قراءة في كتاب: قواعد في التعامل مع العلماء

قواعد في التعامل مع العلماء
تأليف: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، الناشر: دار الوراق ـ الرياض
كنت قد كتبت تعريفاً موجزاً بهذا الكتاب في مجلة "الهدي النبوي" (1419)، وأحببت الآن أن أعيد كتابته بشيءٍ من التفضيل، وإنما دفعني إلى ذلك أمور:
الأول: أهمية موضوع الكتاب، فإن معرفة قدر العلماء ومنزلتهم، والقواعد الشرعية في التعامل معهم، من أهم المسائل الواقعية المعاصرة التي تحتاج إلى إيضاح وبيان، فإن المفاسد العظيمة التي ترتبت على عدم وضوح هذه القضية في أذهان الشباب المسلم، بينة ظاهرة، لا تخفى على من آتاه الله علماً وحلماً.
الثاني: إن الدعاة السلفيين عندما يؤكدون على وجوب احترام العلماء، وموالاتهم، والوقوف في صفهم، لا ينطلقون من فراغ، فمئات النصوص السلفية التي جمعها هذا الكتاب ـ وغيرها مما لم يجمعها ـ براهين ناطقة بصحة دعوتهم، وصواب منهجهم. فهذا العمل العلمي يعين طالب العلم على الانتقال من الادعاء إلى التوثيق، ومن الارتجال إلى الاستدلال.
الثالث: إن تراثنا العلمي زاخر بالأدلة والنصوص والآثار الكثيرة، والتي تصلح للاحتجاج، أو الاستشهاد، أو تصلح أن تكون وسائل لشرح المنهج، ونماذج للتربية. ولا يحتاج الأمر إلا إلى جهود جادة لجمع هذه النصوص من المصادر الأصيلة، وتقديمها في نسق واحد. ومثل هذه الجهود إنما تحتاج إلى همم عالية، وجلادة وصبر، وقد أوتي الأخ الباحث ـ أثابه الله ـ قسطاً وافراً من ذلك، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
الرابع: والكتاب بعد هذا، نموذج صالح في الالتزام بأدب الخطاب الإسلامي، مع وضوح وقوة في عرض حقائق الموضوع الذي يتناوله. إننا نظن في بعض الأحيان أن القسوة في العبارات، والشدة في الانتقادات، واستعمال كلمات قد يكون فيها نوع من السب والطعن والاتهام، هو البرهان الحقيقي على قوة التمسك بالمنهج، وليس الأمر كذلك، بل البرهان الحقيقي على ذلك هو تقديم العلم الصحيح، والصبر في سبيله.
هذه أمور دفعتني إلى الاهتمام بهذا الكتاب، وثمة أمر آخر مهم، وهو أن الكتاب قد قرأ على الشيخ الإمام عبد العزيز ابن باز رحمه الله تعالى، من أوله إلى آخره، فقرظه وأثنى عليه.
جعل المؤلف كتابه في مقدمة، وفصلين، وخاتمة.
المقدمة: تضمنت الإشارة إلى مكانة العلماء، وأنهم كما ورثوا علوم الأنبياء، فإنهم ـ أيضاً ـ ورثوا قدراً لائقاً بهم من الاعتبار، والمكانة في الشريعة، فكان واجباً على الأمة من بعد: طاعتهم في طاعة الله، وموالاتهم، ومحبتهم، واحترامهم والسعي إليهم والأخذ عنهم. والناس في جملتهم يعرفون لهم أقدراهم، ومنازلهم، ثم خلفت خلوف قل فيها العلم وأهله، فلم ينزلوهم منازلهم، بل تفرقوا في ذلك طرائق قدداً:
1- فقوم رأوا أن العلماء كسائر الناس، ليس لهم في الشريعة اعتبار يُعلي قدرهم، وفي هؤلاء شبه بالخوارج الذين لم يرعوا السادات العلماء من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم حقهم.
2- وقوم قدّسوا العلماء، ورفعوهم فوق قدرهم، فقلدوهم في دينهم تقليداً مطلقاً، وفي هذا الصنف شبه بالروافض، الذين جعلوا أئمتهم معصومين.
3- وقوم رأوا للعلماء منزلة، ولكنهم لم يعاملوهم باعتبارهم بشراً يقع منهم الخطأ والهوى، بل تعاملوا معهم بغير المقاييس البشرية، فما أن يروا خطأً من عالم حتى يعظّموا ذلك الخطأ ويكبروه ويضخموه، ويطيروا به في الناس كل مطار.
ثم يقول المؤلف: "وكل هذه الطرائق ظاهرة في الحياة المعاصرة، ولقد ساءتني، فرأيت أن أدون فيها بحثاً أجمع فيه أقوال أهل العلم المقعّدة للتعامل مع العلماء".
ثم ينبه قرّاءه إلى ملحظين مهمين، فيقول:
الأول: إن العلماء الذين أَكتبُ عنهم، هم العلماء المعتبرون في الأمة، أما أهل البدعة والضلالة، الذين عقدوا ألويتها، ووالوا على أساس بدعهم وعادوا، فجعلوا مقعد الولاء والبراء غير كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهم غير جدراء بأن يسلكوا في سلك أهل العلم، وإن تزيَّوا بزي العلماء، وانتسبوا إليهم.
الثاني: إن هذا البحث متمخض للنظر في تعامل الناس مع علمائهم، أما الحقوق الواجبة على العلماء، فالعلماء أعرف الناس بها، ولست أنا ممن يذكرهم بها.
وفي المقدمة فوائد أخرى.
الفصل الأول: وفيه أربعة مباحث، هي بمنزلة مقدمات لمقاصد الكتاب:
المبحث الأول: من هم العلماء؟:
بين فيه أنهم العارفون بشرع الله، المتفقهون في دينه، العاملون بعلمهم على هدى وبصيرة، وهم الذين جعل الله عز وجل عماد الناس عليهم في الفقه والعلم، وأمور الدين والدنيا، فهم أئمة الدين، ثم القيام بواجب الدعوة، ومهمة الانذار، وهم رأس الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، ورأس جماعة المسلمين التي أمرنا بلزومها، وحذرنا من مفارقتها، وإنما يكون لزومها بلزومهم.
المبحث الثاني: كيف يعرف العلماء؟
شرح المؤلف ـ حفظه الله ـ معالم عامة يعرف بها العلماء، منها:
- أنهم يعرفون بعلمهم، والعلم المقصود هنا، هو العلم الموروث عن سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
- ويعرفون برسوخ أقدامهم في مواطن الشبه، حيث تزيغ الأفهام فلا يسلم إلا من آتاه الله العلم، أو من اتبع أهل العلم.
قلت: والمقصود بمواطن الشبه، المسائل المشكلة سواء كانت علمية أو عملية، وكذلك النوازل والحالات العارضة التي تحل بالأمة.
- ويعرفون بنسكهم وخشيتهم.
- ويعرفون باستعلائهم عن الدنيا وحظوظها.
- ومما يعرف به العالم شهادة مشايخه له بالعلم.
قلت: وهذا أهم المعالم، فقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على أن "العلماء ورثة الأنبياء"، وقد تكفل الله سبحانه بحفظ ميراث نبينا صلى الله عليه وسلم من العلم، فدل ذلك على أن علماء الأمة ما زالوا يتوارثون بينهم هذا الميراث، وبما ان استحقاق ذلك ليس بالنسب، لزم أن تكون هناك قاعدة منضبطة، وما هي إلا شهادة الكبير للصغير، وتوثيق المتقدم للمتأخر. وقد نقل عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال: ".. ليس كل من أحب أن يجلس في مجلس للتحديث والفتيا جلس، حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل، وأهل الجهة في المسجد، فإن رأوه أهلاً لذلك جلس، وما جلست حتى شهد لي سبعون شيخاً من أهل العلم أني موضع ذلك".
قلت: رحم الله إمام دار الهجرة، فكيف لو رأى أهل زماننا، وفيهم من يتصدر للفتيا، بل يؤسس القواعد، ويضع مناهج وأصولاً، مع أن سبعين شيخاً من أهل العلم يشهدون أنه ليس موضعاً لذلك!؟
المبحث الثالث: التفريق بين العلماء وبين من قد يتشبه بهم: وهذا مبحث مهم جداً، فإن أكثر تيه وضلال فئات واسعة من الشباب المسلم في هذا العصر، هو بسبب اتباعهم لدعاة، يظنونهم علماء وما هم بعلماء، وقد جعلهم المؤلف في أصناف: الأول: القراء. ويقصد بهم فئة من طلبة العلم، أو المثقفين قرؤوا نتفاً من العلم، وهم غير فقهاء بذلك العلم. وهناك بون شاسع بين القارئ للعلوم الشرعية، والفقيه فيها: فالقارئ لديه نتف وجزئيات أمسك بها من خلال قراءته لبعض الكتب، واطلاعه على أقوال أهل العلم، ولم يشافه العلماء، ولم يزاحمهم بالركب في الحلق، ولذلك فإنه وإن رأيته منطلقاً في موضوع من موضوعات الفقه والشريعة، إلا أنه يُغْلق عليه عندما يسأل في مسألة من مسائل العلم. أما العالم الفقيه فليس كأولئك، بل هو ذو فهمٍ شمولي للإسلام، واطلاع على مجمل الأحكام الشرعية، فهو لم يقرأ نتفاً، بل درس العلوم الشرعية، دراسة شمولية عامة.
الصنف الثاني: المفكرون الإسلاميون والمثقفون: يقصد بالمفكرين طائفة من المسلمين يفهمون الإسلام فهماً عاماً، ولهم اطلاع على مجمل القضايا التي تعدّ مفرق الطرق بين الإسلام والأديان والمذاهب المعاصرة، مثل: قضية المادية، وفصل الدين عن الدولة، والملكية الفردية، والنظام الاقتصادي بشكل عام، والنظام الاجتماعي، .... قال المؤلف: وهؤلاء ليسوا من علماء الشريعة، وإنما هم (مفكرون) على فرض صحة هذا التعبير، ... كما وجد ـ أيضاً ـ طائفة من المثقفين وهم: فئة من الأخيار الصالحين ذوي تخصصات علمية، .. فهؤلاء وإن حمد لهم تخصصهم في العلوم التجريبية أو الإنسانية، فهم في الاصطلاح الشرعي من جمهور المسلمين وعوامهم، ويجب أن يرجعوا للعلماء في أمور الشريعة، ويكونوا عوناً لهم في شرح واقع تخصصاتهم.
الصنف الثالث: الخطباء والوعاظ: إذ لا يلزم في كون الشخص قاصاً أو واعظاً أو خطيباً أن يكون عالماً، فكم من واعظ يسلب قلوب الناس بحسن حديثه، وليس له من العلم حظ ولا نصيب. والعالم قد يكون عيياً لا يحسن الكلام.
لكن معظم الناس تحكمهم العواطف الآنية، فهم يتسارعون إلى الواعظ والخطيب أكثر من تسارعهم إلى العالم.
المبحث الرابع: مكانة العلماء ومنزلتهم: لقد اعتبرت الشريعة الإسلامية للعلماء منزلة ليست لغيرهم من الناس، وجعلت لهم مقاماً رفيعاً، وأقامتهم أدلاء للناس على أحكام الله تعالى. وهذا الاعتبار للعلماء: اعتبار شرعي.
وينبني عليه أمران مهمان:
الأول: أن طاعتهم طاعة لله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فالتزام أمرهم واجب.
الثاني: أن طاعتهم ليست مقصودة لذاتها بل هي تتبع لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وأدلة هذه المنزلة، وهذا الاعتبار للعلماء في الشريعة غير منحصرة، فمنها:
1- أمر الله ـ عز وجل ـ بطاعتهم.
2- أن الله ـ سبحانه ـ أوجب الرجوع إليهم وسؤالهم عما أشكل.
3- أن الله ـ سبحانه ـ عظم قدرهم وأشهدهم دون غيرهم على أعظم مشهود.
4- أن الله ـ عز وجل ـ نفى التسوية بين العلماء وغيرهم.
5- أنهم أهل الفهم عن الله تعالى.
6- أنهم أهل الخشية.
7- أن أهل العلم أبصر الناس بالشَّر، ومداخل الشر.
8- أن العلماء ورثة الأنبياء، وهم المفضلون بعد الأنبياء على سائر البشر.
9- أن العلماء هم المبلّغون عن الأنبياء.
10- أن الله ـ سبحانه ـ أراد بهم الخير.
11- أن نجاة الناس منوطة بوجود العلماء، فإن يقبض العلماء يهلكوا.
12- أن البشر محتاجون إلى العلماء حاجة عظيمة.
وقد أفاض المؤلف ـ جزاه الله خيراً ـ في شرح هذه الأدلة، ومداركها. ثم نبَّه إلى جملة ملاحظ، أشير إليها باختصار شديد:
1- ليس معنى هذا تقديس ذوات العلماء وأشخاصهم، فمنزلتهم إنما نالوها بما قام فيهم من العلم بالله، والعلم عن الله عز وجل.
2- إنه ما دام أن اعتبار العلماء اعتباراً شرعياً، والشرع الإسلامي شرع متكامل، ينتظم الحياة كلها، فإن اعتبار العلماء ـ أيضاً ـ اعتبار كليّ، فطاعتهم واجبة في جميع جوانب الإسلام .... إن بعض الناس، بل إن بعض المنتسبين إلى الخير والصلاح اليوم: يعتبرون للعلماء منزلة وطاعة في بعض جوانب الحياة، ويرون أن هناك جوانب أخرى ليس للعلماء فيها اعتبار، وإنما الاعتبار لغيرهم، من المفكرين أو الساسة، أو الدعاة، أو قادة الجماعات، أو غيرهم. ويضيف المؤلف: لقد رأيت بعض هؤلاء فكان يستند في تكفير أعيان بعض العلماء، والحكام المعاصرين إلى رأي شخص مجهول القدر والعين[1]. فقلت له: أرأيت لو عرضت لك مسألة في الطهارة أو الصلاة أو الزكاة أكنت تقبل فتوى هذا الشخص؟ قال: لا. قلت: فتقبل فتوى من؟ قال: العلماء! قلت ـ وعجبي منه لا ينقضي ـ: أفترد فتواه في المسائل الفرعية كالطهارة، ولا تراه أهلاً للإفتاء فيها، وتقبل فتواه في مسألة من أعظم مسائل الدين، وفي تاريخ الأمة، مسألة تتعلق من جهة التكفير ـ والتكفير أمر خطير لا يصار إليه إلا ببرهان ـ وتتعلق من جهة أخرى بالإمامة ـ والإمامة كما يقول الشهرستاني (أعظم خلاف بين الأمة: خلاف الإمامة، إذ ما سُلَّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية، مثل ما سُلَّ على الإمامة في كل زمان). إن هذا الرأي يسير عليه بعض الناس (بل كثير من الناس، بل معظمهم إلا من رحم ربك) خُلف من القول محض، وتناقض ليس له نظير، إلا ما يعمله العلمانيون من عزل الدين في زاوية من زوايا الحياة!
3- أنه إذا كان اعتبار العلماء جاء عن طريق الشرع، فإنه لا يرفع هذا الاعتبار إلا الشرع.
4- أن تصدير العلماء واجب شرعاً، وليس كما يظن بعض الناس أن تصديرهم فرضه الواقع الاجتماعي، ويظنون أن بعض الدعاة أو المفكرين أولى منهم بالاعتبار والتصدير.
5- أن الأخذ عن العلماء لا يقتصر على مجرد العلم ومسائل العلم، بل يؤخذ عنهم الهدي الظاهر والسمت، والتطبيق العملي، وهذا لا يكون إلا بمجالستهم وملازمتهم.
6- أن اعتبار العلماء يقوى إذا كان القول متفقاً عليه بينهم، بل ويصبح هذا الاتفاق المعروف عند أهل العلم بـ(الإجماع) حجة وأصلاً من أصول التشريع. وقد ساق الباحث أدلة هذا، ثم قال: وإذا كان إجماع العلماء بهذه المثابة من الاعتبار في الشريعة، فإن اجتهاد جمهرة كبيرة من المعتبرين في الأمة مظنة الإصابة، إذ اجتهاد الجماعة أقوى من اجتهاد الفرد. وصورة هذا الاجتهاد الجماعي ظاهرة في زماننا في شكل المجامع الفقهية، وهيئة كبار العلماء، ونحوها.
الفصل الثاني: قواعد في التعامل مع العلماء. تضمن هذا الفصل مقاصد الكتاب معضدة بأدلة سنية، وآثار سلفية، ونقول نفيسة عن الأئمة الأعلام، وفي تضاعيفها بحوث نافعة، حريّ بطالب العلم أن يقف عليها، وإنما نشير هنا إلى الخطوط العريضة لمباحثها:
الأول: موالاة العلماء ومحبتهم: فإن أولى الناس بالموالاة وأحقهم بالمحبة في الله ـ بعد الأنبياء ـ: العلماء. وكما قال شيخ الإسلام رحمه الله: يجب على المسلمين بعد موالاة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم: موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن، خصوصاً: العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم".
الثاني: احترام العلماء وتقديرهم: وهو سنة ماضية حضَّ عليها النبي صلى الله عليه وسلم، ودرج عليها سلف الأمة.
الثالث: الأخذ عن العلماء والسعي إليهم: فمن أراد أن ينال شيئاً من إرث النبوة فعليه مجالسة العلماء، والأخذ عنهم، والآخذ عن العلماء السالك في طريق العلم يسهل الله له طريقاً إلى الجنة. والعلم الشرعي علم يؤخذ بالتلقي ولا يجدي الأخذ عن الكتب فقط، بل ذلك بلية من البلايا، وكذا اجتماع الشباب والطلبة على التدارس دون أخذٍ عن شيخٍ.
الرابع: رعاية مراتب العلماء: فالعلم درجات، ورتب العلماء متفاوتة، فيجب مراعاتها، مثل مراعاة التخصص، حيث يغلب على العالم فن من فنون العلم، فيكون لقوله في هذا الفن من الاعتبار ما ليس لقول غيره. ويجب مراعاة السن: فإن العلم تراكمي كلما امتد الزمان بالانسان إزداد علماً وتجارب، وقد ثبت أن من أشراط الساعة تصدر الصغار، والتماس العلم عندهم. وفي المبحث نقول مهمة عن بعض الصحابة رضي الله عنهم.
الخامس: الحذر من القدح في العلماء: فالطعن فيهم سبيل من سبل أهل الزيغ والضلال، ذلك أن الطعن في العلماء ليس طعناً في ذواتهم، وإنما هو طعن في الدين والدعوة التي يحملونها ... ولما فقه السلف هذا جعلوا منتقص الصحابة: زنديقاً، لما يفضي إليه هذا القول من الطعن في الدين، وتنقص سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وكذلك قال السلف فيمن طعن في العلماء من التابعين فمن بعدهم.
السادس: الحذر من تخطأة العلماء بغير علمٍ: إن العلماء وإن كانوا بشراً يخطؤون، ولكن اتهامهم بالخطأ يعرض فيه مزلقان خطيران:
الأول: أن يكون اتهامهم بالخطأ غير صحيح، فيُخطّئهم المخطئ فيما هم فيه مصيبون، أو يتهمهم بما ليس فيهم، مثل اتهامهم بالجهل بالواقع، أو اتهامهم بالجهل بأحوال المنافقين والعلمانيين، أما الأول فكما قال الإمام ابن باز رحمه الله: " والعلم بأن صاحب الفتوى لم يفقه الواقع يحتاج إلى دليل، ولا يتسنى ذلك إلا للعلماء". أما الثاني: فالعلماء ليس لهم إلا ظواهر الناس، وأما سرائرهم فهي إلى الله تعالى. وقد كان الناس يؤخذون بالوحي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإن الوحي قد انقطع.
المزلق الثاني: أن يحكم بالخطأ على العالم غيرُ العالم، فيبني الشخص تخطأته للعالم على جهلٍ، فيقول على الله ـ عز وجل ـ وخلقه بلا علمٍ، ومرّد الحكم على زلات العلماء ليس إلى العوام وأنصاف المتعلمين، إنما هو إلى العلماء.
السابع: التماس العذر للعلماء: فإنهم خير أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وإذا كان هذا هو الأصل فيهم، فإن الواجب التماس العذر لهم، وإحسان الظن بهم.
الثامن: الرجوع إلى العلماء والصدور عن رأيهم خصوصاً في الفتن: إن من شأن الفتن أن تشتبه الأمور فيها، ويكثر الخلط، وتزيغ الأفهام والعقول، والعصمة حينذاك إنما هي للجماعة، التي يمثل العلماء رأسها، فالواجب على الناس: الراعي والرعية، الأخذ برأي العلماء، والصدور عن قولهم. لأن اشتغال عموم الناس بالفتن، وإبداء الرأي فيها ينتج عنه مزيد فتنة وتفرّق للأمة. فالأمور العامة: من الأمن أو الخوف مردّها إلى أهل العلم والرأي.
التاسع: ليس أحد إلا وتُكُلِّم فيه، فتثبَّتْ: خاصة في زمان وقوع الفتن والشرور، إذ يكثر الكذب والافتراء، فلابد من مزيد تثبتٍ وتبيّن.
العاشر: الاعتبار في الحكم بكثرة الفضائل: كما قال سعيد بن المسيب ـ رحمه الله ـ: "ليس من عالمٍ ولا شريف ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من كان فضله أكثر من نقصه، ذهب نقصه لفضله. كما أن من غلب عليه نقصانه ذهب فضله". وقد ذكر المؤلف هنا مسألة، هي صحيحة إجمالاً، ولكن يدخل على ما قرره نقد من وجهٍ، يتعذر شرحه هنا، لطوله.
الحادي عشر: الحذر من زلات العلماء: إن المنهج الرشيد في التعامل مع زلات العلماء قائم ـ بعد ثبوت كونها زلّة ـ على ركنين:
الأول: عدم اعتماد تلك الزلة والأخذ بها، لأنها جاءت على خلاف الشريعة.
الثاني: العدل في الحكم على صاحبها، فلا يضع من العالم الذي برع في علمه زلة، إن كان على سبيل السهو والإغفال، فإنه لم يعُر من الخطأ إلا من عصم الله جلًّ ذكره.
ومن حقّ العالم أن ينصح إذا زلّ أو أخطأ، بوساطة أهل العلم والفضل، أو بأسلوب غير مباشر، بالكتابة أو الاستفتاء، أو نحو ذلك.
الثاني عشر: كلام الأقران في بعضٍ يطوى ولا يروى: قال ابن عباس رضي الله عنهما: "استمعوا علم العلماء، ولا تصدَّقوا بعضهم على بعض". ولهذه القاعدة تفاصيل تراجع في الكتاب.
الثالث عشر: العدل في الحكم على المجتهدين: وذلك يتحقق بمعرفة القواعد التالية:
أولاً: المجتهد مأجور غير مأزور.
ثانياً: إن الاختلاف بين العلماء أمر مقدور لا يمكن تجاوزه.
ثالثاً: إن اختلاف المجتهدين في الأحكام له أسباب معتبرة، ولم يكن عن تعمد ولا اعتباطاً أو لهوىً أو غير ذلك.
رابعاً: أن الأصل الذي يردّ إليه الخلاف، ويعرف به الحق من الباطل هو: الكتاب والسنة.
خامساً: أن العصمة ليست لأحدٍ بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فكلّ يؤخذ من قوله ويترك.
الرابع عشر: ترك المبادرة إلى الاعتراض على العلماء: إذ على طالب العلم (هذا إن كان طالب علم، ولم يكن عامياً جاهلاً، أو حزبياً موجَّهاً) أن يتهم رأيه عند رأي الأجلَّة من أهل العلم، ولا يبادر بالاعتراض قبل التوثَّق. وليس المراد بترك الاعتراض على العلماء ترك الاعتراض بالكلية، بل المراد ترك الاعتراض في موضع الاحتمال والاجتهاد، (وكذلك في القضايا والنوازل التي تتعلق بالمصالح العامة الأمة)، وترك الاعتراض المقصود لذاته، أو بقصد الوضع منهم وانتقاصهم، وترك المبادرة إلى الاعتراض دون تثبت وتبيّن. أما ترك الاعتراض بالكلية فلا يكون إلا للمعصوم، وقد تقرّر أن العلماء غير معصومين.
الخامس عشر: وضع الثقة في العلماء: إن من الناس من يطالب العلماء بعمل من الأعمال هم عنه ممتنعون، وما امتناعهم عنه إلا لنظرهم في مآلات الأمور وعواقبها. إذ بعض المصالح قد يمتنع عنه لما يؤدي إليه في المآل من المفاسد العظمى، والدين الإسلامي دين مصالح، فلا يقرّ اعتبار مصلحة دُنيا على حساب مفسدة عظمى. ألا ترون أن قتل المنافق الثابت على نفاقه، المعروف باستهزائه بآيات الله، وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وبالمؤمنين أمر مشروع، بل موجبة للقتل، وهو الردة ومفارقة الدين؟ فقد امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عنه، لما يفضي إليه هذا القتل من المفاسد.
نعم: لم ينف الحكم الشرعي، ولم يقل بعصمة دم هذا المنافق، وإنما علَّل الأمر برعاية المصالح والمفاسد. ومن ذلك امتناعه صلى الله عليه وسلم عن بناء البيت على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم خشية أن يكون فعله ذلك فتنة لقومه الذين أسلموا حديثاً.
فانظر أيها الأخ المبارك: في هذا، وضَعْ ثقتك في أهل العلم الأمناء على شرع الله، واعرف أنهم لن يمتنعوا عن فعل خيرٍ إلا رجاء خيرٍ أعظم أو خشية من وقوع شر أعظم. إن من الناس من يطالب العلماء ـ مثلا ـ أن يبينوا كل شئ، فيبينوا حيثيات ما يصدرون من قرارات أو آراء أو فتاوى تتعلق بأمور الأمة العامة. وهذه مطالبة فيها مخالفة للشرع والعقل، فليس كل أمر يصلح إخبار الناس به. وليس هذا من كتمان العلم المنهي عنه، فإن الكتمان المنهي عنه هو ما لم يكن لمصلحة شرعية، أما إذا كان لمصلحة شرعية فهو مشروع، كما قرره الإمام الشاطبي رحمه الله.
ومن وضع الثقة في العلماء: العلم بأنهم أعرف الناس بما يصلح للمتعلّم من العلم، فهم الربانيون الذين يعلمون الناس، ويربونهم على صغار مسائل العلم قبل كباره، ويبدأون بالأهم قبل المهم. انتهى.
قلت: ولا يخفى أن الدعوة السلفية، هي دعوة علمية، قيامها بالعلم والعلماء، وبجهودهم ثبت أمرها، وعظم خيرها، واستوت على سوقها، فأغاظ ذلك المبتدعة والحزبيين، واجمعوا أمرهم على مناوأتها بكل سبيل، واتفق رأيهم أن سلب الثقة بالعلماء من قلوب المسلمين، أمضى سلاح في محاربتها، لهذا نجدهم يطعنون فيهم، ويجرؤون الناس على الطعن فيهم، ويصوّرون فتاويهم الرشيدة القائمة على اعتبار المصالح الشرعية، شذوذاً عن المنهج الحق، بل يعتبرونها عمالة للحكام، وبيعاً للدين. فالله حسيبهم، وإليه منقلبهم. ولنختم بما دعا به المؤلف: اللهم إني أحببت العلماء فيك، وأجللتهم إجلالا لك، اللهم فاحشرني في زمرتهم، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأكرمني ـ اللهم ـ بما أكرمتهم به. (السويد: 1419)منقول