الزميل إبن عبد البر ...
اجمل التحايا ... أبدأ بالإعتذار عن التأخر في الرد لمشاغلي الكثيرة هذه الأيام ...
وسألخص مداخلتي تلك في أربعة نقاط أساسية ، ثم أختتم بتعليق على جزئية وردت في مداخلتك الأخيرة ، والمسائل التي سأتناولها في هذه المداخلة هي :
- المسألة الأولى : هل البشرية تحتاج فقط لإجابات لتلك الأسئلة الوجودية التي تحتار فيها .... أم أنها تحتاج لإجابات منطقية ... لا يوجد إجابة منطقية تشتق عقلاً لسؤال لماذا خلقنا الله ، وغياب تلك الإجابة ينفي قدرة الدين على القيام بالوظيفة التفسيرية بشكل جيد .
- المسألة الثانية : غريزة التدين ، هل هناك شئ يسمى غريزة التدين ... العلماء يقولون لا شئ يسمى غريزة في غير المجال البيولوجي
- المسألة الثالثة : بالإحصاءات ، عدد الغير متدينن في العالم ، وعدد من لا تقدم لهم أديانهم إجابات شافية للأسئلة الوجودية يمثلون حوالي خمس سكان الكرة الأرضية ، فهل هم تعساء بسبب إفتقاد تلك الإجابات
- تعقيب أخير على إتهامك للعقيدة الربوبية بأنها تنسب لله العطالة
--------------------------------------------------------------------------
المسألة الأولى : هل البشرية تحتاج فقط لإجابات لتلك الأسئلة الوجودية التي تحتار فيها .... أم أنها تحتاج لإجابات منطقية
في مداخلة سابقة لك ، رأيتك تركز على دور الأديان في إعطاء إجابة لتلك الأسئلة وتقلل من أهمية كون تلك الإجابات صحيحة أم لا ، بحجة أن إستيفاء حاجة البشر (ومن ثم إثبات حاجتهم للرسل) يتم فقط من خلال إعطاء إجابات لتلك الأسئلة !!! حيث قلت :
فنحن نتحدث عن تشوف النفس إلى هذه الأجوبة وليس عن صحتها، فتشوف النفس إلى الأسئلة دليل على وجود دين من عند الله، وضربٌ لأساسات اللادينية التي لا تملك أجوبة
وسافترض معك بأن الإسلام هو الدين الصحيح وهو الذي يقدم أفضل إجابة لتلك الأسئلة الوجودية ...
لكن يا زميل ... لو فحصنا إجابات الإسلام لتلك الأسئلة الوجودية ، فسنجد بأنه لم يقدم إجابة منطقية لأهم تلك الأسئلة الوجودية ، ألا وهو سؤال لماذا خلقنا الله ...
الجواب الإسلامي هو ... أن الله خلقنا لعبادته ...ولكن من المؤكد في ذات الوقت بأن الله غني عن عبادتنا ولا يترتب على قيامه بخلقنا تحقيق مصلحة خاصة به ، وأن الأجدى به (بإفتراض أنه إله منطقي) ألا يخلقنا لمجرد عبادته لتحقيق مصلحة خاصة بنا .
ألا تتفق معي بأن هناك حكمة خافية من قيام الله بخلق البشر .... وإذا كنت تتفق معي في ذلك ، ألا يعني ذلك بأننا لا نعرف على وجه الدقة لماذا خلقنا الله .... ومع ذلك نعيش بهناء وراحة بال بدون أن نصاب بالإكتئاب بسبب جهلنا بالسبب الذي خلقنا الله من أجله .
وإذا كنا نجهل إجابة أهم تلك الأسئلة الوجودية (لماذا خلقنا الله) ، ألا يعني ذلك بأن الوظيفة التفسيرية للدين هي وظيفة لم تؤدي الغاية منها ... فالدين لم يفسر لنا السبب في وجودنا !!! وبالتالي فلا حاجة لنا بالدين لأداء تلك الوظيفة .
--------------------------------------------------------------------------
المسألة الثانية : غريزة التدين ، هل هناك شئ يسمى غريزة التدين
بالنسبة لموضوع ما يسمى غريزية التدين ... فيغنيني عن الإستشهاد بعلماء الإجتماع لنفي وجود تلك الغريزة ما ذكرته أنت بنفسك ، حين قلت :
بينما اصطلح عليه آخرون (من علماء الإجتماع)
بنزعة التدين، وسواء هذا أو ذاك
له نفس المعنى .
ومن المؤكد أن النزعة لا تعني الغريزة (كما ذكرت أنت) ... فالنزعة هي أقرب لما يعرف في علم النفس ب "الميول" ... وهذه تختلف إختلافاً كبيراً عن الغرائز والتي هي أقرب لما يسمى في علم النفس بال "الدوافع" ... والميول تختلف بإختلاف الزمان والمكان وبإختلاف طبيعة الشخص ومرحلته العمرية الخ .... ولو أدخلت كلمة "نزعة" في جوجل ، فستفاجأ بأن الكلمة ترتبط في الأذهان بشكل اساسي بالمعاني السلبية السيئة ... وعليه فإن مجرد وجود نزعة للتدين (إن وجدت) فلا يقوم دليلاً على صحة الدين .
بالنسبة لمفهوم الغريزة ، فسأكتفي بالإعتماد على الويكيبيديا والإنسيكلوبيديا ، وأحسب أن هذه المصادر تكفي ، فهي محايدة بشكل كبير وموضوعية ومتكاملة عندما يتعلق الأمر بالمواضيع العلمية البحتة مثل هذا الموضوع ...
تقول الويكي عن الغرائز السيكولوجية ما يلي ..
(Instinct) >>> In psychology
The term "instinct" has had a long and varied use in psychology and was first used in 1870s by Wilhelm Wundt. By the close of the 19th century most repeated behavior was considered instinctual. In a survey of the literature at that time, one researcher chronicled 4000 human instincts, meaning someone applied the label to any behavior that was repetitive.[citation needed] As research became more rigorous and terms better defined, instinct as an explanation for human behavior became less common. In a conference in 1960, chaired by Frank Beach, a pioneer incomparative psychology, and attended by luminaries in the field, the term was restricted in its application. During the 60's and 70's, textbooks still contained some discussion of instincts in reference to human behavior. By the year 2000, a survey of the 12 best selling textbooks in Introductory Psychology revealed only one reference to instincts, and that was in regard to Sigmund Freud's referral to the "id" instincts. In this sense, instincts have become increasingly superfluous in trying to understand human psychological behavior.
Some Freudian Psychoanalysts have retained the term instinct to refer to human motivational forces (such as sex and aggression), sometimes represented as Eros - life instinct and Thanatos - death instinct. This use of the term motivational forces has been replaced by the term drivesto correct the original error in the translation of |Freud's work.[citation needed]
Psychologist Abraham Maslow argued that humans no longer have instincts because we have the ability to override them in certain situations. He felt that what is called instinct is often imprecisely defined, and really amounts to strong drives. For Maslow, an instinct is something which cannot be overridden, and therefore while it may have applied to humans in the past it no longer does.[5]
The book Instinct (1961) established a number of criteria which distinguish instinctual from other kinds of behavior. To be considered instinctual a behavior must a) be automatic, b) be irresistible, c) occur at some point in development, d) be triggered by some event in the environment, e) occur in every member of the species, f) be unmodifiable, and g) govern behavior for which the organism needs no training (although the organism may profit from experience and to that degree the behavior is modifiable).
In a classic paper published in 1972[6], the psychologist Richard Herrnstein decries Fabre's opinions on instinct (see: In biology section).
وهذا من الإنسيكلوبيديا
There is a lack of consensus on a precise definition of instinct and what human behaviors may be considered instinctual
In a conference in 1960, chaired by Frank Beach, a pioneer in comparative psychology, and attended by luminaries in the field, the term was restricted in its application
sociologists consider instincts to be innate behaviors that are present in all members of a species and cannot be overridden (Robertson 1989),
كل ما سبق يشير للآتي :
- علماء النفس والإجتماع المعاصرين أصبحوا يتحاشون مصطلح غريزة ويعبترونه لفظ غامض وغير علمي خصوصاً عند وصف الظواهر الإنسانية أو السيكولوجية
- أقرب توصيف علمي لما يسمى بالغريزة هو مصطلح الدوافع أو القوى الدافعية ... وإستخدام الغريزة بهذا المعنى يكاد ينحصر فقط في المدرسة الفرودية ... وبالطبع لو رجعنا للدوافع سنجد أنها محددة بشكل أدق ، وليس هناك دافع يسمى دافع التدين
- هناك إتفاق بين علماء النفس المعاصرين على أن مصطلح الغريزة يصح إطلاقه فقط على أنماط السلوك اللاإرادية التي تكون تلقائية ، متكررة بدون إستثناء في كل البشر ، لا يمكن تعديل السلوك الناتج عنها أو التحكم فيه .... وكل هذه الشروط تخرج التدين بالتأكيد من أن يكون غريزة
- عالم الإجتماع ماسلو ... يقرر بوضوح بأنه لا يصح وصف أي نمط سلوك إنساني له دوافع سيكلوجية (أي ليس سلوك بيولوجي) بأنه سلوك غريزي ، وبالتالي يخرج التدين من أن يكون غريزة
مما تقدم ... نجد أن هناك إجماع من العلماء على أن الغريزة لا تنطبق على أنماط السلوك الفردي أو الإجتماعي الراجعة لعوامل غير بيولوجية بحتة ....
ولكن مع ذلك ... سنلتمس العذر لمن يستخدمون مصطلح غريزة التدين ، وسنفترض بأنهم ربما عنوا أحد شيئين بذلك المصطلح
1) ربما عنوا بالغريزة ما يعرف في علم النفس بالدوافع أو القوى الدافعية ... وعليه هم يعتقدون بأن التدين هو أحد القوى الدافعة الأساسية للسلوك الإنساني
2) ربما عنوا بغريزة التدين ما يعرف بال "innatism " ، وهو مصطلح يستخدم في علم النفس أو الفسفلة لوصف ما يعتقد بأنه أفكار وإعتقادات ومعارف يولد بها الإنسان وتكون مزروعة داخله بالفطرة .
ولكن ... أيا كان المعنى المقصود بواسطة من يتبنون مصطلح غريزة التدين ، فإنه يقع عليهم عبأ إثبات أن التدين هو إعتقاد مزروع في الإنسان أو أنه أحد القوى الدافعة ، خصوصاً بأن لا يوجد أحد من علماء النفس أو الإجتماع قال بذلك ... علماً بأن الدوافع أو القوى الدافعة وكذلك ال " innatism " أو الأفكار والمعارف التي يعتقد البعض أن الإنسان يولد بها ، كلاهما هو أشياء محددة بشكل كبير وليس من بينها ما يسمى بالتدين .
مثلاً .... ماسلو ، تحدث عن الدوافع في هرمه الشهير (هرم الحاجات الإنسانية) ولم يكن هناك مكان للتدين في هذا الهرم ... والبروفيسور ستفيفين ريس ، قام بدراسة شملت 6000 شخص ، وإستخرج من هذه الدراسة 16 رغبة أساسية توجد لدى الإنسان (بالتأكيد ليس من ضمنها التدين) ... والرابط التالي يوضح ذلك
http://en.wikipedia.org/wiki/Motivat...desires_theory
وكذلك الحال بالنسبة لل " innatism " ... لم يقل عالم أو فيلسوف واحد بأن التدين هو من ضمن تلك ال" innatism " والرابط التالي يؤكد ذلك ..
http://en.wikipedia.org/wiki/Innatism
وهاك أيضاً ، أقوال علماء آخرين ممن أنكروا وجود غريزة التدين مثل البروفسور لويس ولبرت Lewis Wolpert والفيلسوف إي سي جريلين AC Grayling, الذي نشر مقالاً في صحيفة الجاردين بعنوان "أبناء الله؟ قال فيه بوضوح بأنه لا يوجد دليل حقيقي يشير إلى أن الدين هو مثبت بالفطرة - إنها مجرد أمنيات من جانب الأكاديميين المتدينين."
"Children of God? There's no real evidence to suggest that religion is hardwired – it's just wishful thinking on the part of religious academics"
--------------------------------------------------------------------------------------------
المسألة الثالثة : عدد الغير متدينين في العالم ، وعدد من لا تقدم لهم أديانهم إجابات شافية للأسئلة الوجودية
وفقاً لل American Religious Identification Survey ، وهو من أكثر الجهات مصداقية وحياداً ، فإن ما يزيد عن 15% من الأمريكيين كانوا غير مؤمنين بالأديان في عام 2001 ، والملفت للإنتباه هو أن عدد الغير متدينين تضاعف في أمريكا خلال 10 أعوام فقط ، بعد أن كان 8% في عام 1990 ... أما الدراسة الاحدث التي قام بها منظمة Gallup ، فتقول بأن نسبة اللادينيين في أمريكا زادت حديثاً لتصبح 32% ... لاحظ النسبة تتضاعف كل عشرة أعوام !!!
وبالطبع أعداد الغير متدينين في أوروبا هي اضعاف تلك النسبة ، ولعلك تعرف ذلك ... ففي الدول الإسكندنافية مثلاً يبلغ تفوق نسبة الغير مؤمنين بالأديان نسبة ال70% من إجمالي السكان ، ولا أظنك بحاجة لمعرفة ذلك .. ويمكنك الرجوع لإحصاءات The Eurobarometer والتي تشير إلى أن نصف الأوربيين تقريباً لا يؤمنون بالأديان .
وفي إحصائية برطانية حديثة ، بواسطة منظمة YouGov اشار 39% من البرطانيين بأن ليس لديهم دين محدد ... والطريف أن 52% من الذين تم إستقصاء آراءهم أشاروا إلى أنهم لا يعتقدون بأن المسيح كان شخصية حقيقية ... أي أن الكثير ممن أشاروا إلى أنهم مسيحيون في خانة الدين ، هم في الحقيقية مسيحيين بالإسم فقط .
وإختصاراً لك ذلك ، أورد لك إحصائية أهم ، وهي إحصائية World Religious Statistics ، تشير إلى أن نسبة غير المؤمنين بالأديان في العالم تبلغ 15% ...
ومن الملفت للنظر وجود علاقة عكسية واضحة وملحوظة بين نسبة المتديين وبين درجة النمو أو التقدم على مقياس مؤشر النمو الإنساني Human Development Index
وبخلاف الغير منتسبين للأديان ، نجد أن الكثير من المنتسبين للأديان الشرقية هم في واقع الحال ليس لديهم إجابات محددة (من خلال تعاليم أديانهم) على تلك الأسئلة الوجودية التي تقول أنت بأن البشرية لابد أن تحصل على إجابات حولها ... حيث لا تجاوب الأديان البوذية والكونفشيوسية والطاوية وديانات شرق آسيا التقليدية على بعض أو كل تلك الأسئلة .
ولعلك تعلم بأن الكنفوشيوسية والطاوية هي فلسفات بشرية وليست أديان ، حتى أنها لا تخوض في موضوع وجود إله أو غيرها من الأسئلة ... والبوذية لا تجاوب على كل الأسئلة بالتأكيد فهي لا تعطي أي مبرر او سبب لخلق الإنسان أو سر وجوده على الأرض ... وبالنسبة للمصير بعد الموت يؤمن البوذيون بتناسخ الأرواح ولكن لعل هذا هو السؤال الوحيد من الأسئلة الوجودية التي تجاوبه البوذية ... وبالطبع أهمها مسألة الخالق وغايته من خلق البشر ... فالديانة البوذية ليس فيها مكان على الإطلاق لفكرة الإله الخالق ... ويمكنك التأكد من ذلك عبر الروابط التالية :
http://en.wikipedia.org/wiki/God_in_Buddhism
http://www.buddhanet.net/ans73.htm
http://en.wikipedia.org/wiki/Confucianism
وإذا أخذنا في الإعتبار بأن عدد أتباع تلك الديانات الشرقية يفوق المليار نسمة ، ولو ضممنا لتلك النسبة نسبة اللا دينيين في أوربا وأمريكا الشمالية وغيرها من بلدان العالم ، فسنجد بأن أكثر التقديرات تحفظاً يعطي نسبة تفوق ال20% من سكان الكرة الأرضية ممن ليس لديهم إجابات لتلك الأسئلة الوجودية ...
خلاصة كل ما تقدم هو أن هناك بلايين (وليس ملايين) من البشر ممن ليس لديهم إجابات لتلك الأسئلة الوجودية ، فهل لك أن تجزم بشقاءهم بسبب ذلك أو أنهم يعانون من أمراض نفسية بسبب إفتقاد الإجابات لتلك الأسئلة !!
-------------------------------------------------------------------------------------
نقطة أخيرة وردت في مداخلتك ورأيت ضرورة التعليق عليها ..
فلقد تفضلت أنت بالقول في المداخلة السابقة ما يلي :
وقد سبق أن قفزتَ على إلزامنا لك بنسبة العطالة لله عز وجل - تعالى وتقدس- فأسألك إن كان الإله بحسب لادينيتك محايد ولا يتدخل في رزق أو عقاب أو مقادير .. فما الذي يفعله الآن بحسب معتقدك ؟؟
فهل يعني كلامك هذا بأنك تعتقد أن الله ليس له شاغل سوى مراقبة البشر والتدخل لضمان سير الأمور بشكل صحيح على كرتنا الأرضية !!! ... من وجهة نظري فإن كلامك هذا يحوي إساءة بالغة للذات الإلهية ، ويتضمن تصور غير صحيح عن الخالق العظيم ... فليس لأحد من البشر أن يدعي معرفته بما يقوم الله بعمله أو مجال عمله أو إختصاصاته ... وبغض النظر عن كل ما تقدم ... هل تستطيع أن تجزم بأن العطالة تعتبر نقيصة في حق الذات الإلهية !!!
كان يمكنني تجاوز تعليقك هذا ، كما أفعل غالباً في كل ما هو غير ذو صلة بلب نقاشنا ، ولكني فضلت الرد لأن تعليقك حول هذا الجزئية يلخص الإختلاف بيننا ... فأنت هنا تصر على إلباس الذات الإلهية لباساً بشرياً ، وتصر على تأكيد إحاطتك بطبيعتة ومقتضيات أفعاله ، وتصر على التنبؤ بأفعاله ... ولو فعلت ذلك من منطلق إيمانك بنص الخطاب الديني فلا أرى إشكالاً في ذلك ، أما أن تحاول أن تفرض هذه التصورات كحقائق مطلقة تدرك بالعقل والتأمل أو تثبت من خلال علم الفلسفة والمنطق ، فهذا ما لا اتفق معك حوله
ولك خالص التحية
Bookmarks