بسم الذي رفع السماء بلا عمد، سبحانه وتعالى لم تكن له صاحبة ولا ولد، ولم يكن له نظير ولا شبيه ولا كفوا أحد، له الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، والصلاة والسلام على رسوله الأمين ونبيه المصطفى، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد:

لابد أن نعلم أن نقاد الحديث وأئمة السنة رحمة الله عليهم قد بلغوا منزلا لم يبلغه غيرهم من الأمة الإسلامية خاصة، ولا من جميع الأمم عامة.
فهم وحدهم أصحاب الخبرة والدراية بعلم النقد والتوثيق، وهم وحدهم أصحاب المهارة والإبداع في تقنين الروايات الواردة من كافة جهاتها.

حين ننظر إلى العقلي الإنساني نجده يتفاوت من شخص لآخر، ثم هو تتفاوت حالاته للإنسان نفسه، ما بين يقظة وغفلة، فمرة يحفظ، وأخرى ينسى، ومرة يصدق في نقله، وأخرى يخلط هذا بذاك.

ومع هذا التفاوت العقلي لا يصح الجمود في التقعيد، ولا لزوم الخط الواحد في التطبيق أبدًا؛ بل لابد من مرونة تناسب هذا التفاوت المشار إليه للعقل البشري، واختلاف حالاته.

ومن هنا رأينا سادتنا نقاد الحديث رحمة الله عليهم لا يضعون قوالب جامدة لا تنظر لمثل هذا التفاوت، بل وضعوا الأصول والضوابط والقواعد المرنة التي تناسب هذه الحالات والتفاوتات العقلية لدى نقلة الحديث ورواته.

وجعلوا همهم وشغلهم الأكبر في تحقيق مَخْرَج الحديث وإثبات صحة مخرجه من عدمه، بغض النظر عن حال راويه في غير هذا الحديث ثقة أو ضعفًا.

فإذا كان الضعيف قد يحفظ، والثقة قد يخطئ، فإنه من الظلم لهذا أو ذاك الثبات على حالةٍ واحدةٍ في المعاملة لهما.

ولذا رأينا نقاد الحديث رحمهم الله يفرقون بين الراوي والمروي، ولا يصححون كافة ما رواه الثقة، أو يضعفون كافة ما رواه الضعيف.
بل المهم عندهم صحة رواية الحديث، ثقة كان روايه أم ضعيفًا؛ فالمهم صحة رواية الحديث بطرق التصحيح المعروفة لديهم، وشرائط القبول الصارمة الموضوعة من قِبَلِهم، وكما سيأتي فإِنَّ تصحيح الرواية لا يتوقف فقط على ثقة رجال الإسناد.

وبناء على هذا المنهج الصارم والإبداع الفكري رأيناهم رحمهم الله ربما فتشوا خلف الراوي ونقدوا حديثه وميزوا صحيحه من سقيمه، حتى تصبح لهم الخبرة به أكثر من صاحبه وراويه الأصلي.

ومن هنا نشأَتْ عدَّة قضايا منهجيَّة وحديثية في غايةٍ من الإبداع والسلوك الفِكْري والعِلْمِي؛ ومن ذلك قضية:

تَضْعِيفُ الرَّاوِي في شَيْخٍ دونَ آخر

وهذا مما أبدع فيه أئمة الحديث، وأرباب النَّقْد رحمة الله عليهم؛ لأنه من المستحيل أن يثبت العقل البشري على حالٍ واحدةٍ على طول أيامه، بل لابد له من فترات يقظةٍ، وأخرى يغفل فيها، أو يعجز عن استيعاب ما يتلقاه، وربما حصل له هذا في مكانٍ دون آخر، أو عند التلقِّي عن شيخٍ دون آخر، أو في رحلةٍ دون أخرى.

فمن الظلم العظيم أن نعامله معاملةً واحدةً على طول أيامه، فنردُّه دائمًا، أو نقبله دائمًا.

وهذا هو عين العدل اللائق بالعاملين في مجال العلم والبحث، فضلاً عن النقد والتوثيق ونقل الروايات.

أرأيتَ كيف قَبِلَ النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا حكاه شيطانٌ لأبي هريرة رضي الله عنهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه: ((صدقَكَ وهو كذوبٌ، ذاكَ شيطانٌ)) [البخاري 3275، ومسلم 505].

فلا يلزم مطلقًا أن يكون كافة ما رواه الضعيف ضعيفًا، ولا ما رواه الثقة صحيحًا، لأنه وإذا كان الأصل في رواية الثقة الصحة، والأصل في رواية الضعيف الضعف؛ غير أنه من الجائز الممكن أن يحفظ الضعيف ما لم يحفظ الثقة، كما أنه يجوز على الثقة الوهم والخطأ.

وقرائنُ لا حصر لها، وإمكاناتٌ هائلةٌ من خبرةٍ ودرايةٍ وعلم وبصرٍ وجهدٍ وسنين تعبٍ وغير ذلك من ألوانٍ وصنوفٍ تُعِين هؤلاء النُّقَّاد رحمة الله عليهم على تمييز هذا من ذاك.

وبناءً على هذا العدل السامي، وهذه المنهجيَّة المتناهية في الدِّقَّةِ رأينا أئمة الحديث ينظرون لحال الراوي وأطواره المختلفة، ويسافرون خلفه، طلبًا لمعرفةِ حاله، ويجلسون الساعات الطوال بحثًا وتفتيشًا عن حاله وحالته، حتى يُسْفِر لهم البحث عن نتائجه بعد جهدٍ وطول خبرة وممارسةٍ يعلمهم الله وحده.
فكم بذلوا من غالٍ ونفيسٍ للوصول لهذه الدرجة.

ولنا في هذا المثال الحي خير شاهدٍ على ما نقوله الآن.

ففي ((سؤالات ابن محرزٍ لإمام الصنعة والنقد والحديث يحيى بن معين رحمة الله عليه)) (2/39 رقم 60) نجد هذا النص الذي يقول فيه ابن معين رحمة الله عليه:
((قال لي إسماعيل بن عُلَيَّة يومًا: كيف حديثي؟
قلتُ أنت مستقيمُ الحديثِ.
فقال لي: وكيف علِمْتم ذاك؟
قلتُ له: عارَضْنا بها أحاديثَ الناسِ، فرأيناها مستقيمة))أهـ

فروايات إسماعيل بن عُلَيَّة رحمة الله عليه قد اكتسبت صفة الاستقامة حين تمت المعارضة والمقابلة بينها وبين غيرها من أحاديث وروايات الناس فوجد الأئمة أنها توافقها ولا تخالفها، ومن هنا صارت رواياته مستقيمة.

ذلكم أيها السادة هو منهج النقد والتحليل والمقارنة والمطابقة الذي وضعه أسلافنا من قديمٍ، ثم جاء اليوم من يتشدَّق به ويُكْثر من زعوماته الفارغة بالخبرة والمعرفة بمنهجٍ نحن أصحابه وأئمته!!

ويتضح لكم هذا من قول الإمام المبجل مسلم بن الحجاج رحمة الله عليه، وهو صاحب ((صحيح مسلمٍ)) المشهور، والذي نجد في مقدمته صفحة 7، من طبعة دار الحديث بالقاهرة، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، نجد هناك ما نصه:
((وَكَذَلِكَ مَنْ الْغَالِبُ عَلَى حَدِيثِهِ الْمُنْكَرُ أَوْ الْغَلَطُ أَمْسَكْنَا أَيْضًا عَنْ حَدِيثِهِمْ، وَعَلامَةُ الْمُنْكَرِ فِي حَدِيثِ الْمُحَدِّثِ إِذَا مَا عُرِضَتْ رِوَايَتُهُ لِلْحَدِيثِ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْحِفْظِ وَالرِّضَا خَالَفَتْ رِوَايَتُهُ رِوَايَتَهُمْ أَوْ لَمْ تَكَدْ تُوَافِقُهَا فَإِذَا كَانَ الْأَغْلَبُ مِنْ حَدِيثِهِ كَذَلِكَ كَانَ مَهْجُورَ الْحَدِيثِ غَيْرَ مَقْبُولِهِ وَلَا مُسْتَعْمَلِهِ فَمِنْ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَرَّرٍ وَيَحْيَى بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ وَالْجَرَّاحُ بْنُ الْمِنْهَالِ أَبُو الْعَطُوفِ وَعَبَّادُ بْنُ كَثِيرٍ وَحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ ضُمَيْرَةَ وَعُمَرُ بْنُ صُهْبَانَ وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُمْ فِي رِوَايَةِ الْمُنْكَرِ مِنْ الْحَدِيثِ فَلَسْنَا نُعَرِّجُ عَلَى حَدِيثِهِمْ وَلا نَتَشَاغَلُ بِهِ لأَنَّ حُكْمَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالَّذِي نَعْرِفُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ فِي قَبُولِ مَا يَتَفَرَّدُ بِهِ الْمُحَدِّثُ مِنْ الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ قَدْ شَارَكَ الثِّقَاتِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحِفْظِ فِي بَعْضِ مَا رَوَوْا وَأَمْعَنَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمُوَافَقَةِ لَهُمْ فَإِذَا وُجِدَ كَذَلِكَ ثُمَّ زَادَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا لَيْسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ قُبِلَتْ زِيَادَتُهُ فَأَمَّا مَنْ تَرَاهُ يَعْمِدُ لِمِثْلِ الزُّهْرِيِّ فِي جَلَالَتِهِ وَكَثْرَةِ أَصْحَابِهِ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِينَ لِحَدِيثِهِ وَحَدِيثِ غَيْرِهِ أَوْ لِمِثْلِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ وَحَدِيثُهُمَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَبْسُوطٌ مُشْتَرَكٌ قَدْ نَقَلَ أَصْحَابُهُمَا عَنْهُمَا حَدِيثَهُمَا عَلَى الِاتِّفَاقِ مِنْهُمْ فِي أَكْثَرِهِ فَيَرْوِي عَنْهُمَا أَوْ عَنْ أَحَدِهِمَا الْعَدَدَ مِنْ الْحَدِيثِ مِمَّا لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِمَا وَلَيْسَ مِمَّنْ قَدْ شَارَكَهُمْ فِي الصَّحِيحِ مِمَّا عِنْدَهُمْ فَغَيْرُ جَائِزٍ قَبُولُ حَدِيثِ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ النَّاسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ))أهـ

فعلامة المنكر في حديثِ الْمُحَدِّثِ إنما تظهر بمقارنة حديثه بحديثِ غيرِه من الثقات الأثبات، والمطابقة بين المرويات، وتحليل الروايات لنصل إلى قناعةٍ من خلالها نحكم عليه مروياته بالاستقامة، أو الضعف، كما نخرج من خلال المقارنة والمطابقة بحكمٍ مجملٍ على الراوي.

وهذا الحكم الإجمالي على الراوي يبقى مجملاً، ولا يتجاوز حدَّ الإجمالِ إلى التفصيل؛ لأنه قد يختلف الراوي من حديثٍ لآخر تبعًا لتوافر المعطيات والملابسات والقرائن المحيطة، ولا مدخل هنا للوقوف مع الحكم الإجمالي الذي هو بمثابة القائد أو المعين عند البحث لا أكثر، لكن ليس لدينا ما يمنع من مخالفته أبدًا، لأنه وإن كان حكمًا مجملاً؛ لكنَّه ليس قاعدةً مضطردةً وصلبةً.
فيمكن لنا تسميته هنا بالأصل، لكنه ليس كل شيءٍ.

وهذه المطابقة والمقارنة والتحليل بين الروايات هي ما يُسَمِّيه علماء الحديثِ وأهل النَّقد بـ ((الاعتبار)).

فـ ((الاعتبار)) لديهم هو ما نسميه نحن الآن بمنهج (مقارنة النصوص) أو (تحليل النصوص) أو (نقد النصوص) حسبما يحلو للبعض أن يُعَبِّر، وأينما دار وسار فلابد أن يعود لنا ولمنهجنا الذي وضعه أئمتُنا في نهاية المسار!!

بناءً على هذه الآلية العِلْميَّة، والمنهجيَّة الرصينة بدأ علماء الحديث في النظر إلى حالات الراوي وتصرُّفاتِه، حتى صاروا أعلم بحديثهِ منه نفسه.
فصاروا لِعِلْمِهم وخبرتهم وطول ممارستهم للعلم يقولون: هذا من حديث فلانٍ، وهذا ليس من حديث فلانٍ.

فليس لدينا الضعيف مطلقًا، ولا الثقة مطلقًا.

ويحسنُ بنا هنا أن نأتي ببعضِ نصوص العلماء هنا ثم نذكر الأمثلة الدالة على كلامهم:

ولنكتفي الآن بما قاله: ابن الجوزي رحمة الله عليه في كتابه (الموضوعات) (1/99) حيث قال: ((وقد يكون الإسناد كله ثقات ويكون الحديث موضوعًا، أو مقلوبًا، أو قد جرى فيه تدليسٌ، وهذا أصعب الأصول، ولا يعرف ذلك إلا النُّقَّاد))أهـ

ويقول ابنُ القيم رحمه الله: ((وقد عُلِمَ أَنَّ صحةَ الإسناد شرطٌ من شروط صحةِ الحديث، وليستْ موجبة لصحةِ الحديث؛ فإِنَّ الحديثَ الصحيحَ إنما يصح بمجموعِ أمورٍ؛ منها: صحة سنده، وانتفاء عِلَّتِه، وعدم شذوذه ونكارته، وأن لا يكون راويه قد خالف الثقات أو شَذَّ عنهم))أهـ [الفروسية صفحة 64].

وقد ذكر السمعاني في القواطع ((أَنَّ الصحيحَ لا يُعْرَفُ برواية الثقات فقط؛ وإنما يُعْرَفُ بالفهم والمعرفة وكثرة السماع والمذاكرة)) [توجيه النظر للشيخ طاهر الجزائري صفحة 74].

وفي هذه النصوص سنرى أن ثقة الراوي وإن كانت ركنًا وأصلاً في قبول الحديث وصحَّتِه؛ لكنها ليست وحدها الكافلة بذلك، أو الدَّالة على قبول الخبر والحديث.

فقد يحفظ الضعيف، كما قد يخطئ الثقة.

ولذا كان لابد من تمييز أحوال الرواة وأطوارهم للوقوف على ما حفظوه، ومعرفة ما أخطأوا فيه، ثقات كانوا أم ضعفاء.

فوقفَ أئمتنا هنا وقفة إبداعٍ ينحني لها التاريخ ليسطرها لهم بأحرفٍ من نورٍ، فَفَرَّقوا رحمة الله عليهم بين تصرفات الراوي وأحواله المختلفة، وميَّزوا حالاته وهو الشخص الواحد بين وهمٍ ويقظةٍ، ونشاطٍ وكسلٍ.

فقالوا: حفظ كذا، ووهم في كذا، وروايته عن فلانٍ لا بأس بها، وعن فلانٍ في أعلى درجات الصحة، لكنه في روايته عن فلانٍ أو في مكان كذا لا يُحْتَج به؛ لأنها لم يكن بذاك آنذاك!!

وكان على رأس هؤلاء العظماء الذين نبهوا على تلك الإبداعية القديمة مبدعٌ آخر من مبدعي المسلمين، وهو إمامنا الجليل ابن رجبٍ الحنبلي رحمة الله عليه في كتابه الفذّ ((شرح علل الترمذي)) حيثُ شرحَ فيه كتاب ((العلل الصغير)) الذي كتبه الإمام الترمذي بآخر كتابه ((الجامع)) المعروف بـ ((سنن الترمذي)) فلما انتهى ابنُ رجبٍ من شرحه بدأ بسردِ طائفةٍ من القواعد في ((علم العلل)) ربما لو وصفناها بأكثر من رائعة لكنَّا مِمَّن بخسها وصاحبهما حقَّهم؛ لأنه قد فاق الوصف في إبداعه، فجاءت قواعده فوق طاقة الوصف والتعبيرات.

وقد أطال الإمام ابن رجبٍ رحمة الله عليه في شرح هذا المعنى بدءًا من (2/733، طبعة مكتبة المنار بالزرقاء بالأردن، تحقيق الدكتور همام عبد الرحيم سعيد)... إلخ.

وبطبيعة الحال سأقتصر هنا على إيراد بعض الأمثلة اليسيرة الدالة على تضعيف بعض الرواةِ في بعض الأوقات دون بعضٍ، أو في بعضِ الأماكن دون بعضٍ، أو في بعضِ الشيوخ دون بعضٍ.

وإن كان موضوعنا هنا في (تضعيف الراوي عن بعض الشيوخ دون بعضٍ) أصالةً غير أنه لا مانع من إضافة الأوقات والأماكن أيضًا لزيادة الفائدة.

فمن النوع الأول: وهم الذي ضَعَّفَ الأئمة حديثهم في بعض الأوقات دون بعضٍ:
جماعة المختلطين في آخر أعمارهم، على حسب درجات اختلاطهم ومدى تأثيره من عدمه، كما هو مشروحٌ في موضعه من تراجمهم، ومن الكتب المعنية بهم وبحالهم.

ومن أمثلتهم: عطاء بن السائب الثقفي، فقد ذكروا أن من سمع منه في أول أمره فحديثه صحيح، بخلاف من سمع منه بعد اختلاطه. [انظر: ابن رجب 2/734].

ويصل الإبداع مداه حين يميزون ذلك بالحديث والحديثين، فلا مجال هنا للخلط أو تداخل الأمور والخبط العشوائي.
ولنذكر في ذلك ما ذكره ابن رجب رحمة الله عليه عن علي بن المديني عن يحيى بن سعيد قال: (من سمع من عطاء بن السائب قديمًا فسماعه صحيح، وسماع شعبة وسفيان من عطاء بن السائب صحيح؛ إلا حديثين عن عطاء بن السائب عن زاذان، قال شعبة: سمعتُهما منه بأَخَرَة)أهـ

فهنا يميز الأئمة رحمة الله ويحكمون على جميع الحديث إلا حديثين.

لم يفتهما أمرُ هذين الحديثين في جملة ما حكموا عليه، وفتَّشوا في شأنه، فلينظر الذين أعمهم الهوى والتعصب مَنْ سبقَ مَنْ في صناعة المنهجية العلمية، ومَنْ هم أصحابها ومُلاَّك أمرِها حقيقةً لا ادِّعاءً؟!
والبينة أمامكم..


ومن الذين ضُعِّفَ حديثهم في مكانٍ دون آخر لعلَّةٍ ما:
معمر بن راشد رحمة الله عليه، فقد كان ترك كُتُبَه باليمن ثم نزل البصرة فحَدَّثَ بها من غير كُتُبِه فوقعتْ له هفواتٍ سجَّلها العلماء له، في حين اعترفوا له بجودةِ حديثه باليمن [وانظر ابن رجبٍ: 2/767].

ومن الذين ضُعِّفَ حديثُهم في شيخٍ دون آخر لعلَّةٍ ما:
ـ جرير بن حازمٍ: الثقة المتفق على جلالته وإمامته، وتخريج حديثه، غير أنهم ضعفوا حديثَه وروايته عن الإمام قتادة بن دَعَامة خاصة [السابق: 2/784].

ـ عمرو بن أبي عمرو مولى الْمُطَّلِب، ثقةٌ متفقٌ على تخريج حديثه، غير أنهم ضعفوه في روايته عن عكرمة خاصة [السابق: 2/798].

ـ الإمام النبيل الأَوْزَاعي، إمام أهل الشام، رحمة الله عليه، وهو الإمام المشهور، غير أنهم تكلموا في رواياته عن الإمام ابن شهابٍ الزُّهْرِيِّ خاصة [السابق: 2/799].

وأختم هؤلاء جميعًا:

بإسماعيل بن أبي أويسٍ رحمة الله عليه:
فقد سبق أعلاه نقل الكلام فيه، غير أنه سبق أيضًا ما يفيد اختصاصه بمالكٍ خاصة.

ومن ذلك مما سبق: ونقل الخليلي عن أبي حاتمٍ الرازي قوله: كان ثبتًا في خاله [الإرشاد للخليلي، الإكمال لمغلطاي، تهذيب ابن حجر].
يعني أنه كان ثبتُا في خاله مالك بن أنس رحمة الله عليهم

ويدل على ذلك أيضًا ما ورد في كتاب ((المجروحين)) لابن حبان رحمه الله:
وهو في مخطوط مكتبة أحمد الثالث بتركيا لوحة 13/ب، وفي المطبوع من الكتاب طبعة دار الوعي بحلب بسوريا (1/41) وطبعة مكتبة الرشد بالرياض بالسعودية (1/41-42)، ومن اللطائف اتفاق صفحتي الطبعتين هنا عند ذِكْر هذا النص رغم أن كلاًّ منهما قد طُبِعَتْ على نسخة خطية غير الأخرى!
وسياق النص كما هو في مخطوط أحمد الثالث ق/13/ب سطر 4،5 من أسفل الورقة:
((حدثنا عمر بن سعيد، قال: سمعت محمد بن عيسى الطرسوسي، يقول: سمعت ابن أبي أويس يقول: سألتُ خالي مالكًا عن مسألةٍ، فقال لي: قِرَّ ثم تَوَضَّأ ثم تَلَبَّسَ، ثم جلسَ على السرير، ثم قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، سَلْ، وكان لا يُفْتِي حتى يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله))أهـ
و محمد بن عيسى بن يزيد الطرسوسي: ذكره ابن حبان نفسه في (الثقات) (15722) وقال: (يخطئ كثيرًا)، لكنه غير مُؤَثِّرٍ هنا لأننا نحتج به استئناسًا مع غيره من نصوص العلماء في إثباتِ ما لا يحتاج لإثباتٍ أصلاً، وهو اختصاص ابن الأخت بخاله.

وقوله: (قِرَّ) فعل أمر من القرار في المكان، و(تَلَبَّس) أي: الْبَس ثيابًا. وقد كان من مذهب بعض الأئمة ومنهم مالك رحمة الله عليه لزوم الطهارة والزينة عند الكلام في الحديث والتدريس، توقيرًا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا النص ذكره ابن حبان رحمة الله عليه في مقدمة كتابه، ولم يرد في ترجمة إسماعيل من الكتب الجوامع كالتهذيب للمزي وابن حجر، أو الإكمال لمغلطاي ونحوهم.

وهو من الأدلة على أن الإمام مالكًا رحمة الله عليه كان يخص إسماعيل بمسائل لم يحدث بها غيره، ولا إشكال في هذا لأنه ابن أخته، ومن المعقول والمناسب جدًّا أن يتحدث الخال مع ابن أخته بأكثر مِمَّا يتحدَّث به مع غيره، ومن هنا يتفرَّد ابنُ الأخت بالكثير والكثير عن خاله، ولا غضاضة في هذا.
ولعله يأتي المزيد حول هذه المسألة فيما بعدُ إن شاء الله عز وجل في مناسبةٍ لاحقةٍ إن شاء الله عز وجل.

والحمد لله رب العالمين.