النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: النظام السياسي ومنهج تدبير الشأن العام في الإسلام

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    الدولة
    مغربي فاسي و لكن دولتي من طنجة الى جاكارتا
    المشاركات
    459
    المذهب أو العقيدة
    مسلم

    افتراضي النظام السياسي ومنهج تدبير الشأن العام في الإسلام

    قال الله تعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) ﴾ سورة النساء

    إن ما تمتلكه الأمة الإسلامية بشعوبها وأعراقها من مقومات القوة المادية والغلبة والرقي، وما اختصها الله تعالى به من ثرواتٍ بشرية ومعدنية ومائية وزراعية ومواقعَ استراتيجية وتراث عريق، مما يؤهلها لأن تتبوأ أشرف المراتب وأعلاها بين الأمم، إلا أنها مع كل ذلك كله تعيش مذلة العصر ومهانة التاريخ وعبرة الأمم، لافتقادها الوعي الناهض بمقتضيات دينها والعمل الجاد بمنهجه والأداء الصادق لما حُمِّلَتْهُ من أمانة الإسلام، فكانت حصيلتها من سعي الليل والنهار ما تتجرعه حاليا ولا تكاد تسيغه ويأتيها الموت من كل مكان وما هي بميتة ولا حية.

    ولئن كان الوحي الإلهي في الآيات السابقة من سورة النساء قد بين للأمة منهج الإسلام في الاحتماء من أي استضعاف مكتسب داخليا بتصرفات بعض أهلها، أو خارجيا بمكر من أعدائها، وحذر من التفريط في ثوابت الدين اعتقادا وقولا وعملا، ومن الركون إلى المنافقين والمندسين والاستنامة إلى مكرهم والثقة بنصائحهم واتباع أهوائهم بدافع الرهبة أو الرغبة أو لضرورات متوهمة، فإنه عز وجل قد عقب على ذلك كله ببيان منهج للتدبير العام يَلُمُّ متفرق هذه التوجيهات في نظام سياسي متكامل لأمة واحدة، ذات سعي رشيد واحد وهدف رضي واحد، وخطو سديد منتظم وعزم قوي منسجم، فقال عز وجل مبتدئا بأمر عام يفصله ما بعده:

    ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ وقوله تعالى: ﴿ يَأْمُرُكُمْ﴾ أمر من الله تعالى صريح الوجوب، مؤكد بحرف "إن"، مثل صراحة النهي عن موالاة المعتدين على المسلمين في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ﴾الممتحنة 9.

    ولفظ: ﴿تُؤَدُّوا﴾ من أصل الفعل"أدَى يأدِي"، والهمزة والدّال والياء كما قال ابن فارس أصل واحد، وهو إيصال الشيء إلى الشيء، أو وصوله إليه من تلقاء نفسه، ومنه "الأداة" وهي الآلة التي تستخدم في الحِرَف، يقال: آداهُ على كذا يُؤْديهِ إيداءً، إذا قوّاه عليه وأعانه، وأدَّى ديْنَه تأدية وأداء إذا قضاه، وأدَّى صلاته إذا قام بها، وأَدَّى الشيءَ إذا أَوْصَلهُ، وأدّى الشهادة إذا بلَّغ ما عَلِمه لمن هو أهلُه، وتأدَّى إليه الخبر أي بلَغَه، وأَما قوله عز وجل: ﴿أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾ الدخان 18، فهو من قول موسى عليه السلام لآل فرعون ومعناه: سَلِّموا إليَّ بني إسرائيل، ويطلق الأداء مجازاً على قول الحق والاعتراف به والوفاء بما في الذمة من مال أو وديعة أو علم.

    ولفظ ﴿الْأَمَانَاتِ﴾ جمع أمانة، من أصل الفعل "أمِن" ويفيد التصديق وسكون القلب وطمأنينته، ومنه الأمن ضد الخوف، والإيمانُ ضدُّ الكفر والإيمان بمعنى التصديق ضد التكذيب، والأمانة ضد الخيانة، والأمانة أيضا هي الوديعة، اسم لما يؤتمن عليه الإنسان مالا أو حقوقا أو أسرارا وهو أمين عليها، كما في قوله تعالى: ﴿لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ الأنفال27، وهي أمانة الإسلام عقيدة وشريعة، وفي الحديث: (المؤذن مؤتمن) أي أن المؤذن أمين الناس على صلاتهم وصيامهم.

    وقوله تعالى: ﴿أَهْلِهَا﴾ يعني أهل الأمانة وهم مستحقّوها، كما يقال: أهل الدار أي أصحابها. وقد ذكر الواحدي في أسباب النزول أنّ الآية نزلت يوم فتح مكة إذ سَلَّم عثمان بن طلحة مفتاح الكعبة للنبي صلى الله عليه وسلم وكانت سدانة الكعبة بيده، فسأله العباس بن عبد المطلب أن يجعل له سدانة الكعبة يضمها مع السقاية التي كانت بيده، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن طلحة وابنَ عمّه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، فدفع لهما مفتاح الكعبة وتلا قوله تعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾، وقال لهما: (خذوها خالدة تالدة لا ينتزعها منكم إلاّ ظالم)، وعلى هذا فلفظ "الأمانة" في الآية مستعمل في معناه الحقيقي، لأنّ عثمان سلّم مفتاح الكعبة للنبي عليه الصلاة والسلام دون أن يُسقط حقّه فيه، ولفظ "الأداء" بذلك على الحقيقة متعلق بذاتٍ يمكن إيصالها بالفعل لمستحقّها، وعموم الأمر به إلزام بإيصال جميع الأمانات إلى مستحقيها، وإيجاب للوفاء بكل ما في ذمة المرء من حقوق، قال صلى الله عليه وسلم: (لَتُؤَدُّنَّ الحقوق إلى أهلها، حتى يُقتصَّ للشاة الجَمّاء من القَرناء)، ولا شك أن ذروة سنام الأمانات هي الأمانة الكبرى التي واثق الله عز وجل بها فطرة الإنسان بقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾الأعراف 172، وقوله: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ الأحزاب 72، وأول هذه الأمانات حق الله على الناس وهو التوحيد والعبادة، ثم حق النفس على صاحبها وهو تطهيرها وتزكيتها وجلب المنافع المشروعة لها ودفع الأضرار عنها، وحق العباد وهو الإحسان إليهم وترك أذاهم، ونصحهم في دينهم ودنياهم.

    إلا أن ما ورد عقب هذه الآية من ذكر للحكم والتحاكم، وطاعة لله تعالى ورسوله، وطاعة لأولي الأمر في حالة الوفاق، والرد إلى الكتاب والسنة في حالة التنازع، قرينة قوية على ارتباطها بالشأن العام داخل الأمة الإسلامية، فصلَ قضاء ونظامَ تدبير وتسيير وتشريع. وكان المدخل إلى ذلك الأمر بأداء الأمانات في حال الامتثال والوفاء، والأمر بالعدل في حال التناكر والتنازع واختلال الأخلاق في المجتمع، بقوله تعالى عقب ذلك:

    ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ والحكم لغة من الألفاظ التي يتحد لفظها ويتكثر معناها لغة واصطلاحا، وهو مصدر قولك: حَكَمَ بينهم يَحْكُمُ أي قضى، ومنه قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ الإسراء 23 أي حكم، ومنه قولك: "قد حَكُم" بضم الكاف، أي صار حكيماً، و"الحكيم" هو المتقن للأمور، وقوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ مريم 12، أي علما وفقهاً؛ وإذا ما استعرضنا أوجه الاستعمال القرآني للفظ "الحكم" ومشتقاته، نلاحظ أنه لم يستعمل قط بمعنى التحكم في الناس ومصادرة حريتهم في تسيير أمرهم الجامع، وإنما ورد بمعنى القضاء بينهم والفصل في أمورهم والبث في منازعاتهم كما في هذه الآية، وأن وقوعه دائما يكون على القضية موضوع الحوار أو البحث أو الخلاف أو التنازع أو التصرف، لا على الشخص ذي العلاقة، من أجل الوصول إلى حل أو منهج أو قضاء بإلزام أو إطلاق. وهذا يبعد ما ذهب إليه الفقهاء والمتكلمون في فقه الأحكام السلطانية، من أنه حكم على الناس من قبل حاكم، رئيسا كان أو ملكا أو أميرا.

    والعدل : ضدّ الجور، وهو في اللغة التسوية والقضاء بالحق فيما يعرض للمرء من أمر نفسه أو أمر غيره، يقال: عَدَل كذا بكذا، أي سوّاه به ووازنه عدلاً، وقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ الأنعام 1، معناه أن المشرك يسوي بربه تعالى غيرَه - تعالى الله عن ذلك عُلُوَّاً كبيرا-.

    والعدل المأمور به في هذه الآية الكريمة هو عماد النظام القضائي في الإسلام،أي الحكم [[1]]بالكتاب والسنة في جميع ما يعرض للأمة من قضايا، لما قاله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾ النساء 105، وهو كذلك عماد العلاقات السوية بين الناس في معاملاتهم اليومية، لأنه حق في ذمة كل شخص نحو غيره، كل امرئ مطالب بالعدل في جليل القضايا وتافهها، وقد رأى الإمام علي رضي الله عنه غلامين يتحاكمان إلى ابنه الحسن ليحكم بينهما، أيّ خطيهما أحسن من الآخر، فقال له: "يا بني انظر كيف تقضي، فإن هذا حكم والله سائلك عنه يوم القيامة".

    ولا يخفى أن العدل هو قوام الأمر كله في الحياة الدنيا وصمام الأمن والتعايش السليم بين الناس جميعا، مختلفين أو مؤتلفين، أحبابا أو أعداء، لا فرق بين مسلم وغير مسلم، أسود أو أبيض أو أحمر أو أصفر، ويعني في عموم معانيه المساواة في تعيين الحقوق والواجبات توثيقا وقانونا، وفي تنزيلها على واقع الناس عملا وتنفيذا، والمساواة في التمتع الإيجابي بالحرية، حرية الرأي وحرية الاختيار، وحرية الكسب والإنفاق والتنقل والاستقرار، وحرية طلب العلم والسعي لتوفير الحياة الكريمة وتأسيس الأسرة السوية، لذلك عقب الحق تعالى محرضا على الامتثال لأمره بأداء الأمانات وإقامة العدل ومبينا فائدة ذلك بقوله:

    ﴿إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ ولفظ "نِعِمَّا" أصله: "نِعْمَ مَا"، سُكِّنت الميمُ الأولى، وأدغمتْ في الثانية، وحُرِّكَتِ العينُ لإلتقاء الساكنَيْنِ، وخُصَّتْ بالكَسْر إتباعاً للنُّون، والمعنى أن ما وجهكم الله تعالى إليه في هذه الآية هو نعم النصيحة التي تستقيم بها حركة الحياة، والموعظة التي تكفُل الأمن في المجتمع، والتذكير الذي ينبه الغافلين، فاحرصوا عليه وأشيعوه بينكم، ولا تنسوا أنه تعالى يراقب أعمالكم ويسمع أقوالكم ويعلم مدى أدائكم للأمانات وإقامتكم للعدل﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾.

    ولئن كان الأمر بأداء الأمانات وإقامة العدل موجها لكافة أفراد الأمة، ومنبثقا من صميم إيمانها بربها عز وجل وما أتى به رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الحاجة إلى بيان منهج رباني عام شامل ينسق الجهود في هذا الشأن أصبحت ضرورية، إذ لا جدوى من محاولة المحافظة على الأمانات أو إقامة العدل في ظل فوضى الأنظمة الوضعية المبنية على اجتهادات بشرية قصيرة النظرة قاصرة العلم والفهم، متقلبة الأمزجة متضاربة المصالح والغايات، لذلك شرع الوحي في تأسيس أولى لبنات منهج الإسلام في تدبير الشأن العام للأمة مستندا إلى ما ألزمت به نفسها من إيمان وإسلام لا يكونان صادقين إن لم يثمرا طاعة لله ورسوله، فقال تعالى:

    ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ إن هذا المنهج الرباني مبني أولا على طاعة الله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ﴾، إذ ما دامت الأمة قد آمنت به فقد أوجبت على نفسها طاعته ولذلك خاطبها الحق سبحانه بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، ومبني ثانيا على طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم:﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ لكونه المبعوث إلى الأمة والمؤتمن على تبليغ المنهج قرآنا وسنة وقدوة، قال تعالى: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾ النساء 80، وقال: ﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾ الحشر 7، وبذلك يلتحم نظام حياة الأمة بعقيدتها في نواةٍ صلبة جزئياتها غير قابلة للتفتت أو الانفلات، نواةٍ هي الميزان الأمثل المحايد الذي ترجع إليه العقول المتعارضة والآراء المتنافرة، والاجتهادات المختلفة عند محاولة تدبير الشأن العام، فلا تنجرف نحو إفراط أو تفريط، أو غلو وشطط، أو ميل لهوى فرد أوقبيلة أو فئة أو مصلحة خاصة.

    إلا أن هذه النواة الصلبة للمنهج الإسلامي محتاجة في تنزيلها للواقع تـنزيلا راشدا مبنيا على شريعة الله كتابا وسنة، إلى أمة واعية تنتدب مِن بينها فئة تقيم ذلك، وتعطيها من أدوات البناء والتشييد طاعة منبثقة من طاعة الله ورسوله ولذلك عقب الحق سبحانه بوجوب طاعتها بقوله:

    ﴿وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ أي وطاعة أولي الأمر منكم، وقد جاء هذا الجزء من الآية معطوفا على ما قبله دون أمر بالطاعة، وهو ما يجعل طاعة أولي الأمر مقيدة بطاعة الله ورسوله، وهي بذلك مجرد امتثال مزدوج، لأمر الله أولا ثم لما تقرره الأمة في شأنها العام، وفي ذلك عصمة للأمة من الظلم والاستبداد ، ولأولي الأمر من الانحراف والفساد.

    إلا أن عدم التثبت في تحديد معنى لفظ "أولي" ولفظ "الأمر" لدى بعض الفقهاء قد ساهم في التعتيم على هذا المنهج الإسلامي الرشيد، لذا وجب أولا رفع هذا اللبس بتوضيح طبيعة " الأمر" الوارد في الآية الكريمة ومعناه، لأن أمور الأمة كثيرة ومتنوعة، منها أمر بيان الأحكام الشرعية ولا خلاف في أن العلماء هم ذووه، وأمر الحروب وتسيير الجيوش وأصحابه القادة العسكريون، وأمور العمارة والزراعة والصناعة وأبحاث العلوم التطبيقية ولكل منها ذووها والقائمون عليها، هذا أول أسباب الاختلاف في تحديد معنى قوله تعالى: ﴿وَأُولِي الْأَمْرِ﴾، ذهب جابر بن عبد الله ومجاهد والإمام مالك إلى أنهم أهل القرآن والعلم، وميمون بن مهران ومقاتل والكلبي إلى أنهم أصحاب السرايا، وابن كيسان إلى أنهم أولو العقل والرأي الذين يدبرون أمر الناس...الخ.

    والسبب الثاني لذلك هو التباس معنى لفظ"أولي" في بعض الأذهان، وقد عده بعضهم جمعا مفرده "ولي"، ثم حاولوا تكريس هذا المعنى بإيراد أحاديث نبوية لا علاقة لها بالموضوع، مثل قوله صلى الله عليه وسلم لا نكاح إلا بوليّ)، وقوله أيما امرأة نَكَحَتَ بغير إذن وليها فنكاحها باطل)، وقاسوا بذلك النظام السياسي للأمة المسلمة على زواج المرأة ومسؤولية وليها عنها، ثم خلص بعضهم من هذا القياس الفاسد إلى أن الشورى واجبة على الحاكم وحده إن قام بها وفّى وإن لم يقم بها أثم وحده، ولا حق للأمة في محاسبته أو عزله، لأن حسابه على الله يوم القيامة.

    إن كلمة " أولي" في اللغة العربية ليست بمعنى أولياء ، ولكنها اسم جمع بمعنى "ذوي " ، وواحده "ذو" على غير قياس ، فلا واحد لـ"أولي" من لفظها، وذلك مثل: الخيل مفردها حصان ، الإبل مفردها: جمل، والنساء مفردها: امرأة. وعلى ذلك فقوله تعالى: ﴿وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ معناه: "ذوي الأمر منكم" أو "أصحاب الأمر منكم"، وهو نفس المعنى للفظ "أولي" في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا﴾ الإسراء 5، وقوله: ﴿قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ﴾الفتح 16، وقوله: ﴿قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ النمل 33 ، وقولـه: ﴿وَأُوْلُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ الأنفال 75. وإذا ما استحضرنا في الأذهان قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾الشورى 38 تبين لنا أن أولي الأمر وأصحابه وذويه هم المسلمون عامة، أي أن أمر المسلمين شورى بين المسلمين، وطاعة قراراتهم المنبثقة بالشورى بينهم واجبة، ولو كان المعنى هو إطاعة الحاكم وأن الأمر له، لقيل:" وأطيعوا الرسول وذا الأمر منكم "، لأنه لا يكون في الزمان الواحد والمكان الواحد عند الفقهاء إلا إمام واحد، أما وقد وردت الآية: ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾ بصيغة الجمع، أي ذوي الأمر وأصحابه، فلا يمكن حملها على الحاكم، لأن حمل الجمع على المفرد خلاف الظاهر.

    ولعل مما يجعل معنى الآية ملتبسا على بعضهم أيضا، اعتبارهم أن حرف الجر:"من" في قوله تعالى: ﴿وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾للتبعيض، في حين أنها وردت هنا لبيان الجنس، وليس للتبعيض، كما في قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ الفتح 29، وفي قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ﴾النور 55، وقوله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ﴾الحج 30 ، وقوله تعالى: ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ﴾ الكهف 31 .

    وبما أن علامة "مِنْ" البيانية أن يصح الإخبار بما بعدها عما قبلها، أي أن يصح وقوعها صفة لما قبلها، وأن يناسب وضع "الذي" موضعها، فإننا نقول:"الرجس هي الأوثان "، ونقول:" الأساور هي ذهب"، ونقول أيضا: "الذين آمنوا وعملوا الصالحات الذين هم أنتم"، ونقول أيضا: "أولو الأمر" هم ضمير الخطاب في"منكم" ، أي: " أولو الأمر الذين هم أنتم".

    ثم إن الأمر بالطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم ولأولي الأمر، جاء مطلقا وعلى سبيل الجزم، وكل ما ورد الأمر بطاعته على سبيل الجزم والإطلاق لابد أن يكون معصوماً؛ والرسول صلى الله عليه وسلم معصوم، والحكام غير معصومين، بل إن آحاد المسلمين كلهم غير معصومين، والعصمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تجعل إلا لإجماع الأمة في قوله صلى الله عليه وسلم : (لا تجتمع أمتي على ضلالة) ؛ فجاز أن يحمل تعبير"أولي الأمر" على إجماع المسلمين في قضاياهم الدنيوية، أي ما تنعقد عليه كلمتهم بعد تشاورهم كما فعل عمر بن الخطاب في أرض سواد العراق، لا سيما والحديث المذكور في غاية الاستفاضة وكاد يبلغ مرتبة التواتر المعنوي، وقد عده الغزالي أقوى وأدل على المقصود في الموضوع، ويؤكد السرخسي فى أصوله الكلام نفسه بقوله:"الآثار في هذا الباب كثيرة تبلغ حد التواتر لأن كل واحد منهم إذا روى حديثا فى هذا الباب سمعه في جمع ولم ينكر عليه أحد من ذلك الجمع فذلك بمنـزلة المتواتر".

    كما أن نسبة الأمر العام للأمة بكاملها في آية الشورى صريح في بيان المقصود من "أولي الأمر"، لأن الخطاب في هذه الأية موجه لعامة المؤمنين وليس لخاصة الحكام، كما يتضح من سياق قوله تعالى: ﴿فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ الشورى 36/38، ولا شك أن من الصفات المشتركة في المجتمع المسلم اجتناب الفواحش والتغافر وإقامة الصلاة وإقامة الشورى والإنفاق قي سبيل الله، وهي كلها تكاليف شرعية منوطة بالأمة الإسلامية كلها وليس بأفراد مخصوصين حكاما أو علماء أو رجال سياسة أو قادة جيوش.

    إن أول خطوات تدبير الشأن العام أن تنشأ الجماعة المسلمة ( الأمة) حول بذرة العقيدة وتتفاعل بها ومعها ومن أجلها، وتنظم شأنها العام بواسطة الشورى الجماعية قرارا وتنفيذا ومحاسبة ومراقبة، بمنأى عن التراتبية السلطوية الهرمية، بما يحقق التعاطي الإيجابي البناء، بين الأمة وبين قيادتها الخدمية التنفيذية، دون احتكار للخيرات، أو مصادرة للرأي والحريات، أو سقوط في شراك الفتن الطائفية أو المذهبية أو العرقية أو الطبقية أو الحزبية، لأن كافة المواطنين في دولة الشرعية سواسية أمام عقيدة سمحة وشريعة عادلة ونظام هو مِلْك لهم جميعا.

    ذلك ما نصت عليه وعملت به أول وثيقة إنسانية نظمت حياة الناس في الأرض، وثيقة المدينة التي كتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول هجرته إلى يثرب، تنظيما لساكنتها من المسلمين وغير المسلمين، لجما لطغيان الطوائف والعصبيات على بعضها، وإقرارا لمبدأ المساواة في الحقوق والواجبات، في سماحة وعدالة لم تعرفهما أحدث القوانين الوضعية المعاصرة.

    إن هذه الوثيقة لم "تُشَرْعِنْ" من قريب أو بعيد لحكومة أو رئاسة أو مجالس أهل حل وعقد أو حكام يغتصبون السلطة أو يتوارثون العروش، بل أرست - مرتكزة على ما ورد في الكتاب والسنة من أحكام وتوجيهات - قواعد المجتمع المتكامل المكون لجميع الأطياف مهاجرين وأنصارا، ومن لحق بهم واعتنق دعوتهم، أو جاورهم أو ساكنهم من ذوي الديانات المخالفة يهودا ومشركين، في ظل المواطنة الصالحة تكافلا وتعاونا وتناصرا، تقريرا وتنفيذا. من غير ظلم أو حيف أو تخاذل أو تعال واستكبار، مع المحافظة على نقطة الارتكاز العقدي بما يحفظ للأمة مبدأ ولائها وبرائها، ويعصمها من التحلل والذوبان، وعلى حرية الأمة في التسلط على أمرها العام الجامع وحقها في اختيار منفذي قراراتها واستبدالهم متى اقتضت مصلحتها ذلك.

    أما المبادئ المميزة والخطوط العريضة التي رسمتها هذه الوثيقة[[2]] فيمكن تلخيصها في النقط التالية:

    1 – مبدأ المواطنة المشتركة في الدولة الإسلامية

    2 – مبدأ التكافل الاجتماعي بين المواطنين

    3 – مبدأ المحافظة على أمن الدولة والمجتمع

    4 – مبدأ المساواة والتسيير الذاتي للمجتمع

    5 – مبدأ الدفاع المشترك بين جميع المتساكنين

    6 – مبدأ حرية الاختيار وتقرير المصير للمخالفين

    7 – مبدأ سيادة الشريعة وحاكمية الكتاب والسنة

    هذا ما حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقامته في المدينة المنورة، وتركنا عليه يوم بلغ للأسماع والقلوب والمهج آخر ما نزل من القرآن ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ ، وأقام آخر أعمدة تدبير الشأن العام للأمة في خطبته الغراء بجبل الرحمة يوم عرفات في حجة الوداع ( السنة العاشرة للهجرة )، مبشرا بكمال الدين وتمام النعمة، حريصا على وضوح قوله وسماع صوته، وتبليغ رسالته، باتخاذه ربيعة بن أمية بن خلف الجمحي مسمعا لخطبته وكان صيتا، قائلا له بين الفينة والفينة:"اصرخ"، مشهدا سامعيه على نفسه وبلاغه، يقول لهم هل بلغت؟ فيقولون: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: ليبلغ الشاهد منكم الغائب)، محذرا المسلمين من إهدار هذه الفرصة والمناسبة قائلا: (أما بعد: أيها الناس اسمعوا مني ما أبين لكم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا، أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم...).

    إن "أولي الأمر" كما ورد في الآية الكريمة، وفي وثيقة المدينة، وفي خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، هم المسلمون عامة، وإنما ينتدبون لتنفيذ قراراتهم المتعلقة بتدبير شأنهم العام من يرضون قدرته وكفايته ونزاهته وتقواه، محتفظين بحقهم في تقنين شروط الاختيار والاستبدال والإعفاء والمحاسبة في إطار الشورى الجماعية واجبة التنفيذ، لذلك فرض الله تعالى طاعة من تكلفهم الأمة بخدمتها وتنفيذ قراراتها، لأن طاعتهم طاعة للأمة التي هي صاحبة الأمر، فإن طرأ خلل في الاختيار أو التسيير أو التنفيذ وأنشأ تنازعا واختلافا كانت منهجية الحل وإعادة الوفاق ورأب الصدع هي قوله تعالى عقب ذلك:

    ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾. وقوله تعالى: ﴿تَنَازَعْتُمْ﴾ من أصل الفعل "نزع" ويدل على قلع شيء، ونَزَع الشيءَ من مكانه نزعا إذا حوَّله من موضعه، وقد نازعني منازعة ونزاعا إذا جاذبني في الخلاف، ومنه التنازع وهو مجاذبة الحجة والآراء بشكل يؤدي إلى الخصومة.

    أما الرد إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو إنهاء أمور الخلاف إلى أحكام القرآن الكريم، كما قال تعالى أيضا في الآية 10 من سورة الشورى: ﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾، وإلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أقوالا وأفعالا وتقريرات بَيَّنَ وجوبَها بقوله عليه السلاملا ألْفِيَنَّ أحدَكم متّكئاً على أريكته يأتيه الأمر ممّا أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتّبعناه) ، وقولهألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله)

    لقد حرم الله تعالى التنازع بين المسلمين وناط به الفشل والاندثار بقوله عز وجل: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ الأنفال 46، وجعل تمامَ المسالمة بينهم وَحْدةَ العقيدة وأخوَّةَ الإيمان واستشعارَ المسؤولية بين يدي الله تعالى فقال:﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ آل عمران 103، إلا أن الأمة الإسلامية في هذا العصر طال عليها الأمد - إلا قليلا ممن رحم الله – فارتكست في الاختلاف الشديد والتنازع المزمن، وفرقت دينها فألْبِسَتْ شيعا وأحزابا ذاق بعضها بأس بعض، وليس من سبيل إلى رأب الصدع والعودة إلى صراط الله القويم إلا برد جميع أمرها إلى الكتاب والسنة ومنهج ربها في هذه الحياة.

    ولعل من المناسب في هذه العجالة عرضَ بعض أسباب هذا التنازع ونتائجه فرقةً وضعفا وانذلالا بين الأمم، والتذكيرَ بمنهج رده إلى الكتاب والسنة، وفي مقدمة ذلك:

    1 – العرقية والطائفية والحزبية والمصالح الشخصية السائبة، وهي كلها آفات تضرب وحدة المسلمين، وتتحول إلى معبود أو شبه معبود، جبتا وطاغوتا يتنكر المرء به لأبيه وأمه وصاحبته، ويتخلى من أجله عن ثوابت العقيدة تأويلا للأحكام وليا للنصوص وإيثارا لما تهوى الأنفس.

    ولا شك أن القلوب المؤمنة، والأفئدة المتشربة لدين التوحيد، والصادقة في تحمل الأمانة، تتطهر من هذه الآفات، وتسلس قيادها لله عقيدة صافية وشريعة على النهج السليم. لأن الإخلاص الحق لله تعالى هو تصفية جميع النوايا والأعمال من ملاحظة المصالح الفئوية عرقية كانت أو فئوية أو حزبية، فإن شابها شيء من ذلك كان الشرك أكبر أو أصغر، ظاهرا أو خفيا. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول (إن الله تعالى يقول أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكا فهو لشريكي، يأيها الناس أخلصوا أعمالكم لله تعالى فإن الله تعالى لا يقبل إلا ما خلص له، ولا تقولوا هذا لله وللرحم فإنها للرحم وليس لله منها شيء، ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم فإنها لوجوهكم وليس لله تعالى منها شيء). فكيف بمن يشرك في نيته وسعيه انتماءه الحزبي أو الفئوي أو العرقي قبل انتمائه العقدي أو معه، برا كان ذلك أو صدقة أو زكاة أو زواجا أو مصاهرة أو صِلاتٍ وعلاقاتٍ سياسيةً أو اجتماعية أو تجارية أو اقتصادية ؟

    إن كل تجمع أو تكتل يراعي فيه المرء مع الله انتماءه العرقي أو القبلي أو الحزبي أو الطائفي هو للعرق أو للقبيلة أو للحزب أو للطائفة، وليس لله منه شيء، والله تعالى يقول فيما يرويه عنه نبيه صلى الله عليه وسلممن عمل عملا أشرك فيه غيري فهو له كله، وأنا عنه بريء وأنا أغنى الأغنياء عن الشرك).

    2- من أسباب الفرقة والاختلاف بين المسلمين ولاءُ بعض المنافقين فيهم لأعداء الأمة وعملُهم على تخريبها من داخلها، وعلاج ذلك بيد أولي الأمر قيادة خدمية وشعبا حريصا على وحدته وأمنه، ورد ذلك إلى الكتاب والسنة يسير، إذ النصوص جلية واضحة ومفسرة.

    3 – من الأسباب أيضا الخلاف المذهبي، وقد فعل مفعوله السيء طيلة عهود الانحطاط، وما زالت أثاره بادية في علاقات المسلمين ببعضهم على رغم الصحوة المعاصرة. وهو موضوع واسع الأكناف متشعب الأطراف له صلة بعدة علوم، علوم القرآن والحديث والفقه ،والأصول، والتعارض والترجيح، والمنطق، والبحث والمناظرة، كما أن له ارتباطا بواقع الأمة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. ونحن إذا ما استعرضنا بإيجاز مجالات الخلاف في الأحكام الشرعية العملية المستنبطة وأسبابه على مدار مراحل التشريع المتعاقبة وجدنا أنها لا تكاد تخرج عن صنفين من الأحكام :

    صنف راجع إلى نصوص هي الأدلة النقلية كتاباً وسنةً، واستنادا إليهما بالإجماع، وحملا عليهما بالقياس .

    صنف راجع إلى أمارات هي ما سوى الكتاب والسنة والإجماع والقياس مثل الاستحسان والاستصحاب وسد الذرائع وفتحها والمصلحة المرسلة والعرف والعدول عن القياس الجلي الضعيف إلى القياس الخفي القوي، وما سوى ذلك من أمارات تكاد تصل الخمسين .

    أما الصنف الأول فمن أهم أسباب الخلاف فيه:

    قطعية دلالة النصوص وظنيتها، والنص قطعي الدلالة هو ما دل على معنى تعيَّن فهمه منه، ولا يحتمل تأويلاً، ولا مجال لفهم غيره منه، أما النص ظني الدلالة فهو ما يكون محتملاً لأكثر من معنى واحد .

    النصوص الموهمة بالتعارض مثل أن يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم حكماً في حالة ، وحكماً آخر بالنسبة للمسألة ذاتها في حالة أخرى، فيتوهم المجتهد التعارض، ولا تعارض لاختلاف الحكمين باختلاف الحالتين.

    منهج الفقيه في قبول أخبار الآحاد وسبرها ونقدها .فابن حنبل مثلاً يستغني بخبر الآحاد ولو ضعيفاً عن القياس والرأي .ومالك يشترط موافقة الصحيح لعمل أهل المدينة، والظاهرية يعتبرون الآحاد قطعية توجب العلم اليقين في العقيدة والعمل .

    قد يبين الشرع طريقتين أو طرقاً لبعض التصرفات، والأخذ بأيّ منها جائز، فيتوهم بعض المجتهدين تعارضاً بين هذه الطرق .

    قد يكون الخلاف بسبب وقوع نسخ لم يعلم به الفقيه.

    قد يرد في الكتاب والسنة لفظ عام يراد به العموم، وآخر عام يراد به الخصوص ، وقد يرد بصيغة الخصوص فيبدو من ظاهر الألفاظ التعارض ولا تعارض.

    كيفية تناول ألفاظ النصوص كتاباً وسنةً، ومنهج تأويلها وتمييز نصها من ظاهرها ومحكمها من مفسرها، وخفيها من مشكلها ،ومجملها من مبينها.

    الاختلاف في تعيين دلالات الألفاظ وهل هي بإشارة النص أو مفهوم الموافقة أو الأولى أو الاقتضاء، أو المخالفة، أو مفهوم اللقب، أو الوصف، أو الشرط، أو الغاية، أو من حيث دلالة الشمول في اللفظ عاما وخاصا، مطلقا ومقيدا، وكيفية تخصيص العام بالمتواتر أو الآحاد أو القياس أو المصلحة.

    وهذه الشمولية في مجال الاختلاف ليست عيبا في الفقه الإسلامي، بل هي من مميزات كماله ومرونته وصلاحيته لكل زمان ومكان وحال، ومن خصائص شريعته الربانية ودينه الذي نسخ ما سبقه من أديان، ونبيه الذي ختمت به النبوة، وأحكامه التي هي حجة للناس أو عليهم إلى يوم القيامة، والرد إلى الكتاب والسنة في هذا المجال يكمن في اعتبار المذاهب الإسلامية كلها مجرد مدارس علمية فقهية لا غير، تتكامل فيما أصابت فيه وتتناصح فيما أخطأت فيه، وهذا يقتضي مراجعة شاملة ودقيقة لكل الاجتهادات الفقهية المختلف فيها، وتصنيفها ومدارستها؛ عندئذ سوف نكتشف أن تشنجنا وأحادية نظرتنا، هما الحائل بيننا وبين الاستفادة منها وتوحيد الصف بها.

    4 – من أسباب الاختلاف أيضا موقف الفقه الإسلامي من القضايا التي لا توجد لها نصوص شرعية حاكمة في الكتاب والسنة أو فيما يحمل عليهما بالقياس أو يستند إليهما بالإجماع، إلا إذا تدخل الفقيه مثلا بنوع من التأويل لأدوات استنباط مختلف فيها، كالاستصلاح المالكي والاستحسان الحنفي والاستصحاب الظاهري، بل قد لا نجد لها من أدوات الأصوليين ما يشفي الغليل. والواجب يقتضي تنظيم حياة الناس باستحداث حلول لها تساير النشاط البشري وتطوره، دفعاً للتظالم، وتحقيقاً للعدل والسلم، وتوفيراً لظروف تساهم في رقي الأمة ونهضتها، وذلك ما يطرح على الفقه بإلحاح ضرورة التفكير في آلية اجتهاد خاص لهذه القضايا الواقعة في هذه المنطقة ذات"الفراغ التشريعي"، آلية منبثقة من الكتاب والسنة، وتضع الحلول المناسبة الناجعة لما لا تتسع له ضروب الاستنباط الأصولية المعروفة.

    إن القضايا المتعلقة بهذا الصنف من الاستنباط حقيقة واقعة في المجتمع، حدثت وتحدث، ويتجدد شبيه لها ومخالف لها في كل عصر. والفقه الإسلامي واحد في هدفه ومواضيعه، ينبع من أصل واحد هو الكتاب والسنة، إلا أنه يتأثر بالبيئة التي يعمل فيها، تجارية أو سياسية أو اجتماعية، سلماً أو حرباً. ولا بد من تنظيم حياة الناس في هذا المجال، واستحداث حلول تساير النشاط البشري دفعاً للتظالم، وتحقيقاً للعدل والسلم، وتوفيراً لظروف تساهم في رقي الأمة ونهضتها. ولذلك رأى الفقهاء ضرورة استنباط أحكام للشرع في هذا الاتجاه، هذا الموقف عكس أيضاً مرونة التشريع الإسلامي وصلابته وبعد غوره. ولئن كان هذا المنهج الفقهي الاجتهادي ضروريا في مجال الأحكام الشرعية العملية، فإنه في مجال التدبير العام للدولة الإسلامية يؤسس للتمزق المذهبي باختلاف الفقهاء في النازلة الواحدة والبلدة الواحدة والمسجد الواحد والزمن الواحد، لذلك لا محيد عن التشريع الشوروي المستند إلى نص صريح من الكتاب هو قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ الشورى 38، ونصوص نبوية ثابتة مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( لَوْ كُنْتُ مُؤَمِّرًا أَحَدًا دُونَ مَشُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ لأَمَّرْتُ ابْنَ أُمِّ عَبْد[[3]])، وفي رواية: (لَوِ اسْتَخْلَفْتُ أَحَدًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ لاَسْتَخْلَفْتُ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ )، وفي رواية: (لَوْ كُنْتُ مُؤَمِّرًا أَحَدًا مِنْ أُمَّتِي عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنْهُمْ لأَمَّرْتُ عَلَيْهِمُ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ) وليس هذا الاتجاه ببدعة في هذا المجال، لأن النصوص مهما كثرت وتنوعت أساليب الحمل عليها محدودة إذا ما قيست بما يستحدث من وقائع وما يستجد في كل عصر من أحداث ونوازل؛ كما أن مصطلح " الفراغ التشريعي" ليس غريبا في ساحة الاجتهاد الإسلامي المعاصر، لأن العمل بمقتضاه قد عرفه الصحابة رضي الله عنهم عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعالجه الفقهاء من بعدهم على مر العصور تحت مسميات مختلفة؛ وذلك لأن الشريعة الإسلامية قد حددت أحكاما ثابتة مستندة إلى نصوص الكتاب والسنة، في وقائع وأحداث وحالات وقضايا معينة، وتركت أحوالا أخرى شاغرة لم تحدد لها أحكاما، وأذنت للأمة في التشريع لها بما يناسب ظروفها ومصلحتها وخط سيرها، وبما لا يتنافى أو يتعارض مع ثوابت الدين عقيدة وشريعة ونظام حياة، كما هو الشأن حاليا في بعض القضايا المعاصرة نشاطا تجاريا واقتصاديا وسياسيا وإداريا وصناعيا واجتماعيا وزراعيا وطبيا وثقافيا، وتعاملا مصرفيا وتأمينا تجاريا وشخصيا وعلاقات سياسية داخلية وخارجية وقوانين إدارية ونقابية وحزبية وضبطا لشؤون الملكية الفكرية والقرصنة الصناعية والتقنية والجمركية...

    ولئن كان الاجتهاد في مجال ثوابت الأحكام النصية وما يحمل عليها مبنيا على الموازنة بين الأقوال والأدلة، والترجيح بينها والانتقاء منها والاختيار فيها، بما يراه المجتهد أقوى حجة وأقوم حكما، فإن الاجتهاد في منطقة الفراغ التشريعي يعد عملا إنشائيا إبداعيا، لأنه ورد في منطقة العفو وهي التي لا نص فيها ينزل أو يحمل عليه، طبقا لما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال:" كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا، فبعث الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم، وأنزل كتابه، وأحل حلاله، وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو" وتلا ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.

    وسواء كان موضوع القضية من هذا الصنف قد أنشأ له بعض القدماء حكما، أو طرح حديثا لأول مرة على مائدة البحث والاستنباط، فإنه دائما محل اجتهاد متجدد ومتغير بتغير الظروف والأحوال تبعا للقاعدة الفقهية "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان".

    وسواء كان الأمر متعلقا بإنشاء أحكام جديدة في المباحات من أنشطة الناس وتصرفاتهم، أو بما يستجد مما لم يعرف من قبل ولم يكشف الوحي له حكما، رحمة منه تعالى لعباده، وتوسعة وإفساحا لحرية الاختيار فيما تقتضي الحياة تكييفه وتنظيمه وتطويره، فإن ذلك كله من مجالات منطقة الفراغ التشريعي.

    إن عملية التشريع الشوروي تعني وضعا لقوانين وإنشاء لقواعد وتنظيما للشأن العام وتسييرا له، ولكن هذه العملية في ميدان سكت عنه الشرع وفوض للأمة أمر تدبيره أولا، وخارج دائرة التأثيم الديني تحريما وإيجابا وإباحة ثانيا، وتحت طائلة المخالفات الدنيوية وحدها منعا وإلزاما ثالثا. فإذا تقيد هذا التشريع بالشورى الجماعية الآذنة فيه، دخل في صميم النهج الإسلامي الرشيد، متميزاً تميزاً كاملاً تاماً عن التشريع بغير ما أنزل الله تعالى.

    وغير خفي أن مجال الابتلاء الدنيوي بهذا الاعتبار يشمل ثلاث مناطق تشريعية هي:

    منطقة التشريع الملزم وهو المستمد من الكتاب والسنة وما يحمل عليهما.

    منطقة التشريع المأذون فيه، وهو الموضوع بواسطة الشورى الجماعية، بمقتضى قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾الشورى 38.

    منطقة التشريع المحرم، وهي ما سوى المنطقتين السابقتين.

    إن دأب الأمة الإسلامية في حالة رشدها أن تسوس أمرها العام بالكتاب والسنة وما يحمل عليهما، وأن تُقْدِم فيما سوى ذلك على أصل راسخ في الشريعة الإسلامية هو مبدأ الشورى الجماعية العامة، المقيدة بضوابط الإيمان الحق مبدأ ومعادا.

    إن مصدر الشورى الجماعية رباني متيقن، وصوابها ثابت قطعي، وتوجيهاتها من الذي خلق الخلق ووضع نواميسه وسننه، وعلم ما يصلح له وما يصلح به، وهي العلاج الحاسم لحالات الاختلاف، والوقاية من أسباب التنازع والخصومة، والكفيلة بحل مشكلة السلطة والتسلط وجعل الناس سواسية، ذكرا وأنثى، شعوبا وقبائل، أكرمهم عند الله أتقاهم، إذا ما بنيت على قواعد العقيدة والشريعة، واستظلت بفيء الطاعة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك شرط الإيمان الحق ودليله وأمارته، لذلك عقب عز وجل بقوله:

    ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ أي: إن عملكم بالمنهج الرباني الذي تضمنته هذه الآيات الكريمة دليل على تمامِ إيمانِكم بالله تعالى، وراسخِ يقينكم بأنكم ستعرضون عليه يوم الدين للمحاسبة والجزاء﴿ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ ذلك المنهج خير لكم في حاضركم ومستقبلكم، وأحسن لكم ﴿تَأْوِيلًا﴾ أي: أحسن لكم في عاقبة أمركم وما يؤول إليه حالكم في الدنيا والآخرة، لأن التأويل لغة هو عاقبة الشيء وما يؤول إليه.

    لقد أثبتت التجربة والبحث العلمي المحايد فشل نظم الحكم الوضعية المعاصرة ديمقراطية رئاسية وبرلمانية ومجلسية، في تحقيق المساواة والعدالة بين المواطنين، ولم يبق إلا المنهج الشوروي الرباني قادرا على ضمان ذلك ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ ولئن كان الإسلاميون في هذا الزمان متهمين بمعاداة الديموقراطية انحيازا منهم للاستبداد والتسلط – كما يزعم خصومهم - فإن هذا مجرد افتراء ظالم، لأن النظم الاستبدادية والذهنية السلطوية التي تنتجها، وطبيعة الأجهزة التي تحميها هي ما يرفضونه كما يرفضه الديموقراطيون؛ لأن طبيعة الاستبداد واحدة، لا تتغير من قطر إلى قطر، أو من أمة إلى أمة، أو من عصر إلى آخر، إنها ذهنية مسلكية واحدة، وإن استبدلت بالقبعة "غترة"، وبالطربوش طاقية، ولئن كان الحل الديموقراطي مجرد علاج وضعي انتحلته الثقافة الغربية للتخلص مما هيمن على أوربا قرونا طويلة من جور وعسف وظلم، فإن هذا الحل لم يحظ إلا بنجاح نسبي في مواطن متعلقة بحرية الإنسان وكرامته وحقوقه، ولم يستطع أن يحرر أهله من مثلبة ثنائية التركيب السياسي للمجتمع المكوَّن في ظل الاستبداد من حاكم ومحكوم، وتابع ومتبوع، وسيّد ومسود، ومؤثر ومتأثر، وفاعل ومنفعل، وآمر بيده السلطة ومأمور خاضع له .

    إن الديموقراطية الغربية خففت من وطأة الاستبداد، ولكنها لم تستأصله، وهذا ما يميز عنها النظام الشوروي الإسلامي الذي يجتث الاستبداد ويقضي عليه، ويجعل الأمة سواسية كأسنان المشط، لا حاكم ولا محكوم، وإنما توزيع خدمات على مختلف المرافق المتعددة والمتنوعة؛ والإسلاميون بذلك لا يعترضون على الديموقراطية لمجرد أنها غير إسلامية، لأن عدم إسلاميتها نتيجة طبيعية بالنظر لجذورها ومنشئها الثقافي؛ وهي حاليا خير مما كان لدى أهلها من تسلط مذل، وخير مما لدى المسلمين حاليا في ميدان السلطة من ظلم وعسف وتجبر واستبداد، إلا أن هدفنا أبعد غورا مما حققته الديموقراطية، هدفنا القضاء التام على الاستبداد والقهر، وعلى الثنائية غير المتكافئة في العلاقات الإنسانية، وليس من سبيل إلى ذلك إلا الشورى القرآنية، وهذا جوهر ما نرمي إليه ...

    هذا هدفنا وذاك مسعانا فهل من حقنا ذلك؟

    ****

    [1] - الحكم في علم القضاء هو الإخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام. قال القرافي: "حقيقة الحكم إلزام أو إطلاق، فالإلزام كما إذا حكم القاضي بإلزام الصداق والنفقة ، والإطلاق كحكمه بزوال المِلك في الأرض التي زال عنها الإحياء".

    [2] - يرجع لنص الوثيقة النبوية في كتاب: البداية والنهاية للحافظ ابن كثير 3-224

    [3] - ابن أم عبد هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

    منقول عن الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jul 2010
    المشاركات
    2,207
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    5

    افتراضي

    بارك الله فيك
    "العبد يسير إلى اللـه بين مطالعة المنة ومشاهدة التقصير!" ابن القيم
    "عندما يمشي المرؤ على خطى الأنبياء في العفاف, يرى من نفسه القوة والعزة والكبرياء. بينما يعلم المتلوث بدنس الفحش الضعف من نفسه والضعة والتساقط أمام الشهوات"


  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Oct 2011
    المشاركات
    1,524
    المذهب أو العقيدة
    مسلم
    مقالات المدونة
    2

    افتراضي

    شكر الله للناقل حسن نقله وللكاتب حسن بيانه

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. ثلاثون كتاباً من أهم الكتب في النظام السياسي الإسلامي وقراءته
    بواسطة د. هشام عزمي في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 03-01-2012, 09:41 PM
  2. النظام السياسي الإسلامي
    بواسطة د. هشام عزمي في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 02-25-2011, 02:48 AM
  3. الإسلام السياسي !
    بواسطة متعلم أمازيغي في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 19
    آخر مشاركة: 08-13-2010, 12:34 AM
  4. النظام السياسى الإسلامى بين القديم والحديث
    بواسطة د . عبدالباقى السيد في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 06-21-2010, 12:46 AM
  5. الإسلام السياسي
    بواسطة شريف المنشاوى في المنتدى قسم الحوار عن الإسلام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 09-06-2006, 02:59 AM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء