د.أحمد خيري العمري- العمران- أونتاريو – كندا

لم يأتنا الاستبداد من كوكب آخر, كما أنه لم يكن مجرد ضيف عابر علينا, لقد نشأ نتيجة لظروف معقدة و تداخلات تاريخية, و وجد تربة خصبة من التحالفات التي وفرت له النمو و الحماية، ربما كان أهمها تطويع بعض النصوص القرآنية و النبوية و إخراجها من سياقها من أجل إيجاد شرعية للاستبداد, و تطلب الأمر أحيانا اختراع نصوص أخرى من أجل تكريس المزيد من الاستبداد, وكل ذلك تراكم مع الفتاوى التبريرية و ضرب طوقاً من الحصانة و القداسة على مفهوم الاستبداد برمته.

وهكذا فان الاستبداد ليس مجرد علاقة بين طرفين (حاكم و محكوم) , بل هو منظومة ثقافية كاملة, لا تغمر طرفاً واحدا فيها, بل تغمر الجميع : حكاماً و محكومين, إنها معادلة اجتماعية كاملة, الإطاحة بطرف واحد لن ينهي الاستبداد, بل سيغير من شكله فقط، و سيفرز أشكالا و أنماطا جديدة منه.

كذلك فإن الديمقراطية لم تأت الى أوروبا من كوكب آخر, و لم يستيقظ البريطانيون -أصحاب أعرق ديمقراطية حديثة في أوروبا- فجأة في (1969م) ليقوموا بأول اقتراع شارك فيه كل المواطنين”ذكورا و إناثا” فوق سن الثامنة عشر, بل استغرق الأمر أكثر من ستة قرون, منذ أول تصويت شارك فيه كبار ملاك الأراضي فقط لينتخبوا أول برلمان في(1265 م), و زاد عددهم بالتدريج خلال القرون الستة بتقليل مساحات الأراضي المطلوبة للمشاركة في التصويت ، لم يتمكن ذكر بالغ في بريطانيا لا يمتلك قطعة أرض من المشاركة في التصويت إلا في عام 1918م, أما المرأة بنفس العمر فقد انتظرت خمسة عقود أخرى إلى أن تمكنت من ذلك، أي إلى أن وصل الأمر للاقتراع العام بمفهومه الحالي.

هذه القرون الطويلة أنشأت مفاهيم و مؤسسات, و كونت منظومة ثقافية واضحة المرجعية, أنتجت ذلك الفرد الذي ذهب ليشارك في أول اقتراع عام 1969م, فرد استغرق تكوينه أكثر من ستة قرون, فالتصور بإن “الفرد” الذي تكون عبر قرون الانحطاط و السلبية و تقديس الاستبداد، يمكن أن يتغير ليصير فردا آخرا بمجرد وقوفه أمام صندوق الاقتراع هو تصور سطحي، يعتمد على إمكانية استنساخ نتائج التفاعل و نقلها دون شروطه و معادلته الأصلية.

والحديث الجاري عن توافق الإسلام و الديمقراطية الذي يصل عند البعض إلى حد “إن الإسلام هو الديمقراطية”, لا يملك من الحقيقة أكثر مما تملكه الشعارات البراقة، ليس لأن الديمقراطية تتعارض — أو لا تتعارض– مع الإسلام، ولكن لأن الخوض في هذا كله يجب أن تسبقه مراجعة حقيقية لأسباب الاستبداد و جذوره العميقة, التي تمتلك طوقا من الحصانة و القداسة, تجعل مراجعتها يشبه التنقيب و الحفر في حقل من الألغام.

من السهل طبعا القول إن الإسلام ضد الاستبداد, و”متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا”, -و ذلك صحيح لكن لا علاقة له بالديمقراطية طبعا- , الأهم من هذا هو مراجعة أقوال و فتاوى أخرى تكرس و تبرر الاستبداد، بغض النظر عن هذه الأقوال و عن مرجعيتها لن ينفي وجودها و إمكانية استنفارها في أي وقت طالما بقيت كامنة في العقل الجمعي.

والحقيقة هي إن الديمقراطية في هذا السياق صارت تبدو كما لو أنها “هدفاً” بحد ذاته و ليست “وسيلة”, وقد عملت وسائل الإعلام على الترويج للديمقراطية بهذا الشكل و إسباغ صفات القداسة عليها, و اختزال نجاحات الحضارة الغربية و ازدهارها بربطها بالديمقراطية, و رغم إن هذا كله بعيد عن العلمية و الموضوعية, فالديمقراطية فصل من فصول التجربة الغربية و ليست فصلها الأوحد, و قد سبقتها فصول أهم مثل: النهضة و التنوير و الإصلاح الديني, و كلها أسهمت بطريقة أو أخرى في تعبيد الطريق لفرد يكون مؤهلاً لخوض تجربة الديمقراطية, و كذلك فإن الترويج للديمقراطية يلغي أنها قد تؤدي أحيانا لنتائج كارثية, كما حدث عندما أفرزت هتلر (وآخرين من مشعلي الحروب الحاليين أيضاً وصلوا عن طريق الديمقراطية) .

كما إن الديمقراطية لم تنجح دوما في تحقيق الازدهار الاقتصادي على الأقل عندما طبقت خارج سياقها الحضاري, فأكبر ديمقراطية في العالم (الهند) لم تنجح في القضاء على الفقر فيها, بينما نجحت الصين (ذات الحكم الشمولي البعيد عن الديمقراطية) في أن تحقق قفزة اقتصادية هي الأهم و الأكبر في الاقتصاد العالمي .

ليس هذا طبعاً ترويجاً للاستبداد , فليس هناك ما هو أبغض منه إلا ذلك التصور أنه لا بديل عنه سوى “النقل الحرفي” للنتائج الأخيرة لتجارب الآخرين, وهو نقل ينفي وجود اختلافات في طبيعة المجتمع, ليس اقلها وجود اختلاف كبير في نسب التعليم و الأمية, الأمر الذي سيفرز طبقة واسعة من الناخبين الأميين أو قليلي التعليم الذين يسهل جرهم الى صندوق الاقتراع لهذه الجهة أو تلك, وسط نزعات و واجهات انتخابية تستفز العقل -أو اللاعقل؟- (الطائفي أو العشائري أو العرقي).

وسينتج عن ذلك كله تهميش للطبقة الأكثر وعياً, الطبقة الوسطى “الهشة” أصلاً في مجتمعاتنا, التي ستجد نفسها في موقف لا تحسد عليه, و ستترحم على مكاسبها النسبية “الضئيلة أيضا” أيام الاستبداد, و هو أمر كان يمكن تداركه ليس عبر الإبقاء على الاستبداد, و لكن عبر إحداث تغيير في آليات الانتخاب بطريقة تضع الاعتبارات السابقة في الحسبان أكثر مما تضع الحرفية في النقل كاعتبار.

“والنقل الحرفي” للآليات الديمقراطية يتجاوز حقيقةً إن الفرد عندنا -الذي هو النتاج الأخير لثقافة سلبية نتجت في عصور الانحطاط- سيتفاعل هو و مفاهيمه مع صندوق الاقتراع, بطريقة مختلفة تماما عن فرد “النسق الحضاري الغربي”, فمن السهل على سبيل المثال، أن يتم إقناع هذا الفرد بأن ينتخب من أجل الفوز بالآخرة, و ليس من أجل الوصول الى حكومة تقدم “دنيا أفضل”, و هذا أمر أخطر مما قد يبدو للوهلة الأولى، فحكومة انتخبتها من أجل الآخرة لن تتمكن من محاسبتها على إنها لم تقدم لك “دنيا أفضل”, كما إن فشلاً لهذه الحكومة قد يفسر بنفس الآلية على أنه “ابتلاء و امتحان من الله عز و جل”، و هو أمر سيجعلنا ندور في حلقة مفاهيم مفرغة لن تخترق بدورة أو دورتين, يؤدي فيها الفشل إلى إعادة لتقييم المفاهيم السلبية, فهذه المفاهيم تكونت عبر القرون و هي محصنة “ظلماً” بتأويلات معينة للنصوص الدينية, و الوقت وحده-مهما طال- لن يكون كفيلا بحلها و إزالتها.

هذه المفاهيم تحتاج إلى “ثورة ثقافية شاملة” منطلقة من القرآن الكريم و السنة الثابتة, تطهر و تنقي ما علق من مفاهيم سلبية نتجت من عصور الانحطاط المتأخرة, و تتمخض عن ولادة إنسان مسلم جديد فاعل و ايجابي, وقادر على أداء واجبه بتوازن مع مطالبته بحقه, و ليس من المطلوب من ثورة ثقافية بهذا المستوى أن تتبع خطوات الإصلاح الديني اللوثري الكالفيني حذو القذة بالقذة, و لا حتى أن تصل إلى نفس النتيجة التي وصلت لها ” الديمقراطية ” الغربية, بل أن تكون أقرب لمنطلقاتها وأهدافها القرآنية, و تنتج وسائلها وآلياتها الخاصة بها .

في خضم ذلك ليس من المعقول من الإسلاميين أن ينسحبوا من المشاركة السياسية, بحجة انتظار الثورة الثقافية “التي ستتحول الى شيء يشبه المهدي المنتظر في هذه الحالة”, لكن من المطلوب أن تكون مشاركتهم محكومة بالسياقات التي مر ذكرها, فرهان الإسلاميين ” الحالي ” على الجماهير يجب أن لا يستمر الى ما لا نهاية, كما أنه لا يجب أن يعتمد على شعارات غير واقعية تحمل إمكاناتهم ما لا تحتمل.

في الوقت نفسه هناك حدود واقعية لقواعد الديمقراطية يجب أن يضعها الإسلاميون في اعتبارهم, فشرعنة الديمقراطية يجب أن تظل غير مطلقة, و إلا تعارضت مع شرعيات أخرى لها الإطلاق في مرجعية الإسلاميين أنفسهم, وخلال ذلك يجب أن تبقى الديمقراطية “وسيلة” لا “هدف”, و يجب أن يرد الإسلاميون بأنفسهم عن السؤال : هل يمكن أن تكون الديمقراطية وسيلة للنهضة أم إنها مجرد تداول سلمي للسلطة في مرجعية تكرس التبعية و الهيمنة ؟.

مشكلة أسلمة الديمقراطية (أو دمقرطة الإسلام) الحالية هي مشكلة”قص و لصق”، من السهل جدا إجراؤها على ملف إلكتروني تجمع فيه الديمقراطية و الإسلام معا, لكن من الصعب الوصول إلى نفس النتائج على أرض الواقع, خاصة عندما يكون لكل منهما شيفرته الخاصة به.