التحدي الأكبر: بناء «المجال المشترك» السبت، 21 كانون الثاني 2012


د.إبراهيم البيومي غانم

ما يتمناه السواد الأعظم من المصريين يوم 25 كانون الثاني في ميدان التحرير وفي غيره من ميادين مصر ومدنها هو أن تتمكّن مختلف القوى والتجمعات والتيارات الفكرية والسياسية من التعبير عن رأيها بحرية وبراحة تامة. ليعبّر من شاء عما يريد دون تشنج أو غوغائية أو عبث بالأمن العام، ليعبّر الجميع بطريقة سلمية متحضرة كي يسطع الوجه المشرق لمصر والمصريين في الذكرى الأولى للثورة المجيدة التي تشاركوا جميعاً في صنعها.
يتطلّع السواد الأعظم في يوم الثورة أيضاً أن يكون يوماً للالتقاء على القواسم المشتركة، وبناء "المجال العام المشترك" بين جميع القوى والتيارات والمؤسسات الرسمية والشعبية، الحكومية وغير الحكومية دون استثناء. ولعل الجميع بات يدرك أنّ أس المصائب هو في تآكل "المجال العام المشترك"، وصعود النزعات والنزوات الفئوية والإيديولوجية الضيقة. وهنا بالضبط تكمن المشكلة، ومن هنا أيضاً يتعيّن علينا البدء في حلها، وحلها لا يكون إلاّ في إعادة اكتشاف وبناء "المجال العام المشترك" الذي يتّسع للجميع، وينتظم كل الآراء والمصالح.
"المجال المشترك" يعني بالأساس كل القيم المعنوية والمادية التي يتقاسمها أعضاء الجماعة الوطنية، المجال المشترك يعني، فيما يعني، أنّه حيثما وُجدت "مصلحة عامة" فثمَّ مجال عام مفتوح يلتقي فيه أصحاب هذه المصلحة، ليتحملوا أعباء القيام بها، وليتقاسموا الانتفاع بها، وعليهم جميعاً يقع عبء المحافظة عليها والدفاع عنها، وتطويرها. المجال العام ينمو حول الأفكار والمعاني والقضايا المركزية، وينهدم بسبب صعود المعاني الهامشية والقضايا الفئوية لتحل محل ما هو مركزي وأساسي.
يتسع المجال المشترك بهذا المعنى بتعدد القوى المشاركة فيه، ويضيق باختزالها في قوة واحدة، أو باحتكارها لفئة دون أخرى. يتسع المشترك الوطني عندما تتوازن وتتعاون السلطات العامة للدولة، ولا تهيمن إحداها على ما عداها، كما كان يحدث في عهد المخلوع وطغمته. يتسع هذا المجال بوحدة "المرجعية العليا" للمجتمع، مع تنوع وتعدد الاجتهادات التي تسهم في تحقيق المصلحة العامة تحت ظل هذه المرجعية ودون الخروج عليها. ينمو "المجال المشترك" عندما يكون البرلمان ممثلاً لإرادة الشعب ومستوعباً للقوى السياسية المختلفة، وينمو عندما يكون الإعلام مسؤولاً وجاداً في المحافظة على الهوية الوطنية، وعندما تكون الشرطة في خدمة الشعب، ويكون الجيش متفرغاً لمهمته المقدسة في الدفاع عن الوطن والأمن القومي.
اللحظة التي نتمكن فيها من بناء "المجال المشترك" بهذا المعنى الذي ذكرناه، هي نفسها اللحظة التي سيصل مجتمعنا فيها إلى مستوى تمام الولاية على نفسه، وساعتها ستتلاشى الأصوات التي تدّعي الوصاية على الشعب وإرادته العامة. أما قبل ذلك فسيظل "المجال المشترك" منقوصاً، وآنذاك لن يغني عنا ولن ينفعنا أيّ حشد حتى لو وقف الشعب كله في ميدان التحرير في ذكرى الثورة أو في أيّ يوم آخر، وستظل كل الجهود متقابلة، يهدم بعضها بعضاً، بدلاً من أن يعضد بعضها بعضاً.
ولهذا؛ فإنّ علينا قبل التوجه إلى ميدان التحرير يوم الأربعاء في الذكرى الأولى للثورة أن نستحضر كشف حساب العام الأول للثورة وأن ننظر إليه بجميع جوانبه، وبعين العدالة والإنصاف؛ كي نتذكر ما حققناه من إنجازات ونحافظ عليه ونضيف إليه، وكي نواصل السعي والضغط لكي نصل ما لم يتحقق ونصر عليه.
إذا فعل كل منا ذلك، سنجد أننا حققنا إنجازات تاريخية بكل المعايير، منها وأولها كسر حاجز الخوف في نفوس المصريين، وإسقاط أمن الدولة، والتخلص من الطغمة الحاكمة ورئيسها المخلوع وحزبها الفاسد، وحكومتها الفاشلة، ومنها أيضاً انحياز القوات المسلحة إلى جانب الإرادة الشعبية وحسم الصراع لصالح الثورة في أقصر وقت، وبأقل قدر من الخسائر. ومن الإنجازات أيضاً وأكثرها مدعاة للفخر إجراء أول انتخابات برلمانية حرة ونزيهة وآمنة، بحمد الله، وشهد بنزاهتها الجميع في الداخل والخارج، وأظهرت عظمة الشعب المصري وتحضره، وأصبح لدينا برلمان يتشارك في عضويته نواب لعشرين حزباً، وهو ما لم يحدث من قبل، إلى جانب المستقلين وجميعهم أمامهم فرصة تاريخية للتعبير بحق عن السواد الأعظم للمصريين بكل أطيافهم.
ومقابل تلك الإنجازات هناك أوجه للقصور وهناك ممارسات خاطئة لا يمكن غض الطرف عنها، هناك أولاً حقوق لشهداء وجرحى الثورة يجب أن تتقدّم على أيّ حقوق لأيّ فئة أخرى. وهناك تراخ في محاكمة رموز العهد البائد يجب أن يعالج دون إبطاء أو إخلال بالعدالة. كذلك هناك خلل في الأمن الداخلي وليس أمام الحكومة إلاّ أن تبذل مزيدا من الجهد من أجل ضبط الأمن، وردع الخارجين على القانون، وعلينا أن نعاونها في ذلك، لا أن نزيد هذا الخلل تدهوراً. ولا يقبل أحد إعفاء أحد من المساءلة والمحاكمة عن أيّ جريمة ارتكبها في حق أبناء الشعب، مهما كانت صفته ومهما كانت سلطته. هناك أيضاً المشكلات الاقتصادية المتفاقمة، وهي تفرض على الحكومة التصدي لها بكل ما لديها من إمكانيات، وأن تراعي في كل سياساتها مبدأ العدالة الاجتماعية.
لا يصح أن نتغافل عما تحقق من إنجازات، ولا أن نغض الطرف عما بقي من أهداف الثورة، ولكن سيظل التحدي الأكبر هو "بناء المجال العام المشترك"، ذلك لأن الجريمة الكبرى التي ارتكبتها أنظمة الاستبداد والفساد والفشل هي تدمير كل مقومات هذا "المجال المشترك"، وتفتيت الإرادة العامة وشرذمتها عبر سياسات القهر والإقصاء والاستبعاد والاحتكار، وأيضاً عبر شخصنة كل ما هو عام، المؤسسات والوظائف والمصالح العامة احتكروها لأنفسهم وتصرفوا فيها بمنطق العزبة أو الوصية الخاصة، وأغلقوها في وجه السواد الأعظم، وحتى القانون والدستور نفسه لم ينج أيّ منهما من تلك النزعة الاحتكارية الإقصائية. وقد رأينا كيف عبث مبارك وطغمته بالدستور حتى أغلقته عليه وعلى ابنه، إلى أن انتهى بهم المطاف إلى زنازين السجن وأقفاص المحكمة.
ما لم تكن القواسم المشتركة التي تعيد بناء "المجال العام" هي أساس التوجه السائد بين الجميع في ذكرى ثورتنا المجيدة؛ فإنّ البديل هو أن يسود منطق الوصاية الذي يقول "رأيي صواب لا يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ لا يحتمل الصواب". البديل المرعب هو انصراف كل تيار أو فئة إلى الانكفاء على مطالبها الفئوية، والانغلاق على ذاتها، والوقوع في أحبولة الإنكار المتبادل بين تلك القوى والتيارات، كأن يتوهم فريق من هنا أو هناك أنّه وحده دون غيره هو صانع الثورة وصاحبها ووارثها، وأنّ غيره دخيل عليها وراكب لموجتها، والوقوع في هذا الوهم هو الذي سيمنع نشوء المجال المشترك، وسيكون في الوقت نفسه هو أقصر الطرق لإعادة إنتاج نفس السياسات الإقصائية الاحتكارية التي مارستها الطغمة السابقة.
لا يقف خارج المجال المشترك إلاّ الخائفون من الإرادة الشعبية، والكارهون للمؤسسات النيابية المنتخبة انتخاباً حراً. وليس من العشوائية في شيء أن يكون هؤلاء خليط من الفاشلين في الانتخابات النيابية، ومتطرفي اليسار والعلمانيين الذين يلفظهم السواد الأعظم من المواطنين في المغرب وفي تونس وفي مصر، وهي البلدان التي بدأت تتكون فيها مؤسسات نيابية حرة، هي بحد ذاتها ساحة لنشوء المجال المشترك بين مختلف الأطياف السياسية والحزبية. ففي المغرب حكم اليساريون وغلاة العلمانيين المغاربة بالفشل على حكومة عبد الإله بن كيران قبل أن يقدّم الرجل برنامج حكومته للبرلمان! وحكم أمثالهم من التوانسة بفشل حكومة حماد الجبالي من حزب النهضة الإسلامية والائتلاف الحاكم معه بعد أقل من ثلاثة أسابيع على تولّي المسؤولية! أما في مصر فقد بادر أمثالهم من اليسار والعلمانيين المصريين بالحكم بفشل البرلمان الجديد الذي سيقوده حزب الحرية والعدالة حتى قبل أن يعقد جلسته الافتتاحية! ولا تسأل بعد ذلك أحداً من الكارهين للإرادة الشعبية والمؤسسات النيابية عن العقل أو المنطق أو عن المصلحة العامة!
لنا نحن المصريين أن نفتخر ونحتفل بما حققناه حتى الآن من أهداف ثورتنا، وليس آخرها تكوين برلمان منتخب بإرادة أكثر من ثلاثين مليون مواطن حر. ومن البديهي والمفترض والمتوقع أيضا أن يسعى "برلمان الثورة" إلى استخدام كافة صلاحياته بأقصى كفاءة وفاعلية في بناء "المجال المشترك" بين المجتمع والدولة، وبين القوى والتيارات الفكرية والسياسية بأطيافها المختلفة عبر التشريع، وبتفعيل أدوات الرقابة والمساءلة، وفي وضع الموازنة العامة للدولة وتخصيصها بعدالة.
ما يرفضه كل مصري ومصرية في ذكرى الثورة هو أن تكون مناسبة لارتكاب مزيد من أعمال العنف وإثارة الفوضى وتخريب المؤسسات والمنشآت العامة والتعدي على حريات الآخرين، وما يصرّ عليه السواد الأعظم هو أن تتغلّب إرادة التغيير والبناء على نداءات الهدم والتخريب.
http://www.assabeel.net/assabeel-ess...-المشترك».html