تابع ما سبق في رابط:
الطعن في القرآن الكريم والرد على الطاعنين في القرن الرابع عشر الهجري رسالة دكتوراه








الباب الثاني

الفصل الثاني


المبحث الرابع
اتهام القرآن بمعارضة الحقائق



المطلب الأول : دعوى تعارض القرآن مع الحقائق الشرعية :

-الطعن الأول: كيف تزعمون أن محمدا ( اصطفاه الله للرسالة وهيئه, مع وصفه له بالضلال(755)،فهو كقومه كان وثنيا، ( ووجدك ضالا فهدى ( [الضحى:7]؟
-الجواب:
1-(قيل إن العرب كانت إذا وجدت شجرة منفردة في فلاة من الأرض لا شجر معها سموها ضالة ، فتهتدي بها على الطريق ، فقال الله تعالى لنبيه: ( ووجدك ضالا فهدى ( أي وجدك لا أحد على دينك فهديت بك الخلق إلي)(756) ،ومن هذا قول : (الحكمة ضالة المؤمن).
أي أن الضلال هنا المقصود به الحقيقة اللغوية لا الشرعية، إذ لم يكن في ذلك الوقت شرع ، وبعض المعاني اللغوية معنى جميل كما رأيت.
2-وقيل: إنه من قولك: ضللت الطريق .أي لم تعرفه(757)، ومنه قولهم: ضالة الإبل والغنم . يعني التي لم تهتد لقومها، فالنبي ( كان موحدا عارفا بالله بفطرته وعقله ، ولكنه لم يعرف كيف يعبده؛ لأنه لم ينزل عليه شرع ، فهو ضال بهذا المعنى, أي لم يعرف طريق العبادة الصحيحة.
قال الراغب : (الضلال ترك الطريق المستقيم ؛ عمدا كان أو سهوا ، قليلا كان أو كثيرا، ويصح أن يستعمل لفظ الضلال ممن يكون منه خطأ ما ، ولذلك نسب إلى الأنبياء ، وإلى الكفار ، وإن كان بين الضلالين بون بعيد، ألا ترى أنه قال في النبي وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى( [الضحى:7]، أي غير مهتد لما سبق إليك من النبوة ، وقال في يعقوب قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ ( [يوسف:95]، وقال أولاده: ( إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ( [يوسف:8] إشارة إلى شغفه بيوسف وشوقه إليه، وكذلك ( قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ( [يوسف:30]، وقال عن موسى عليه السلام: ( قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ( [الشعراء:20] تنبيه أن ذلك منه سهو ،وقوله: ( أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا... ( [البقرة:282]،أي تنسى وذلك من النسيان الموضوع على الإنسان ، والضلال من وجه آخر ضربان ؛ ضلال في العلوم النظرية ,كالضلال في معرفة الله ووحدانيته ,ومعرفة النبوة ونحوهما, المشار إليهما بقوله وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ( [النساء:136]، وضلال في العلوم العملية ,كمعرفة الأحكام الشرعية التي هي العبادات)(758)، وهذا النوع يعذر فيه الإنسان إذا لم يبلغه ، ألا ترى أن زيد بن عمرو بن نفيل(759) دخل الجنة مع أنه لم يعرف كيف يعبد الله تعالى، فقد أخرج البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ( : أَنَّ النَّبِيَّ ( لَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحٍ , قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ ( الْوَحْيُ, فَقُدِّمَتْ إِلَى النَّبِيِّ ( سُفْرَةٌ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا, ثُمَّ قَالَ زَيْدٌ : إِنِّي لَسْتُ آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ وَلَا آكُلُ إِلَّا مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَأَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو كَانَ يَعِيبُ عَلَى قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ, وَ يَقُولُ : الشَّاةُ خَلَقَهَا اللَّهُ وَأَنْزَلَ لَهَا مِنْ السَّمَاءِ الْمَاءَ, وَأَنْبَتَ لَهَا مِنْ الْأَرْضِ ,ثُمَّ تَذْبَحُونَهَا عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ . إِنْكَارًا لِذَلِكَ وَإِعْظَامًا لَهُ)(760).
وأخرج البخاري أيضا عَنْ ابْنِ عُمَرَ ( : أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ يَسْأَلُ عَنْ الدِّينِ وَيَتْبَعُهُ, فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ الْيَهُودِ فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِمْ, فَقَالَ : إِنِّي لَعَلِّي أَنْ أَدِينَ دِينَكُمْ فَأَخْبِرْنِي؟ فَقَالَ : لَا تَكُونُ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ . قَالَ زَيْدٌ : مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ غَضَبِ , اللَّهِ وَلَا أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ شَيْئًا أَبَدًا ،وَأَنَّى أَسْتَطِيعُهُ فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ؟ قَالَ : مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا ،قَالَ زَيْدٌ :وَمَا الْحَنِيفُ؟ قَالَ : دِينُ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ ، فَخَرَجَ زَيْدٌ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ النَّصَارَى فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَقَالَ : لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ. قَالَ : مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ, وَلَا أَحْمِلُ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ وَلَا مِنْ غَضَبِهِ شَيْئًا أَبَدًا ،وَأَنَّى أَسْتَطِيعُ ،فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ ؟ قَالَ :مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا .قَالَ :وَمَا الْحَنِيفُ ؟قَالَ :دِينُ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ ، فَلَمَّا رَأَى زَيْدٌ قَوْلَهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام, خَرَجَ, فَلَمَّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدكُ أَنِّي عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ .
وَقَالَ اللَّيْثُ :كَتَبَ إِلَيَّ هِشَامٌ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا, قَالَتْ : رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَائِمًا مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ, يَقُولُ :يَا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ وَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي . وَكَانَ يُحْيِي الْمَوْءُودَةَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ :لَا تَقْتُلْهَا أَنَا أَكْفِيكَهَا مَئُونَتَهَا فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ ،قَالَ لِأَبِيهَا :إِنْ شِئْتَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ وَإِنْ شِئْتَ كَفَيْتُكَ مَئُونَتَهَا(761)،
وأخرج الإمام أحمد عَنْ نُفَيْلِ بْنِ هِشَامِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ, عَنْ أَبِيهِ ,عَنْ جَدِّهِ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ( بِمَكَّةَ هُوَ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَمَرَّ بِهِمَا زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ, فَدَعَوَاهُ إِلَى سُفْرَةٍ لَهُمَا ، فَقَالَ : يَا ابْنَ أَخِي إِنِّي لَا آكُلُ مِمَّا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ .قَالَ : فَمَا رُئِيَ النَّبِيُّ ( بَعْدَ ذَلِكَ أَكَلَ شَيْئًا مِمَّا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي كَانَ كَمَا قَدْ رَأَيْتَ وَبَلَغَكَ , وَلَوْ أَدْرَكَكَ لَآمَنَ بِكَ وَاتَّبَعَكَ ،فَأسْتَغْفِرْ لَهُ: قَالَ« نَعَمْ » فَاَسْتَغْفِرُ لَهُ ؛ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَحِدَه) (762)، وذكر ابن حجر في الإصابة أن الواقدي والفاكهي أخرجا بإسنادهما عن عامر بن ربيعة في حديث طويل , وفيه أن النبي ( قال : «قد رأيته في الجنة يسحب ذيولا» (763).
فزيد بن عمرو مع جهله بطريق العبادة, إلا أن فطرته دلته على وجود الله ,وعقله هداه إلى توحيد الله ، فكان يعبد الله على حسب اجتهاده ، فهو مع ضلاله عن طريق العبادة الصحيحة, إلا أنه كان معذروا لذلك أدخله الجنة، ومن هذا الباب معنى قوله تعالى :
( ووجدك ضالا فهدى (. أي ضالا عن طريق العبادة الصحيحة فدلك عليها له وإن كان عارفا بالله موحدا له.
3-ثم إننا نلزمهم بأمر وهو : هل هم يقولون هذا أيضا في موسى عندما قال عن نفسه, (فعلتها إذاً وأنا من الضالين ( [الشعراء:20].
4-ثم إننا لو تنزلنا لهم وسلمنا لهم بالمعنى الذي يريدون, فإن هذا لا يضره؛ فهو معذور بعدم العلم فهو إذ لم يضل عن علم بل ضل بغير علم , وهذا لا حرج عليه ولا مؤاخذة فيه ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما وجوب كونه ( قبل أن يبعث نبيا لم يخطئ أو لا يذنب فليس في النبوة ما يستلزم هذا)(764).
ولكن الحرج كل الحرج فيمن يعرف العلم والهدى ثم يتركه ,كما هو حال اليهود والنصارى الذين يعرفون النبي (كما يعرفون أبناءهم.
-الطعن الثاني:كيف سُحِرَ النبي ( مع أن الله تعالى يذكر كلام الكفار, ووصفهم النبي بالمسحور في مقام الذم في قول الله على ألسنتهم : ( إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ( [الفرقان:8].
-الجواب:
هذا الشبهة تردد كثيرا ، وللأسف يرددها كثيراً من المعاصرين من العلمانيين، ومن أصحاب المدرسة العقلية ، وممن يعلم صلاحه ويظهر حبه للدين(765).
-الجواب:
أولا : لابد – أولاً - أن نعرف أن حديث سحر النبي ( ثابت في الصحيحين, وقد تقدم معنا النقل عن ابن الصلاح, وهو أن ما كان في الصحيحين قد تلقته الأمة بالقبول(766) ، ونص الحديث عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : سُحِرَ النَّبِيُّ ( حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ –وفي رواية :وأنه يأتي أهله ولا يأتي- حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ عِنْدِي دَعَا اللَّهَ وَدَعَاهُ, ثُمَّ قَالَ : « أَشَعَرْتِ يَا عَائِشَةُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؟ »، قُلْتُ : وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ :« جَاءَنِي رَجُلَانِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ, ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ :مَطْبُوبٌ .قَالَ :وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ –الْيَهُودِيُّ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ- قَالَ :فِيمَا ذَا قَالَ : فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ. قَالَ :فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ قَالَ : فَذَهَبَ النَّبِيُّ ( فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْبِئْرِ ,فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَعَلَيْهَا نَخْلٌ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَ : "وَاللَّهِ لَكَأَنَّ مَاءَ هَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ ,وَلَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ » . قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَأَخْرَجْتَهُ قَالَ : « لَا ،أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِيَ اللَّهُ وَشَفَانِي ,وَخَشِيتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ مِنْهُ شَرًّا ». وَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ )(767) .
فظاهر من الحديث أن السحر كان في الأمور الدنيوية فهو يخيل إليه أنه أتى أهله ولكنه لم يفعل ويخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله(768) ، وأما الأمور الشرعية والوحي ، فإنه محفوظ من الخطأ فيها, كما ثبت في النصوص الكثيرة،كقوله تعالى: ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ( [النجم:3-4].وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ :كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ( أُرِيدُ حِفْظَهُ فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ وَقَالُوا :أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ ( بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا ،فَأَمْسَكْتُ عَنْ الْكِتَابِ ،فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ( فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ فَقَالَ :« اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ » (769) وغير ذلك من النصوص المتكاثرة.
قَالَ الْمَازِرِيّ : (أَنْكَرَ الْمُبْتَدِعَة هَذَا الْحَدِيث وَزَعَمُوا أَنَّهُ يَحُطّ مَنْصِب النُّبُوَّة وَيُشَكِّك فِيهَا ، قَالُوا :وَكُلّ مَا أَدَّى إِلَى ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِل .وَزَعَمُوا أَنَّ تَجْوِيز هَذَا يَعْدَم الثِّقَة بِمَا شَرَعَهُ مِنْ الشَّرَائِع إِذْ يُحْتَمَل عَلَى هَذَا أَنْ يُخَيَّل إِلَيْهِ أَنَّهُ يَرَى جِبْرِيل وَلَيْسَ هُوَ ثَمَّ ،وَأَنَّهُ يُوحِي إِلَيْهِ بِشَيْءٍ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ ،قَالَ الْمَازِرِيّ : وَهَذَا كُلّه مَرْدُود لِأَنَّ الدَّلِيل قَدْ قَامَ عَلَى صِدْق النَّبِيّ ( فِيمَا يُبَلِّغهُ عَنْ اللَّه تَعَالَى وَعَلَى عِصْمَته فِي التَّبْلِيغ ،وَالْمُعْجِزَات شَاهِدَات بِتَصْدِيقِهِ، فَتَجْوِيز مَا قَامَ الدَّلِيل عَلَى خِلَافه بَاطِل , وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّق بِبَعْضِ الْأُمُور الدُّنْيَا الَّتِي لَمْ يُبْعَث لِأَجْلِهَا وَلَا كَانَتْ الرِّسَالَة مِنْ أَجْلهَا, فَهُوَ فِي ذَلِكَ عُرْضَة لِمَا يَعْتَرِض الْبَشَر كَالْأَمْرَاضِ،فَغَيْر بَعِيد أَنْ يُخَيَّل إِلَيْهِ فِي أَمْر مِنْ أُمُور الدُّنْيَا مَا لَا حَقِيقَة ,لَهُ مَعَ عِصْمَته عَنْ مِثْل ذَلِكَ فِي أُمُور الدِّين ،قَالَ : وَقَدْ قَالَ بَعْض النَّاس: إِنَّ الْمُرَاد بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ ( يُخَيَّل إِلَيْهِ أَنَّهُ وَطِئَ زَوْجَاته وَلَمْ يَكُنْ وَطِأَهُنَّ , وَهَذَا كَثِيرًا مَا يَقَع تَخَيُّله لِلْإِنْسَانِ فِي الْمَنَام , فَلَا يَبْعُد أَنْ يُخَيَّل إِلَيْهِ فِي الْيَقِظَة. قُلْت(770) : وَهَذَا قَدْ وَرَدَ صَرِيحًا فِي رِوَايَة اِبْن عُيَيْنَةَ فِي الْبَاب الَّذِي يَلِي هَذَا وَلَفْظه " حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاء وَلَا يَأْتِيهِنَّ ". وَفِي رِوَايَة الْحُمَيْدِيّ " أَنَّهُ يَأْتِي أَهْله وَلَا يَأْتِيهِمْ ". قُلْت : وَوَقَعَ فِي مُرْسَل عَبْد الرَّحْمَن بْن كَعْبٍ عِنْد اِبْن سَعْد " فَقَالَتْ أُخْت لَبِيد بْن الْأَعْصَم إِنْ يَكُنْ نَبِيًّا فَسَيُخْبَرُ،وَإِلَّا فَسَيُذْهِلُهُ هَذَا السِّحْر حَتَّى يَذْهَب عَقْله ". قُلْت : فَوَقَعَ الشِّقّ الْأَوَّل(771) كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيث الصَّحِيح . وَقَدْ قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : لَا يَلْزَم مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَظُنّ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْء وَلَمْ يَكُنْ فَعَلَهُ أَنْ يُجْزَم بِفِعْلِهِ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَكُون مِنْ جِنْس الْخَاطِر يَخْطِر وَلاَ يَثْبُت،فَلَا يَبْقَى عَلَى هَذَا لِلْمُلْحِدِ حُجَّة . وَقَالَ عِيَاض : وَيُؤَيِّد جَمِيع مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَل عَنْهُ فِي خَبَر مِنْ الْأَخْبَار أَنَّهُ قَالَ قَوْلًا فَكَانَ بِخِلَافِ مَا أَخْبَرَ بِهِ . وَقَالَ الْمُهَلَّب : صَوْن النَّبِيّ ( مِنْ الشَّيَاطِين لَا يَمْنَع إِرَادَتهمْ كَيَدَهُ،فَقَدْ مَضَى فِي الصَّحِيح أَنَّ شَيْطَانًا أَرَادَ أَنْ يُفْسِد عَلَيْهِ صَلَاته فَأَمْكَنَهُ اللَّه مِنْهُ ،فَكَذَلِكَ السِّحْر مَا نَالَهُ مِنْ ضَرَره مَا يُدْخِل نَقْصًا عَلَى مَا يَتَعَلَّق بِالتَّبْلِيغِ بَلْ هُوَ مِنْ جِنْس مَا كَانَ يَنَالهُ مِنْ ضَرَر سَائِر الْأَمْرَاض مِنْ ضَعْف عَنْ الْكَلَام،أَوْ عَجْز عَنْ بَعْض الْفِعْل ، أَوْ حُدُوث تَخَيُّل لَا يَسْتَمِرّ ،بَلْ يَزُول وَيُبْطِل اللَّه كَيْد الشَّيَاطِين)(772).
ومثل هذا قوله تعالى عن موسى ( قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ( [طه:66]، فسحر النبي ( مثل سحر موسى ( وهو أن يخيل إليه الشيء، فمن أنكر الحديث ماذا يقول عن هذه الآية ؟
ونزيد من الأمر توضحاً فنقول السحر الذي أراده المشركون غير السحر الذي حصل للنبي ( ، فهم أرادوا المسحور يعني الذي يصل إلى حد الجنون والافتراء, وقول ما لا يعقل ودخول الجن في المسحور،وهذا لا شك أنه باطل في حق النبي (، وأما سحر النبي ( فهو من نوع التخيل الذي يحصل لأي إنسان يقظة ومناما ، وهذا لا يضر في مقام النبوة.
-الطعن الثالث: كيف يسحر النبي ( مع أن الشياطين لا تسلط على عباد الله الصالحين ,كما قال تعالى: ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ( [الحجر:42] ( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ(100) ( [النحل:99-100]، فسحر النبي دليل أنه من الغاويين وأنه من الذين يتولون الشيطان(773) ؟.
الجواب:
السحر أنواع(774) :
1-سحر بالأدوية.
2-سحر لا حقيقة له بل هو خيال أو خفة يد.
3-سحر بالاستعانة بالشياطين.
إذن فليس كل أنواع السحر تسلط من الشياطين على المسحور،وذهب بعض العلماء إلى أن سحر النبي ( من نوع الأدوية ؛قال ابن حجر: وَاسْتَدَلَّ اِبْن الْقَصَّار عَلَى أَنَّ الَّذِي أَصَابَهُ كَانَ مِنْ جِنْس الْمَرَض بِقَوْلِهِ فِي آخِر الْحَدِيث :«فَأَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللَّه » . وَفِي الِاسْتِدْلَال بِذَلِكَ نَظَر , لَكِنْ يُؤَيِّد الْمُدَّعَى أَنَّ فِي رِوَايَة عَمْرَة عَنْ عَائِشَة عِنْد الْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِل " فَكَانَ يَدُور وَلَا يَدْرِي مَا وَجَعه " وَفِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس عِنْد اِبْن سَعْد : مَرِضَ النَّبِيّ ( وَأُخِذَ عَنِ النِّسَاء وَالطَّعَام وَالشَّرَاب،فَهَبَطَ عَلَيْهِ مَلَكَانِ ..الْحَدِيث)(775)،
ولو سلمنا أنه من النوع الشيطاني ، فليس كل تعرض من الشيطان للإنسان معناه أنه ليس من عباد الله ، وفرق كبير بين التعرض والمحارشة وبين التسلط، ويؤيد ذلك ما أخرجه مسلم عَنْ جَابِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ ( يَقُولُ :« إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ » (776)، فكل صالح يتعرض له الشيطان، بل هذه وظيفته في الحياة ، وهو أقسم على إغواء بني آدم.ولو سلمنا أن هذا من التسلط فإنه لفترة محدودة ,ثم بعد ذلك يذهبه الله تعالى, ويرجع المسلم إلى حاله الأولى ؛
فهذا آدم عليه السلام أغواه الشيطان حتى وقع في أكل الشجرة ، وهذا موسى قتل نفسا بغير نفس فقال: ( هذا من عمل الشيطان ( [ القصص : 15 ] ولا يقول أحد أن هذا من التسلط بمعنى التحكم والإغواء والتضليل ، بل يبقى آدم وموسى من خير أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
-الطعن الرابع: (كيف يذكر في القرآن أن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم -يعني من مثل قوله تعالى: ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا ( [البقرة:34]- مع أن هذا الدين اشتهر بالتشدد في إنكار الشرك وتكفير كل ساجد لغير الله )(777).
الجواب:
السجود نوعان ؛ سجود تحية وإكرام, وسجود عبادة وإعظام ، فسجود العبادة لا يجوز في جميع الملل وعند جميع الرسل ، بل لا يسجد الإنسان إلا لله وحده وأما سجود التحية فهذا كان جائزا في شرع من قبلنا ، كما حصل ليوسف عندما خر له أبواه وأخوته سجدا ، فلم ينكر عليهم ،ومن هذا الباب سجود الملائكة لآدم، وأما في شرعنا فقد نسخ سجود التحية ، درأ للفتنة وسدا لأبواب الشرك وطرائقه.
قال القرطبي -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى : ( ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا...( [يوسف: 100]: ( وقد نسخ الله ذلك كله في شرعنا، وجعل الكلام بدلا عن الانحناء. وأجمع المفسرون أن ذلك السجود على أي وجه كان ,فإنما كان تحية لا عبادة ، قال قتادة: هذه كانت تحية الملوك عندهم , وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة)(778).
على أن كثيراً من العلماء يقولون : إن السجود هنا المقصود به المعنى اللغوي للسجود ، وهو عموم الانحناء والميل والاحترام, ولا يلزم منه أن يخر على الأرض(779).

===========

(755) انظر كتاب : رد مفتريات على الإسلام ، لشلبي ، ص:38، عن رسالة المجلس الملي القبطي الأرثوذكس بالإسكندرية ، دائرة المعارف البريطانية (ص:22).
(756) ثمرات الأوراق لابن حجة الحموي (ص:293)، دار الجيل ، بيروت ، الطبعة الثانية 1987.
(757) انظر لسان العرب (11/391)
(758) المفردات (ص:510).
(759) وهو أبو سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة، التقَى بالنبي ( قبل أن يبعث، ومات قبل البعثة بخمس سنوات ، وهو من الباحثين عن الدين الحق .(انظر ترجمته في الإصابة لابن حجر (2/613)).
(760) أخرجه البخاريكتاب المناقب ، باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل، رقم :3614).
(761) أخرجه البخاري : كتاب المناقب ، باب حديث زيد بن عمرو ، برقم :3616.
(762) أخرجه الإمام أحمد في المسند (رقم :1651)وإسناده حسن.
(763) الإصابة (2/616).
(764) منهاج السنة النبوية في الرد على الرافضة والقدرية ، لأحمد بن عبدالحليم بن تيمية (2/396) ، مكتبة ابن تيمية ، القاهرة.
(765) انظر: منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير ، للرومي ، (ص:347).
(766) قال ابن القيم : وهو حديث ثابت عند أهل العلم بالحديث لا يختلفون في صحته , وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيحه، ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة , والقصة مشهورة عند أهل التفسير والسنن والحديث والتاريخ والفقهاء، وهؤلاء أعلم بأحوال رسول الله ( وأيامه من المتكلمين. (التفسير القيم لابن القيم (ص:566).
(767) متفق عليه (البخاري : كتاب الطب، باب السحر ، رقم :5433، ومسلم: كتاب السلام ، باب السحر ، رقم :2189).
(768) ويرى الشيخ رشيد رضا أن هذا كان خاصا فقط في إتيانه أهله ، وأنه معنى قول عائشة:كان يخيل إليه أنه يأتي الشيء ولا يأتيه. كناية عن الجماع ،كما جاء في تفسيره في الرواية الثانية.(انظر تفسير الفاتحة وست سور من خواتيم القرآن ، لمحمد رشيد رضا ص:137).
(769) أخرجه أبو داود (كتاب العلم ، باب في كتاب العلم ،رقم:3646) والإمام أحمد في المسند (رقم:6474) والدارمي (المقدمة ، باب من رخص في كتابة العلم، رقم :484)، وهو صحيح ؛ انظر: صحيح سنن أبي داود للألباني (2/695) رقم:3099.
(770) القائل ابن حجر , رحمه الله .
(771) يعني أنه أُخبر .
(772) فتح الباري(10/237).
(773) ذُكرت هذه الشبهة في غرفة النصارى في البالتوك على الإنترنت , للأسف ولم يجب عليها أحد من المسلمين .
(774) انظر فتح الباري (10/239) .
(775) فتح الباري (10/238) .
(776) أخرجه مسلم (كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس، رقم :2812).
(777) حقائق الإسلام وأباطيل خصومه ، للعقاد (ص276)،المكتبة العصرية ، بيروت.
(778) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (9/174).
(779) انظر المرجع السابق ، و من وسائل الغزو الفكري ، لأستاذنا الدكتور نبيل غنايم (ص:589).