هكذا هي الحياة التي نحسبها طويلة وهي قصيرة أيها الأسد السخيف .. وهكذا هي ذي بطشتك البليدة تحسبها قوية وهي ظلم بعده تعذيب .. وهكذا هي دوامة الظلم حرمه الرحيم على عباده ووعد مقترفه بالإنتقام ..
عفوا،هل تلك علامة فرح على وجهك الكريه .. عجبا، هل ابتسامتك القريحة تريد أن تخبر أنك سعيد ..
من كذب عليك كذبة غبية فرفعت بها الصوت ترتجي نشرها مع الريح .. أيها …، هل أخبرتك أنني أرى غير ما ترى .. هل قلت لك أن ما تراه منك غلبة أراه مني جزاء بعد بلاء .. هل أبدو كاذبة .. إذن لماذا تسرع وأدعوك رغم الدم للإبطاء .. وتزأر بين الفينة والأخرى في حشرجة وأصرخ ملىء الفاه دون انقطاع .. هل أبدو خارقة لقوانين الآلام والطباع .. لا، ليست هي أيضا كما تظن إنما لي بقية ذنوب أردت لها انتهاء .. ولي زمن في الماضي بين الفراغ والصحة تكاسلت فيه أبغي غير أسيف تكفيرا عنه الآن .. هل أبدو هزمتك .. تأكد تلك هي الحقيقة التي شاء لها أن تخلد في أذهان الطغاة عبر كل زمن رب السماء.. فازحف ماشاء لك الزحف وبدا لك اللحم وأغرقتك مخاوفك .. واقضم كاتما خوفك كاشفا ضعفك وابتلع قضمتك .. وانهش فاضحا قومك ساترا غيرك وكن كلبا ذليلا لذمامتك ..

وإني لا زلت ماضية في الفكر أكثر من مضيي في الطريق .. حتى إذا بلغنا أرضا تملؤها الوحش قال الرفيق هذا بيني وبينك الفراق .. والدهشة أحيانا تحجب عن العين الدمع .. كما يخفي الأنس وحش الفزع .. فأطرقت صامتة لا أريد كلاما يقطعه الحزن .. ونظرت بعيدا في أرض الوحش أجيب عن سؤال في الذهن .. لكنه قرأ نظري على صمتي .. وتكلم كاشفا الغمة عن قلبي .. لم أقبل صحبتك لأكون معلما .. ولم أرضاك تبيعا لأن ما عندي لك مطلبا .. إنما أنا خيل تركت النار في أهلي .. فارا بجلدي يائسا من حالي قومي .. فلما ذقت الوحدة وانفردت بنفسي .. ما وجدت عندها إلا عتابا وتأنيبا على سوء فعلي .. فرجوتها الصمت عن هذا اللوم المدوي .. فكان عندي حديثها أهون من ذا الصمت .. حتى إن أعدت عليها الرجاء وطلبت منها في الليل البهيم بعض القص .. أعادت علي في كل مرة قصة ذا النون حتى تكاد تغشاني من الألم سكرات الغارق في عمق البحر .. فبقيت الزمن الطويل بين صمتها المؤلم وقولها المفزع أمضي يومي .. سألته: وما منعك عن العودة أسيفا إلى القطيع .. فقال في صوت خيل يصهل في البراري جريح .. لأنني بداية نفرت عنهم إذ حسبت بهم العذاب وقيع .. ولم أحسب أني في ذلك كنت أهلك قومي إذ صرخت فيهم أنهم هالكون .. ثم لما اطمأنت نفسي أني وإياها في الوحدة مقيمون .. وأنني غير عائد إليهم فذاك حال المهزوم .. أذاقتني ما لولا غيب لا أريد التجرأ عليه لقلت نار السموم .. لكني يوم رأيتك خفت عليك زلة كما زلتي .. ورأيت شبابك وعز علي تركك فريسة التأنيب كما وقعتي ..
واعلمي أني قد منيت النفس بالعودة مرارا .. فأفزعتني بهول تقديس فكر المغترب تكرارا .. حتى أني كنت كلما جمعت عزيمتي .. وعقدت النية بعود حميد إلى قريتي .. جاءتني في لسان سليط يكسر الركن الشديد لنيتي .. يا لائذا بالفرار خوفا من تصور ماذا دهاك .. أمن تكذيبهم في الرفاهية كنت فارا .. واليوم في اشتداد الخطب تنوي تصديقا سارا .. اركن فالفكر القويم إن استقام في القلب وركنت له الجوارح .. هو بين حدين .. فصاحبه تجري المشيئة الربانية على يديه الخوارق .. أو إن صمت على بصيرة متقدة كانت عليه نار تُحرق ..
فصاحبتك أقودك إلى هذا الواد المريع .. لتلجيه وتتعلمي فنون أعداءك دون حرق لهفة العودة إلى وطنك في قلبك الوديع ..

قلت أيها المخلص في النصح .. ما يمنعك أن تتم معي المشوار ولو من الزمن بعض الردح .. قال ذاك كان المنى لولا الطارىء الذي طرأ .. فقد نادى صاحب الأمانة عليها وأعلن المخبر هذا النبأ .. وإني بعد حين أسلمها للبارىء .. وإلى ترب منه أتيت يعيدني كما كان لذلك بادىء .. وأسابق موعدا ما كان أحد عنه مستأخرا أو سابق .. لأنقل إليك كلاما صادق .. عساك تجديه نافعا في سيرك..

أكملي من هنا بداية الطريق .. سيري وسط الكاسر من الوحش .. تعلمي بطشه وكوني في حذر منه .. لا ترفسي القوي فيكسر عظمك .. ولا تليني للظالم فيعتلي صهوتك .. ولا تنحني إلا مستأمنة ظهرك إلى أمين .. ولا ترقدي إلا بعين واحدة وأخرى متابعة لدقيق الطنين ..
ثم إن أخذت من مكره لوازم اتقائه .. وتعلمت من بطشه ضوابط إبطاله .. وتمرست في أرضه وعرفت كثيرا من سوء أفعاله ..
فلا تحسني الظن واعلمي أن الجحد لم يكن ليكون لولا تزيينه .. وأن الظلم يستقوي على انحناءات خدامه .. وأن الشر ليس إلا بذرة منثورة في الرياح لا تنموا إلى بتعهد الحسد وتواكل الضعيف .. وأن الخير لا بد له في كل مرة من تعسير صقل له حتى يلقى بعد تغيير الأجساد رضى اللطيف..
فسيري على بركة الحليم ..
وقفت على آثار خياله البعيد.. لا دمع ولا خوف أو كلاهما يمزقان القلب بقبض الحديد .. سؤال يدور في الخاطر .. أين الأمس الآمن .. والفكر بين الفتن الآن .. كيف يصنع ليجتاز واد اللئام .. ويصوغ الحكمة وسط النيران ..
فانظر علي بعض وقت .. لعلي إن شاء المولى عما كان آتيك مخبر..