الرسالة السادسة من أحد الإخوة في منتدى التوحيد.
الحمد لله الذي ضربَ على الباطل وحشة، حتى نفر منه أهلُه، وما أنِسوا به لحظة، الحمد لله الذي جعل للحق بهاءً وحسنًا، ونوّر لمتبعِه بصدقٍ دربه، حتى اشتاق إليه من فقده، الحمد لله الذي سنّ التدافع، وجعل في النفوس عن الشر وازع، ووضع فيها لحب الخير دافع، فلا يأتي مبطِلٌ معذورًا، يومَ يُقال "ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا" ..!
ونشهد ألا إله إلا الله وحده، أقام برهان تفرده بالإلهية، وأثبت لنفسه الكمال، ونقض دعوى الشركية، ووسم معتنقها بالضلال، ونفى عن المبطلين الحكمة، وأثبت للموحدين المنة، فهم يلتمسون الحقّ من وحيه، ويقفون بالعقل عند حده، وذاك من قول ربي "قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ" ..!
ونشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، رضي بحكمه المسلمون، واطمأن إلى سنته المؤمنون، وخالف عن أمره المفتونون، عبدُ الله ورسوله، تورمت قدماه قيامًا لمولاه، وشُجَّ وجهه وهو يدعو إلى الله، وكان أسوةَ الصبرِ لمن أوذي في الله، عبدُ الله ورسوله، قال لأمته "ما بقي من شيءٍ يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بُيِّن لكم"، فأيكم يزعم أنه أشد منه تنزيهًا لله .. أيكم .. ؟!
ونعلم أنّ الأصحاب أمنةٌ للأُمّة، كما النجوم أمنةٌ للسماء، ذاك خبر خليل الرحمن عنهم، فالفائز من استنّ ما انتهجوا، ومات على مثل ما اعتقدوا، والخاسر من قابلهم بعقله، والحيّ لا تُؤمن عليه الفتنة، فاللهَ أسأل أن يقبضنا على ما قُبض عليه أبو بكرٍ وعمر وعثمان وعليّ، إنه ولي ذلك والقادر عليه!
وبعدُ ..
فسلام الله عليك ورحمته وبركاته أيها المهندس الكريم..
إني – إذ أراك – تمشي على أرضٍ حجارتُها رضراض، وتختار طريقًا وعرًا يفضي إلى جرفٍ هار، وتحتار في غابة النصوص وطريق السلوك، فإنّ خيانةَ الأمانة أن أهادنك باتفاقٍ مزعوم، أو أخدعك بادعاءِ تقاربٍ مقبول، أو أوهمك بأنك من أهل الإنابة لا الاستتابة، فلا تعِب عليّ ذلك فإنه الميثاق، وقد عاهدتُ نفسي على عملٍ بميثاق ربي، فأذكّرَ بالصراط المستقيم، وسبيل المؤمنين، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيّ عن بينة!
ولقد ظهر لي جليًّا في ردك السابق أنك لا تعرف المعتقد الذي تنفيه، وتبذل وقتك وتستهلك قلمك في الرد عليه، وأنك سمعتَ عنّا، ولم تسمع منّا، وأقمتَ في الذهن وجودًا لأقوامٍ لا أعرفهم، فضلًا عن أنتسب لمذهبهم، ولو رأيتُهم لنابذتهم بالعداوة، ولرميتهم بالشقاوة، أقوامٍ يعملون على خديعة العوام، ويخذلون الإسلام، ولا يهتمون بنقد المتن، ولا يلتزمون وحدةَ نهج، فحنانيك! وهداديك! حتى تعرف ما لم تُحط بعلمه، ثم تنظر فيه وفي حسن قوله، فتسير في درب العارفين، لا تكذيب الظالمين، وتتبع حكمَ المنصفين، لا افتراء الجاهلين!
وهذا لا يثير من العجب شيئًا، فإنّ من عرفَ نهجنا عرف أنه نهجُ الصحابة، ومن نظر في أقوالنا رأى أنها أقوالُ الصحابة، ومن تأمل ذلك عرف أنّ الانقياد لله لا يكون إلا هكذا، وأنّ تحكيم الشرع لا يكون إلا من ذاك السبيل، وأن قطْعَ دابر بدعة الضلالة لا يقوم إلا بهذا النهج، ولذا فأنا أعلم أن من له مثل عقلك، سيبادر بالإنابة إلى هذا إن عرفه، اللهم إلا أن تصيبك بما اكتسبت غشاوة، فتعرض عن الحق بعدما تبين!
هذه ثمرات منهجك وأصوله!
وقبلُ .. فإنّ المرء ينتحل مذهبًا باطلًا، يرسم له وصفًا، ويضرب له حدودًا، فيكون اللسان في نظمه ذليقًا، والقول فيه أنيقًا، يجعل آلته العقل الصحيح، ووسيلته التأويل الحسن، وسلفه الصحابة الكرام، وغايته التنزيه والتقديس، كلٌّ يدعي هذه الدعوى، ولذا كان الوقوف على الأثر من تمام التصور، وشرط صحة الحكم .. حينئذٍ تنقلب آلتهم ميل النفس، ووسيلتهم تحريف النص، وسلفهم متفلسفة ماتوا حيرى، وغايتهم اصطناع إلهٍ يوافق الهوى ... شعروا بذلك أم لم يشعروا!
ولذلك أيها المهندس الكريم، تجدني أقف عند كلماتك وأقوالك، بوصفها بنات مذهبك وثمراته، عسى أن يلتفت ذهنك عن دعاوى عامةٍ أنيقة، إلى تطبيقاتٍ منحرفةٍ تُظهر الحقيقة، ولذا فلا أقف أمام دعوى لا خلاف فيها، كمثل قولك (يجب تنزيه الذات عما لا يليق)، بل أقف أمام كيفية تطبيقك لهذا الكلام، عسى أن تعود على نفسك بالسؤال والفكر، وتقلب وجوه النظر في الأمر، فربما منّتك نفسك بالأماني، أنك ستعتذر أمام الله بدعاوى التنزيه، وتُنسيك أنك مسؤول عن ثمرة فعلك، والأمر جد واضحٌ يدركه البحر والغمر، ولكنها أشياء رانت على القلوب، حتى صار الحق الذي تواتر به النقل وقبله العقل محلًا للنقاش والبحث!
فخبرني أيها المهندس الفاضل .. أيُّ فضلٍ تجده في مذهبٍ لا يقوم لك، إلا بالتشكيك في كل ثوابت الإسلام، وانتهاج نهج النصارى في الطعن في الكتاب والسنة، وعلمَ الله أني نظرتُ في قولك فهالني ما رأيتُ، وعدتُ على نفسي قائلًا لعلها قارعةٌ تجعلك تفيق، فيكون في ذلك الشر بارقة خيرٍ صرفه الله إليك، والمقصود قولك: (لقد قال الله تعالى وتقدس ما قال، ورغم ذلك يحدث الفهم الخطأ، والرسول صلى الله عليه وسلم قال ما قال ورغم ذلك أضيف لقوله أو فهم خطأ، وروي عنه الصحابة فروى الناس عنهم بالمعاني التي رويت بدورها بالمعاني. وليس ابن مسعود وغيره استثناء)اهـ ... هكذا؟!
أهكذا ما استطعت تفصيًا من سؤالي إياك عن آثار الصحابة، إلا أن تقول هذه المقالة الشنيعة، فيكون كتاب الله – بعد أن قال الله ما قال – عرضةٌ للفهم الخطأ، وتكون سنة رسول الله – بعد أن بيّن ما بيّن – عرضةٌ للإضافة والفهم الخطأ، وتكون آثار الأصحاب – بعد أن جاهدوا ما جاهدوا – قد زيد فيها وانتقص، فليت شعري أين إيمانك بوعد ربنا بحفظ الذكر!؟ وهل ضاعت كلّ آثار الصحابة رأسًا، وانتقصت سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم جميعًا، حتى لم يبقَ لك أثرٌ واحدٌ أو حديثٌ واحدٌ يذكر مثل الذي تذكر صراحةً؟! أضاع الذكر وتُركتَ وحدك حائرًا في غابة النصوص حتى جُعلتَ قوّامًا بالحفظ عندما خرجتَ لنا بأن العرش مجموع الصفات وغير ذلك من قولٍ لم ينقل عن الصحابة أثارةٌ من مثله!!؟
أيها الكريم .. لست في حاجةٍ للتشبه بوكلاء النيابة لأستخرج السقطات، ولو كنتُ أبحث عن سقطات، لما راجعتك في تعليقك على الأصل الرابع ولبادرتُ بالإنكار، وأنت تعلم فِعلَ المتناظرين – إن كانت نيتهم الغلبة – في فرصةٍ كهذه، وإنّ قضيتي أبسط من ذلك وأوضح، فلست أسعى إلا لقضايا في غاية الوضوح، وهي عند التأمل لا يمكن أن تكون إلا محل اتفاق، ومنها أن عقولنا – أنا وأنت – غير معصومة من الزلل، وقد يتبين لك أن الصواب في خلاف ما كنا عليه، وأنّنا نخطئ المرة بعد المرة، فإنّ عقلك الذي أخطأ في الاستدلال بـ "كما قال العبد الصالح"، وأخطأ في نفي شأن المسيح بحجة أن ذاك من تنزيه الرسول أن يكون المسيح خيرًا منه مع أنه ليس بلازم، وأخطأ في البيان حين قلتَ إن العرش هو الله، وأخطأ في فهم محاوره كما في تعليقك على الأصل الرابع في الرد السابق، وأخطأ في النقل كما أخطأت في نسبة حديثٍ للبخاري على وجهٍ ليس عنده، هذا العقل الذي وقع في هذه الأخطاء التي اعتذرتَ عنها - شيمةَ النبلاء أحييك عليها – هذا العقل – عقلك أو عقلي – لا يمكن أن يُترك له بحالٍ تأصيل العقائد، أو أن يُوكَّل بتوضيح القواعد، فإنّ هذا يتنافى وحفظ الذكر!
فإن جمعتَ الفقرتين السابقتين، تبين لك أنّك تقول إن القرآن عرضةٌ للخطأ في الفهم، والسنة عرضةٌ لذلك وللزيادة والنقص، وآثار الصحابة كذلك هي الأخرى، وعقولنا عرضةٌ للخطأ في تصور التنزيه، وفي الاستدلال، وفي النقل، وفي فهم النص، وفي البيان .. فكيف تقوم حجةٌ على مبطلٍ من خلال قولك هذا؟!
إن كنت ترشدني إلى الانترنت لأرى شبهات النصارى، فإن قولك هذا يفتح الباب لكل ضالٍّ من نصراني أو يهودي أو بوذي أو بهائي أو لاهوري أو من عرفتَ من الضالين، فإنك إن استدللت عليه بالكتاب أجابك إن القرآن عرضةٌ للفهم الخطأ، وإن أجبته بالسنة أجابك بقولك إنها عرضةٌ للفهم الخطأ والزيادة والنقص، وإن أجبته بآثار الصحابة أجابك بقولك إنها لا تفترق عن السنة في شيء، وإن أجبته بعقلك أجابك بما يعرفه الجميع أنّ عقلك عرضة للخطأ في التصور والفهم والاستدلال والنقل والبيان، فكيف تدعو أهل الضلال إلى اتباع حقٍّ ثابتٍ وهذه ثمرة ما اعتقدت؟!
وأقف عند قولك (وآثار الصحابة فيها الصحيح والموضوع، ويجب نقدها عندما تتعارض مع الثوابت الإسلامية)، فمن أين تأتي بالثوابت الإسلامية، أمِن كتابٍ يحتمل الفهم الخطأ، أم من سنةٍ تحتمل ذلك والزيادة والنقصان ورواية بالمعنى، أم من أقوال صحابةٍ "يروي عنهم الراوون بالمعنى كثيرا بما يتعارض مع اللائق بالله" كما قلتَ، أم هو شيءٌ غير ذلك تستمد منه الثوابت الإسلامية؟؟ فانظر في جواب هذا السؤال!
ثم إن منهجك يقوم على تأويل كل شيء، فالقرآن الكريم يؤول، والسنة النبوية تؤول، وآثار الصحابة تؤول، (وكلام ابن مسعود يؤول لكلامي) -تقصد نفسك- اهـ، فإن كان الأمر هكذا، وإن كان التأويل يبلغ من التعسف ما يجعل "عرشه على الماء" تكون "عمد إلى خلق الأحياء"، فمن هذين المقدمتين ينتج أنّ كل الكلام يمكن تأويله، فلا تقوم الحجة على مبطلٍ بسماع كلام الله، ولا بمعرفة أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بآثار الصحابة عليهم الرضوان، فإنه يستطيع أن يؤول كل الكلام ليصير موافقًا لهواه!
يا سيدي .. إنك إن التزمت بهذا المنهج فعلًا، لم تستطع أن تقيم حقيقةً قط، ولم تقدر على أن ترد على مذهبٍ باطلٍ قط، وانقلبت كل نصوص الشرع غير محكمة، وصارت أوضح الواضحات من المشتبهات، وأي لفظٍ يُقيم معنى بعد أن تتوارد وتتواتر النصوص برؤية المؤمنين ربهم في الجنة، عيانًا لا يضامون في رؤيته، كما يرون القمر ليلة البدر، ويسأل الأصحاب أنرى ربنا؟ ويجابون بإثبات ذلك، ثم ينقلب كل ذلك بفعل التأويل وهمًا لا حقيقة وراءه، فأي نصّ تقوم منه حقيقة غير قابلة للتأويل بعد ذلك؟! فلا عجب إذن أن تنقلب نصوص ختم النبوة برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا نبي بعده، في عقول أقوامٍ وهمًا لا حقيقة وراءه، ولا عجب أن يأتي يومٌ تنقلب فيه نصوص توحيد الله وهمًا يُتأول، ونصوص إثبات العلم لله من قبيل الخيال .. ذلك من خلال المعتقد الذي تتبناه!
لتفرض أنّ الله يخبرك أن له صفة اليد، فكيف يخبرك سبحانه بهذا؟! أبكتابٍ تقول إنه عرضة للفهم الخطأ؟ أم سنة تقول إنها عرضة لنقص وزيادة؟ أم بآثار صحابةٍ كذب عليهم النقلة؟! أم بنصوص واضحة ستعمل فيها بالتأويل؟! أم يطمع كل امرئٍ أن يُؤتى صحفًا منشَّرة؟! ألا تذوب رعبًا أن الله أخبرك بصفة اليد وقال (خلقت بيدي)، فأبيت إلا أن تنفي ذلك، وتزعم أنّ هذا ليس بمراد الله، ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا، ما جواب هذا السؤال: لتفرض أن الله يخبرك بصفة اليد التي تليق بكماله وجلاله، فكيف يخبرك بها وما اللفظ الذي لو جاءك لأثبتَّ هذه الصفة؟!
إنّ قولك (لقد قال الله تعالى وتقدس ما قال، ورغم ذلك يحدث الفهم الخطأ ....إلخ) كفيلٌ بأن يبين لك بطلان ما أنت عليه، وأخشى ما أخشاه أن تصرفك نفسك عن التأمل في بطلان هذا القول والذي يفضي إلى بطلان مذهبك، أن تصرفك نفسك عنه إلى محاولة البحث عن تخريجٍ مناسبٍ لهذا الكلام يُرضي محاورك! لذا أرجو أن تصرف الأولوية في نظرك إلى هذه الجملة من قولك وما تستلزمه من بطلان معتقدك! فهذا معتقد لا للإسلام نصر .. ولا للضالين كسر!
(وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)
لقد طرحتُ تعريفًا لظاهر النص كما تواضع عليه أهل العلم، ولم تعلّق عليه في ردك الثالث، ووضعتَ تعريفًا تقول فيه إن "الظاهر هو المعنى الذي ينتصر على غيره من المعاني الباطلة"اهـ، وهذا التعريف ناقص، وقد ذكرتُ لك في الرد الرابع أنّه كان ينبغي أن تبين لي قولك في التعريف الذي ذكرتُه إن كنتَ انتبهت إليه، وقد ذكرتَ بعد ذلك أنّك ستطبق هذا التعريف الذي ذكرتُه في سورة المؤمنون والأنبياء، ولكن ما ورد في بقية كلامك يدلني على أنّك لم تتفق معي على معنى الظاهر بعدُ، فها أنت ترى أن الظاهر نوعان ظاهر فعلي وظاهر كلامًا!! فتقول (وليظهر الظاهر الفعلي، لا الظاهر كلاما)اهـ، ويتضح من كلامك أن هناك مفهومًا للظاهر متداولًا لا توافق عليه فتقول (لم لم تقل حضرتك بظاهر النص حسب مفهوم الظاهر المتداول؟) .. وهذه النقطة في غاية الأهمية في حوارنا هذا!
ولما سألتك كيف يحتكم اثنان إلى الكتاب والسنة، وأنت تقول لهم في النص الذي يحتكمون إليه، إنه ينبغي أن يرجعوا إلى المعنى الحق الذي ينتصر على الباطل، وحيث إنّ كل منهم يرى نفسه على الحق، فقصرك تعريف الظاهر على أنه المعنى الحق تعريف ناقص، والاقتصار عليه يؤدي إلى إلغاء حاكمية الكتاب والسنة، ولا يغني ما ذكرته عن الجمع والتنزيه والسياق شيئًا من هذه العاقبة السيئة .. عاقبة إلغاء الحاكمية!
وحوارنا هذا مثالٌ لاثنين كلّ منهما يرى أنه على الحق، وأنه ينزه الله تعالى، وأن قوله هو القول الذي يجمع بين النصوص، وأن السياق يوافق رأيه، ويغلب على ظني أننا نريد إصلاحًا والله أعلم، وقد رضينا بالاحتكام للكتاب والسنة، فإن طبقنا تعريفك لظاهر اللفظ، وجدت نفسك ترى أنك استطعت السلوك في غابة النصوص، وأنّ كلامك عن السياق يحيى النفوس بخلاف كلامي، وأنك تنزه الله حق التنزيه، ووجدتني أقول إني أجمع بين النصوص بسهولة ويسر، وأن كلامي عن السياق يوافق ما صح عن الصحابة، وأني أنزه الله تعالى حق التنزيه .. وطبيعة الحكم بين اثنين أن يكون قاضيًا على أحدهما بالصواب والآخر بالخطأ إن كانا ضدين .. لا أن يداهن المتحاكمين حتى يصيبهم العجز عن الوصول إلى حُكمٍ عند الاحتكام!
أضف إلى هذا أن ما سبق من قولك إن الله قال ما قال وكلامه عرضة للفهم الخطأ وكذلك السنة وآثار الصحابة، وقد تصيب الزيادة والنقصان السنةَ والآثار، فهذا يعني إلغاء حاكمية الكتاب والسنة تمامًا، لأنّك حين تفقد الثقة بالحكم، بعد أن جعلته حكمًا غامضًا يظهر حكمه بشق الأنفس، تكون أجهزت على ما تبقى من حاكمية للكتاب والسنة!
ثم إنّ أحدًا من أهل العلم لم يستعمل الظاهر بهذا المعنى الذي تقوله، لا من أهل اللغة ولا من أهل التفسير، لا من أهل السنة ولا من غيرهم، وكم مرةٍ تجدهم يقولون "والظاهر غير مراد!"، ونعلم أنهم لا يقصدون أنّ "القول الحق غير مراد"، ويقولون "الظاهر لا يصار إلى خلافه إلا عند الضرورة أو ورود القرينة أو الدليل....."، ونعلم أنهم لا يقصدون أنّ القرينة تصرفنا من المعنى الحق إلى المعنى الباطل، والذين يصرون على التأويل الباطل كثيرًا ما يقولون "والنص متروك الظاهر" ونعلم أنهم لا يقصدون ترك المعنى الحق، ولذا فتعريف ظاهر اللفظ على أنه "ما يسبق إلى العقل السليم منه لمن يفهم بتلك اللغة"، هو التعريف الصواب أهل السنة ومن خالفهم.
ولنأخذ الرازي كمثال .. فهو ليس بمجروح عندك وإن كان مجروحًا عندي .. فتراه يقول في موضع من تفسيره: (قالوا إنما تركنا الظاهر وعرفنا كون هذا الأمر للإباحة بالإجماع)، فترك الظاهر قام بالإجماع، ولا يعقل أنه يقصد أن الإجماع قام على ترك المعنى الحق، وانظر كلامه في تفسير معنى الكرسي (واختلف المفسرون على أربعة أقوال، الأول : أنه جسمٌ عظيمٌ يسع السموات والأرض ... المعتمد هو الأول ، لأن ترك الظاهر بغير دليل لا يجوز ، والله أعلم.)اهـ، فهو يقرر أن كون الكرسي جسمًا عظيمًا هو الظاهر، ويقرر أن ترك الظاهر لا يجوز إلا بدليل، ونعلم أنّه لا يقصد أن الدليل يؤدي إلى ترك المعنى الحق! وعلى ذلك يتضح بالمقال والمثال أن تعريفك لظاهر النص تعريف ناقص، ويؤدي إلى إبطال حاكمية الكتاب والسنة، وهو تعريف لم تسبق إليه!
وحين أقول إنّ الاحتكام يكون لظاهر النص، فإنّي أرد الناس إلى حَكمٍ واضحٍ ظاهر متفق على قوله، يعطيك الحكم بأوضح وأبين لفظ، من غير لجلجةٍ ولا بلبلة، ولا ثرثرةٍ ولا بربرة، وحين ننصرف عن ظاهر اللفظ، فيكون ذلك بأدق الضوابط، كما سبق بيان شروط ذلك، ويكون من هذه الشروط ورود الدليل والبيان من الكتاب والسنة كذلك .. وهذه النقطة كما ترى محوريةٌ في هذا الحوار .. وهي كفيلة لو تأملتها أن تدلك أي النجدين أحق بالاتباع .. أهو الذي يجعل من الشرع قاضيًا مترددًا عي اللسان يطلق حكمًا لم يُحفظ عن الفهم الخطأ وهو إلى الألغاز والأحاجي أقرب، أم الذي يجعل من الشرع حكمًا واضحًا مبينًا حُفِظ حكمه عن الفهم الخطأ وهو كالشمس ظهورًا وجلاءً؟!
إنّك لو وافقتني على أنّ ظاهر اللفظ هو (ما يسبق إلى العقل السليم منه لمن يفهم بتلك اللغة)، وأقررت كما أقرّ أهل العلم وحتى الذين قالوا بالتأويل الفاسد، أنّ النصوص التي فيها ذكر العرش، يسبق إلى الذهن منها المعنى الذي أذكرُه لا الذي تذكره، ثم جمعته إلى موافقتك على أن القرآن الكريم لم ينزل بألفاظٍ يتبادر إلى ذهن العربي عند سماعها معانٍ غير صحيحة، لعلمتَ أنّك يلزمك القول بالمعاني التي أثبتها من هذه النصوص لا التي تثبتها، سيما وقد فقدتَ أيّ نصٍّ فيه أنّ العرش هو الفيوضات أو التجليات أو أن عرشه على الماء تعني توجه التجليات لخلق الأحياء!
هذه ثمرات منهجك وأصوله!
قد علمتُ أنّ الله يقول (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)، فوجدتك – خضوعًا لمذهبك – تقول: (ويستعمل الله إمكانيات اللسان في سبيل التقريب)، فالله يقول إنّ اللسان مبينٌ، وأنت تقول إنه للتقريب، الله يقول إنه يبين الحق، وأنت تقول إنّه يقرب الأذهان لجمال الحق، لتصير المسافة بين الأذهان والحق خالية، يعمل فيها من يريد بالتأويل والتحريف، الله يقول إنه يهدي للحق، وأنت تقول إنه أنزل ما يقربك من الحق لا ما يقف بك عليه!
ولا عجب، فأنت محوجٌ لهذا القول، أما أهل السنة فيقولون إن الله أنزل الكتاب مبينًا، من اتبعه فقد أنجح وأفلح، فإن قال الله إنّه "سميعٌ" و"يسمع"، أثبت أهل الحق صفة السمع، وقالوا إنّ سمع الله ليس كسمع خلقه، فإن تكييف الصفة يختلف باختلاف الذات التي تنسب إليها، وعليه فإن تفويض العلم بالكيفية من لوازم اللسان المبين، أما غير أهل الحق فيرون قوله "وكان عرشه على الماء"، فيقولون إنّ اللسان هنا غير مبين، وإنما هو للتقريب، والمقصود – البعيد بل إن شئت فهو الغامض بل هو الشبهة التي لا حقيقة فيها – أنه توجه التجليات لخلق الحياة!
هذه ثمرات منهجك وأصوله!
وقد عدمتَ في منهجك أي سلفٍ من الصحابة الكرام، وقد سألتك عن أثرٍ واحدٍ لواحدٍ من الصحابة يقول إنّ عرش الملك هو عزه أو تجلياته أو فيوضه أو غير ذلك مما ذكرتَ، بل عدمتَ أي أثرٍ عن واحدٍ من القرون الخيرية الأولى، فهل هذا المنهج هو منهج الصحابة، فلمَ لم يبلغوه؟! ولم يشتهر عنهم وينتشر؟! أين مقتضى الوعد بحفظ الذكر وظهور الدين؟!
وقد سألتك عن العربي أيقوم في ذهنه أن "عرشه على الماء" تعني أنه "عمد إلى خلق الأحياء"، فأجبتَ أنه لن يفهم ذلك أول الأمر وقلتَ: (ثم يتعلم أن عرشه كان على الماء فيفهم أن تدبير الله وتجلي صفاته في الفاتحة تجلت على الماء بعد فرش الكون لقدوم الحياة.)اهـ، فأينَ النصوص التي يعلم فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلم أو الصحابةُ عليهم الرضوان العربيَّ الذي يدخل الإسلام أن عرشه على الماء تعني أنه عمد إلى خلق الأحياء، أم تراهم وقعوا فيما استنكرته من أن (تساق النصوص وتترك هكذا للعامي والغمر دون تأويل ينزه الله)؟! أم تراهم فهموا أن المتبادر إلى ذهن العامي والغمر – الخلي عن تجربة المذاهب الأخرى – هو الصواب من أنّ عرشه على الماء تعني أن عرشه على الماء ولا تعني أنه عمد إلى خلق الأحياء؟! فهذا سؤالٌ لازمٌ يبطل قولك وليس لك عليه جواب: إن كان العربي لا يعرف هذا المعنى "عمد إلى خلق الأحياء" إلا بالتعليم، وإن كان سوق النصوص للعامي دون بيان التأويل الصحيح أمرًا مستنكرًا، فأين الأحاديث أو الآثار التي فيها ذكر هذا المعنى إن كان حقًّا ما تقول؟!
ولذلك فأنت مضطر إلى المصادرات في حق الصحابة، فأنت تصادر وتقول عن الصحابة: (لا يمكن تخيلهم يفهمون غير ذلك)، بينما المنقول عنهم خلاف ذلك، وتصادر وتقول عن ابن مسعود: (ولو كان ابن مسعود معنا الآن ورأى الحوار فسيقف بجانبي بشكل أكثر من وقوفه بجانبك)، وابن مسعود رضي الله عنه هو الذي قال: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم"، فهل قائل هذا الكلام يوافق على مذهبٍ لازمه الزعم بأن السنة وآثار الصحابة عرضة للخطأ في الفهم أو الزيادة والنقصان؟!
هذه ثمرات منهجك وأصوله!
وكالعادة يقوم مذهبك على كلماتٍ لم تُعرف عن أحدٍ من السلف، كلماتٍ اتفقنا قبلُ أننا لا نطلق فيها حكمًا بنفيٍ ولا إثباتٍ حتى نستبين المعنى المخبوء في ظلها، فها أنت بعد الاتفاق تنقض، فبعد نفي الجهة و التكثر تقول (والله تعالى متقدس سبحانه عن (المواضع) أو أن يكون له جوارح تشعر بالتبعيض)اهـ.، وحيث إنّه هذه الألفاظ لم ترد في الكتاب والسنة، فإنّ إطلاقك النفي فيها غير مسلم، فإن كان المقصود بنفي هذه الكلمات نفي تمثيل الله بخلقه فنحن نقره ونقول إنّ اللفظ الوارد في الكتاب والسنة هو الأحق بالاستعمال، وإن كان المقصود بنفي هذه الكلمات نفي صفات الله تعالى فنحن لا نقر هذا النفي ونثبت صفات الله تعالى ونكتفي بما ورد في الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة!
وكذلك يقوم منهجك على التمثيل بادي الرأي، وبعد وقوعك في التمثيل تلجأ للقطب الآخر، فتقع في التأويل والتعطيل، ومن ذلك فهمك والتزامك للنسب الحجمية بين القدم وجهنم – ولا أدري ما داعي سؤالك عن عدم تعليقي على كلامٍ لا يوافق كلانا عليه! - والتزامك في فهم النص بالنسب الحجمية بين القدم والكرسي، وعلاقة القدم بالساق بارتفاع العرش! فأنت تفهم النصوص بتمثيلٍ بل بغلوٍّ في التمثيل، ثم ترتد نافرًا إلى الطرف الآخر، فتلغي معاني القدم والكرسي والعرش، إلى معانٍ أخرى غير مقصودة، وقد كان يكفيك من ذلك أن تمر النص كما جاء، وتعلم أن اختلاف الذوات يقابله اختلاف الصفات، فإن سألك سائل "كيف؟!" قلتَ "لا أدري!"، كمثل قولك: (الله قريب من كل شيء خلقه تعالى بنفس الدرجة، فليس الله قريبا من السماء السابعة أكثر من قربه من الأرض، كيف؟؟ لا أدري)اهـ.
أما قولك (الله قريب من كل شيء خلقه تعالى بنفس الدرجة)، فإن كنت تقصد قربه تعالى بعلمه من جميع خلقه فمسلّم، وإن كنتَ تقصد قربه تعالى من بعض خلقه في بعض الأحوال بكيفيةٍ لا نعلمها ولا يلزم منها خلو العرش منه فمسلّم، وإن كنت تقصد أن الله قريبٌ بذاته من جميع الخلق في كل الأوقات والأحوال فغير مسلم إذ ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم قربه تعالى من جميع مخلوقاته في كل حال!
ولقد رأيت قولك بـ (استحالة صحة وجود قدمين لله)اهـ وقولك (لتنزه الذات عن الأقدام)اهـ، فقام في خاطري عدة أسئلة: هل إثبات قدمين لله من المستحيل عقلًا؟! أليست المسألة توقيفية لا علم لنا بها إلا من جهة النص؟! هل ترفض إثبات قدمين لله حتى لو أثبتهم الله لذاته؟! – وأطمع في جوابٍ صريحٍ لهذا السؤال السابق - فإن قام النص الصحيح الصريح أثبتنا ما يثبته دون تمثيل أو تعطيل فنمر النصوص كما جاءت، وإن كنت ترى في إثبات القدم تمثيلًا، فإن الجهمي يرى في إثبات العلم تمثيلًا، والملحد يرى في إثبات الذات تمثيلًا، فجوابك على الجهمي والملحد في إثبات الذات والعلم هو جوابي عليك في إثبات القدم .. وأختم هذه الفقرة بسؤال: أيمتنع أن يكون له قدم تناسب ذاته تستحق من صفات الكمال ما تستحق الذات؟!
وقد اتفقتَ على صواب التقسيم والتعليم والتنظيم والاستقراء، بما يدل على أنك لن تجد غضاضة في تقسم التوحيد أو تقسيم الصفات في حد ذاته، وهذه خطوة في سبيل الاتفاق بإذن الله، ولكنك مازلت تشنع بأن تعداد الصفات قد يُنشئ في ذهن العامي وهمًا بذات عملاقة شفافة لها كذا وكذا، في حين أن مذهبك لا يخلو من هذه الشناعة المدعاة، فيمكنني الرد عليك بأنك حين تثبت الذات، يقوم في ذهن العامي تصور ذات عملاقة شفافة، فإن نفيت عنها العين، قام في ذهن العامي ذات عملاقة شفافة بلا عين، فإن نفيت اليد والوجه قام في ذهن العامي ذات عملاقة شفافة بلا وجه ولا يد، وهكذا .. فإن أجبت بأن هذا يُتقى بتعليم أنه ليس كمثله شيء، أجبتك بأن ما تخشاه من إثبات الصفات يتقى بمثل ذلك، وإن أجبتَ بأن اختلاف الذوات يستلزم اختلاف الصفات، أجبتك بأنّ هذا ديدني، وإن أجبتَ بأن هذا يُجتنب بحسن التدريس، أجبتك بمثل ذلك .. إذن! فلا معنى لما تطرحه هنا من وهمٍ يقوم في ذهن العامي، لأمور: أنّ هذا الوهم يلزمك إن ألزمتني به! وأنّ طريقتك في نفيه هي طريقة محاورك! وأخيرًا أنه ليس من وسم الباحث أن ينفر من الحق لوهمٍ يزول بالتعليم!
تنبيه لطيف: كثيرًا ما يقع المنخرطون في مناظرة الملاحدة والنصارى وغيرهم من الضالين، كثيرًا ما تصيبهم آفة من هذه الحوارات وهم لا يشعرون، فإنهم ينظرون في كل نصّ أو حدثٍ أو تشريع، فيزنونه بميزان هذه المناظرات، فيقولون في أنفسهم "هل هناك فائدة من هذا النص أو الحدث أو التشريع تغري النصارى بالإسلام؟!؟"، فيكون هذا لهم معيارًا وهم لا يشعرون، وهذا المعيار وإن كان الداعي له نية خير، إلا أن هذا لا يعني أنه معيارٌ صحيح، وكم من مريدٍ للخير لم يدركه، وقولك (لا فائدة للإسلام من إثبات قدمين للذات) مثالٌ على هذا، فانتبه لذلك يا هداك الله .. إنني لو سألتك (ما الفائدة من تحديد الظهر بأربع ركعاتٍ للإسلام!؟) .. أو (ما فائدة القول بسبع سماواتٍ للإسلام؟!) .. لما استطعتَ جوابًا إلا أن تقول إنّ هذا تكليفٌ من رب العالمين، فيكون منّا متبعٌ محسنٌ وتاركٌ مفرط .. فهذا هو رد ما ادعيت من أنه لا فائدة للإسلام من إثبات قدمين ووجه ويد .. فمن صدق بهذه الصفات على وجهٍ يليق بالله عز وجل بلا تمثيلٍ ولا تحريف، كما أثبت العلم والقدرة والرحمة فقد أفلح وأنجح، ومن رفضها وقدّم عقله وأبى إلا التعطيل فقد خاب وخسر .. نسأل الله النظر إلى وجهه الكريم! وأن يثبت قلوبنا على هذا الدين!
إن أمر الاعتقاد قد بيّن وتم، ولسنا في حاجة للبحث عن علاقة عبقرية بين القدم والعلم، فقد كفانا الصحابة عليهم الرضوان ذلك، ولا يفوتني في الحديث عن منهجك، أن أذكّر بأنك تستدل بلسان العرب بطريقةٍ لم يعرفها العلماء، فكلما أردتَ الاستدلال بشيءٍ من لسان العرب، وجدتك تنقل من القاموس المحيط كلمتين، وقد نبهتك إلى هذا قبلُ فقلتُ (ولا يكتفى هاهنا بنقل كلمتين من القاموس المحيط لتقوم بذلك حجة)، فقد طفق المختلفون في هذا الأمر يستدلون بموارد الألفاظ في الكتاب والسنة وآثار الصحابة واستعمال العرب الذين نزل القرآن عليهم، ولم أرَ قبلُ ما تفعله من نقلٍ لكلمتين من القاموس المحيط، الذي وُضِع بعد الهجرة بقرونٍ عديدة، وكأنّ هذا يُنهي النزاع ويوجب الاتفاق!
هذا عن منهجك ولوازمه وما اضطرك إليه، أدعك تتأمل فيه، وأنتقل إلى بيان مذهبي الذي لا تعرفه أنت، فأنت تقول (أنكم لم تلتزموا بإمرار النصوص كما جاءت)اهـ، وتقول (قلتم أن الناس أحدثوا إنكارات فأحدثنا إثباتات الصفات، ولكن كما ترون فقد تبين أن في الإثباتات أخطاء)اهـ، وتقول (ومن العجيب أن كثيرا منهم يلجأون لتأويل حديث الهرولة ولا يؤلون آية الأعين)اهـ، وتقول (لم يحكموا، لأن نقد المتن مهم) ... إلى غير ذلك من أقوالٍ تدل قطعًا على أنك لا تعرف ما عندنا من الحق كما أسلفتُ الذكر .. فإليك تفصيل الأمر، وأعلم أن في هذا استطرادًا، ولكني أطمئن إلى كونك محاورًا منصفًا لن يستغل هذا الاستطراد في تشتيت الموضوع، سيما وأنا ما استطردتُ إلا حرصًا على بيان الحق، "وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها"!
حاشية: لا أدري لماذا تحاول تحريف كلامي فتجعلني أقول إن الغمر "جدير بفهم الأشياء العليا في القرآن"، بينما قولي إن العقيدة جاءت بأوضح وأبين وأفصح لفظ حتى يعلمها العامي والعالم، ويدركها البحر والغمر، فإن كنت تنوي تكرار ذلك ونحلي ما لا أقول، فأنت وما أردت، لكني أبرأت ذمتي إلى الله، فأعدتُ المراد طردًا لاحتمالِ أنك أُتيت من قِبل سوء الفهم لا قصد التشنيع على المحاور!
مذهب أهل السنة والجماعة الذي لا تعرفُه!
إنّ المرء حين يرى شناعة التهمة بما يجاوز المعقول يعلم أن الرامي بها لا يعلم عن مخالفه شيئًا، ومن ذلك أن ليس في معتقدي الذي ترفضه أنّ كل ما يُضاف إلى الله تعالى يكون صفة ذات، فهذا ليس من العقل في شيءٍ فضلًا عن أن يكون من الإحكام، وإنما عندنا القاعدة الثابتة أن ما أضيف إلى الله مما هو غير بائنٍ عنه فهو صفةٌ له غير مخلوقة، وكلُّ شيءٍ أضيف إلى الله بائنٌ عنه فهو مخـلوق، فليس كل ما أضيف إلى الله يستلزم أن يكون صفةً له، وهكذا نقف أمام "ناقة الله" و "بيت الله" و "رسول الله" و "يوم لا ظل إلى ظلي"، ونقول إنّ هذه المضافات مخلوقة، والإضافة إضافة خلقٍ وتشريف أو غير ذلك من المقاصد!
ولا أراك إلا متوهمًا أننا نثبت لله صفات ذاتٍ حادثة، وإلا فما معنى قولك (وحاشا لله أن يستعين بشيء ليرى)اهـ؟! يا سيدي إننا نقول بصفاتٍ تليق بجلاله عزّ وجل، صفاتِ من ليس كمثله شيء، فليست عينه محدثة لتزعم زعمك وتفهم مثل فهمك، بل هي كصفة القدرة، فإن كان الله يخلق الكون بقدرته وعلمه، من غير أن يكون في ذلك عجز مستنكر، فإنه تعالى يرى بعينه من غير توهم عجزٍ مستنكر، وإلا لفهمنا أن قولك (أزال الله مابيننا من اختلاف بفضله) على أن الله يستعين بفضله!!
أنت تهاجم مذهبًا يقول إن كل شيءٍ هالكٌ "حتى ذات الله" إلا وجهه!! بناءً على سطحية شديدة في فهم النصوص، أنت تهاجم مذهبًا "يحدث إثباتات لأن الناس أحدثوا إنكارات"، بينما مذهبي مذهب أهل السنة والجماعة أهل الحديث والأثر، فيه أن صفات الله تعالى وأسماءه توقيفية، ويعوذون بالله من القول على الله بغير علم، أو الافتراء على الله أن هذا معنى كلامه دون أين يكون هذا هو المعنى، أو أن يصرفوا كلامه عن ظاهره المتبادر إلى الأذهان من غير دليل إلا تحكيم العقل وضلالات الفلاسفة!
إنّ التأويل عندنا يطلق على عدة معانٍ، بينما تحصره أنتَ في معنى واحدٍ فتقول (وما التأويل سوى حسن الفهم)اهـ، وقد تكرر ذلك منك غير مرة، بينما الثابت أنّ التأويل له أكثر من معنى كما ذكرتُ:
الأول: يقصد بها العاقبة، كما في قوله تعالى (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) وقوله تعالى: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا).
الثاني: وقوع حقيقة الأمر المخبر به، كما في قوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ).
الثالث: تأويل الرؤى يسمى تأويلًا بالاعتبارين السابقين، كما في قوله تعالى (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ)، وقوله تعالى (وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا).
الرابع: التفسير والبيان، كما في قوله صلى الله عليه وسلم (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، وهذا ما يقصده السلف الصالح، كما يقول الطبري في غير موضع من تفسيره (القول في تأويل قوله جل ثناؤه ...).
فهذه المعاني ليست هي المقصودة حين ننفي التأويل، أما أن يكون التأويل ما اصطلح عليه المتكلمون من صرف اللفظ عن ظاهره، فهذا الذي ننفيه إن عدم الدليل من الشرع، لما فيه من تعطيل نصوص الكتاب والسنة، وعليه فإن حصرك التأويل في معنى واحدٍ ليس مقبولًا نقلًا ولا لغةً ولا واقعًا، ونحن لا ننفي التأويل الذي هو حسن الفهم، بل ننفي التأويل الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره دون داعٍ إلا النفور من أمورٍ متوهمة كنفي التكثر وما شابه!
ونحن نقول بصرف اللفظ عن معنى إلى معنى آخر يقتضيه السياق، إذ إن ما دلّ عليه السياق من ظاهر الخطاب، ولهذا شروط وإليك هذه الشروط:
الأول: أن يكون اللفظ مستعملًا بالمعنى المصروف إليه في اللغة، لأنّ الشرع نزل باللسان العربي، ولو تخلّف هذا الشرط لجاز لكل ضالٍّ أن يفسر كل لفظٍ بما يشاء من معنى ولو كان لا أصل له في اللغة!
الثاني : أن يكون هناك دليلٌ قاطعٌ - سالمًا عن المعارض - يوجب صرف اللفظ إلى المعنى المصروف إليه، وإن انعدم هذا الدليل القاطع وجب حمل اللفظ على المعنى الحقيقي الذي يغلب استعماله فيه.
الثالث : "أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلامٍ وأراد به خلاف ظاهره وضد حقيقته فلا بد أن يبين للأمة أنه لم يرد حقيقته وأنه أراد مجازه سواءً عيّنه أو لم يعينه لا سيما في الخطاب العلمي الذي أريد منهم فيه الاعتقاد والعلم.. لأنه إذا تكلم بالكلام الذي يفهم منه معنى وأعاده مراتٍ كثيرة، وخاطب به الخلق كلهم وفيهم الذكي والبليد والفقيه وغير الفقيه، وقد أوجب عليهم أن يتدبروا ذلك الخطاب ويعقلوه ويتفكروا فيه ويعتقدوا موجبه، ثم أوجب ألّا يعتقدوا بهذا الخطاب شيئًا من ظاهره، لأن هناك دليلًا خفيًّا يستنبطه أفراد الناس يدل على أنه لم يرد ظاهره كان هذا تدليسًا وتلبيسًا، وكان نقيض البيان وضد الهدى وهو بالألغاز والأحاجي أشبه منه بالهدى والبيان، فكيف إذا كانت دلالة ذلك الخطاب على ظاهره أقوى بدرجاتٍ كثيرةٍ من دلالة ذلك الدليل الخفي على أن الظاهر غير مراد، أم كيف إذا كان ذلك الخفي شبهة ليس لها حقيقة؟"!
مثال ذلك: قال صلى الله عليه وسلم (إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني!)، فيسوغ في اللغة أن يكون المراد "مرض عبدي"(1)، وقام الدليل القاطع أنّ الله تعالى منزه عن المرض، لأنه المرض نقصٌ من كل وجه، وهو سبحانه (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) ولا يمسه لغوب، ولم يقف لهذا الدليل القاطع معارض(2)، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله في تمام الحديث: (قال : يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ قال : أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده ؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ؟)(3) .. هكذا عقيدة مؤصلةً ثابتة لا تختلف ولا تتخلف .. عقيدة تقوم على أن النصوص أتت بالوضوح والبيان لا تلبيس وتدليس وأحاجي وألغاز!
على النقيض من ذلك، انظر صفة اليد الثابتة لله تعالى، وفساد تأويلها بالقدرة أو النعمة أو غير ذلك مما بين فساده أهل العلم:
تخلف الشرط الأول: فإن كان في لغة العرب استعمال اليد بمعنى القدرة و النعمة، لكن ليس من لغة العرب أن تستعمل اليد بصيغة التثنية بعد فعلٍ مضافٍ إلى فاعلٍ ومتعدٍّ إلى اليد بالباء، هكذا على هذه الصفة لم تستعمل اليد أبدًا بمعنى القدرة أو النعمة، كقوله تعالى (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)، ولم تستعمل بهذه الصفة بمعنى "خلقت أنا"، لأنّ هذا المعنى تضاف فيه اليد إلى الفعل، كقوله تعالى (بما قدمت يداك) أي ما قدمتَ.
تخلف الشرط الثاني: لا يوجد موجب لصرف اليد عن الحقيقة.
وقولك (وفي الفهم الشائع المتبادر، أنها يد جارحة يستعين الله بها على صنع الأشياء)اهـ، فأنت بذلك تنكر إنكاراتٍ بناء على توهماتٍ على وزان تعبيرك!
إذ لا يمتنع في العقل أن يكون له سبحانه "يد" تناسب ذاته تستحق من صفات الكمال ما تستحق الذات، كما له علم وقدرة وذات ووجود يليقان بكماله، ولا يقول أحد إن المعنى الشائع المتبادر علمٌ يسبقه جهلٌ ويذهب به نسيان، أو قدرةٌ يسبقها عجز وبها يستعان، أو ذاتٌ كالذوات، أو وجودٌ كوجود سائر المخلوقات، وكذلك لا يقول أحدٌ إنها يد جارحة يستعان بها، بل له سبحانه الأسماء الحسنى والصفات العلى.
تخلف الشرط الثالث: لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحدٍ من الأصحاب رضي الله عنهم أن المراد باليد خلاف ظاهرها أو أن الظاهر غير مراد.
وما يستدل به بعضٌ من قوله تعالى "ليس كمثله شيء"، فهذه الآية تنفي التمثيل، ونحن نثبت يدًا ليست كأيدي المخلوقين، كما أثبتَّ وأثبتنا علمًا ليس كعلم المخلوقين، وذاتًا ليست كذوات المخلوقين.
فكيف يكون الكتاب والسنة مليئين بآيات فيها ذكر اليد، التي يُفهم منها اليد بالمعنى الحقيقي لا اليد بمعنى القدرة أو النعمة، ثم لا يبين الله ولا رسوله ولا أحد من الصحابة أن المراد الظاهر غير مراد، ألا يكون ذلك من التلبيس والتدليس وخلاف البيان والهدى ونقيض حفظ الذكر وظهور الدين؟!
فهذا بيانٌ واضح في صفة اليد، أعطِه حقّه من التأمل، لتعلم أنّ هذا المنهج الذي ترفضه هو المنهج الوحيد الذي يجمع بين التنزيه وتحكيم النص، في وضوحٍ وظهور، وإن كان قوله تعالى (يد الله فوق أيديهم) يظهر منه المراد، إلا أن الاستدلال فيه يطول، والأخذ والرد في نقض ما أجبتَ به – مما ليس فيه مقنع - على سؤالي عن سخرية الشاعر من الملك مبتور اليدين بقوله "والمملكة في يديك"، وعن كون ثبوت اليد لجنس الإنسان هو الذي سوّغ التعبير بقوله "والمملكة في يديك"، فقد رأيت أن الحكمة أن أنتقل إلى استدلال أخصر وأقصر وأبين وأوضح!
أما السؤال عن كيفية فهم قوله (خلقت بيدي) .. أهو يعني المماسة؟! فنقول: الله أعلم لا ندري عن الكيفية، كالسؤال عن كيفية فهم قوله (تعلقت بحقو الرحمن) .. أهو يعني المماسة؟! فنقول: الله أعلم لا ندري عن الكيفية، وإثبات اليد لله لا يلزم منه نقص، لأننا نثبت له ما يليق بكماله سبحانه، وإثبات الحقو لله لا يلزم منه نقص، لأننا نثبت له ما يليق بكماله سبحانه، ولا ننكر صفةً جاء بها النص بناءً على وهم المتوهمين وشناعة المشنعين، ونعلم أنّ النصوص التي وردت فيها "اليد" أغزر وأكثر وأوضح من تلك التي ورد فيها "الحقو"، لكنّ هذا لا يمنعنا من أن نمر النصوص كما جاءت دون تكييف يفضي أو ينتج من تمثيل، أو تأويل يفضي إلى تعطيل!
أما الأثر (الحجر الأسود يمين الله في الأرض يصافح بها عباده) و(الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه أو قبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه)، فما ورد منه مرفوعًا فقد قال فيه ابن العربي (حديثٌ باطلٌ فلا يُلتفت إليه)، وقال فيه ابن تيمية (روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسنادٍ لا يثبت)، وفي إسناده إسحاق بن بشر كذّبه ابن أبي شيبة وأبو زرعة، وأما ما ورد عن ابن عباس موقوفًا، فإنّه ضعيف جدًّا كما قال الألباني رحمه الله، وفي إسناده إبراهيم بن يزيد الخوزي وهو متروكٌ كما قال أحمد والنسائي، وعلى احتمال صحته وهو ليس بصحيح، فإليك مسلك أهل السنة في هذه النصوص، وهو المسلك الذي لا يختلف ولا يتخلف، يقول ابن تيمية رحمه الله: (ومن تدبر اللفظ المنقول تبين له أنه لا إشكال فيه إلا على من لم يتدبره، فإنه قال {يمين الله في الأرض} فقيده بقوله {في الأرض}، ولم يطلق فيقول يمين الله، وحكم اللفظ المقيد يخالف حكم اللفظ المطلق، ثم قال {فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه} ومعلوم أن المشبه غير المشبه به، وهذا صريحٌ في أن المصافح لم يصافح يمين الله أصلًا، ولكن شبه بمن يصافح الله، فأول الحديث وآخره يبين أن الحجر ليس من صفات الله كما هو معلومٌ عند كل عاقل) اهـ، وهكذا حتى مع الضعيف نلتزم بما ذكرنا من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أنه لا يقصد الحقيقة، وبالمناسبة فإن ما ذكرتَه عن أبي يعلى ليس هو ما أخذه عليه أهل العلم، وإنما كان استدلاله بالأحاديث الضعيفة والموضوعة في إثبات الصفات هو أساس الإنكار عليه، ولذا قال ابن تيمية رحمه الله في درء التعارض (ولهذا – أي لاستدلاله بالموضوع والضعيف - وغيره تكلم رزق الله التميمي وغيره من أصحاب أحمد في تصنيف القاضي أبي يعلى لهذا الكتاب بكلامٍ غليظ، وشنع عليه أعداؤه بأشياء هو منها بريء، كما ذكر هو ذلك في آخر الكتاب .. مع أن هؤلاء وإن كانوا نقلوا عنه ما هو كذبٌ عليه ، ففي كلامه ما هو مردودٌ نقلًا وتوجيهًا)، وقال عنه الذهبي في السير (ولم تكن له يدٌ طولى في معرفة الحديث، فربما احتج بالواهي)اهـ، فأولى بك ثم أولى أن تتحقق من صحة الحديث قبل أن تعمل في تأويله أو تمن عليّ بضرب الصفح عنه، فالتفسير فرع التصحيح!
وكذلك الحديث الذي تمن عليّ أنك ضربتَ الصفح عنه، وهو (إن كرسيه وسع السماوات و الأرض، و إنه يقعد عليه، ما يفضل منه مقدار أربع أصابع - ثم قال بأصابعه فجمعها - و إن له أطيطًا كأطيط الرحل الجديد إذا ركب من ثقله)، وكذلك (إن عرشه لعلى سماواته و أرضه هكذا مثل القبة، و إنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب)، فإنّ الأول ضعيفٌ فيه من لا يُعرف، والثاني فيه مدلسٌ لم يصرح بالسماع، ولذا حكم عليهما الألباني رحمه الله بالنكارة، فلم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثٌ في أطيط الكرسي أو العرش، ولم يصح عن أحدٍ من الصحابة رضوان الله عليهم أنه يئط "به"، أو أنه أطّ من "ثقله"، ولذا فقولك (وآثار الصحابة فيها الصحيح والموضوع)اهـ، وما نقلتَه من قول ابن الجوزي (ثم هي مجموعها يسيرة والصحيح منها يسير)اهـ، لا يلزمني إلا إن وجدتني أستدل بحديثٍ ضعيفٍ أو أثرٍ موضوع، وأنا أشترط على نفسي في كل ما أكتب ألا أستدل بحديثٍ ولا أثرٍ إلا إن ثبتت صحته، فكيف حين أكتب عن أسماء الله تعالى وصفاته؟!!
إن تغيير الدعاوى في كل ردٍّ ليس من مصلحة الحوار في شيء، فأنت عندما قلتَ إنّ كلامي عن حديث سجود الشمس كمثل كلامك، كنتَ تحتج بأني أقول بمثل قولك في معنى العرش من حيث لا أدري، فقلتَ (وقد اعترفتم بالتأويل ومفهومنا للعرش – كما ترى أيها المهندس- والسجود وأنهيتم الحوار بالاتفاق دون أن تدركوا)اهـ، وقلتَ (وتدعي في قلب المقالة لاحقا أن العرش ليس له أي معنى من المعاني التي ذكرتها لكم بينما أنت توافقني عليها –كما ترى أيها المهندس الكريم - هنا)اهـ، فكنتَ تزعم أني أوافقك على معنى العرش، وقد رددتُ عليك، وبدلًا من أن تقر – إقرار النبلاء – أنك أخطأت، حوّرت الدعوى إلى دعوى جديدة فقلتَ: (فأولتم حركة منصوصا عليها ذهابا وإيابا بأنها تعبير عن شأن دائم من الطاعة، وأرى هذا اتفاقا معي قاطعا لاشك فيه)اهـ، وقلتَ (لم لم تقل أن جسم الشمس المحسوس يذهب متحركا منتقلا قاطعا المسافات، صاعدا يعرج في الكون كي يسجد تحت سرير العرش المحسوس، تنتظر الإذن. (وتقول هو هكذا الأمر يجب أن يفهم)، بل قلتم : بدوام الخضوع تحت العرش.)اهـ.، وحيث إنك غيرتَ الدعوى فهاك الجواب:
إنني في هذا الحديث أتمسك بشدة بظاهر اللفظ، وعندما يثير الشبهاتِ نصرانيٌّ على معنى هذا الحديث، فإن جوابي عليه يكون بإلزامه بلفظ الحديث، فلا أدري كيف رأيتني لا أتمسك بظاهر النص هنا، بينما أنا أرفض أي لفظٍ يضيفه بعضٌ مثل "صاعدًا يعرج في الكون"، مثلما أضفتَ أنت من عندك ما ليس من لفظ الحديث، وإنما مما تسرب إلى فهمك أو مما سمعته من أهل الشبهات، فالأمر واضح – جدًّا – أني أقول إن الشمس ذاك الجسم المحسوس، تذهب وهي في ذهاب دائم – ضرورة الحس – وتسجد سجودًا يناسب ذاتها، فاختلاف الذوات يلزم منه اختلاف كيفية الأفعال، وهذا السجود يكون تحت العرش المخلوق، وهي دائمًا تحت العرش – ضرورة الحس والنقل – وتستأذن فهي دائمًا تسير بإذن من ربها، وهذا التزام بظاهر النص كما لا يخفى، وهذا ما ذكرتُه بدايةً (إن الشمس ساجدة سجود خضوع تحت عرش الله تعالى، وكل المخلوقات تحت العرش، وسجود الشمس ليس كسجود الإنسان، كما أن تسبيح الطير ليس كتسبيح البشر، ونقول بما يلزم ذلك من دوام سجود الشمس وخضوعها، تحت عرش الله عز وجل)اهـ، أما ما أضفتَه أنت من "صعود وعروج في الكون" فليس في النص حتى ألتزم به .. فأين هنا ما ادعيته من عدم التزامي بظاهر النص؟! وأين ما يحوجنا لتأويل العرش هنا لنجعله بمعنى التدبير؟!
إننا – أيها المهندس – أهل إنصاف، فنعلم أن الصفة الوحيدة التي اختلف الصحابة في ورودها في القرآن هي صفة الساق، نعلم أن قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ)، هو الموضع الوحيد الذي اختلف فيه الصحابة رضي الله عنهم، وسبب الخلاف أنّ ظاهر القرآن ليس فيه أنّ هذه صفة الله تعالى، فقد وردت نكرةً غير معرفةٍ ولا مضافة، وهذا اللفظ بمجرده لا يدل على أنها ساق الله، ومن الإنصاف كذلك أن تقف عند الحديث الصحيح (يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة)، والحديث الصحيح (إذا جمع الله العباد بصعيدٍ واحدٍ نادى منادٍ: يلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، فيلحق كل قومٍ بما كانوا يعبدون، ويبقى الناس على حالهم، فيأتيهم فيقول: ما بال الناس ذهبوا وأنتم ههنا؟ فيقولون: ننتظر إلهنا، فيقول: هل تعرفونه؟ فيقولون: إذا تعرف إلينا عرفناه، فيكشف لهم عن ساقه فيقعون سجودًا، وذلك قول الله تعالى: "يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون" ويبقى كل منافقٍ فلا يستطيع أن يسجد ثم يقودهم إلى الجنة)، فنثبت لله تعالى الصفة من الأحاديث الصحيحة، من غير تمثيل ولا تعطيل، ولا يقول عارفٌ بالعربية أنّ الكشف عن الساق لا يأتي إلا بمعنى الشدة والهول، وملكة سبأ لما قيل فيها "وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا " لم يخالف ذلك اللغة، والكشف عن الساق في اللغة هو معنى الحقيقة التي اشتق منها المعنى المجازي كما ذُكر في القواميس، فليست القواميس مطبقةٌ على نفى الساق، ولسنا ننفي وجود الخلاف بين الصحابة في هذه الآية دون غيرها، إلا أن اختلافهم في تفسير الآية لا يعني اختلافهم في فهم الأحاديث، ولا نملك – كمسلمين – إلا إمرار الأحاديث الصحيحة كما جاءت، فنثبت صفة الساق على الوجه الذي يليق بكماله سبحانه.
إننا أهل إنصاف نرحب بالنظر الذي يعتمد على الدليل، لا التحريف الذي لا يقوم إلا على المصادرات العقلية، قال صاحب كتاب "القواعد المثلى .. في صفات الله وأسمائه الحسنى"، عند شرح حديث "من تقرّب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا ...الحديث "، قال (فأي مانعٍ يمنع من القول بأنه يقرب من عبده كيف شاء مع علوه؟ وأي مانعٍ يمنع من إتيانه كيف يشاء بدون تكييفٍ ولا تمثيل؟ وهل هذا إلا من كماله أن يكون فعالًا لما يريد على الوجه الذي به يليق؟ وذهب بعض الناس إلى قوله تعالى في هذا الحديث القدسي "أتيته هرولة" يراد به سرعة قبول الله تعالى، وإقباله على عبده المتقرب إليه المتوجه إلى قلبه وجوارحه، وأن مجازاة الله للعامل له أكمل من عمل العامل، وعلل ما ذهب إليه بأن الله تعالى قال "ومن أتاني يمشي" ومن المعلوم أن المتقرب إلى الله عز وجل الطالب للوصول إليه لا يتقرب ويطلب الوصول إلى الله تعالى بالمشي فقط، بل تارة يكون بالمشي كالسير إلى المساجد ومشاعر الحج والجهاد في سبيل الله ونحوها، وتارةً بالركوع والسجود ونحوهما، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، بل قد يكون التقرب إلى الله تعالى وطلب الوصول إليه والعبد مضطجع على جنبه، كما قال الله تعالى "الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم" .. فإذا كان كذلك صار المراد بالحديث بيان مجازاة الله تعالى العبد على عمله، وأن من صدق في الإقبال على ربه، وإن كان بطيئًا جازاه الله تعالى بأكمل من عمله وأفضل، وصار هذا هو ظاهر اللفظ بالقرينة الشرعية المفهومة من سياقه، وإذا كان هذا ظاهر اللفظ بالقرينة الشرعية لم يكن تفسيره به خروجًا به عن ظاهره، ولا تأويلًا كتأويل أهل التعطيل، فلا يكون حجة لهم على أهل السنة ولله الحمد .. وما ذهب إليه هذا القائل له حظ من النظر، لكن القول الأول أظهر وأسلم وأليق بمذهب السلف)اهـ، وفي هذا جواب ما ورد في رسالتك السابقة.
تقول: (هل كلمة الذات تضاف بلا ضابط؟؟ هل قال أحد من الصحابة أننا سننظر لذات الله تعالى؟؟؟ أليس في النصوص أن الله لو كشف الحجب لاحترق الوجود؟؟؟)اهـ.
أولًا: إن رؤية الله تعالى ممكنةٌ عقلًا في الدنيا والآخرة، ودليل ذلك الإمكان العقلي أنّ موسى عليه السلام وهو كليم الله قال (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ)، وكليم الله عليه السلام كان يعلم المستحيل العقلي، إلا أن يرى راءٍ أن عقله أرجح من عقله عليه السلام!
ثانيًا: رؤية الله تعالى ممنوعةٌ في الدنيا كما ثبت في الشرع، والدليل قوله تعالى لموسى عليه السلام (لَنْ تَرَانِي)، وقوله صلى الله عليه وسلم (وإنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا)، وقوله صلى الله عليه وسلم (حجابه النور ولو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، أما في الآخرة فقد قال صلى الله عليه وسلم (فيرفع الحجاب فينظرون إلى وجه الله).
ثالثًا: رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة ثابتة بالكتاب والسنة ولم ينقل خلاف القول بها عن الصحابة رضي الله عنهم.
أما الكتاب فقوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، وقوله (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)، قال صلى الله عليه وسلم (إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول الله تعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة؟ وتنجنا من النار!؟ قال: فيرفع الحجاب فينظرون إلى وجه الله فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم، ثم تلا (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ).
أما السنّة فقد بلغت حد التواتر كما قال ابن كثير رحمه الله: (وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح، من طرق متواترة عند أئمة الحديث، لا يمكن دفعها ولا منعها)، ومن ذلك (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا)، وقوله (إنكم سترون ربكم عيانًا)، ولما سأله الأصحاب (يا رسول الله أنرى ربنا؟!) لم يقل لهم إن المقصود رؤية نعمته، بل قال لهم (تضامون في رؤية الشمس في الظهيرة في غير سحاب؟! قلنا: لا، قال: فتضارون في رؤية القمر ليلة البدر في غير سحاب؟! قالوا: لا، قال إنكم لا تضارون في رؤيته إلا كما تضارون في رؤيتهما).
رابعًا: قوله تعالى "لا تدركه الأبصار"، "فالإدراك أخص من مطلق الرؤية، لأن الإدراك المقصود به الإحاطة، والعرب تقول: رأيت الشيء وما أدركته، فمعنى "لا تدركه الأبصار" لا تحيط به ... وقد اتفق العقلاء على أنّ نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم، فانتفاء الإدراك لا يلزم منه انتفاء مطلق الرؤية".
خامسًا: قد وقف أقوامٌ أمام غابة النصوص، بفكرة مسبقة أنّه لابد من نفي الرؤية في الآخرة، فأخذوا يقولون إن المقصود يرون نعمة ربهم، فاستعمل أهل السنة ما هو من دلالة نصوص الوحيين ومعانيها الحقة لا تخرج عنها البتة، فقالوا يرون ربهم عيانًا، وإضافة لفظ الذات قد ورد في قولهم: استوى على العرش بذاته، وقد تقدم القول فيه من كلام الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في الرد السابق.
سادسًا: أنت – مرةً أخرى – تخاطب قومًا يضيفون كلمة الذات بلا ضابط، بينما بينتُ في الرد السابق، أن لفظ الذات يضاف في مقابلة الأقوال الباطلة من المخالفين، بألفاظ من دلالة ومعاني النصوص لا تخرج عنها البتة، وانتشر ذلك بين أهل القرون الخيرية كما سبق البيان في الرد السابق، فإن كان اعتراضك على مجرد إضافة لفظ الذات فقد بينت في الرد السابق أنك وصاحب تفسيركم الكبير يستعمله، وأنا – وأنت - نستعمل "بائن من خلقه" رغم عدم ورودها، وإن كان المقصود الاعتراض على إضافة لفظ الذات دون ضابط، فقد سبق أننا لا نضيف إلا في أضيق الحدود وفي وجود أدق الضوابط، والأولى أن يتوجه اعتراضك إلى من يلغي مدلول النصوص إلى المعاني التي لا دليل عليها من كتاب أو سنة أو إجماع أو لغة!
وبهذا يظهر أن قولك (الجواب عليكم أنكم لم تلتزموا بإمرار النصوص كما جاءت) ليس بجوابٍ أصلًا، وأن الأمر على ما سبق، من أننا – إجماعًا - لا نقول في أسماء الله وصفاته بنص ضعيف، وأن النص الصحيح يمر على ظاهره، دون تأويل يفضي إلى تعطيل، أو تكييف يفضي إلى تمثيل، وأن صرف اللفظ إلى معنى آخر يحتمله، لا يكون إلا بشروطٍ نجزم بها أنّ المعنى الآخر هو المراد، ولا نكتفي بمجرد احتمال اللفظ لهذا المعنى لنصرف اللفظ إليه من غير دليل إلا التحكم وتحكيم العقل على النص!
خلاصة الأمر بالنسبة للأصول الخمسة الواردة في الردود السابقة.
بالنسبة للأصل الأول عن الألفاظ من حيث ورودها في الكتاب والسنة والإجماع من عدمه، فقد تبين أن ما أخذته علينا من ألفاظ كتوحيد الصفات وصفات الذات، ليست في ذاتها من البدعة في شيء، ووافقتَ على أنّ ذلك من التنظيم والاستقراء الذي لا اعتراض عليه، ولكنّك رغم ذلك تكرر نفي ألفاظٍ لم ترد في الكتاب ولا السنة ولا كلام أهل الإجماع، ومن خلال هذا النفي للكلمات المحتملة تنفي الصفات، مثل التبعيض والجوارح وغير ذلك من ألفاظ لم ترد.
الأصل الثاني المتعلق بأن بيان المتكلم وفصاحته ونصحه تمنع أن يريد بكلام خلاف حقيقته، وحمله على غير ظاهره وظاهر الكلام هو ما يسبق إلى العقل السليم منه لمن يفهم بتلك اللغة، وموقفك من تعريف "ظاهر اللفظ" مضطرب، وتعريفك الذي ذكرتَه صراحةً ليس لك فيه سلف ولا عند أهل التأويل الفاسد، وعاقبة الاقتصار عليه إلغاء حاكمية الكتاب والسنة وتحكيم العقول.
الأصل الثالث عن أنّ النصوص تمر كما جاءت، وأنّ الكلام في الصفات كالكلام في الذات، فقد اتهمتنا بأنّ لا نمر النصوص كما جاءت ورددت عليك، وبينت لك ما لم تعلمه من معتقدنا ومذهبنا، ولكنك أنت الذي ترفض أن تمر النصوص كما جاءت، وإن وافقت على هذا الأصل بالكلام، وتذكر تشنيعاتٍ عديدة يكون الرد عليها أنه ليس كمثله شيء وأن الكلام في الصفات كالكلام في الذات.
الأصل الرابع وما في البند الثالث أن الخطاب المجمل قد أحيل بيانه على خطاب آخر، وهذا لا يجوز تأويله إلا بهذا الخطاب الذي يبينه، وليس في كلام الله خطاب مجمل لم يبيّن، وليس في الكتاب والسنة إحالة إلى مبدأ يختلف الناس في تطبيقه، وهذا هو الذي تمهلت في التعقيب على تعليقك عليه، وتوقعت أنك لا تقصد ذلك، وقد كان، وأنتظر تعقيبك عليه من خلال الأسئلة في آخر الرد.
والأصل الخامس وهو أصل المبتدعة في تقديم العقل على النص، وسألتك فيه على فعل الرازي، وقوله بحتمية التأويل بناءً على وهمٍ أن حملة العرش يستلزم من فعلهم احتياج الله لهم، مع أنّ هذا ليس بلازم، كما أنّ نزول الملائكة بالوحي لا يعني احتياج الله لهم، بل الله هو الذي يحمل العرش وحملته، ويحفظ الوحي وحملته، فاستحسنت كلام الرازي، وهو نفى الجهة ونفيها لم يرد في النص، وادعى أن حمل الملائكة يلزم منه الاحتياج وليس بلازم، وبناء على هذين الأمرين اللذين وصل إليهما بعقله لا غير، قال بحتمية التأويل، فكيف يكون تقديم العقل على النص إن لم يكن هكذا؟!
أما الكلام على "مصطلح الصفات" فلم يكن كلامك واضحًا إلا في هذا الرد الرابع، والخلاصة أنّ الله منزه عن وصف الكافرين، وأن المؤمنين يصفون الله عز وجل بما وصف به نفسه، من غير إفراط ولا تفريط، وقد كنتَ قبلَ ذلك تذكر كلماتٍ ليس فيها من الوضوح شيء، فلا تلمني إن فهمت أنك تحاول اللمز في الصفات، وقد بقي الاتفاق على منهج إثبات الصفات لله عز وجل، ونحن في الطريق لذلك بإذن الله تعالى.
العرش والأسئلة المتوجهة إليك والتي أجبتَ فيها بما نجزم به ببطلان مذهبك!
سألتك عن نصّ عن الصحابة يقولون فيه بمثل ما تقول، من أنّ العرش هو مجموع الصفات، أو أن العرش نوعان، أو أنّ "رب العزة كرب العرش"، فما جئتَ بنصٍّ واحد يقول فيه أي واحد من الصحابة ولو في أثر ضعيف يقولون فيه بمثل قولك في معنى العرش، وسألتك عن قول ابن مسعود رضي الله عنه (والله فوق العرش)اهـ، ولمَ لم يقل ابن مسعود "فوق عرش العز" والحاجة داعية لهذا البيان، وابن مسعود رضي الله عنه لم يكن عي اللسان، فكان جوابك (وكلام ابن مسعود يؤول لكلامي، والألفاظ تتشابه)اهـ، وهذا ليس فيه جوابًا لسؤالي عن السبب في عدم ذكر ابن مسعود للفظ "العز"، فإجابتك حيدة عن جواب السؤال لجواب سؤالٍ لم أطرحه أصلًا!
ذكرتَ في معاني العرش غير المخلوق أنه صفة التدبير(1) وصفة العزة(2) ومجموع الصفات (3)، وتوجه تجليات الله(4)، وفيوضات الربوبية والرحمة والملك (5)، وسألتك عن كيفية الجمع بين هذه المعاني المضطربة التي لا يمكن الجمع بينها، فإنّ "عرشه على الماء" لا يمكن أن تؤولها إلا من خلال التأويل الرابع، بينما "يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية" لا يمكن أن تؤولها إلا من خلال المعنى الخامس، في حين أن "استوى على العرش" تؤولها من خلال المعاني الثلاثة الأولى، فما كان ردك على هذا إلا أن أضفتَ معنى لا يحل الإشكال الوارد عليك في شيء، فقلتَ (اسم لصفات الله التنزيهية)اهـ، وهكذا ففوق كونك لا تجد دليلًا يصرح بهذه المعاني، فأنت لا تستقر على معنى واحد للعرش غير المخلوق، بينما لو أنك قلتَ بقولي وفهمت مثل فهمي لأعملت جميع النصوص بمعنى واحدٍ من غير تناقض ولا اضطراب!
وسألتك عن احتمال لسان العرب لحمل العرش على معنى مجموع الصفات التنزيهية، فأجبتني بكلمتين من القاموس المحيط، وقد سبق ذكر قيمة هذا الأسلوب في هذا المقام من البحث، وسألتك عن نصٍّ في الكتاب أو السنة أو أقوال الصحابة أو القرون الخيرية فيه صراحةً أن العرش هو صفة التدبير أو العزة أو مجموع الصفات، فلم تأتني بشيءٍ، وادعيت أن العرب كانوا يعرفون بفطرتهم الجاهلية أن العرش بمعنى الصفات، وسيأتي رد استدلالك بفهم عرب الجاهلية وبيان أنه حجة عليك لا لك!
تنبيه: تأخذ عليّ أني أمسك عليك بالحرف في قولك (عرشه هو هو وهو صفاته وهو تجلي صفاته)، فجعلت الله هو العرش، رغم أن هذا هو حرفك الذي لم تعتذر عنه، ولم تقل إنه سبق قلم أو سوء بيان، فكيف لا آخذك به حتى تعود عن هذه السقطة وهي مصيبة المصائب!
تلك حجة عليك لا لك!
(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ).
تزعم أنّ هذه الآيات الكريمة حجة لك، بينما هي حجة على بطلان قولك، فأنت تزعم أنّ العرب لم يكونوا يعرفون العرش المخلوق الذي أؤمن به، وبالتالي فهم عرفوا العرش العظيم من خلال فهمهم الفطري، وعليه فقد فهموا أن العرش بمعنى العز، والرد على ذلك من وجوه:
أولًا: كنت أقول إن العرش المخلوق أمر يسير المأخذ في فهمه، يدركه العوام بسهولة إن بين لهم، فكنت تستنكر عليّ ذلك وتقول إن العوام ليسوا بجديرين بفهم الأشياء العليا بالقرآن، وهاأنت تقول إن العرش على المعنى الذي تدعيه، والذي جعلته من الأسرار العليا في القرآن، يدركه جماعة من المشركين، قال الله فيهم في سياق هذه الآيات الكريمات: (بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ) (قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) (قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) (وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، فمن أجل أن تجعل العرش صفة العز جعلتَ المعنى الذي تجعله من أسرار القرآن العليا، مما يدركه الظالمون الكاذبون المشركون بالفطرة! فليت شعري كيف جعلتَ مشركًا كاذبًا ظالمًا يفهم بفطرته من "أسرار القرآن العليا" ما تنفي فهمه عن مسلمٍ عاميٍّ ما اجتالته الشياطين عن فطرة الإسلام!؟!
ثانيًا: لقد نسيتَ أنّ الله قال في هذه الآية (السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ)، فمن أين عرف المشركون أنّ السماوات سبع؟! والإيمان بكون السماوات سبعًا مما لا يُعرف إلا بطريق الوحي، وعليه فيلزمك القول إنّ العرب كان فيهم بقية من آثار الأنبياء، فكانوا يؤمنون بسبع سماوات، وعندها يلزمك أن تقر أنهم كانوا يؤمنون بالعرش المخلوق كذلك.
ثالثًا: غاية ما عندك أن يكون عدم علم بمعرفة المشركين للعرش المخلوق، وقد أجمع العقلاء أن عدم العلم لا يعني علمًا بالعدم، وفي هذه القضية هناك احتمال أن يكون العرب عرفوا العرش العظيم من أهل الكتاب أو من بقايا الحنيفية، وبوجود هذا الاحتمال يلزمك أن تثبت أنّ العرب لم يكونوا يعرفون العرش المخلوق .. وهذا مطلبٌ دونه خرط القتاد!
رابعًا: نحن لا نكتفي بما سبق، فلا نكتفي باحتمال معرفة العرب للعرش المخلوق، وعجزك عن إقامة البرهان على خلاف ذلك، بل نقول إنه قد جاءنا الدليل على أن العرب عرفت العرش المخلوق، قال ابن الجوزي في زاد المسير (قال الخليل بن أحمد: العرش السرير، وكل سريرٍ لملك يسمى عرشًا، وقلما يجمع العرش إلا في اضطرار، واعلم أن ذكر العرش مشهورٌ عند العرب في الجاهلية والإسلام، قال أمية بن أبي الصلت:
مجدوا الله فهو للمجد أهل *** ربنا في السماء أمسى كبيرًا.
بالبناء الأعلى الذي سبق النا *** س وسوى فوق السماء سريرًا...)اهـ، فهذا دليل على أن العرب عرفت العرش بمعنى السرير قبل الإسلام.
خامسًا: في قوله تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ)، والذي أعتقده جزمًا أن العرب كانوا يعرفون معنى الرحمن وليس المقام مقام بيان معنى الآية الكريمة، ولكن هنا إقامة للحجة من كتبك، أقول إن صاحب تفسيركم الكبير يقول أن المشركين (بسبب حرمانهم من علوم السماء كانوا لا يعرفون ما يتضمنه لفظ الرحمن من مفهوم دقيق يقدمه الإسلام)اهـ، وقياسًا على هذا فأنت مطالب بإثبات أن المشركين كانوا يعرفون عرش الله بمعنى عزه، ذلك المعنى الذي جعلته من "الأسرار العليا في القرآن"، فهل عندك من برهان فتخرجه لنا، نرى به أن عرب الجاهلية عرفوا العرش بمعنى العز؟!
استدلالك على أن العرش صفة (!) بقوله تعالى "ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ".
قلتُ لك قبل ذلك في ردّي على هذه النقطة (وهناك أوجه أخرى للرد ولكن هذا يكفيني!)، وكنت أحسب أن الأمر واضح جدًّا، تكفي فيه بعض الوجوه، وإنه لكذلك، فهاك بعضًا آخر من وجوه الرد، وليست كلها، والحمد لله الذي أقام على ظهور الحق وهوان الباطل براهين عديدة، وأحسب أنّه لم يبق لك من نصّ تتعلق به في هذا الفهم الباطل لمعنى العرش سوى هذه الشبهة، فإن زالت وجب عليك اتباع الحق بعدما تبين!
خلاصة استدلالك أنك استقرأت نصوص الشرع جميعها، وخرجت بهذه القاعدة (اطرد استعمال ذو في القرآن عن الله خاصة لصفاته، أو لممتلكاته من الكمالات، لا لممتلكاته المخلوقة)اهـ، وبمجرد النظر يتضح أن الأمر ليس من استقراء النصوص في شيء، وإنما هو قاعدة وضعتها ابتداءً ثم أخذت تقول في النصوص بما لم تسبق إليه، لتصح لك قاعدتك!
أولًا: ائتني بواحدٍ قبلك من أهل العلم في القرون العشرة التالية للهجرة استقرأ هذه القاعدة، واستدل بها على ما ذهبت إليه، لأني لا أعتقد أن الأمة كانت على ضلالة وفي غفلة في هذه المسألة قرونًا عددًا حتى أتيتَ بهذه القاعدة التي ما عرفوها.
ثانيًا: قال تعالى (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ).
وقد أجمع أهل التفسير وأهل اللغة أن "المعارج" تعود إلى مخلوق، وإن اختلفوا في المقصود منها، وأنتَ نقلتَ قبل ذلك قول الرازي " فأما وصف الله بأنه ذو المعارج فقد ذكرنا الوجوه فيه"، فهل عرفتَ هذه الوجوه وعرفتَ أنها كلها تعود إلى مخلوق! إنّ الرازي قد ذكر ثلاثة معانٍ ويضيف من عنده واحدًا، فذكر أن المعارج هي السماوات أو النعم أو الدرجات في الجنة أو الملائكة، ولا يقول عاقل أنّ السماوات أو النعم أو الدرجات في الجنة أو الملائكة صفة من صفات الله، وقال ابن الجوزي في معنى المعارج (فيه قولان، أحدهما أنها السموات ... والثاني أن المعارج الفواضل والنعم)، ولا يقول عاقل إن السماوات أو النعم صفة من صفات الله، أضف إلى هذا أنّ قواميس اللغة جميعًا ليس فيها ذكر لمعنى للمعارج إلا وهو عائد إلى مخلوق، ولذلك فما قمتَ باختراعه من معنى بقولك إن المعارج هي (إتمام النعمة) هو مما لم يذكره أحد من أهل التفسير ولا اللغة فضلًا عن أن يكون قد ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة الكرام.
قال ابن عاشور رحمه الله: ("المعارج" جمع مِعْرَج - بكسر الميم وفتح الراء - وهو ما يعرج به، أي يصعد من سلم ومدرج ....فهي معارج جعلها الله للملائكة فقرب بها من منازل التشريف، فالله معرج إليه بإذنه لا عارج، وبذلك الجعل وصف الله بأنه صاحبها أي جاعلها، ونظيره قوله تعالى "ذو العرش") اهـ.
هكذا إذن .. فاشتقاق الكلمة ووزنها، ومبناها ومعناها، وإجماع أهل اللغة وإجماع المفسرين، كلها على الضد مما أنت عليها من أن "المعارج" صفة من صفات الله تعالى، بل المعارج مخلوقة، والله صاحبها أي جاعلها، وتكون "ذو" في هذه الآية الكريمة أضيفت إلى مخلوق لا صفة من صفات الله تعالى، وهذا مثل قوله تعالى "ذو العرش المجيد"، وهذا وحده كفيل بإثبات أن القاعدة – التي لم تسبق إليها – مبنية على استقراء ناقص لنصوص الشرع!
فأنت هنا مطالب بإخباري بسلفك في هذه القاعدة، وسلفك في تفسير معنى المعارج بأنه "إتمام النعمة"، وسلفك في اعتبار "المعارج" صفة، ثم أنت مطالب ببيان صواب قولك في مقابل أقوال أهل اللغة والعلم السابقة، ثم أنت مطالب ببيان الرد على سؤال: كيف يكون قولك صوابًا ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة رضي الله عنهم؟؟ بل نقل عنهم خلاف ذلك!
ودونك سبيلٌ آخر، يسيرٌ واسعٌ ومستقيم، وهو أن تستعيذ بالله من القول عليه بغير علم، وادعاء أنّ هذا معنى كلامه ليًّا لأعناق النصوص، فتقر أنّ المعارج مخلوقة، وأن القاعدة التي استقرأت غير صحيحة!
وهناك أوجه أخرى للرد ولكنّ هذا يكفيني ويكفي كل منصف.
الكرسي!
كلّ ما أوردته في اعتراضك على أن الكرسي هو موضع القدمين، كلّ ما أورته يعود إلى شيءٍ واحد فقط، وهو التمثيل أو (بسبب التشبيه الواضح) كما قلتَ، فأنت تتصور علاقة حجمية بين الكرسي والعرش وأن ما بين الكرسي والعرش من داخل الكون، وأن وضع الله تعالى قدمه في النار لا يمكن تصوره إلا على سبيل "التشبيه الواضح" .. ومن خلال هذا السبب الوحيد رفضت الرواية الصحيحة، وأثبت الرواية ضعيفة الإسناد، وزعمت أن ذلك فيه تنزيه لله تعالى..!
أولًا: إنني لو وافقتك على أن الكرسي هو العلم، وسألتك عن "كيف علم الله؟" فإنك لابد قائل "لا أدري!"، ولذلك فأنا أقف عند ظاهر النص، مستدلًا بالصحيح المحفوظ عن ابن عباس رضي الله عنه، فإن جئت تسألني "كيف الكرسي موضع القدمين؟!" فإني لابد قائل "لا أدري!"، فهذا هو الفرق بيننا، أنك تؤول النص بغير دليل صحيح، وفي النهاية تقول "لا أدري!"، بينما أنا أثبت المعنى الذي وصفه الرازي بأنه الظاهر، وأقول "لا أدري!" ... فأي فرقٍ بين تفويض الكيفية في الحالين حتى تخوض في الكيفية في الحالة الثانية وتشنع بها وتتوقف عن الخوض في الكيفية في الحالة الأولى؟!
ثانيًا: ما هو جوابك على من جاءك ليقول: كيف يكون العرش من أول ما خُلِق والخشب لم يكن قد خلق بعد؟؟ وكيف يكون العرش من خشب بينما الخشب خلق بعد وجود العرش؟! وكيف تم أخذ مقاس العرش رغم أن الوحدات المترية وأجزاؤها ومضاعفتها لم تخلق بعد؟! وكيف علا الله فوق السماوات؟! وكيف يكون الله قريبًا من خلقه في بعض الأحوال!؟ إلى غير ذلك من أسئلة هي أقرب إلى الجهالة منها إلى التعلم! فإنّ جوابك على هذه الأسئلة هو جوابي على كلامك عن الكرسي والقوائم وغير ذلك من قياسٍ على عروش ملوك الدنيا!
ثالثًا: إنّ عرش الله تعالى ليس كعرش ملوك الدنيا، فعروش ملوك الدنيا زائلة وعرش الله ليس يزول، وعروش ملوك الدنيا تكون في رقعة صغيرة من ملكهم، وكرسي الله تعالى وسع السماوات والأرض، وعروش ملوك الدنيا يعملها لهم الحرفيون من مادةٍ ليس لملوك الدنيا حيلة في خلقهم ولا خلقها، وعرش الله تعالى خُلق بقوله "كن" فكان، وعليه فقيام تصورٍ في ذهن البشر عن الكرسي والعرش الواردين في النصوص، لا يكون إلا من باب القياس على أجسام ملوك الدنيا وهيئة جلوسهم وكراسيهم وعروشهم، وهذا التصور فاسد والقياس الذي قام عليه من أفسد ما يكون، فتأويلك النصوص ورفضها بناء على النسب الحجمية وغير ذلك، هو تأويل النصوص بناءً على تصورٍ فاسدٍ لا قرينةٍ صحيحة، فبقي الأمر على الأصل وهو حمل النص على الظاهر.
رابعًا: إنّ الله تعالى فوق العرش وفوق الكرسي، ولا نقول إن قدميه سبحانه "في" الكرسي، بل نقول إنه تعالى فوق الكرسي، فتصورك غير أنه قائمٌ على قياسٍ فاسدٍ كما في "ثالثًا"، فهو كذلك قائمٌ على فهمٍ خطأٍ للنصوص الواردة، كمثل قول ابن عباس رضي الله عنه (الكرسي موضع القدمين).
خامسًا: أعجب ردٍّ قرأته لك وأغربه، هو ردك على قول ابن كثير في أن "موضع القدمين" هو النص المحفوظ عن ابن عباس، وقول الحاكم إنه على شرط الشيخين، كان ردك بإيراد كلام عن معنى "يضع قدمه في النار" من القاموس المحيط، وهذه من أغرب حيدة لك في الجواب!
سادسًا: كنتَ تجعل ما روي عن ابن عباس (كرسيه علمه) في حكم المرفوع لأنه حديث عن غيب خالص، وقد تبين أن الإسناد ضعيف، وأن الرواية المحفوظة الصحيحة هي (الكرسي موضع القدمين)، فما يمنعك أن تقول إنها في حكم المرفوع بخلاف تصور النسب الحجمية الذي سبق بيان فساده؟!
سابعًا: الحديث: (يا أبا ذر! ما السموات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة!)، قدّرتَ محذوفًا بغير دليل فقلت المقصود "علم السماوات السبع"، وهذه زيادة على كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير دليل، وزعمك أنّ هذا "حذف لمعلوم" فدعوى فارغةٌ عن أي دليل، وحوارنا هذا خير قرينةٍ على ذلك، فأنت تزعمه معلومًا وتقدر محذوفًا وأنا أراه غير معلومٍ ولا سائغ حذفه، وأمر النص كما جاء، ولا أنصرف عن ظاهر النص بغير دليل، ومن تقوّل عليه صلى الله عليه وسلم متعمدًا فليتبوأ مقعده مما قد علمتَ، وعليه فإنّ الصواب هو الأخذ بالظاهر الذي لم تقدم في صرف المعنى عنه سوى تصورٍ فاسد!
ثامنًا: نفيك أن يكون لله تعالى (جوارح تشعر بالتبعيض)، فهاهنا لفظان لم يردا في الكتاب ولا السنة وهما (الجوارح) و (التبعيض)، ولو أنك تعمل بما اتفقنا عليه لتوقفتَ عن استعمال هذه الألفاظ المحدثة ونفيها بإطلاق من دون تبيين المعنى، والذي يعنيني أنّي أثبت لله تعالى اليد والوجه والقدم التي جاء بها ظاهر النصوص، ولم ينقل عن الصحابة رضي الله عنهم تأويلها، وأثبتها على وجه يليق بجلال الله تعالى وكماله، دون تمثيل أو تعطيل، وهذه الطريقة – وهي طريقة السلف الصالح – ليس فيها مخالفة لشيء من النصوص، بل هي إعمال لجميع النصوص وأخذٌ بها، ولا يلزمني الخوض في ألفاظ لم ترد في الشرع، وردي عليها كردك على الجهمي حين ينفي العلم والقدرة من خلال تنزيه الله عن "الحوادث"، فهذه منه كتلك منك! استعمال ألفاظٍ محدثةٍ ومعارضة الشرع بها!
تاسعًا: نفيك وضع الله تعالى قدمه في النار، فنحن لا نعرف كيف شكل جهنم، ولا كيف قدم الله تعالى، ولا كيف يضع قدمه على النار، وعليه فنفيك هذا بناءً على تصورك له، هو نفي لما لم تحط بعلمه ولما يأتك تأويله، ويكفينا أن نقول "لا نعلم الكيفية"، وإن كنت تقول في قربه تعالى من خلقه في بعض الأحوال، وإن سئلت عن الكيفية قلتَ "لا أدري"، فكذلك ينبغي أن تتعامل مع هذا النص عن هذا الغيب، فتمره كما جاء وتقول " لا أدري عن الكيفية"، وليس في النص أن جهنم تتموضع فيها قدمه تعالى وتحتويها حتى تذهب للتأويل، فالله تعالى فوق جهنم ووضعه قدمه عليها أو فيها – والحرفان واردان في الأحاديث – لا يلزم منه هذا التصور الفاسد، وما نقلته عن ابن الجوزي من أنه وضع مقدمي الكافرين، فيخالف النص لأنّ النص فيه أنّ ذلك يكون بعد أن يدخل أهل النار النار، والحديث (يُلقى في النار أهلها، وتقول هل من مزيد؟! حتى يأتيها الله تعالى فيضع قدمه عليها فتقول: قط قط).
عاشرًا: حتى لو سلمت لك جدلًا بأن المقصود بالكرسي هنا العلم، فهذا لا يعني أن الكرسي الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم (ما السموات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة!)، والذي اقترن فيه الكرسي جمعًا مع السماوات السبع المخلوقة، لا يعني هذا التسليم الجدلي في الكرسي الوارد في القرآن أنه العلم، أن الكرسي الوارد في الحديث الصحيح وفي الأثر الثابت عن ابن عباس ليس بموجود! وعليه فما تفر منه من خلال حمل الكرسي في الآية على العلم لا يفك عنك ما يلزمك من أخذٍ بظاهر الحديث والأثر!
حادي عشر: بينت لك السياق، وأن ورود قوله تعالى "وسع كرسيه السماوات والأرض" بعد "ولا يحيطون بشيءٍ من علمه"، يدل على أنّ الحديث عن معنى إضافيٍّ على العلم، فانتقل إلى حديثٍ عن كرسيٍّ ليس ككراسي ملوك الدنيا، يكون في رقعةٍ صغيرةٍ من ملكهم، ودرايتهم بمملكتهم لا تتخطى نطاق حواسهم وهم على الكراسي، إلا أن يستعينوا بغيرهم من الوزراء والشرط والعيون، أما كرسيه تعالى فقد وسع ملكوت السماوات والأرض، وبالتالي فهو سبحانه محيطٌ بهذه المملكة، لا يؤوده حفظها، فقال تعالى (ولا يؤوده حفظهما)، فالحديث للمخلوقات عما يعاينونه من ملكوت السماء والأرض، ولم يقل "حفظهم" لا شمولًا للكرسي ولا للسماوات التي وردت جمعًا، لأنّ المقصود إرشاد بني آدم إلى ما يرونه من السماء والأرض، وكيف سار أمرهما بمقتضى الحفظ، فيدلهم ذلك على الحفيظ، وهذا المعنى من العود إلى السماوات والأرض وإن وردت السماوات جمعًا بالمثنى، تجده في قوله تعالى (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)، وقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)، كما قال ابن عاشور رحمه الله (وأسند فعل "زالتا" إلى "السماوات والأرض" على تأويل السماوات بسماء واحدة)، فعلى هذا يكون في قوله تعالى (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا) إثبات كمال العلم، وكمال الملك، وكمال القيومية والحفظ، وتأويلك لا يتطرق إلى كمال الملك الذي هو من مدلول ظاهر النص بإثبات الكرسي المخلوق، فإن أضفت إلى ذلك الرواية الصحيحة عن ابن عباس رضي الله عنه، الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يفقهه في الدين ويعلمه التأويل، ظهر لك أن الحق في أن الكرسي المقصود مخلوق.
المسيح الحق الموعود عيسى عليه السلام ونزوله آخر الزمان!
أصدقك القول – ضميمة نفسي وإمحاضًا للنصح – أنّي كنت أتوقع أن تنطلي أقوال الميرزا ومن خلفه على ضعفاء العقل، مثل قولهم إنّ المسيح ليس في السماء لأنه لا يؤدي الزكاة! ونفيهم رفع المسيح إلى السماء لأنّ في الأرض سعة! أو تفسير الربوة على أنها كشمير! وكنتُ أتوقع ألّا تظهر هذه "الاستدلالات!" في حوارنا، ولكن آل الأمر إلى ما قد علمت، وصرتَ محوجًا إلى النقل عن كل منخنقةٍ وموقوذةٍ في مقابل الأدلة الصريحة الواضحة!
ولو أنك تصورتَ نفسك على الحقيقة، لوجدت نفسك تأخذ ببعض النصوص، فتؤولها وتقول فيها بما لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بل بما قالوا خلافه، ثم تتوجه إلى نصوص عودة المسيح عليه الزمان، فتؤولها بحجة أنّ النصوص الأولى تعارضها!!! بينما الواجب أن تأخذ كل النصوص وتجمع بينها فتخرج بعقيدة واحدة، هي عقيدة أهل السنة والجماعة التي ترفضها!!
حتى لا نفقد بوصلة الحوار!
يُفترض أن نتساءل من حين لآخر عن الغاية من إقحام هذه المسألة أو تلك في الموضوع الأصلي، فما هي الغاية من استشهادك بـــ (1- مسألة العرش)؟ غايتك هي تأويل (2- صفة العلو) لتبرر به تأويلك (3- لرفع المسيح) الذي ترى أنه ينفي (4-عودة المسيح)، والحقيقة أن التسليم الجدلي بـ(1) لا يفيد (2)، والتسليم بـ(2) لا يفيد (3) والتسليم بــ(3) لا يفيد (4).
لأن إدخالك للعرش في صفات الله لا يعفيك من أي نص صريح يثبت أن الله فوق سبع سماوات، إلا إذا جعلتَ السماوات هي الأخرى صفات إلهية حالها كحال العرش، والاسترسال في تأويل المزيد من النصوص المتعلقة بصفة العلو أو أية صفة تشير إلى علاقة الله بالمخلوق لا يبرر الازدواجية التي تُبطل منطق التنزيه لديك من أساسه: فلا يوجد أي سبب نقلي أو عقلي يجعلك تميز بين الأبعاد الكونية، فتقبل علاقة الله بظرف الزمان وترفض علاقة الله بظرف المكان، رغم أن أبعاد "الزمكان" من المنظور الفيزيائي هي ضمن نفس النسيج الكوني، ولا أتوقع أي جواب على هذه الازدواجية غير المبررة لأنه لا يوجد جواب!
إما أن تقبل العلاقة الحقيقية بين الله وكل الأبعاد المخلوقة – في إطار ظاهر النصوص – دون تمييز ودون أن تستنتج من تلك العلاقة خضوع الله لأي حيز مكاني أو زماني.. أو تنكر جملة وتفصيلًا علاقة الله الظرفية بكل تلك الأبعاد، فتنكر أن الله كلم موسى ((قبل)) و((بعد)) حدثٍ معين، وتنكر أن الله يدبر أمر الكون ((الآن)) ويراك ويسمعك ((الآن)) على وجه الحقيقة بحجة أن (الآن/وقبل/وبعد) لها إسقاطات فيزيائية حقيقية وليست "إسقاطات معنوية"! ومع ذلك فإن التسليم جدلاً بتأويلك لعلو الله لا ينفي بأي حال رفع جسد المسيح! وأيضاً التسليم جدلاً بتأويلك لرفع المسيح لا ينفي عودته، والأدلة على ذلك ستأتي تباعًا إن شاء الله.
لماذا تأويلك لصفة علو الله لا ينفي رفع جسد المسيح؟
لأنك في الأصل أفرغتَ كلمة {إِلَيّ} من معناها الظاهر ليصبح قوله تعالى {رَافِعُكَ إِلَيّ} يفيد فقط {رَافِعُكَ} دون الإشارة إلى الفوقية! فما علاقة الآية في هذه الحالة بعلو الله؟ لا يوجد أي منطق يجعل فهمك لصفات الله ينفي مثلا رفع الله للطير في العنان أو رفع جسد أي مخلوقٍ آخر إلى ما شاء! أما إن كنت تناقش فهم مخالفيك لظاهر النص، بذلك تسقط في ازدواجيةٍ أخرى لأنك إن اعتبرت رفع جسد المسيح {إِلَى} الله يفيد تشابه (علو جسد العبد) بــ(علو ذات الله فوق سبع سماوات)، عليك وبنفس المنطق اعتبار رفع مقام المسيح {إِلَى} الله يفيد تشابه (علو مقام العبودية) بــ(علو مقام الألوهية)! فأنت أيها الفاضل بين خيارين لا ثالثة لهما: (1) إن أوّلت كلمة {إِلَيّ} تهدم كل ربط بين علو ذات الله وبين رفع جسد المسيح، (2) وإن لم تؤولها تسقط في الازدواجية السابقة.
أما أهل السنة فلا حاجة لهم إلى ذلك التأويل لأنهم لم يستنتجوا تشابه علو ذات المسيح بعلو ذات الله فوق السماء ولا تشابه علو مقام المسيح بعلو مقام الألوهية.
لماذا تأويلك لرفع المسيح لا ينفي عودته؟
حتى إن سلمتُ لك جدلاً - أقول جدلاً- بالرفع المعنوي للمسيح فهذا لا يمنحك أية حجة تجعلك تنكر الأحاديث الصريحة التي تثبت عودته، ولا يستقيم ربطك بين (نفي رفع الجسد) وبين (نفي العودة) إلا إذا اشترطتَ أن الله لا يحفظ أجساد عبيده إلا في السماء، أما إن آمنت أن الله حفظ مثلاً أجساد وأرواح أهل الكهف لمئات السنين قبل إعادتهم إلى الحياة الواعية دون رفعهم، بذلك يصبح تأويلك لرفع المسيح لا يقدم ولا يؤخر في مسألة عودته، ويكون عندها إعمال النصوص جميعًا بالقول بعودة المسيح بعد موته، إذاً يفترض أن نناقش المحاور الرئيسية الثلاثة (1-صفة علو الله) و (2-رفع المسيح) و (3-عودة المسيح) دون أن نتوهم أن تأويلك لعلو الله ينفي رفع جسد المسيح ودون أن نتوهم أن تأويل الرفع ينفي العودة.
إرشاد ذوي الحجى، إلى أن البلا، ليس من "إلى"!
أوشك أن أضع في ذلك رسالةً مفردة .. لا أدري ماذا أقول أكثر من ذلك حتى تفهم أن فهم "إلى" ليس هو مكمن (جذور المشكلة كلها) كما تقول، وأنت – فيما يبدو - في طريقك لمزيد من الاستقراءات والقواعد المخترعات، فتقول (لو جمعت لك من القرآن المقرونات بحرف "إلى" ولا تدل على تقريب المسافة بين الذوات ولا انتقالات مكانية لجمعت لك كما هائلا)، وأرجو ألّا تنسى قولك ("إلى" لا ترمي لمعنى الحركة دائما بل تعني الاقتراب الروحي)، فأنت تقر أنّ الغالب أنّ "إلى" تأتي لمعنى الحركة، حتى لا تأتي ساعة تصل بالاستقراء إلى أن "إلى" لا علاقة لها بالقرب الحركي!
وحتى تفهم أنّ "إلى" ليست هي مكمن المشكلة، وبالتالي تضع يدك على المشكلة، وبالتالي تكون أهلًا لحلها قبل أن تزعم أنك قد أتيت بحلها، فاعلم أنّ الرازي استعمل إلى على الوجه الذي تستعمله أنت، وقوعًا في التأويل الباطل، فقال (المراد إلى محل كرامتي ، وجعل ذلك رفعاً إليه للتفخيم والتعظيم ومثله قوله {إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى})اهـ، وهذا هو نفس قولك في "إلى" أليس كذلك؟! ورغم ذلك فإنّ الرازي يقول في مسألة رفع المسيح والتوفي بمثل قولي، ويقول إن المسيح عليه السلام بروحه وجسده قد رفع إلى السماء، فهل هذا واضح؟!! المشكلة ليست في "إلى" أصلًا!! وليس كل من يفهم "إلى" بمثل فهمك ينفي رفع المسيح إلى السماء، فهل هذا واضح؟!؟ هل هذا واضح؟!
إبطال تعلقك بفهم اليهود والنصارى للصلب!
كيف نفى الله اللعنة التي لا وجود لها إلا في عقول أهل الكتاب؟!
تقول إنّ الصلب يتعلق به اليهود بغية (أن يصنعوا دعاية ضده)، ويتعلق بها النصارى بصفتها (سند لنظرية الفداء حيث صلب وحمل اللعنة)، وبالتالي ترى أن قوله تعالى (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) ردٌّ عليهم بأنه لم يصلب ولم يقتل، زاعمًا أن في هذا "إبطال تصورهم بنفي القتل على الخشبة بعد أن تفاجؤوا بنجاة جسده" بعد أن " تترامى الأخبار أنك –أي المسيح عيسى عليه السلام - ناج"، وتقول أن ذلك "يثير الحسرة في قلب المتكلمين على مريم وولدها"، هذا هو قولك ومتعلَّق فهمك!
والجواب: أنّ هذا يصح لو أن اليهود والنصارى علموا بأنّه لم يصلب، و "تفاجؤوا بنجاة الجسد" كما تقول، وهذا القول لا يصح أبدًا إذ هو مناقضٌ لصريح القرآن علاوةً على مناقضته للواقع ولما هو مسطر في التلمود، فاليهود لم يكتشفوا نجاة المسيح من الصلب، فضلًا عن أن تحصل لهم بها مفاجأة، ولم يعتقدوا قط بما تقول، بل اعتقدوا بما أخبرنا الله عنهم {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ}، ولم يتوقفوا إلى يومنا هذا عن {قَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا}، ولو آمنوا حقًّا بنجاة المسيح لما نسب الله إليهم ظنًّا لا علاقة لهم به ولما كان هناك داعٍ من نفي الله لذلك الظن بقوله {ومَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ}، والأمر لا يختلف كثيرا عند النصارى فعقيدتهم أسست على حمل المصلوب اللعنة، وكل تلك العقائد لم تتبخر بل ما زالت قائمة، فكيف نفى الله تلك اللعنة؟! إن قيل إن ذلك "التطهير المعنوي من اللعنة" لم يكن الهدف منه تغيير ما في عقول الناس من أوهام وعقائد باطلة، فهو كذلك عديم القيمة عند الله لأنه سبحانه لا يلعن من يُقتل في سبيله!
فتأويلك هذا يصح لو كان الله تعالى أخبرنا أنّ اليهود والنصارى يعتقدون أن المسيح نجا ولم يصلب، أو لو كان اليهود والنصارى الآن يعتقدون أنّه ناج بعد أن ترامت الأخبار بذلك، فتصيبهم حسرة في قلوبهم، وحيث إن اليهود والنصارى مازالوا – كما كانوا – يعتقدون بأن المسيح قد صلب، فقولك ليس بشيء أصلًا، وهذا شديد الظهور في بطلان قولك!
وقولك "حين يعرف حواريوه أنه نجا، وبعد فترة يقولون للناس ما حدث، وهم الذين كانوا تابعين حقيقيين للسيد المسيح"اهـ، فهذا ليس بشيء كذلك، لأنّ الخبر لم ينتشر بالنجاة، والذي انتشر وانتقل وآلت إليه العقائد الفاسدة هو قول اليهود والنصارى بأن المسيح قد صلب، والقرآن يرد على من (شبه لهم قتل وصلب المسيح) وليس على من (تبينت لهم نجاته)، فكلامك هذا لا علاقة له بالآية التي لا ترد على من (تبيّنت لهم نجاته) بل على من (شبه لهم قتله وصلبه)، واستمروا في اتبعاهم للظن قبل وبعد نزول القرآن ويُستثنى من ذلك من أسلم منهم بالطبع، والطائفة التي {شُبِّهَ لَهُمْ} قتل المسيح هي نفس الطائفة التي قالت{إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ} وهي نفس الطائفة التي وصفها الله بالجهل وباتباع الظن {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْه مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } .. إذاً ذكر الرفع هنا هو رد على من شبه لهم قتله وصلبه كما يخبرنا القرآن، وليس ردًّا على من تبيّنت لهم نجاته كما تقول.
هل نفى الله القتل فقط؟
الله نفى قتل اليهود للمسيح {وَمَا قَتَلُوهُ} ونفى أيضا أمرًا آخر غير القتل {وَمَا صَلَبُوهُ}، إذًا عليك أن تقر أن الله نفى أكثر من حدث، وإلا أصبح المعنى (وما قتلوه وما قتلوه) وهذا مجرد تكرارٍ لا معنى له ولا يليق ببلاغة القرآن! إذاً { وَمَا قَتَلُوهُ } بأي حال سواء كانت وسيلة الإعدام هي الصليب أو السيف أو أي أداة أخرى، {وَمَا صَلَبُوهُ} هو نفي يضيف خبرًا آخر غير نفي القتل، فما هو ذلك الخبر غير نفي التعليق من أساسه؟ وإليك أيها الفاضل مقارنة بين كلامك وكلام الله:
* القرآن يقول: لم يقتلوه .. بل رفعه الله إليه، وأنت تقول: لم يقتلوه .. بل رفع الله اللعنة من عقول أهل الكتاب!!! وهذا قول مخالف للقرآن وللواقع كما سبق ذكره!
* القرآن يخبرنا: أنهم لم يقتلوا المسيح ولم يصلبوه، لكن شبه لهم (موته وصلبه على حد سواء)، وأنت تقول: أنهم لم يقتلوه ولم يقتلوه، لكن تبين لهم (انه نجا)... فتأمل!
ويبقى السؤال: كيف طهر الله المسيح من الذين كفروا؟ ومتى رفع الله "عقيدة اللعنة" من عقول اليهود والنصارى؟ السؤال الأهم: كيف مكر الله بمن تبينت لهم نجاته وتحسروا ثم توقفوا عن لعنه؟ هذه قصة لها علاقة "بآية!" لا وجود لها في القرآن تقول "ومكروا فهداهم الله"، أين هذا المعنى من قوله تعالى {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.
"فأقول كما قال العبد الصالح"
اتفقنا –ولله الحمد- أنّ التشابه المستفاد من لفظ "كما" لا يكون من كل وجه، وأنّ التشابه يكون في بعض الوجوه، وترى أن قوله تعالى (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ)، لا يعني تشابه المُوحى به، رغم أنّ اللفظ واحد "أوحينا إلى"، فبالمثل لا يلزم من قول النبي صلى الله عليه وسلم (كما قال العبد الصالح)، أن تكون طريقة الوفاة واحدة، رغم أن اللفظ واحد "توفيتني"، وبالتالي فالحديث خارج عن محل النزاع، ولا دخل لمدلوله بما اختلفنا فيه من طريقة الوفاة!
والمسيح عليه السلام يقول (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي)، ويقول (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا)، ولا شكّ أن قوله (مَا دُمْتُ فِيهِمْ) بدلًا من قوله (مادمت حيّا) في مقابل الوفاة له دلالة، فهذا كلام الله تعالى أبلغ الكلام وأحسنه، فالوفاة المذكورة في قوله "توفيتني" جاءت في مقابل "الديمومة فيهم" لا "الديمومة حيّا" كما جاء في الوصية بالصلاة والزكاة، وعليه فظاهر الآية أن التوفي المذكور توفي انتقال ورفع للروح والجسد يقابل الديمومة فيهم لا توفي إماتة يقابل الديمومة حيًّا.
" يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ"
سألتك ثلاثة أسئلة يظهر بها الحق، فأجبتَ "أولًا" وتركتَ "ثانيًا" و "ثالثًا"، وأنا أعزم عليك أن تتبرأ لله الآن من كل هوى للنفس وكل عزةٍ بالإثم، وأن تقف مع نفسك وقفة صدق، عندما تجد ثلاثة أسئلةٍ متوجهةً لقولك فتنتقي واحدًا تجيبه وتترك اثنين، أليس هذا هو فعل أهل الباطل وما يضطرهم إليه الباطل؟!
تقول إن قول الأنبياء "لَا عِلْمَ لَنَا"، هو نفي الرسل لعلمهم بجواب قومهم "بعدهم"، هذا هو التفسير الذي اخترتَه وهو الراجح عند بعض المفسرين، ولكنك من خلال هذا التفسير تنفي أن يعود المسيح آخر الزمان، لأنّ هذا يعني أنّه سيعرف عن بعض ما أجاب به قومه وما أحدثوه، وقد سألتك في هذا سؤالين فما أجبتهما وتركتهما عمدًا، وأنتَ مازلت مطالبًا بجوابهما، فهما مما يبطل قولك..
ثانيًا: إن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن هناك من سيحدث بعده، فقال صلى الله عليه وسلم (سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب أصحابي!، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، وقال (لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريبًا من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله)، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد علم في الدنيا أنّ هناك من سيحدث بعده، ولكنه لا يعلم تحديدًا من أحدثوا، فإن لم تستشكل ذلك، فلا إشكال أن يعلم عيسى عليه السلام بأنّ هناك من أحدث بعده في الدنيا، لكنه لا يعلم تحديدًا من أحدثوا!
وثالثا: إن النبي صلى الله عليه وسلم علم ببعض ما سيحدث من بعده، فقال صلى الله عليه وسلم (لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة)، فإن لم تستشكل ذلك، فكذلك لا إشكال أن يعلم عيسى عليه السلام ببعض ما أحدث بعده!
إلزام بما لا يلزم!
* * * تقول إنني (جعلت الأرض كفاتا لعيسى ميتا فقط وليست كفاتا له حيا هو بالذات، وجعلت أرض الله ضيقة عليه هو بالذات ليعبد الله)اهـ، وهذا ليس بصحيح لأنّنا لا نقول إنّ الله رفع المسيح إلى السماء لأن الأرض ضاقت عنه، بل رفعه الله تشريفًا وتطهيرًا، ولا نتألى على الله تعالى أن ينصر رسله جميعًا بنفس الطريقة! وعليه فكلامك لا يلزمني!
* * * تعلم بصفتك مهندسًا أنه لا يجوز تقييم أي حلٍّ دون المعرفة الكافية للهدف المراد تحقيقه، وعليه فقولك "الشيء الذي قد يجد ليجعل الرفع للسماء منطقيا نوعا هو أن سيدنا عيسى لا مجال أمامه للنجاة في أي بقعة من الأرض"اهـ، ففي شرطك هذا خلل منطقي مزدوج: لأنه حتى إن كانت الهجرة إلى الضفة المقابلة من الوادي، فسيبقى نفس السؤال عن قدرة الله حفظ العبد في الضفة الأولى، ولو التزمت بشرطك السابق لأنكرت هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم بحجة أن الله قادرٌ على حفظه في مكة، ولأنكرت هجرة موسى بحجة أن الله قادرٌ على حفظه في مصر، أما تساؤلك عن قدرة اليهود التحكم في كل الأرض سبقه افتراضٌ منك أن نجاة الجسد هي الغاية الوحيدة، وهذا بالطبع غير صحيح! فكما أن الخروج الذي أنقذ موسى هو جزء من رحلة عاد بعدها إلى مصر برسالة من الله، كذلك الرفع الذي أنقذ جسد المسيح هو جزء من رحلة لها غايات أخرى، الفرق الوحيد هو أن هجرة المسيح لم تكن إلى مكان بل هي هجرة إلى زمن سيعود فيه ليكسر الصليب ويقتل الخنزير وليتبرأ من الذين عبدوه في غيابه.
* * * أما مقارنتك بين سهولة نقل الجسد من أرض إلى أرض وبين "صعوبة" رفع الجسد إلى السماء هو طعن صريح في قدرة الله، ولا أدري كيف افترضت أن الله يحتاج "لألف مليون كلمة" ليرفع المسيح؟!! ثم تستنتج بعد ذلك أنه من الأهون على الله أن يبيد اليهود بكلمةٍ واحدة!! وهذه مسألة شنيعة يغني بطلانها عن إبطالها!
* * * تشبيه المسيح بآدم عليهما السلام، تقدّم أنّ قولنا لا ينافي هذا، وردّك ليس فيه شيءٌ لا أقول به، وليس فيه سؤالٌ واضح، وهذا سأعتبره اقتناعًا!
* * * قلتُ لك ألا مانع من أن يقابل النبي صلى الله عليه وسلم عيسى عليه السلام في السماء ليلة المعراج، ويكون المسيح بجسده في السماء، فقلتَ (الجسد لا يرى الروح)، تقصد أنّ المسيح جسدًا وروحًا لا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم روحًا، ودون خوضٍ في إثبات أن معراج النبي صلى الله عليه وسلم كان بالجسد، أقول إن قولك (الجسد لا يرى الروح) هو قاعدة من اختراعك لا أكثر، ولا يعني أنك لا ترى الروح وهي تخرج أنّ كل جسدٍ لا يرى أية روح، كما أنّ عدم رؤيتك للملائكة لا يعني أنّ كل جسدٍ لا يرى أي ملك ولو كان صاحب الجسد نبيًّا، وليس في عرف الناس كافة أن تلزم محاورك بقاعدة من اختراعك لا دليل عليها من كتابٍ ولا سنةٍ ولا أثرٍ ولا قياسٍ سليم!
* * * أما قولك (ويلزمك لو كان عيسى حيا هناك بالجسد أن يحضر لرسول الله صلى الله عليه وسلم محمد، وأن ينصره طبقا للميثاق الذي أخذه الله عليه لو جاءه مصدق لما معه وهو حي أن يؤمن به وينصره.. فلا تستثنه) فما كنتُ أتوقع أن يأتي يومٌ أرد على حجة كهذه!! فعيسى عليه السلام يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وعندما ينزل آخر الزمن ينصره، أما أن تتصور أنّ عيسى مطالب بالنزول من السماء – وكأنّه صعد بقدرته! – وحيث إنه لم ينزل فبالتالي فهو ليس في السماء!! فهذا من المنطق المنكوس والقياس المعكوس! والله المستعان!
* * * وفي شبهٍ بالسابق تقول (ويلزمك لو كان عيسى حيا هناك بالجسد .. أن ينطبق عليه قول الله تعالى بسورة مريم: وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حيا. فلابد مادام حيا حتما أن يزكي، ولابد للزكاة من مصرف محتاج، وعليه فلابد أن يخلق الله له الفقراء هناك ليتصدق عليهم وهو محال فما أدى للمحال فمحال وهو حياته هناك)اهـ، والجواب: إذًا عليك أن تنكر طفولة المسيح لأنه لم يكن يزكي بنفسه! وتنكر وجود المسيح على الأرض في أيام فقره، وتنكر وجود كل فقيرٍ مؤمنٍ على وجه الأرض بحجة أن الآية التالية لم تذكر شروط الزكاة {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }! وتنكر وجود الخلافة الإسلامية بأسرها حين لم يجد عمر بن عبد العزيز فقيرًا مستحقًا للزكاة، بحجة أن الله لم يخلق حينها فقراء ليتصدق الناس عليهم! وتشترط أن يخلق الله فقراء لكل بحارةٍ مسلمٍ وجد نفسه في جزيرةٍ نائية وإلا فهو غير موجود في هذه الجزيرة!! القرآن موجه للعقلاء يا سيدي ومعلوم أن للزكاة شروطًا كالقدرة ووجود المحتاج، فانظر هل تنطبق تلك الشروط على كل مسلمٍ على وجه الأرض، قبل أن تنظر إلى من هم في السماء.
* * * وخشيتك من إثبات ما جاء في النصوص، خشية أن (يتكالب علينا المنصرون)، أو أن (تشدد عزم المنصرين)، فليس من حقك ولا حقي أن ننفي شيئًا ثبت بالدليل مخافة تشنيع المضلين، وربما خرج علينا من ينفي ولادة المسيح من غير والد، بزعم أنّ هذا لم يتحقق لنبينا وهذا يشدد عزم ويساعد على تكالب المنصرين، والرد على هؤلاء المبطلين أنهم عاجزين عن بيان وجه التفضيل! إن كانت العودة إلى الحياة الدنيا هي المعيار لكان أهل الكهف الذين توفاهم الله في منامهم وحفظ أجسادهم أفضل من الأنبياء، وإن كانت مغادرة الأرض ثم العودة إليها هي المعيار لكان لرواد الفضاء أفضلية، وإن كان في طول المكوث في السماء أو في الأرض أية ميزة لكان الشيطان من أفضل الخلق، والنصارى مدحورون بما في كتبهم وعقائدهم، ومن عجبٍٍ أن تخشى تكالبهم وهم الذين يعتقدون بصلب المسيح، فهل يستدلون علينا بعقيدتنا التي تنفي عقيدتهم، أليس هذا منهم من الخبل الذي لا يلتفت إليه فضلًا عن أن تنفى مدلولات النصوص لأجله؟!
* * * (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ)، تقول في هذه الآية الكريمة إن المعنى هو أن الله "نجى رسوله وأمه معا" وأنه "لا إيواء في لغة القرآن إلا بعد شدة وبلاء" وأن "ربوة ذات قرار ومعين" هي بطبيعة الحال كشمير! والرد على هذه الدعوى بسيط واضح لكل ذي عينين وعقل:
أولًا :الشدة التي مرت بها مريم (وابنها) هي عين الابتلاء المتعلق (بآية الولادة العذرية) المذكورة في نفس الجملة {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} فما علاقة ذلك بزمن الصلب؟ أما الربوة التي آوت إليها مريم عليها السلام هو ذاك المكان القصي {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} حيث جعل الله تحتها جداول ومياه {جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} ونخيل وثمار لا تحتاج إلى كثير عناء لقطفها {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} تلك {رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} أقامت فيها ما شاء الله لها أن تقيم قبل أن تعود إلى قومها، أما بعد حادثة الصلب فلم يذهب المسيح إلى أية ربوة ليقيم فيها، لأن الله قال له {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} ولم يقل له "لن أتوفاك الآن بل سأرسلك إلى كشمير ثم أتوفاك بعد بسنين"!!!
ثانيًا: يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى (وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ) بقوله (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا)، قال: (فهذا والله أعلم هو الأظهر؛ لأنه المذكور في الآية الأخرى، والقرآن يفسر بعضه بعضًا، وهو أولى ما يفسر به، ثم الأحاديث الصحيحة، ثم الآثار.)اهـ. بينما أنت جئت بقولٍ لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا آثار صحابة، ولا ذكره – فضلًا عن أن يرجحه – الطبري ولا ابن كثير ولا الرازي ولا ابن الجوزي ولا البغوي ولا الألوسي ولا أحدٍ من المفسرين في القرون العشرة التالية للهجرة!! فهل كانت الأمة على ضلالة في هذا الشأن؟! وهل الشطحات التي جمعها الميرزا في كتاب "المسيح الناصري في الهند" كانت من الحق الذي خفي عن الأمة طول هذه المدة؟!
ثالثًا: (وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ) تقول إنه لا فكاك للمسيح من الذهاب إلى كل أرضٍ فيها يهود بحجة أنه رسول إلى بني إسرائيل كافة، أقول إنه بمنطقك هذا عليك أن تشترط ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كل أرضٍ يسكنها الإنس والجن لأنه رسول للعالمين كافة، وتشترط أن يبقى المسيح على قيد الحياة ما دام اليهود على وجه الأرض، بحجة أنه رسول إلى كل أجيال {بَنِي إِسْرَائِيلَ} وليس إلى جيل بعينه، تأمل الآية التي تليها مباشرة، يقول المسيح {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} فهل هذا النسخ يخص من قابلهم المسيح فقط أم يخص بني إسرائيل في كل مكان وزمان إلى أن تأتي شريعة ناسخة؟!
رابعًا: أما استدلالك بسورة الأنبياء فما زدت عن الدعوى، فقلتَ بما أنّ الله يؤيد رسله بالعز والنصر، "إذن" فعيسى عليه السلام نجا في الأرض!! ولا أدري صراحةً أين تذهب بعد ذلك، فأنت – كأنك لا تعرف – تصر على إيراد أية آية فيها – وأحيانًا ليس فيها - ذكر للمسيح عليه السلام، لتقول بما أن ... – وضع هنا أي شيء - .... إذن المسيح لم يرفع إلى السماء! إنّ نصر الله لرسله يكون في الدنيا وفي الآخرة، ومن كان على الحق فهو منصورٌ ولو كان وحده، ولا يعني موت الرسل توقف الله عن نصرتهم، ولا يقول مؤمن أنّ الرسل الذين قتلهم بنو إسرائيل غير منصورين، أو أنّ الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم (والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي ليس معه أحد...)، فزعمك أنّ نصر الله للمسيح عليه السلام لا يكون إلا بسياحته في الأرض يدعو إلى الله، هو من التحكم المحض، والتألي على الله أن ينصر رسله بصورة معينة، ومخالفة النصوص الواردة بأن الرسول منصورٌ ولو قُتل أو كان وحده يوم القيامة أو رفع إلى السماء أو هاجر في الأرض، فوق مخالفة النصوص القاضية بنزول المسيح عليه السلام!
* * * وقولك (ولقد قال الله تعالى عن إدريس : ورفعناه مكانا عليا، ورغم ذلك اللفظ : (مكانا) يتفق الجميع أنه رفعه بروحه ودرجته.)اهـ، أما زعمك اتفاق الجميع فهذه مجازفة غريبة، والاختلاف في الأمر أشهر من أن يعرف به، قال الرازي في القول الثاني الوارد في تفسيرها (المراد به الرفعة في المكان إلى موضعٍ عالٍ وهذا أولى، لأن الرفعة المقرونة بالمكان تكون رفعة في المكان لا في الدرجة ثم اختلفوا....)اهـ، وقال الطبري (يعني به إلى مكان ذي علوّ وارتفاع، وقال بعضهم: رفع إلى السماء السادسة، وقال آخرون: الرابعة)اهـ، وذكره ابن كثير، وقال البغوي (واختلفوا في أنه حيٌّ في السماء أم ميت؟ فقال قومٌ: هو ميت، وقال قومٌ: هو حي)اهـ، والأمر أشهر من أن يذكر به، فضلًا أن يُنفى بادعاء اتفاق الجميع!!!(1) وفوق ذلك فالأدلة في عيسى عليه السلام ورفع إلى السماء ونزوله آخر الزمان أكثر وأغزر وأوفر من أن تُعارض بادعاء اتفاق الجميع في فهم نص في مسألة عدم رفع إدريس عليه السلام(2)، فكيف إنّ كان هذا الاتفاق لم يقم إلا في الخيال!؟
* * * تستدل بالآية الكريمة (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) وهذه مقابلة لنصوص مخصوصة في عيسى عليه السلام بنص عام، فنحن نقول بتخصيص عيسى عليه السلام من ذلك الحكم وذلك جمعًا بين الأدلة، كما نقول إن قوله تعالى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) – والآية فيها قولان والاستدلال كما هو عليك - لا يمنع أنّ يكون آدم خُلق من غير ذكر وأنثى، وحواء خلقت من ضلع ذكر دون أنثى، جمعًا بين الأدلة وإعمالًا لها كلها، وهذا ديدن أهل العلم ولا إشكال فيه (1)، والمقصود من الآية أن مجموع الرسل قد خلا وذهب، وليس الأمر بانتقال لأول حركةٍ لا تنطبق!! (2)، وكلمة "خلت" على الراجح تعني مضت، كما قال تعالى "وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات" وقال تعالى "وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ"، وقال تعالى " سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ"، ونحن نقول إن الرسل كلهم مضوا عن قومهم، ونثبت عودة المسيح بالأدلة الصحيحة(3)، فالحاصل أنك تستدل بعموم في مقابل خصوص.
* * * قال تعالى (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا)، وبناءً على الآية الكريمة تنفي تحقق رفع الأنبياء إلى السماء في (هيئة من عدة عناصر: لن نؤمن لك حتى... أي لن نؤمن لك نبيا حتى يفعل الله هذا معك ثم تقول : صدقوا إذن، فنصدق أنك منه. والله بقوله سبحان ربي، أي تعالى أن يجيبكم لاقتراحات مع رسول، لن ولم تتم حتى ينتهي زمن الرسل البشر.)اهـ، وأنا سأوافقك على هذا جدلًا، وأقول إنّ ما نعتقده من رفع المسيح عليه السلام لم يتحقق بهذه الهيئة، فرفعه عليه السلام للسماء لم يكن بعد أن قال له بنو إسرائيل "لن نؤمن لك حتى .."، ولم يقل المسيح عليه السلام "صدقوا إذن"، وقولك إنه سيقول من الكلام في غيب بغير دليل، والله لم يرفعه إلى السماء إجابة لاقتراحات مع رسول، فهذه الهيئة التي تضعها وتمنعها ليست هي ما نقوله في رفع المسيح عليه السلام في أي عنصر من عناصرها(1)، على أنّ الأمر كما سبق، أنّ الآية تنفي تحقق هذه الآيات بناء على اقتراحات المعاندين أو رغبة الرسول، فالآيات من عند الله، وهذا لا يمنع تحقق هذه الأمور مع الرسل إن أراد الله ذلك(2)، وتكفيني (1) في الرد عليك من باب التسليم الجدلي، ولا يبق لك بعد ذلك إلا التحكم المحض، إن أصررت على النفي بناء على الآية بعد أن بينت أنها لا تلزمني وإن وافقتك على فهمك المغلوط لها!
* * * أما ما زعمتَه من تشابه بين حياة ووفاة وبعث عيسى عليه السلام مع يحيى عليه السلام:
أولًا: قولك (لو كان عيسى نبي بني إسرائيل قد رفع وسينزل بجسمه شخصيا لصنع هذا فرقا في آية السلام الخاصة بكل منهما)اهـ، فهذه القاعدة من اختراعك كذلك، لم يسبقك إلى القول بها واستنتاج ما استنتجته أحدٌ من المفسرين، ولا معنى لادعاء أنك لن تذكر لي سلفًا من المفسرين لأني أتندر بالمفسرين وأنا أعرف أني لم أفعل!
ثانيًا: سألتك (هل تقول بتماثل خاتمتي السوء بين امرأة لوط وامرأة نوح رغم أن إحداهما ماتت خسفًا والأخرى بالطوفان؟) فلم ترد عليّ بشيء.
ثالثًا: أنت لا تزيد على زعم التشابه بينه المسيح ويحيى عليه السلام، ولا تزيد على ادعاء أن التشابه ينفي رفع المسيح إلى السماء!! فبالنسبة للولادة(1) أنت تقر أنّ هناك فرقًا بينهما فالمسيح من غير والدٍ أصلًا ويحيى عليه السلام من نسل زكريا عليه السلام، وبالنسبة للوفاة(2) أنت تعلم أن المسيح لم يُقتل إجماعًا ويحيى عليه السلام قُتِل على المشهور، بل تقر أنك (تتجاوز طريقة الموت)، فإن لم يكن هناك تماثل بين الوفاتين ولا الولادتين من كل وجه، فما معنى الاستدلال والقول بحتمية تشابه أنت نفسك لا تثبته!
رابعًا: لنفرض جدلًا أن الوفاتين متماثلتان، فهذا لا يلزم منه أنّ المسيح يموت في نفس يوم وفاة يحيى، فالفارق الزمني بين الوفاتين لا ينفي التماثل الذي تسعى لإثباته، ولا فرق إذن بين أن تكون وفاة المسيح بعد يحيى بسنةٍ أو بمائة ألف سنة أو أكثر، وعليه فحتى لو وافقت على ما تدعيه من تماثل الوفاتين، فهذا لا ينفي رفع المسيح إلى السماء!
خامسًا: أما قولك (ويبقى التشابه فقط في البعث حيا فأنت تنزع القدرة على الدلالة من تقابل النصين: أن السلام عليهما في أيام معينة، وتبقى الآيات مفرغة من المضامين العظمى)اهـ، فهذا قد يصح أن توجهه إليّ لو أنني أقرك على أن الآيتين ذكرتا للمماثلة – تلك التي تدعيها ولا تطبقها – أصلًا، وأنا لا أوافقك على حتمية التشابه حتى تلزمني بهذا، بل إنك لو تأملت قليلًا لوجدتَ هذا الكلام يتوجه إليك!
المعنى الأصلي للتوفي:
قلتُ لك قبل ذلك أنّ التوفي في "توفي الله الناس" ليس هو المعنى الأصلي للكلمة، وأنّ السر في تصورك هذا هو المعنى الشائع بين الناس لا العودة إلى القواميس المطولة! وبالفعل تثبت كلامي باستدلالك بـ " الإعلان الصباحي في القرى"، والرد على ما أوردته من وجوه:
أولًا: قولك (توفى توفــّــيا مثل تولى توليا ( من التفعل)، وهو الإماتة)، فأنت لا تقول إنّ "متوفيك" تعني "مميتك"، بل حقيقة قولك هي أنّ المسيح ساح في الأرض ولم يحدث له توفي – أي إماتة - عندما قال له الله "إني متوفيك" .. فهل تلتزم أنّ الله عندما قال للمسيح "إني متوفيك" أنّه أماته وقتها؟؟
ثانيًا: ولكنك سرعان ما تغير فهمك لمعنى "متوفيك" فتجعله (معنى قوله عز وجل "يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ" أني عاصمك من القتل ومستوف مدة أجلك في الدنيا وقابض روحك بعد استيفاء عمرك المقضي منذ الأزل)اهـ، فبعد أن كانت "مميتك"، جعلتها قابض روحك بعد استيفاء أجلك، وهذا المعنى لا يناسب السياق بالمرة، إذ يكون المسيح في مواجهة اليهود، فيأتيه أنّ الله قابض روحه بعد استيفاء أجله، وهذا ليس فيه أي بث للطمأنينة في نفس عيسى، ولا نفي لقتل اليهود له، فربما كان أجله بقتل اليهود له، وبالتالي يموت مقتولًا، وبالتالي ترتفع مكانته بالشهادة، وبالتالي يباعد بينه وبين الذين كفروا، فعلى فهمك لـ "متوفيك" على أنها "قابضك بعد تمام أجلك" تكون الآية خلية من أي بُشرى للمسيح، وأي نقض لزعم اليهود أنهم قتلوه، فهل تلتزم أنّ الله خاطب عيسى عليه السلام في هذه اللحظة بما يعني أنّه قد يُقتل الآن!؟
ثالثا: مما تبين في "أولًا" أن تفسير التوفي بالإماتة مما لا تقول أنت به، لأنك تعتقد أن الله لم يُمته وإنما تركه يسيح في الأرض، وكذلك هو مما لا يحتمله السياق، أن يكون الله بشره بالموت عوضًا عن القتل، وتبين من "ثانيًا" أنّ تفسيرها على "مميتك بعد تمام أجلك" مما يحتمل إمكانية قتل اليهود له ولا ينفيها، كما أنه مخاطبة لعيسى عليه السلام بما يعرفه من أنه لا يموت قبل انقضاء أجله وليس في ذلك بشرى له، تبين أنّ المعنى الوحيد الذي يناسب السياق والذي يوافق المعنى الأصلي للتوفي هو أنّ الله قال له "متوفيك"، والكاف تعود إلى المسيح روحًا وجسدًا!
فأنت لا تستطيع حسمَ مسألة نفي رفع جسد المسيح في ظل كل التناقضات السابقة في موقفك! الذي يحسم الأمر حقيقة هو توقيت التوفي: فالله قال للمسيح واليهود يطلبونه: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} ولم يقل له (لن أتوفاك الآن) ولم يقل له (إني متوفيك لا محالة في المستقبل) فالمسيح يعلم أنه لن يخلد!
رابعًا: ما روي عن ابن عباس من تفسير التوفي هنا بالإماتة فغير صحيح، فهو من رواية علي بن أبي طلحة عنه، وعلي لم يسمع منه ولم يره، وإنما روى عنه بواسطة، والبخاري رحمه الله إنما أورده معلقًا ولا يراه على شرطه كما سبق التذكرة بما لا يجهله عارفٌ بالبخاري أدنى معرفة.
خامسًا: نحن هنا نستدل على معنى التوفي بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث صحيحة كثيرة، أن المسيح عيسى عليه السلام ينزل آخر الزمان، وعجيب أن تترك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الصحيحة، ثم تزعم أنّي لا أستند في فهمي لأحدٍ من الصحابة!!
سادسًا: وقولك (وفعل توفى توفيا بمعنى الموت هو الذي جاء في القرآن عن وفاة البشر)، فالرد عليه من قوله تعالى (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا)، فهذه وفاة للبشر جاءت في النوم.
سابعًا: قولك (وقوله في تاج العروس : ومن المجاز : أدركته الوفاة، أي الموت والمنية .. تفسيره : هنا كلمتان، المجاز في الأولى،وهو معنى الإدراك، لا في الثانية)، وهذا عجب من العجب في فهم ما تقرأ، فهل تظن أنّ الزبيدي أورد في كلامه عن الوفاة استعمالًا مجازيًّا لـ "أدركته" لينبه عليه؟!!
ثامنًا: قال الزمخشري في أساس البلاغة (ومن المجاز: أوفى على المائة إذا زاد عليها، ووافيت العام: حججت، وتوفّي فلان، وتوفّاه الله تعالى، وأدركته الوفاة)اهـ، فهذه لا حيلة لك فيها كما فعلتَ في كلام صاحب التاج، فالوفاة بمعنى قبض الروح فقط ليست هي الأصل في معنى التوفي، ولا يمكن أن تقول إن المجاز هو في "أدركته" لأنها ليست مشتركة في كل الجمل التي وصفها بالمجاز .. وهذا واضح!
تاسعًا: متى توفى الله المسيح؟! المسيح عليه السلام سمع كلام الله كما هو ولم يسمع حينها تفسيركم الذي يقول إن الله سيسري به ليلا إلى بقية بني إسرائيل ثم يتوفاه بعد سنين! حتى تستقيم هذه القصة عليكم تغيير كلام الله واستبدال قوله {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} بـــ(لن أتوفاك/أو أميتك الآن) وإلا لن يكون هناك أي ربطٍ معقولٍ بين الخبر وسياق الأحداث، فإن قيل إن المعنى هو (إني متوفيك/ أو مميتك لا محالة) فهذا خبر لن يضيف أي جديدٍ لأنه عليه السلام يعلم أنه لن يخلد في الأرض، الشاهد هنا والذي يبطل تفسيركم من أساسه هو توقيت ذلك التوفي الذي أوقف حياة المسيح على الأرض عندما كان اليهود يطلبونه، فتوقفت شهادته على الناس إلى حين.
عاشرًا: ماذا لو سلمتُ لك جدلا بتفسيرك للتوفي؟!
المعنى المباشر لـ{مُتَوَفِّيكَ} يفيد قبض الروح والجسد لأن الضمير لا يعود فقط إلى النفس بل إلى المسيح كإنسان كامل! وحتى إن سلمتُ لك جدلاً أن القصد هو توفي النفس دون الجسد فهذا لا يعني الموت بالضرورة لأن الله يتوفى الأنفس عند نومها مصداقًا لقوله تعالى {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} هذه الحقيقة القرآنية تبطل قولك أن "بتحقق: متوفيك، تمتنع عودته للأرض مرة ثانية"!، فالله يتوفى نفس من قضى عليه الموت كما يتوفى نفس النائم، أما الذي يُحدث الفرق بين النوم والموت هو مآل النفس بعد التوفي { فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى}، وهذا دليل قاطع أن توفي النفس في حد ذاته لا يعني الإماتة بل يعني قبضها فقط، لتتوقف شهادة العبد على الناس إلى أن يرسلها الله مرة أخرى في الدنيا أو يوم البعث، وهذا هو المعنى الذين يفهم من التشابه في "كما قال العبد الصالح"، فهو الشبه المذكور في الآية الكريمة السابق ذكرها.
حادي عشر: متى رفع الله مكانة المسيح؟
المسيح يعلم وهو في المهد أن الله رفع مكانته وجعله مباركًا حيثما كان ومن المقربين ووجيهًا في الدنيا والآخرة، ولذلك حتى يستقيم تفسيركم عليكم تغيير كلام الله مرة أخرى واستبدال قوله {وَرَافِعُكَ} بــ(ورفعتُ مكانتك من قبل)، وبالجمع بين مسألة الرفع والوفاة يتضح أن تفسيركم لن يستقيم إلا إذا استبدلتم قوله تعالى {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} بــــ(لن أتوفاك الآن وقد رفعتُ مكانتك من قبل) فتأمل! الرفع لا يكون إلا إلى جهة العلو، فإذا ثبت أن الرفع كان بالجسد فلن يكون إلا إلى السماء الحقيقة لا المعنوية، أما رفع المكانة أو حتى رفع اللعنة (التي لم تُرفع في الواقع من عقول اليهود) فلا يقبله السياق لأنه لا يُثبت قتل الصدّيق ولا ينفي قتل الشهيد، ولا يرد على أهل الكتاب بأي حال إلا إذا اعتبرتَ أن مقولة (ما قتلوه * بل لم يلعنه اليهود) ردًّا منطقيًّا!!
ثاني عشر: الحقيقة اللغوية للتوفي كما سبق هي أخذ الشيء كاملًا غير ناقص، والحقيقة العرفية خصصت التوفي بقبض الروح دون الجسد، ويشترك في هذه الحقيقة العرفية الموت والنوم، والأصوليون لهم في ذلك مذاهب ثلاثةٌ فيما دار بين حقيقةٍ لغويةٍ وحقيقةٍ عرفية، فالمذهب الأول هو تقديم الحقيقة اللغوية وهي التوفي الذي يعني القبض تمامًا روحًا وجسدًا، وهذا هو قولنا لا إشكال فيه، والمذهب الثاني هو تقديم الحقيقة العرفية، فإن النوم والموت مشتركان في الحقيقة العرفية للفظ "التوفي"، ونحن لا نمنع حمله على النوم وهو داخل في الحقيقة العرفية، كما أنّ ورود الدليل الصارف عن إرادة الحقيقة العرفية، يوجب تقديم الحقيقة اللغوية باتفاق، وقد وردت الأحاديث الصحيحة بنزول عيسى عليه السلام آخر الزمان، أما المذهب الثالث وهو مذهب السبكي ومن وافقه أنّ اللفظ يوصف بالإجمال لاحتمال العرفية واحتمال اللغوية، وعلى هذا القول فالمقرر في الأصول أنّ المجمل لا يُحمل على أحد معانيه إلا بدليلٍ منفصل، وقد دل الكتاب والأحاديث الصحيحة وآثار الصحابة أنّ المسيح لم يمت وأنه حيّ وأنه ينزل آخر الزمان ... فهكذا بأي قول من أقوال الأصوليين أخذت فاللازم أنّ "متوفيك" لا تعني موت المسيح عليه السلام ولا تنفي رفعه إلى السماء ولا نزوله آخر الزمان كما ثبت بالأحاديث الصحيحة.
(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا)
بدايةً حتى تعلم موقع قدميك، ينبغي أن تعلم أن من فسّر الآية بموت عيسى عليه السلام، هم ابن عباس فيما صح عنه وأورده الطبري، وأبو هريرة رضي الله عنه فيما رواه البخاري، والإقدام على تخطئة علمين من أعلام الصحابة، أو إنكار الروايات التي حكم لها أهل العلم بالحديث رواية ودراية بالصحة، هذا وذاك مما ينبغي أن تتثبت كثيرًا كثيرًا قبل الإقدام عليه، ولكنك تقحمت ما لا تحسن، وخالفت الأثبات الثقات!
إنّ من أظهر القواعد عند المفسرين، والتي لم تعرفها، أنّ (تعدد القراءات في الآية يعدد معانيها)، أو (تنوع القراءات بمنزلة تعدد الآيات)، ولذا فقوله تعالى (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) لا يعارض القراءة الأخرى (وَأَرْجُلِكُمْ)، وهذا كثيرٌ كثيرٌ يدركه من له أدنى دراسةٌ منهجيةٌ للتفسير، ولذا فقولك (هناك قراءة نصها: قبل موتهم)، ثم استنتاجك (فاسترحنا من الاعتراض على رجوع الضمير، وعلمنا أنه يرجع لأهل الكتاب)اهـ!، ظنًّا أن القراءة الثانية تُلغي الأولى وتعفيك من تفسيرها، أو أنّه يجب حمل الأولى عليها، فهذا يدلني على أنك انشغلت بالكتابة وفاتك الكثير الكثير من طلب العلم مع الأسف الشديد!
إنّ الآية الأولى (قبل موته) محمولة على عود الضمائر إلى واحد وهو المسيح عليه السلام، وهذا هو التفسير الذي ورد بالإسناد الصحيح عن ابن عباس وأبي هريرة وأبي مالك والحسن البصري وقتادة وابن زيد، وهذا التفسير لا ينافي القراءة الأخرى قراءة أبي، بل يشملها، فكل أهل الكتاب حين يموتون يعلمون حقيقة ما كانوا عليه فيؤمنون بعيسى عليه السلام، وإن كان إيمانًا لا ينفعهم، وذلك بالتأكيد قبل موت عيسى عليه السلام آخر الزمان، ثم يأتي عيسى عليه السلام فيؤمن به الجميع بعد أن يقتل الدجال، كما صح عن الحسن البصري في قوله تعالى "قبل موته" (قبل موت عيسى، والله إنه لحيٌّ عند الله، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون)، وصح عن ابن زيد قوله (إذا نزل عيسى ابن مريم فقتل الدجال لم يبق يهودي في الأرض إلى آمن به، قال: فذلك حين لا ينفعهم إيمانهم)، وهكذا تكون العداوة قد أغريت بينهم إلى يوم القيامة، قال تعالى (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) ولا شك أنّ الإيمان الوارد ليس هو الذي (لا يأتي بالإكراه والقهر)، بل هو إيمان بعد أن تقهرهم آيات الله يوم القيامة فيؤمنون، ولا ينفعهم إيمانهم كما قال تعالى، فاحتجاجك بأنه لو كان الإيمان لا ينفع لكان لفظ الآية "ليسلمن له" بدلًا من "ليؤمنن" له هو احتجاج بما لا دليل عليه بل الدليل على خلافه، والحقيقة أن العلاقة بين لفظي "الإسلام" و"الإيمان" حين الاجتماع والافتراق مما يبدأ بدراسته في العقيدة، وقد غاب عنك ذلك!
المقصود أن السياق كله عن عيسى عليه السلام (بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزًا حكيمًا، وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا)، فالضمائر إذن تعود إلى واحدٍ والمخالف لذلك عليه بالدليل، فيكون المعنى: وما من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى عليه السلام، ويوم القيامة يكون عيسى عليهم شهيدًا.
نزول المسيح عليه السلام آخر الزمان .. هل يحق لنا البحث عن مسيح آخر؟
المسيح هو الوحيد الذي ولد من أم دون أب، ولو كان المُبشَّر به هو مسيحٌ آخر غير (ابن مريم) لنُسب إلى والده عملًا بقوله تعالى {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ}، والنبي صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على اتباع القرآن الكريم، ولا يلجأ إلى تشبيه ومجاز واستعارة تحوّل مئات الأحاديث الصريحة إلى طلاسم لم يتمكن من حلها أحد من الصحابة ولا التابعين ولا القرون التي تلتهم بما في ذلك الميرزا غلام أحمد في أول حياته، عندما قال الصحابة للمصطفى "نشهد أنك بلغت" هل يدخل في ذلك إبلاغهم بحقيقة المسيح المُبشر به أم لا؟ هل علموا بالتفسير الجديد الذي يقول أن ابن مريم ليس هو ابن مريم، وأن عيسى ليس هو عيسى؟ بالطبع لا!
الآيات والأحاديث التي تحدد عقيدة المسلم هي نصوص محكمة، ولا يوجد مجاز ولا تشبيه ولا طلاسم في نصوص تفصل بين الجنة والنار، وتفصل بين التكذيب والإيمان بشخصٍ تؤمن أنت أنه من ضمن الأنبياء الذين لا ينبغي للمسلم التفريق بينهم وإلا خرج من الملة وأؤمن أنا أنه مخادعٌ كذاب، فإن احتكمنا لدين الله الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الحكم واضحًا بينًا في قضية على هذه الدرجة من الأهمية.
وتفسيرك -باسم المجاز والتشبيه- ليمين النص بيساره، يعطيني الحق أن أفسر يسار كلامك نفسه بيمينه، لأعيد النص إلى أصله وإلى معناه الظاهر، وإن كان تأويل غيرك لكلامك الصريح يغضبك، فما بالك بغضب الله على من يؤول محكم كلامه؟
Bookmarks