضائل. والحال أنّ ذلكـ القول ليس سوى أثَرٍ لِلرّأي الذي ٱستقرّ لدى كثيرين والذي يُفيد أنّ "ٱلسياسةَ" تُعدّ، على غرار "ٱلعِلْم"، مُمارَسةً لا أخلاق فيها: إذْ من الشّائع أنّه كما أنّ "ٱلعِلْمَ" بحثٌ يُلاحِقُ "ٱلمُمكِنَات" لاستجلائها وٱستخراجها، فإنّ "ٱلسياسةَ" بذلُ قُصارى الجُهد في تنزيل تلكـ "ٱلمُمكِنات" حتّى لو تعلَّق الأمرُ بالفعل قولا كاذبًا أو فِكْرًا باطلا أو عملا فاسدًا ؛ كأنّ المبدأ الذي يجب العمل به في المُمارستين العلميّة والسياسيّة كلتيهما هو «كل ما أمكن تصوُّره بالعقل وبَدت فائدتُه الإجرائيّة، وَجب إعماله وإنْ خالف أجلى المبادئ الخُلقيّة وأرسخ المُعتقدات الإيمانيّة» و، من ثَمّ، فإنّ فحوى ذلكـ القول الشّائع هي أنّ «ﭐلسِّياسة فنُّ ﭐلكذب»!

    لكنّ ما يجب تبيُّنه هو أنّ "ٱلسياسةَ" تتحدَّد، بالأساس، كـ"فضيلة مَدنيّة" ؛ ممّا يَجعلُها مُرتبطةً لا فقط بـ«ٱلقُدرة على تدبير الشّأن العامّ بالمدينة/ٱلمُجتمع»، وإنّما أيضا بـ«كيفيّة ٱلسُّلُوكـ وٱلمُعامَلة بين ٱلنّاس» (وهي كيفيّةٌ قائمةٌ على ما لا يُحصى من "ٱلمُعتقدات ٱلمُضمَرة" التي لولاها لما أمكن النُّهوض إلى العمل). ومن المعروف أنّ «ٱلكيفيّةَ ٱلعَمليّة في ٱلسُّلُوكـ» هي التي تُسمّى "ٱلخُلُق" أو "ٱلأخلاق". وبالتّالي، لا تكون ٱلسياسةُ "فضيلةً مَدنيّةً" إلا بالقدر الذي تَتحدَّد في أصلها كـ"فضيلة خُلُقيّة" تُوجب أنْ يكون "ﭐلعملُ ﭐلسياسيُّ" - إذا أردنا حِفْظَ التّعريف الشّائع- «فنّ ٱلمُمكن بحثًا عن ٱلأحسن/ٱلأصلح وعملا به». فكيف يَصِحّ، إذًا، أنْ تكونَ "ٱلسياسةُ" كذبًا؟ بل كيف صارت "ٱلسياسةُ" غيرَ مُمكنةٍ إلا ككذبٍ يُتعمَّدُ تَعمُّدًا ويُرتَّب ترتيبًا؟

    لعلّ ما يَنبغي الوُقوف عنده، هُنا، أنّ المُشكلةَ الأساسيّةَ تتعلّق بأنّ "ٱلكذبَ" - بما هو ضدّ "ٱلصِّدْق"- عملٌ بشريٌّ يَتّخذ "ٱلواقعَ" موضوعا له سواء أكان "ٱلمُخبَر عنه" مُتعلِّقًا بـ"ٱلواقع ٱلخارجيّ" (ٱلظاهر) أمْ بـ"ٱلواقع ٱلدّاخليّ" ("ٱلباطن" أو "ٱلضمير") ؛ إذْ أنّ الإنسانَ حينما يَكذِبُ إنّما يَعمل، بواسطة الفكر والخطاب، على التّصرُّف في مُعطيَات "ٱلواقع" الثّابتة خارجه أو المُدرَكة داخل نفسه إمّا بتزييفها وتحريفها وإمّا بإخفائها وتلبيسها.

    ولذالكـ، فإنّ "ٱلكذبَ" لا يَتحدّدُ كـ«إخفاء للحقيقة» إلا بما هو «تصرُّفٌ قصديٌّ في "ٱلواقِع"»، أيْ أنّه ضربٌ من "ٱلفِعْل" الذي يَأتيه المرءُ عن قصد والذي يُثبِتُ ما يَملِكه الإنسان من "ٱلقُدرة ﭐلذاتيّة" تُجاه "ٱلواقِع ﭐلموضوعيّ" الذي لا يَعُود، بالتالي، مُجرَّدَ موضوع لـ"ٱلتّمثيل/ٱلتّمثُّل"، بل يَصير مَسرحًا لتنازُع "ٱلإرادات" ليس فقط بفعل تناقُض المَصالح وٱختلاف الأغراض، وإنّما أيضا بسبب تفاوُت ٱلأوضاع وتبايُن الشُّروط المُحدِّدة ٱجتماعيًّا وموضوعيًّا لعمل الإنسان في هذا العالَم.

    إنّ "ٱلكذبَ" يُعَدّ، في "ٱلإسلام/ٱلدِّين"، أُولَى شُعَب "ٱلنِّفاق" («[...]، وٱللّـهُ يَشهد إنّ المُنافِقين لكاذبون.» [المُنافقون: 01]). ذلكـ بأنّ «إتيانَ ٱلكذب في ٱلحديث» مَدْعاةٌ للدُّخول في غيره من شُعَبِ "ٱلنِّفاق" من "إخلاف ٱلوعد" و"خيانة ٱلأمانة" و"فُجورٍ في ٱلخِصام". ولذا، فإنّ "ٱلنِّفاقَ" ليس سوى "كَذبٍ مُضاعَفٍ"، بل إنّه أشدّ أنواع "ﭐلكذب" خفاءً وأذًى على النّحو الذي يَكُون به "ٱلنِّفاق" ٱحترافًا للكذب، ممّا يجعل "ﭐلكذب" بحق "أُمَّ ﭐلرّذائل"!

    ذلكـ بأنّه لا خُلُق يَستقيمُ مع وُجود "ﭐلكذب" الذي ما دخل في شيء من عمل الإنسان إلا أفسده بخلاف "ﭐلصِّدْق" تماما الذي هو شرط صلاح كل فعلٍ (فإخلاص النيّة عينُ الصدق). وعلى الرغم من أنّ "ٱلكذبَ" يبدو كما لو كان سُلوكًا بسيطًا وجليًّا (يُقال إنّ ثمّةَ كذبًا أبيض!)، فإنّ تأمُّل واقع المُمارَسة الإنسانيّة يكشف أنّ "ﭐلكذبَ" أنواعٌ عدّة ومَراتبُ مُتباينةٌ بالشكل الذي يُؤكِّد أنّ الأمر يَتعلّق بواقع شديدِ التّعقُّد.

    ومن اللافِت للنّظر، بهذا الخصوص، أنّ "ٱللِّسانَ ٱلعربيّ" يَحتوي ألفاظا كثيرةً ("ٱفتراء"، "ٱختلاق"، "بُهتان"، "إفكٌـ"، "تخرُّص"، "إرجافٌ"، "زُورٌ") تَدُلّ على "ٱلكذب"، ممّا قد يُمكِّن من الإمساكِـ بدقائقه ويُساعدُ على تمييز أنواعه ومَراتبه. فـ"ٱلكذبُ"، عموما، «إخبارٌ عن ٱلشيء بخلاف ما هو عليه في ٱلواقع»، أيْ أنّ "فِعْلَ ٱلكذب" يَتناول "ٱلواقع" ويَعمل على التّصرُّف فيه بإخفاءِ حقيقته التي يُفترَض أنّها معروفةٌ أو مُدرَكةٌ سَلفًا من قِبَل ٱلكاذِب. وبما أنّ المعرفة بالواقع لا تكون دائما مُتحقِّقة أو تامّة، فإنّ "فعل ٱلكذب" قد يكون بأنْ يُظهِرَ الكاذبُ معرفته بواقع مجهول له فيُخبرُ عنه على الرغم من ذلكـ. ولهذا فإنّ «ٱلقَطْع بالكذب توجُّهًا وتعمُّدًا» يُسمّى "ٱلِافتراء" («إنّما يَفتري الكذبَ الذين لا يُؤمنون بآيات ٱللّـه.» [النّحل: 105] ؛ «ولكنّ الذين كفروا يَفترُون على ٱللّـه الكذبَ.» [المائدة: 103])، في حينٍ أنّ «ٱلكذب بتقدير ٱلواقع ٱختراعًا وتخريقًا» يُسمّى "ٱلِاختلاق" بصفته ميلا إلى تخيُّلِ أو توهُّم أشياء لا حقيقة لها (أيْ "باطلة") كأنّ ٱلكاذب في هذه الحالة "يَخترِعُ" أو "يُنْشِئُ" أو "يَصطنع" موضوعا (يُوصَف، لهذا السبب، بأنّه "باطل") فيَعرِضه من خلال الكلام كما لو كان مُتحقِّقًا بالفعل. و"ٱلكذب" في هذا المستوى ليس مجرد تصرُّف في "تمثيل ﭐلواقع"، بل هو تصرُّفٌ فيه بٱشتقاقه خياليًّا وتقطيعه فكريًّا ولُغويًّا بما يُحقِّق أغراض الكاذِب. ولأنّ مُمارَسةَ "ٱلكذب" كـ"ٱفتراء" تتجاوَزُ "ٱلواقع" نحو "ٱلباطل"، فإنّ وَقْعَها على السّامِع يكون شديدًا على النّحو الذي يُدْهشه ويُحيِّره، ممّا يجعل هذا النّوع من "ٱلكذب" يُسمى "ٱلبُهتان". وحينما يَتعلّق الأمر بـ«صَرْف ٱلشيء عن وَجْهه الذي يَحِقُّ له أنْ يكون عليه إلى وجهٍ يَجعلُه أفحش وأشنع» (صرفه من "ٱلحقِّ" إلى "ٱلباطل" أو من "ٱلصدق" إلى "ٱلكذب" أو من "ٱلحُسن" إلى "ٱلقُبح")، فإنّ هذا "ٱلكذب" يُسمّى "ٱلإِفْكـ". و«كل قول أُخبِر به عن ظنٍّ وتخمينٍ»، فإنّه يُسمّى "ٱلتّخرُّص" سواء أكان المَقُول مُطابِقا للمُخبَر عنه أمْ لم يَكُنْ. ويُسمّى «"ٱلكذب" ٱلمُحدِث للاضطراب ٱلشّديد أو المُثير للفتنة» بـ"ٱلإرجاف" (يُقال «ٱلأراجيف مَلاقيح ٱلفِتَن!»). وأمّا "ﭐلكذب" «حينما يُسوَّى ويُحسَّن كشهادة»، فيُسمّى "ٱلزُّور".
    وبِناءً على ذالكـ، يَظهر أنّ "ﭐلكذبَ" درجاتٌ أدناها «ﭐلإخبار عن ﭐلواقع بخلاف ما هو عليه»، وأعلاها "ﭐلِافتراء" الذي يُمثِّل - بما هو "ﭐختلاقٌ" و"تخريقٌ"- أساسَ كُلٍّ من "ﭐلإفْكـ" (صَرْف الواقع إلى نقيضه تقبيحا له) و"ﭐلزُّور" (تزيين ﭐلكذب حتّى يبدو كالشّهادة بالحقِّ). لكنّ "ﭐلكذب"، باختلاف درجاته ومَراتبه، يبقى نُزوعا قَصديًّا نحو التّصرُّف في "ﭐلواقع" بتحريفه وتلبيسه طلبا لأغراض شتّى تتراوح بين الخداع والتغليط وإيذاء الغير حرصا على حفظ هذه المنفعة أو تلكـ التي لا يَرى الكاذِب أنّ تحقيقَها يُمكن أن يتمّ من دون التّصرُّف فيما يبدو "حقيقةَ ﭐلواقع".

    و"ﭐلكذبُ"، بما هو كذلكـ، لا يَخفى أنّه "رذيلةٌ كُبرى" لا يَستحسنها إلا من فسدت طباعُه أو ﭐشتدّت مَطامعُه، بل إنّ حكمَه الشرعيّ والأخلاقيّ لا يَقلّ عن تحريمه والتّغليظ فيه. فـ"ﭐلكذب"، في الأساس، إنّما هو خُلُقُ وعملُ الذين لا يُؤمنون باللّـه («إنّما يَفتري الكذب الذين لا يُؤمنون بآيات اللّـه.» [النّحل: 105] ؛ «ولكنّ الذين كفروا يَفترُون على ٱللّـه الكذب.» [المائدة: 103]). وأكثر من هذا، فـ«إنّ الذين يفترون على ٱللّـه الكذب لا يُفلحون.» ([النّحل: 116])، وبالتّالي فـ«لا خيرَ في ٱلكذب» (موطأ مالكـ، سنن الترمذي)، أيْ أنّه مُحبِط للعمل أو أنّ عمل الكاذب في خُسر. ولذا، أتى النّهي عنه صريحًا: «إيّاكُم وٱلكذبَ وٱلفُجورَ!» (مُسلم: بِرّ، 103-105)، بل فُرِّق بينه وبين الإيمان: «يُطبَع المُؤمن على الخِلال كلها إلا الخيانة والكذب» (أحمد 5 و252) و«سُئل رسول ٱللّـه: أيَكُون المؤمن كذّابا؟ قال: "لا!"» (الموطأ، كلام 19). فلا عجب، إذًا، أنْ يكون «ٱلكذب عملَ ٱلنّار» (أحمد، 2 و176) وأنْ يُعدّ من "ٱلهَرْج" و"صِنْوَ ٱلقتل" (أحمد، 4 و406).

    وعلى الرغم من أنّ "ﭐلكذب" - من النّاحية المبدئيّة وبشكل عامٍّ- حرامٌ شرعًا ومذموم خُلقًا إلى حدِّ أنّه «ما كان خُلُقٌ أبغضُ إلى رسول ٱللّـه، صلّى ٱللّـه عليه وسلم، من ٱلكذب» (الترمذي: بِرّ ؛ أبو داود: أدب) وأنّ «من قال لصبيٍّ تعال هاكَـ، ثُمّ لم يُعطه فهي كذبة.» (أحمد، 2 و452)، فإنّ هناكـ ﭐستثناءً يُبيح "ﭐلكذب" إصلاحا بين المُتخاصمين أو مُخادَعةً للعدُوِّ في الحرب أو تطييبًا من ﭐلزّوج لزوجه («ليس الكذّاب الذي يُصلِح بين النّاس، فيَنْمِي خيرا أو يقول خيرا»، متفق عليه) ؛ «ليس بالكاذب من أصلح بين النّاس» أو «لا أعدُّه كاذبا الرجل يُصلح بين النّاس» (أبو داود: أدب ؛ الترمذي: بِرّ) ؛ «كل الكذب يُكتَب على ٱبن آدم لا مَحالة إلا أن يَكذِب الرجل في الحرب خُدعةً أو يكون بين رجل شحناء فيُصلح بينهما أو يُحدِّث ٱمرأته يُرضيها.» (أحمد: 6، 459، 461). ولأنّ ما أُبيحَ ﭐستثناءً يُعدّ ضرورةً تُقَدّر بقدرها، فإنّه لا مجال هنا مُطلقًا لأنْ يُسوَّغ "ﭐلكذب" عموما كذريعةٍ لجَلْب مصلحةٍ راجحة أو لدفع مَضرّة أكيدة. ذلكـ بأنّ القاعدة هي أنّ إتيانَ "ﭐلكذب" طلبًا للكَسْب أمر غيرُ مُباحٍ («[...]، ومن ﭐدّعى دَعْوًى كاذبةً ليَتكثّر بها، لم يَزِدْهُ ﭐللّـهُ إلا قِلّةً. [...]» [مُسلم، إيمان: 176])، وكذلكـ ذُمَّ ﭐستعمال "ﭐلكذب" من قِبَل "ﭐلإمام" أو "ﭐلحاكِم" ( «ثلاثة لا يُكلِّمُهم ﭐللّـهُ، عز وجل، يوم القيامة: الشيخ الزّاني والعائِل المَزْهُوّ وﭐلإمام ﭐلكذّاب» [النّسائي: زكاة، 77 ؛ أحمد: 2 و433] ؛ «ثلاثة لا يُكلِّمُهم ٱللّـهُ يوم القيامة ولا يُزكِّيهم [ولا يَنظر إليهم] ولهم عذاب أليم: شيخٌ زانٍ وملِكٌـ كذّابٌ وعائل مُستكْبِرٌ.» [مُسلم: إيمان، 172]). ولهذا، فإنّ تَوسيلَ "ٱلكذب" وإعطاءَه صفةَ "ٱلفضيلة ٱلسياسيّة" لا يُعدّ فقط تدهيرًا أو تَدْنِيَةً للأخلاق بـﭑسْمِ مكيافيليّةٍ مُتوقِّحةٍ أو داروينيّةٍ مُتألِّهةٍ لا تتردّد في أن تَجعل "ٱلأمر ٱلواقع" حاكِمًا للمُمارَسة العمليّة وحَكَمًا في كل مُفاضَلةٍ قِيمِيّةٍ، وإنّما هو أيضا - وبالأساس- إبطالٌ للعقل في ٱقتضائه للحقِّ وٱلعدل و، من ثَمّ، تشريعٌ للهوى في نُزوعه نحو ٱلباطل والظُّلْم، على النّحو الذي يُقيم "ٱلعمل ٱلسياسيّ" كتدبيرٍ دُنيويٍّ ومُتدنٍّ، تدبير بقدرما يبدو مُتحرِّرا من النّاحية الخُلقيّة يكون مُتسلِّطًا من النّاحية المدنيّة كدين مُتنكِّر في صورة "إلزام إنجازيّ".
    إنّ ﭐلِاستثناء الذي أُبيح به "ﭐلكذب" ضرورةً هو نفسه الذي صار فضيلةً (مدنيّة) لا يَتردّد كثيرون في تبريرها وتوسيعها بالنّظر إلى أنّ «ﭐلكذب - كما يقول "نيتشه"- حيثما ﭐكتسى صفةَ القيمة المقبولة، فإنّه يصير مُباحًا». وبما أنّ "ﭐلسياسة" تُعدّ ﭐستمرارًا للحرب بوسائل أُخرى (كما تقرّر تبعًا لـ"كلاوسفتز")، فإنّ "ﭐلكذب" يَثبُت بصفته أهمّ الوسائل التي يُمكِن أن تُستكثَر بها المصالح وأنْ تُتقّى "ﭐلحرب" نفسُها بواسطتها، خصوصا أنّ مفهوم "ﭐلحرب" قد ﭐتّسع ليَشمل كل "ﭐلشُّؤون ﭐلعامّة" باعتبارها مجالا تُخاض فيه النِّزاعات سياسيًّا ودبلوماسيًّا وإعلاميًّا بين الدُّول والأحزاب والمنظمات والشركات التي تتنافس وتتدافع حول شتّى الموارد والمصالح ذات الأهميّة الحيويّة والاستراتيجيّة.

    ومن ثَمّ، فبقدر ما صار مُمتنعًا أن يُتعاطى "ﭐلعمل ﭐلتّدبيريّ" كإنجاز حقيقيٍّ في حلِّ "مُشكلات/مُعضلات ﭐلواقع"، فقد أصبح "ﭐلكذب" وسيلةً ناجعةً ومشروعةً للتّصرف في "مُمكنات ﭐلواقع" كلانهائيّة من ﭐلِاحتمالات التي يُتفنّن خِطابيًّا وإعلاميًّا في تقديرها وﭐلتّلاعُب بها تظاهُرًا بحفظ "ﭐلمصالح ﭐلعامّة" وتنافُسًا في دفع "ﭐلمَضارِّ ﭐللامّة".

    لا غرو، إذًا، أنّه قد صار يبدو أن النّاس لم يبق بين أيديهم من "إمكانات "ﭐلتّدبير" إلا "ﭐلكذب". واللافت، بهذا الخصوص، أنّه قد أتَى في السُّنة ما يَكفي من الأحاديث لتأكيد أنّ فُشُوَّ "ﭐلكذب" من أشراط الساعة («خير النّاس قَرْنِي، ثُمّ الذين يَلُونهم، ثُمّ الذين يَلُونهم، ثُمّ يفشو ﭐلكذب حتّى يَحلِفَ الرجل ولا يُستحلف، ويَشهد الشاهد ولا يُستشهد! [...]» (الترمذي: فتن ؛ ابن ماجه: أحكام ؛ أحمد: 1، 18) ؛ «لا تظهر الساعة حتّى تظهر الفِتَن ويَكثُر الكذب» (أحمد، 2 و519) ؛ «إنّ بين يدي الساعة كذابّين، فاحذروهم!» (مسلم: إمارة، 10 ؛ فتن، 83 ؛ ابن ماجه: فتن، 9). فـ"ﭐلكذب"، إذًا، ليس مجرد فساد مُلازِم لظهور ﭐلفِتَن، بل إنّ فُشوَّه ليُعدّ من ﭐلفِتَن المُؤْذِنة بقُرب السّاعة.

    وفي المدى الذي يُنظَر إلى "ﭐلسِّياسة" بصفتها "مجالَ ﭐلتّدبير" في ﭐنفصاله عن "مجال ﭐلتّعبُّد ﭐلديني"، فإنّ المرء لا يَعُودُ قادرًا على وُلُوج أبواب "ﭐلسِّياسة" إلا بـ"ﭐلكذب" حرصا على مزيد من التملُّكـ والتَسلُّط، بحيث إنّه لا يستطيع أن يُثبِت نفسَه كسياسيٍّ إلا باحتراف "ﭐلكذب" والتّمرُّس به. وحتّى حينما يُقدِّم نفسه بصفةِ من يَترشّح - فقط- لخدمة "ﭐلمصلحة ﭐلعامّة"، فإنّه لا يكاد يُخفي في نفسه كونه لا يَتقدّم لـ"تولِّي ﭐلأمر ﭐلعامّ" إلا لأنّ هذه الصفة تُمثِّل، بالأحرى، مَدخلا لتحقيق "مَصالحه ﭐلخاصة" التي ليس أهونَها أنّه يَطمع في "أنْ يُشار إليه" أو "أن يُقال عنه". ذلكـ بأنّه ما كان ليَطمع في مُمارَسة "ﭐلسياسة" طالِبًا التّرشُّح وساعيًا إلى ﭐلنّجاح لو لم يَكُن الأمر يَتعلّق بطريق يُؤدِّي - بشكل مُباشر أو غير مباشر- إلى خدمة "مصالحه ﭐلخاصة" (التي ليست كلها ماديّة) من خلال التّظاهُر بخدمة "ﭐلمصلحة ﭐلعامّة". وأنّى للسياسيّ أن يُفلِح في إخفاء كذبه المزدوج (على نفسه وعلى النّاس) إذا كان إنّما يعمل - من خلال ﭐلِاستثمار الموضوعيّ- على زيادة حُظوظه الذاتيّة، وليس على ﭐلتّخلُّص منها تَعبُّدًا وتَزكِّيًا!

    ولأنّ إقامةَ ﭐلسِّياسة على "ﭐلكذب" يُنْظَر إليها كتحرير لـ"عمل ﭐلتّدبير" من قُيود ﭐلأخلاق، فإنّ التّوسُّع في تعاطِي "ﭐلكذب" يُراد به توسيعُ "ﭐلواقع" في ضيقه وﭐمتناعه عن إشباع حاجات النّاس. ومن هنا، فإنّ "ﭐلكذب" - خصوصا كيَمينٍ كاذِبة- يبدو مَنْفقةً لكُلِّ السِّلَع ومَجلَبةً لكل الخيرات. غير أنّ تشريعَ "ﭐلكذب" كخُلق سياسيٍّ لا يُثبِت أنّه "فضيلة مدنيّة" إلا بجعل "ﭐلتّدبير" تسويقا يَبتغي تسويةَ "ﭐلباطل" بديلا عن "ﭐلواقع" وغطاءً له، وهو الأمر الذي يَؤُول إلى التّنصُّل من القيام بأعباء "ﭐلتّدبير" (كترشيد لحُظوظ الكسب صدقًا وعدلًا) و، من ثَمّ، تسييب "ﭐلعمل ﭐلسياسيّ" كذبًا وزُورًا على النّحو الذي يجعله، في الواقع، مَمْحَقةً لكل كسب من خلال إشاعة أكل أموال النّاس بالباطل. ولذا، فكون "ﭐلكذب" صار مُلازِمًا للسياسة هو الذي نقل المُمارَسة السّياسية من "ﭐلتّنازُع ﭐلعمليّ" إلى "ﭐلتّكاذُب الخطابيّ/ﭐلإعلاميّ"، إذْ أصبح عمل الساسة قائما في صورة تكذيب مُتبادل ومُتواصل، ممّا يُؤكِّد أنّهم لم يعودوا يجدون سبيلا إلى "ﭐلإنجاز" سوى بإثبات كذب خُصومهم، كأنّ نسبة "ﭐلكذب" إلى هؤلاء كافية لإثبات تحقُّق أولئكـ بالصدق!

    وأكثر من ذلكـ، فإنّ "ﭐلسياسيَّ" وهو يَظُنّ أنّه بواسطة كذبه إنّما يُخفي عن "ﭐلجُمهور" (أو "ﭐلعَوَامّ") ما يَنبغي ألا يعرفوه (لأنّهم إذا عرفوه، فلن يكون في صالِحهم، بل سيضرّهم أو سيُؤذِيهم أكثر مما لو كُذِب عليهم فقط!)، لا يفعلُ شيئا آخر سوى مُضاعَفة «ﭐلخفاء ﭐلمُلازِم للواقع» و، بالتالي، زيادة نُزُوله الثّقيل على عامّة النّاس ممّن يَعيشون عادةً "ﭐلواقعَ" في تخفِّيه الطبيعيّ. فـ"ﭐلسياسيّ ﭐلكذّاب"، بعمله على تكريس الواقع المُتخفّي، لا يزيد إلا من مُعاناةِ الإنسان العاديّ الذي يُفرَض عليه أن يَستسيغ أنواعَ الإحباط والبُؤس بجُرعات مُنتظمة من "ﭐلكذب ﭐلمُهذَّب"، جُرعات هي نفسها لا تكفي إلا مع طبقات من "ﭐلجهل ﭐلمَرْعيّ" بواسطة فُنون مُبرمجة من "ﭐلتّسلية" و"ﭐلتّلهيَة" التي تُشدّ إليها الأنظار والرِّحال في آن واحد بفعل نوع من ﭐلتّواطُؤ الموضوعيّ بين "كذّابين مُحترفين" و"سّمَّاعين للكذب"!

    وهكذا، يَتبيَّنُ أنّ تدهيرَ "ﭐلسِّياسة" بقطعها تماما عن "ﭐلأخلاق" يُعدّ توجُّهًا يُناقِض رُوح "ٱلإسلام" بما هو "ٱلدِّين" الذي أكمله ٱللّـه لعباده رحمة وهدى («وتمّت كلمةُ ربِّكـ صدقًا وعدلًا، لا مُبدِّل لكلماته.»، [الأنعام: 115]) والذي أتى فيه الأمرُ بـ"تحرِّي ﭐلصدق" تخلُّقًا وتقوى («يا أيُّها الذين آمنوا! ٱتّقُوا ٱللّـه وكُونوا مع ﭐلصادقين.»، [التوبة: 119]). ومن ﭐلبيِّن أنّ ﭐلتّوسيل ﭐلسياسيّ للكذب بتعقيله تدبيريًّا وتفعيله إجرائيًّا لا سبيل إلى ﭐلِانفكاكِـ عنه إلا بالِاستقامة على جادّةِ ﭐلصِّدق كما يُمكن (ويجب) أن تَكفُلَها شُروط إقامة "ﭐلدِّين" تعبُّدًا تخليقيًّا وتزَكِّيًا تحقُّقيًّا في إطار "دولةٍ راشدةٍ" بُذل ما يكفي من "ﭐلجُهد ﭐلعُمرانيّ" لجعلها تَشتغل قانونيًّا ومُؤسسيًّا على أساس أنّ "ﭐلأكرميّةَ" لا تكون إلا بالتّقوى عملا صالحًا ومُعامَلةً بالحُسنى، من حيث إنّ ﭐلبُرهانَ فيها ليس مُغالَبةً جدَليّةً تكذيبًا وتكاذُبًا، وإنّما هو قيامٌ عمليٌّ مَنوطٌ بتحرِّي ﭐلصدق تَواصيًا بالحقِّ ومُقيّدٌ بالكينونة مع الصادِقين تَواصيًا بالصبر ؛ لأنّ ﭐلأمرَ كلَّه لا يَنحصر في إصابةِ حظ من هذه ﭐلدُّنيا كذبًا وزُورًا، بل هو موصولٌ بيومٍ هُنالِكـ حيث لا يَنفعُ إلا ﭐلصدقُ («قال ﭐللّـهُ: هذا يومُ يَنفعُ الصادقين صدقُهم، لهم جنّاتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا، رضيَ ﭐللّـهُ عنهم ورَضُوا عنه ؛ ذلكـ الفوز العظيم.» [المائدة: 119] ؛ «إنكـ ميّتٌ وإنّهم ميِّتون! ثُمّ إنّكم يوم القيامة عند ربِّكم تَختصمون. فمن أظلم مِمَّنْ كَذَب على ﭐللّـه وكَذَّب بالصدق إذْ جاءه؟! أليس في جهنمّ مَثْوًى للكافرين؟! وﭐلذي جاء بالصدق وصدَّق به، أولئكـ هُمُ ﭐلمُتّقُون. لهم ما يَشاؤون عند ربِّهم ؛ ذلكـ جزاءُ ﭐلمُحسنِين.»، [ﭐلزُّمَر: 30-34] ؛ «وما ظنُّ الذين يفترون على ﭐللّـه الكذب يوم القيامة؟ إنّ ﭐللّـه لَذُو فضلٍ على ﭐلنّاس، ولكنّ أكثرَهم لا يشكرون!»، [يونس: 60]).

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Oct 2011
    المشاركات
    1,524
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    2

    افتراضي

    الإعجاز العلمي في القرآن: مقدمات إيمانية وحقائق علمية


    الدكتور الحسين زايد
    أستاذ التعليم العالي، كلية العلوم – الرباط .. رئيس الهيئة المغربية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة

    قرأت مؤخرا مقالا بعنوان : "الإعجاز العلمي في القرآن، تعويض نفسي عن نهضة مجهضة" كنت أحسبه مفيدا ولكن سرعان ما خاب ظني، فما وجدته كان تعبيرا عن موقف سياسي من مسألة الفصلُ فيها لأهل العلم (من المسلمين وغير المسلمين)، وقد قالوا كلمتهم، لذلك لم يجدْ صاحب المقال إلا أن يتجاهل العقل والمنطق ويلجأ لاستعمال أسلوب يكشف عن سوء تفكير وتقدير (شتم مجّاني وتعميم غير علمي وجهل واضح بالموضوع).. ونحن ودون أن نقع في فخ هذا الأسلوب المرفوض، نسأل من هي الجهة المستهدفة بهذا الأسلوب؟ هل هم العلماء والمفكرون والباحثون في المجال العلمي والأساتذة الجامعيون مثلا ؟ قطعا، ليس هذا هو الأسلوب الأمثل لإقناع هؤلاء..

    وعليه، رأينا أن نردّ بما يُرضي أهل العلم أوّلا وأخيرا، ونترك المجال مفتوحا لأصحاب الرأي إن هم أرادوا الانضمام إلى الجمع، والتزاما بقوله تعالى: « ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » (النحل:125)

    لماذا الحكمة؟ لأنها أعلى درجات العقل، فبالحكمة نضع الأشياء في مواضعها، وننزل الناس في منازلهم.

    لذلك وجدنا القرآن يَحُثنا على إعمال العقل للوصول إلى الحقيقة، لأن العقيدة لا تقوم على الظن « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا » (الحجرات: 15)، « إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ » (النجم: 23)

    ولا على التقليد الأعمى ولا على التسليم بالموروث « لا يكن أحدكم إِمَّعَة »

    إنما تقوم العقيدة السليمة على العلم والبرهان « فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ » (محمد: 19) ، « قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ » (البقرة: 111)

    تلك هي العلاقة بين الدّين والعلم والقول بأنه "منظور يخلط بشكل متهوّر بين مجالين لا يمكن الخلط بينهما لا منهجا ولا موضوعا" قولٌ مخالف للمنطق ولفطرة الله التي فطر الناس عليها.. ومخالفة الفطرة الإلهية إنما تعني الخروج عن السُّنَن والإخلال بالموازين الكونية، وذلك هو عين التهوّر، وبما أن حقائقَ العلم استقراءٌ لِقَوانين الكون التي أودعها الله في كتابه المنظور وقنَّنها بقوانين مظبوطة، وحقائقَ الدِّين نقْلٌ صحيحٌ عن الله، جاء بها رسوله محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.. فلا يمكن أبدًا أن يكون هناك تناقض بين الكتابين لأنهما ببساطة من نفس المصدر. فالحق لا يعارض الحق، واليقين لا يعارض اليقين، وصحيح المنقول لا يعارض صريح المعقول. فالكون محكوم بقوانين محكمة، والقرآن أُحْكِمت آياته مصداقا لقوله عز من قائل « كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ » (هود:1).

    في هذا السياق، نتساءل من المسؤول عن التخلف؟ هل الدين هو المسؤول أم عدم الأخذ بأسباب العلم ؟ والقرآن يُؤكّد لنا على الأخذ بأسباب العلم (راجع قصة ذي القرنين وكيف تعامل مع عنصر الحديد بدرجة عالية من المعرفة بخصائص المادة).. هذا مثال على أن التقصير ليس من الدّين بل من الذين لم يأخذوا بأسباب العلم. فاختلافنا الجوهري يكمن في أسباب هذا التخلف.

    فلماذا يُوجِّه صاحب المقال أصابع الاتّهام إلى أصحاب اللّحى بالضبط ؟ هل له حساب معهم ؟

    من السهل أن ينهال المرء على الناس بوابل من الشتم والقذف..

    ومن السهل أيضا أن يُنصِّب نفسه فوق الجميع فيتّهم هذا ويُجرّم ذاك..

    ومن السهل كذلك أن يجلس المرء في حجرته أو مكتبه وينعت هذا وذاك بالتخلف (والتعويض عن سيكولوجية التخلف أمام تقدم الدول القوية التي تقود العالم)، إذ يمكن للآخرين أيضا أن يفعلوا نفس الشيء وينعتوا صاحب المقال بالترويح عن نفسه إخفاءً لجهله أمام الإنتاجات العلمية الحقيقية لعلماء العالم الغربي..

    لكن لو سألناه ماذا أضاف لهذه الأمة كي تخرج من تخلفها وتنهض من سباتها، فماذا عساه يجيب؟

    وهلاّ تتبع صاحب المقال ما قاله علماء غربيون وشرقيون متخصصون حول مصدر الحقائق العلمية الموجودة في القرآن؟ وكيف يُفسِّر تصريحات مجموعة من كبار علماء العلوم الكونية في مختلف التخصّصات، حول تطابق نتائجهم العلمية مع المعلومات الواردة في القرآن؟ لم ينزعج هؤلاء العلماء، وهم غير مسلمين، ولم يُخْفوا شعورَهم بالدّهشة حينما أُعْلِموا بأَنَّ ما توصّلوا إليه بعد البحث والدراسة قد أشار إليه القرآن الكريم إمّا تصريحاً وإما تلميحاً منذ أكثر من أربعة عشر قرنا. فماذا كانت النتيجة؟ أسلم بعضهم في حين أعلن البعض الآخر صراحة بأن محمّداً رسولُ الله وأن ما وَرَدَ في القرآن لا يمكن أبدًا أن يأتي من مصدر بشري، تلك شهاداتُهم معلومة ومسجّلة يُقيمون بها الحُجّة على أقوامهم : « قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » (الأحقاف – 46).

    وقد ذكر صاحب المقال في مُستهلّ كلامه أن العلماء من غير المسلمين هم القدوة في العلم والنظريات العلمية والعلماء المسلمون قد عرفوا ازدهارا نسبيا وكانوا يقومون ببعض التجارب.. أتمنى أن يكون صاحب المقال مُجرد جاهل لحقيقة الحضارة الإسلامية وليس له موقف منها.. ونحن ندعوه لتدارك هذا الجهل، ونُحيلُه على موقع "الإرث الإسلامي" Muslim heritage الذي يُوفّر معلومات مُهمّة حول الموضوع .





    هذا المعرض، الذي دُشّن في 21 يناير 2010 بمبادرة طيّبة من أناس فضلاء أرادوا أن يبيّنوا للعالم إسهامات العلماء المسلمين في مجالات العلوم والمعارف والتي شهد لها المنصفون من أهل الغرب، يُبيِّن أن الرّيادة في العلوم الهندسية والطبية والاجتماعية والزراعية والصناعية كانت للعلماء المسلمين، ومنهم نُقلت الثورة المعلوماتية لأوروبا والتي كانت السبب الرئيس في حصول الثورة الصناعية التي أسَّست لعصر العلم والتقنيات العلمية الحالية (راجع كتاب "شمس العرب تسطع على الغرب" للمستشرقة الألمانية "زيغريد هونكه").

    أما الزعم بأن العلماء المسلمين "لم يكونوا يفعلون ذلك انطلاقا من القرآن، بل انطلاقا من النظريات العلمية التي خلفها علماء وأطباء أمثال فيتاغورس وجالينوس وأبقراط وديمقريطس وبطليموس وغيرهم، وهذا ما أثبتوه في كتبهم وأبحاثهم"، وأنهم "لم يسبق لأحد منهم أن قال إنه اكتشف نظرية علمية ما من الدين، أو انطلق من قناعات أو نصوص دينية لكي يبحث في العلوم" فهو زعم باطل نَرُدّ عليه بمثال لا يختلف عليه اثنان: يتعلق الأمر بالعالم الجليل محمد بن موسى المعروف باسم الخوارزمي وهو غني عن التعريف، فمن يعرف الخوارزميات Algorithmes يعرف فضل هذا العالِم على البشرية جمعاء، ولعل صاحب المقال لا يعلم أن الخوارزمي وضع معادلاته الرياضية أساسا لحل مسائل الميراث وفقا لأحكام القرآن، وسرعان ما اكتشف الناس أن تلك المعادلات تمثل أداة قوية لحل المسائل المعقدة وأن لها تطبيقات هندسية وتقنية متعددة. وبهذه المناسبة، أُلْفِتُ انتباه القراء الفضلاء بأنه لولا جهود هذا العالم الفذ، لما استطاع صاحب المقال نشر مقاله عبر شبكة ألإنترنيت (لأنه ببساطة يستعمل جهاز حاسوب يستدعي كمّا هائلا من البرمجيات التي بدونها لا يمكن تشغيل الجهاز).

    فمن أين يا ترى استنبط الخوارزمي خوارزمياته؟ الجواب: من التدبر لكتاب الله..

    « كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ » (ص – 29)

    فأمر التدبر مُوَجّهٌ لكل الناس كي يعلموا عظمة هذا الكتاب « وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ » (الحج - 54).. والتذكر والإيمان به سيكون أولي الألباب حصرًا أي لأصحاب العقول النيّرة من الذين لا تأخذهم العزّة بالإثم، ولا يُكابرون ولا يُعاندون أمام الحقائق القرآنية الدامغة.

    أما فيما يخص الفقرة التالية من المقال والتي ربما توحي ب "الإشفاق" على الدّين يقول الكاتب "كما أن من نتائج استغلال العلم لأغراض دينية أن قام عدد من المختصّين بنشر كتب لتفنيد تلك الإدعاءات عبر إبراز ما سموه "الأخطاء العلمية في القرآن"، و"الأخطاء الحسابية في القرآن" و"الأخطاء التاريخية في القرآن".. كنّا نتمنى لو أشار المقال إلى "خطأ" واحد "ينير" به أذهاننا.. يقول عز وجل: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا » (النساء – 82) وكأن الله بهذه الدعوة يضع كتابه للدراسة والتمحيص.

    في القرآن الكريم إشارات علمية واضحة (تفوق الألف آية) وفي بعض الأحيان قد تستوقفنا كلمة واحدة فيها إشارة علمية واضحة تُوَجّهنا نحو تجارب مخبرية قد تدوم لسنوات ليس لاستنباط الإعجاز، فهو تحصيل حاصل، وإنما لاكتشاف ظاهرة كونية مُعَيّنة، وهنا تكمن أهمية التدبر في القرآن. فعندما نتدبر القرآن، نجد أنفسنا أمام منظومة من الحروف والكلمات المترابطة بيانيا والمتماسكة بلاغيا والمُحْكمَة عدديا... ونكتشف الدّقة البالغة في انتقاء الكلمات الملائمة للمعنى فيتضح لنا عمق المصطلح وامتداده، ودقة الرقم وأهمية الرّسم لأننا في حضرة كتاب الله الذي لا تنقضي عجائبه ولا تفنى عبره و« لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ » (فُصّلت - 42). وعلى سبيل المثال، عندما قرأ باحثو الهيئة المغربية للإعجاز العلمي في القرآن والسُّنة قوله تعالى من سورة يوسف (الآية 47) «فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِى سُنْبُلِهِ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ »، استوقفهم المصطلح وفهِموا حينذاك بأن هذه إشارة واضحة لكي يبحثوا في الموضوع ويستنبطوا الأحكام العلمية القطعية وليس الإفتراضية فنحن لا نقبل الفرضيات في تعليل النتائج العلمية.. ودام البحث 5 سنوات كانت نتائجه التطبيقية ذات أهمية حيث بَيَّنَتْ طريقةً فعّالةً في حفظ الحبوب.. ونُشِر البحث في مجلات علمية مختصة. فهل يَصِفُ صاحب المقال هذه التجربة بالتقاعس والسّطو على نتائج الباحثين الغربيين؟

    وكذلك عندما يخبرنا الله في سورة "المؤمنون" (الآية 20) عن تلك الشجرة « وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بِالدّهْنِ وَصِبْغٍ لّلاَكِلِيِنَ » فهي إشارة أخرى لذوي الاختصاص ودعوة للتدبر والبحث المضني والرصين بغرض استنباط الأحكام العلمية الدقيقة.. ونحن الآن في طور دراسة وتطوير عيِّنات من شجر الزيتون حسب نوعية الدُّهن وكمّياته في الزراعة داخل الأنابيب واستخراج عيِّنات تُقاوم بعض الأمراض عند ذات الشجرة. وقد وصف القرآن الكريم هذه الشجرة بالمباركة ونحسبها إشارة علمية للبحث في المجالات الطبية من تغذية وصناعة جمالية الخ....

    أما عندما يتعلق الأمر بالطب النبوي، فهل يوجد باحث عاقل يمكنه البحث في أبوال الإبل من أجل إنتاج دواء مستخرج من تلك الأبوال إلا أن يكون قد انطلق من الأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة، وهذه النتائج نُشِرت في مجلات علمية ذات مصداقية عالية.. وقد يطول بنا الحديث عن العلاج النبوي وما فيه من إعجاز علمي لا ينكره إلا جاهل.

    وقبل أن أختم، لا يفوتني التأكيد على أن الإعجاز العلمي كشف عن منهجية علمية قائمة بذاتها بَرَزَتْ بقوة خلال العقود الثلاثة الماضية، ولها تاريخها وضوابطها وفقهها وشروطها. ورغم أنه "يُزعِجُ" مُعارضيه الذين كلما نظمنا مؤتمرا أو عقدنا ندوة أو تحدثنا عن الموضوع إلا وخرجوا علينا بالسب والشتم والنقد السلبي.. والعجيب في الأمر هو أنهم يستعملون جميعا، أكاد أجزم، نفس المصطلحات وكأنما سُقوا من مصدر واحد.. يذكرون جميعا عبارة "لَيّ عُنُق الآية أو النصوص" ..

    هذا فيما يخص الكلمة، فماذا عن الرقم ؟ بالمناسبة نشير إلى أنه تمّ تنظيم ثلاثة مؤتمرات دولية خلال الخمس سنوات الفارطة حول الإعجاز العددي (الأول والثاني بالمغرب، والثالث بماليزيا .. وسيكون الرابع إن شاء الله باليابان أو الصين) في الوقت الذي كان فيه صاحب المقال "يتصيّد" الفرص لينقضَّ على "أصحاب اللحى" و"العربان".. فهل يتم كذلك لَيُّ عُنق الرقم أو العدد ؟ وهل حصل أن انتظر الباحثون في الرقم والعدد علماءَ الغرب ليُزوِّدوهم بالمعطيات التي سوف يبنون عليها فرضياتهم ؟

    إن في القرآن الكريم نظاما عدديا مُبهرا عَلِمَهُ من عَلِمَه وجَهِله من جَهِله.. وعدم إدراك الشيء لا يعني عدم وجوده.. فنصيحتي لهؤلاء أن يتناولوا الموضوع بجدّية أكبر، لأن الله أعزَّنا بالإسلام ومن ابتغى العزَّة في غيره أذلَّهُ الله، ويتدبَّروا القرآن في مجال تخصّصاتهم عَساهُم ينتفِعون وينفَعون، لأننا جميعا سوف نُسأل يوم القيامة عن عِلمِنا ماذا فعلنا به.. فلنعمل به خيرا لأنفسنا ولهذه الأمة، أو لنصْمُتْ.
    التعديل الأخير تم 12-10-2012 الساعة 05:44 PM

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Oct 2011
    المشاركات
    1,524
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    2

    افتراضي

    بِماذا يُؤمن الذين لا يُؤمنون بالله؟
    عبد الجليل الكور

    يَظُنّ بعضُ أدعياء "العَقْلانيّة"، منظورا إليها كـ«نَزْعة تجريديّة مُغالِيَة»، أنّ ردَّهم لـ"الإيمان" باسم "العقل" يَكفي لجعلهم خِلْوًا من كل "إيمان" ولِرَفْعهم درجاتٍ فوق الذين يرون أنّ الإنسان لا صلاح أو فلاح له في العاجل والآجل إلّا بـ"الإيمان": كَأنّ إيمانَ هؤلاء بالله وُجودًا لامُتناهيًا وكمالا مُطلقًا إفراطٌ منهم في "الوهم" أو "الظنّ" يُخرجهم تماما من حيِّز "الرُّشد" الإنسانيّ! وكأنّ وُقوف أُولئكـ بـ"العقل" دون "الإيمان" يَكفُل لهم الِانفكاكـ عن كل وَهْمٍ أو ظَنٍّ ويَستبقيهم في ذلكـ الحيِّز الذي لا ٱمتياز للإنسان من دونه. فهل، حقًّا، تَتنافى "العَقْلانيّة" مع "الإيمان" حتّى لو كان مُجردَ "إيمان" بقيمتها أو بقيمةِ "العقل" الذي هو قِوامُها؟ وهل يُمكن، فعلا، أن يَقُوم ثمّة عملٌ في حياة الإنسان (مثلا: الأخذ بـ"العقل") من دون أيِّ "إيمان"؟

    بِوُسع المرء، ٱبتداءً، أن يُجيب عن السؤال المطروح باعتمادِ قولٍ منسوبٍ إلى الأديب البريطانيّ "غلبرت كيث تشسترتون" (1874-1936) مُفادُه: «حينما لا يَعُود النّاس يُؤمنون بالله، لا يَصيرون غير مُؤمنين إطلاقًا، وإنّما هُم يُؤمنون بأيِّ شيء [سواه]!». وهذا القول هو الذي نجده عُنوانا لفصلٍ بكتابِ "أُمبرطُو إيكُّو" المُسمّى «سَيْرًا القَهْقَرَى، مثل الإرْبيّان: حُروبٌ ساخنةٌ وشَعْبانيّةٌ إعلاميّة» (2006، الترجمة الفرنسية، ص. 333-353)، وفيه يَأتي على ذكر أنواع من موضوعات "الإيمان" (السَّنة الصفر، "السيمياء"، الأب "أمُورت" في روايات "هاري پوتر"، "الوُسطاء الرُّحانيّون"، "فُرسان المعبد"، روايات "دان براون"، "التُّراث"، "ثالث الأسرار المقدسة") التي يَتعاطاها كثيرٌ من النّاس في "العصر الحديث" رغم نُفورهم من "الإيمان" بالمعنى الضيِّق (والتقليديّ)!

    إنّ الذين يَعتقدون أنّهم لم يَعُودوا يُؤمنون بالله نجدهم يُؤمنون حتمًا بكل ما يقع تحت إدراكاتهم (الحسيّة بالأساس) من زينةِ/مَتاعِ هذا العالَم الدُّنيويّ أو بكل ما تَشرئِبُّ نحوه أهواؤُهم وآمالُهم ويَتفانون في الاستمتاع به ٱستكثارا منه وٱستهلاكا له. ولولا إيمانُهم بشيء من هذا، لما ٱستطاع أحدُهم أن يقوم بأصغر خطوة في طلبه أو البناء عليه في طلب غيره. وإنّهم ليُؤمنون بكل ذلكـ سواءٌ أَأنزلوه منزلةَ "الحقّ" المُتعيِّن في الواقع الخارجيّ أمْ عَدُّوه مُجرَّد وَهْمٍ صار ضروريِّا بفعل مُلابَسته، مُنذ الطفولة الأُولى، لمَعيشهم اليوميّ. وأكثر من هذا، فلا شيء أغرب من أنّ إرادتَهم التخلُّص مِمّا يَعُدّونه الوهم الأكبر ( "الله" في زعمهم) لم تُوقف لديهم "الإيمان" بأوهامٍ صُغرى أدناها تسليمُهم البديهيّ بثُبوت الأرض تحت أقدامهم، وأشدُّها إيقانُهم بأنّ "الواقع" مُتحقِّقٌ موضوعيّا ولا شيء فيه ممّا تَبْتنيه خيالاتُُهم المُجنَّحة أو تدفع إليه أهواؤُهُم المُتطاوِلة!

    وفي المدى الذي يُريد بعض أدعياء "العقلانيّة" أن يظهروا بمظهر من لا أثَر إطلاقا لـ"الإيمان" في وِجدانه أو سُلوكه، فإنّ الأمر يَفرض أن يُعالَج "الإيمان" باعتباره موضوعا يُثير مُشكلةً أشدّ جذريّةً بالنّظر إلى أنّه حقيقةٌ شُعوريّة وتَجربيّة تَتجاوز القضايا التأمُّليّة المُجرَّدة وتمتدّ بعيدا في أعماق الحياة العَمليّة للناس بما هُم فاعلون على أساس «ٱعتقاداتٍ موثوقة» أو «بَداهات عُرْفيّة» لا سبيل للانفكاكـ عنها إلا بأداءِ ثمنٍ غال يكون، عند «أنصاف الدُّهاة»، عطالةً مُميتةً أو عدميّةً مُدمِّرةً ؛ ويُمكن أن يكون، بمزيد من التّبصُّر والتّروِّي، مُجاهَدةً معرفيّةً وخُلُقيّةً لا تكاد تنتهي.

    ولعلّ ما يَنبغي الالتفاتُ إليه، ٱبتداء، أنّ من يَدَّعي ٱطرّاح "الإيمان" يَغْفُل عن أنّ مُرادَه لا يَصحّ إلا بمعنَى الخُروج إلى أحدِ أضداده (الظنّ، الكُفر، الشكّـ) أو إليها جميعا! فإذَا كان "الإيمانُ" يقوم على «التّصديق بلا أدنى رَيْب»، فإنّ المرءَ لا يكون بلا "إيمان" إلا إذَا صار "التّكذيبُ" مُحيطا بكل ما يُحصِّلُه من صُنوف "الإدراكات" و"التّصوُّرات" و"الأحكام" على النحو الذي يجعلها لا تعدو لديه "الظُّنُون" و"التّخمينات" الظرفيّة التي تبقى مُعرَّضةً دوما لـ"التّكْذيب" و"التّفنيد" بحيث يَكفُر بعضُها بعضا أو يُكْفَر ببعضها بعد الآخر. ومن أدركـ هذا، فلن يجد بُدّا من أن يُواجه فعليّا مُشكلةَ إرادة تأسيس "العمل" بمجرد "العقل" في الحياة الإنسانيّة: كيف يَصحّ أن يكون "العقل"، بما هو نظرٌ مُجرَّدٌ، دافعا إلى "العمل" وهو لا يستطيع أن يجد في أصله إلا ٱعترافا بحُدوده الإدراكيّة أو تشريعًا لأبواب "ٱلشكّـ" على مَصاريعها؟!

    لقد شاع بين كثيرٍ من المُعاصرين أنّ الخروجَ من «الشكّـ المَذهبيّ» والانفكاكَـ عن «الوُثوقيّة الاعتقاديّة» لا يكون إلا بنوع من «الشكّـ المَنهجيّ» الذي يُراد به تأسيس "العقل" كـ«فحص نقديّ» لا يُفلِت منه شيءٌ ولا يدع شيئا لا يُخضعه لمُراجَعةٍ شاملةٍ. والغالِب أنّه لا مُستنَد لهم في هذا سوى تأويلٍ مغلوط لـ"الكُوغيطو" كما أعاد بناءَه "ديكارت" (بعد القديس "أُغسطين")، وهو تأويل يَحرِص أصحابُه على جعل "الذّات" أصلَ "اليقين" كما يَتجلّى في قولِ «أُفكِّر، إذًا أنا موجود» (وَرد عند "أُغسطين" بصيغةِ «أُخطئ، إذًا أنا موجود»!).

    لكنّ المعروف عند "ديكارت" نفسِه أنّ كونَ ذلكـ القول بيِّنًا بذاته على النحو الذي يجعلُه مثال "البداهة" أو "اليقين" لا ضامن له إلا "الله"، بل إنّ "الذّات" عينَها بما هي جوهر قائمٌ بنفسه ليست سوى صُورةٍ لـ«واجب الوُجود». وعليه، فالأصل في يقين "الكُوغيطو" ليس ما عُدّ شكًّا منهجيّا كُليّا، وإنّما هو "إيمانٌ" مُضمَرٌ يَتعلّق بأنّ حقيقةَ "الجوهر" في ٱستقلاله الذاتيّ لا تنطبق إلا على «الكائن الأكمل» الذي هو مصدر أفعال "العقل" بمُقتضى أنّه يَستمر في خَلْق العالَم ولا يَنكفئ إلى مَقام المُشاهِد المُحايِد كما انتهى إليه "الرُّبُوبيّون" (خصوصا بعد الانقلابين الكوپيرنيقي والنيوتُونيّ). وكونُ "الكُوغيطو" لا يَقبل عند "ديكارت" إلا هذا التّخريج هو الذي يَستبعد ما يَذهب إليه بعض "المُبْطِلين" من أنّ إيمانَه المُعلَن لم يكن سوى تَرْضيَةٍ مُلتوية للكنيسة خوفا من بطشها. والحالُ أنّه لو صحّ ذلكـ، لكان صاحبُنا سيِّد المُتناقِضين بجعله "الشكّـ" يُؤسِّس نفسَه في صورةِ نقيضه الذي هو "اليقين" (يَغفُل "المُبطِلون" عن أنّ "ديكارت" لم يأخذ "الشكّـ" مُطلَقًا بصفته «النّفي التامّ»، وإنّما أخذه فقط بما هو «تردُّدٌ داخليّ» يَحتاج إلى مَحلٍّ حيث يَستوي: فإنْ يَكُنْ ثمّة "شكّـ"، فهو "فِكْر" ؛ ولا بُد لكل "فِكْر" من "ذات" تَحمِلُه كصفة مُعيِّنة لها بما هي "جوهر")!

    ومن ثَمّ، فإنّ من كان يَظُنّ أنّ "الإيمان" لا موضع له في عقلانيّةٍ قِوامُها «الشكـ المَنهجيّ» يَغيب عنه أنّ من أمكنه أن يَدخُل في «الشكـ الجذريّ» (كما يُوهِم "ديكارت" قارئَه، إذْ يُرسل القول بأنّه قد شكّـ في كل شيء!) لن يَستطيع أبدًا الخروج منه (بأيِّ قُدرةٍ خارِقة يُمكن أن يَنقلب "الشكّـ" إلى "اليقين"؟!). ذلكـ بأنّ مُمارَسة "الشكّـ" بمعنى «ٱلتردُّد في الحُكْم بين الإثبات والنفي» لا يُنْتِج، إذَا أُطلِقَ إلى أقصى مدًى، إلّا «ٱمتناع الحُكم بإطلاق» على النحو الذي يَجعل "الشّكّانيّة" (كنزعةٍ تُبالغ في إعمال "الشكّـ") تُبْطل نفسَها بمجرد ما تَشرع في العمل، لأنّه لا يُمكنها بتاتًا أن تقوم على مجرد «تعليق الحُكم» كما لو كانت خُروجا دائما من تكذيب إلى آخر، بل لا بُدّ لها على الأقل من "تصديق" أصليّ يُؤسِّسها و"تصديق" آخر يُفيد كحد وَسط لإمكان الانتقال من تكذيب إلى آخر. وبالجُملة، فإنّ من يَتراءى له أنّ "العقل" يُمكنه أن يشتغل فقط كمجرد «فَحْص نقديّ» يَنْسى أنّ "النّقْد" لا يكون شيئا من دون "العَقْد" الذي يُؤكِّد أصلا جدواه بما هو "تمييز" و"حُكْم". فلا "ٱنتقاد" من دون "ٱعتقاد"، ولا "عقل" بلا "أصل" (إيمانيّ) ظاهر أو باطن.

    وهكذا، إذَا ثَبَت أنّ "الإيمان" يُلازِم أبسط أفعال "العقل"، فإنّه يَصير بَيِّنا أنّ مَدارَ الأمر كُلِّه إنّما هو "ٱلِاعتقاد"، حيث إنّ أيَّ شكل من "المعرفة" لا يكون مُمكنًا إلا على أساس تَوفُّر "ٱلصِّدْق"، مِمّا يجعل "المعرفة" تُحدَّد بما هي «ٱعتقادٌ صادقٌ ومُعلَّلٌ»، أيْ أنّها "ٱعتقادٌ" يكون موضوعا لأقدارٍ مُتفاوِتة ومُتواليةٍ من "التّصديق" و"التّعليل". ومن هُنا، فافتراض التّناقُض بين "العقل" و"الإيمان" لا يَستلزم فقط ردّ هذا الأخير كما لو كان تصديقا غير مُعلَّل، بل يَقتضي بالأحرى ردَّ "العقل" نفسه لأنّ هذا يُمثِّل خيرَ تعبير عنه (يقول "پـاسكال": «لا شيءَ أشدُّ مُوافَقةً للعقل من هذا الجُحود للعقل.»)!

    حقًّا، إنّ المحذورَ يَبقى أن يَتحوّل "الوُثُوق" الموجود في أصل "الإيمان" إلى «ٱعتقادانيّة» أو «جُمودٍ عَقَديّ» بحيث لا يعود "العقل" معه إلا مجرد خادمٍ يُبرِّر أفعال سيِّده على كل حال. لكنّ الوُثوق بـ"العقل" نفسه يُمكن أن يَسمح بمثل ذلكـ «الجُمود العَقَديّ» حتّى لو سُمِّي «ٱنتقادانيّةً» أو «عَقلانيّةً نقديّةً»، لأنّ "النَّقد" لا يُؤتَى بِناءً إلا بقدر ما يُراوِح بين عَدَميّةِ "النَّقْض" وإيمانيّةِ "العَقْد" بالشكل الذي يجعل الاستسلام المُتعقِّل إلى دواعي «الأمْن/الأمان» أقوى من الميل إلى نوازع "الظنّ" و"التّخمين". والحالُ أنّ "الإيمان" ليس ضربةَ لازِبٍ تُنجَزُ مَرّةً واحدةً وينتهي أمرُها إلى الأبد، وإنّما هو صيرورةٌ نظريّةٌ وعمليّةٌ يَتقلّب فيها "العقل" بين درجاتِ أو منازلِ "الإيقان" هُروبًا من مَهاوي «الشكّـ الجُحُوديّ» وطلبًا للمزيد من «الاطمئنان الإيمانيّ» تماما كما جسَّده "إبراهيم الخليل" الذي أُوتي رُشدَه فآمن وذهب يَتفكّر في الآيات ليَطمئنّ قلبُه (البقرة: 260).

    وإنْ تعجبْ بَعدُ، فعجبٌ من أنّ أدعياء "العَقْلانيّة" في إيمانهم بالحياة - بما هي مجرد وُجود دنيويّ- لا يُؤمنون بها إلا وهُمْ يَكفُرون بأصلها الغَيْبيّ الذي يُحيل إلى غايتها الوُجوديّة. ولهذا فإنّهم لا يُؤمنون إلا بظاهرٍ من «الحياة الدُّنيا» يجعلهم بالضرورة أحرص الناس على حياة، إذْ أنّهم لا يستطيعون بجُحودهم أن يَتجاوزوا كُفْران "العَطاء" إلى وِجدان "الحقّ" إيمانًا مُؤسِّسًا وعِرْفانًا مُتجدِّدًا. ولأنّ ٱتِّخاذ "العقلانيّة" كمجرد «تشكيكـ جذريّ» لا يَلبث أن يَستوي كـ«تَأْنيس مُتألِّه» ( "الإنسان" في تأنُّسه إنّما هو "تأنيسٌ" لرغبته في أن يكون إلاهًا!)، فإنّ ما يُعَدّ فيها تعبيرا أصيلا عن الإيمان بـ"الإنسان" (بما هو ذات عاقلة أو مُتعقِّلة) لا يُؤسِّس لـ"التنوير" إلا تعاقُلا عَلْمانيّا/دَهْرانيّا ولا يُمكِّن من "التحرير" إلا تكالُبًا شيطانيًّا، تعاقُلٌ وتكالُبٌ يُتفانَى في تجميلهما بصفتهما يُحقِّقان "الإنسيّانيّة" (humanism/l'humanisme) بما هي الوُجود والفعل في حُدود ما يَسمح به «الوضع البشريّ» بالنِّسبة إلى شُروط هذا العالَم (الدُّنيويّ). وبالمُقابل، فحَسْبُ «أهل الإيمان» أنّهم لا يَرون ضَيْرًا في بناء "الرّاشديّة" عملا بَشريًّا مُهتديًا وٱجتهادًا عقليّا مُتخلِّقًا لإيقانهم بأنّ تحقُّقهم الإنسانيّ في هذا العالَم المشهود لا يَتمّ إلا في عَلاقته بالإمداد الرَّبّانيّ المكفول إكراما والموصول إنعامًا من لَدُن ربِّ السماوات والأرض الذي لا يَثبُت شيءٌ من دُون الإيمان به حقًّا وعَدْلًا.

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. سؤال: كيف تطورنا إلى كائنات حرة مختارة؟
    بواسطة هشام بن الزبير في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 17
    آخر مشاركة: 08-24-2013, 09:52 PM
  2. سلسلة مقالات مختارة : بين أرسطو وأمي يطو
    بواسطة ابن عبد البر الصغير في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 07-04-2012, 03:56 AM
  3. طلب كتب مختارة
    بواسطة مؤمن في المنتدى قسم الاستراحة والمقترحات والإعلانات
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 03-08-2010, 04:24 AM
  4. الاستنســـــاخ .. مقالاتٌ و بحوث .
    بواسطة حسام الدين حامد في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 07-19-2008, 11:12 PM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء