منهج الاستدلال بالمكتشفات العلمية
على النبوة والربوبية
(دراسة نقدية)
إعداد
د. سعود بن عبدالعزيز العرِيفي
َ
قسم العقيدة – جامعة أم القرى
http://www.uqu.edu.sa/majalat/shariaramag/mag43/6.pdf



منهج الاستدلال بالمكتشفات العلمية على النبوة
سبقت الإشارة إلى أن الاستدلال بالمكتشفات العلمية على النبوة هو ما جرى
الاصطلاح مؤخرا على تسميته بالإعجاز العلمي في القرآن والسنة، ومع أنه لا مشاحة في
الاصطلاح كما يقال فإني أوثر التعبير الذي استعملته في العنوان؛ لأن الإعجاز مقرون
بالتحدي، وذلك أن المتحدي يحدو خصمه لمعارضته والإتيان بمثل ما أتى به( ٢٨ )، فيعجز الخصم
عن ذلك، فيسمى هذا الظفر إعجازا، وذلك ما لا أراه مطابقا لدلالة ما في القرآن من أنباء
الغيب المستقبلة، ومنها ما ي  دعى من الإشارات إلى المكتشفات العلمية المسماة الإعجاز العلمي؛
وذلك أن التحدي غير وارد فيها بل غير سائغ؛ فإن التحدي إنما يكون على دلالة ناجزة لا
منهج الاستدلال بالمكتشفات العلمية على النبوة والربوبية / د. سعود العريفي ٣٠٣
موعودة، وإذا كانت موعودة فلا بد أن تكون قريبة الأمد، لا أن تكون بعد هلاك أطراف
التحدي بعهود، ومثال الناجزة: التحدي البياني، ومثال الموعودة قريبة الأمد: تحدي أبي بكٍ ر
الصديق رضي الله عنه المشركين( ٢٩ ) بقوله تعالى:{غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد
٤]، ومثال بعيدة الأمد حديث "لا تقوم الساعة - غلبهم سيغلبون في بضع سنين}[الروم ٢
حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى"( ٣٠ ) وحديث الذباب( ٣١ )، فمثل
هذه لا يجري التحدي ا؛ إذ هي حين التحدث ا نبوة، لا من دلائل النبوة، وإنما تنضم إلى
الدلائل بعد وقوعها مطاِبقة للخبر السابق، فكيف يتحدى ا؟، وما يذكر من دلالة المكتشفات
العلمية على النبوة هو من هذا الباب، فكيف يسمى إعجازا وليس ثمة تح  د؟!.
أما إن كان التحدي والإعجاز جاريا في مجرد الوصول إلى هذه الحقائق العلمية
ومعارضة القرآن ا على طريقة التحدي البياني لفصحاء العرب قديما، فلن يعجز المكتشفون
عن أن يقولوا عند ذاك: ها نحن قد وصلنا إليها من غير طريق النبوة، بل بجهد سواعدنا وذكاء
عقولنا، ولم نعجز عن ذلك، وحسبنا أن النبوة تأيدت بموافقتها لنا، فنحن أولى بالفَلج والظفر
عند التحدي. فما هو الجواب حينئذ؟.
لذا ينبغي التنبه إلى أن مفهوم الدلالة أوسع وأعم من مفهوم التحدي، فما كل دليل
متحد  ى به، ولا يلزم من دلالة شيء على النبوة أن يكون معجزا، بل يكفي أن يكون ملازما
لمدلوله، سواء كان معجزا أو غير معجز.
فإن عز على مستعملي هذا المصطلح تركه فليقصروا استعماله على ما يوافق مفهومه
اللغوي، ألا وهو الجانب السلبي من القضية؛ من جهة أن التحدي قائم فيه بأن يأتي المكذبون
للنبوة بتناقض بين القرآن والمكتشفات العلمية، وفي هذا ما فيه من انفتاح مهلة التحدي،
وكون المكتشفات متزايدة مع مرور الزمن، وذلك ما يجعل الحكم النهائي بالعجز معلقا.
هذا في نقد مصطلح "الإعجاز العلمي"( ٣٢ )، ولأجله أعرضت في عنوان البحث عن
ذكر هذا المصطلح رغم شيوعه، أما في منهج الاستدلال بالمكتشفات العلمية على صدق النبوة
٣٠٤ مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآداا، ج ( ١٩ )،ع ( ٤٣ )، ذو الحجة ١٤٢٨ ه
فينبغي التنبه إلى أن العلم بالخبر له حالان: الأولى معرفة معناه، والثانية معرفة صدق هذا المعنى
وأنه حق ثابت في الأمر نفسه بطريق صحيح من طرق الاستدلال.
وغير خا  ف أن الأُولى مردها إلى لغة المخبر، والثانية إلى دليل خارجي.
ثم ينبغي عند التثبت من صحة المعنى التفريق بين أمرين:
الأول: وقوف الناس من طريق مستقل على صحة ما كانوا يعرفون بمقتضى اللغة معناه
من نصوص الكتاب والسنة، كحديث غمس الذباب، إذا ثبت مضمونه بطريق علمية لم تكن
موجودة في عصر النبوة ولا قريبا منها، فهو بلا شك من دلائل صدق النبوة، وهو من باب
الإخبار بالمغيبات، كالإخبار بالنار التي تخرج من أرض الحجاز، وشهادُة الخبراء فيه من جنس
شهادة أهل الكتاب بموافقة ما جاء به النبي – صلى الله عليه وسلم - لما عندهم من الحق، وإلى
ذلك الإشارة بقوله – تعالى -:{فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب
.[ من قبلك}[يونس ٩٤
فهذا ونحوه مما لا ننازع في سلامة منهجه، لكن تبقى تطبيقاته موضع بحث من جهة
ثبوت الاكتشاف العلمي، وعدم تطرق الشك إليه واحتمال الاختلاف في نتائجه ومسلماته،
والاستيقان من كونه اكتشافا حديثا يمتنع الوصول إليه في عصر النبوة أو قريبا منها، كأن
يتوقف على الآلات المقربة أو المكبرة مثلا، وقد أورد عليه الاعتراض المذكور سابقا( ٣٣ ) من
كون الحقائق العلمية المكتشفة إنما يجزم بقطعيتها في ضوء معطيات المدركات الحسية المتاحة،
وأن التقدم الهائل الطارئ على وسائل الإدراك، المعينة للحواس في إدراك ما لم يكن يخطر ببال
أا ستدركه بعدا أو ضآلة، وكذا التقدم الأهول الطارئ على وسائل الإحصاء والحساب
والاستقراء المعينة للعقل في أقيسته وأحكامه، والجمع بين المتفرقات، والتفريق بين المختلفات،
والوقوف المتجدد على علل الظواهر وخواص الأشياء، أن ذلك كله يستوجب ألا نجزم في
نظرية علمية بحقيقة ائية؛ للاحتمال شبه المؤكد للمزيد من التقدم والتطور.
ولأنصار الإعجاز العلمي أن يجيبوا بأن هذا الاحتمال إنما يرد في بعض الأحوال أو
منهج الاستدلال بالمكتشفات العلمية على النبوة والربوبية / د. سعود العريفي ٣٠٥
غالبها لا كلها. لكن هب أن بعض الحقائق العلمية اكتسبت القطعية النهائية فهل بالضرورة أن
ما ي  دعى من أمثلة الإعجاز مندرج في هذا النوع، وإذا ثبت ذلك فهل هو كاف في تثبيت
دعوى الإعجاز؟ هذا ما سنسلط عليه الضوء لاحقا.
الأمر الثاني: ما يزعمه القائلون بالإعجاز العلمي من دلالة بعض الآيات والأحاديث
على مكتشفات لم تكن معلومة من قبل مطلقا، لا صحة ولا معنى، ويرتبون على ذلك فوات
المعنى الصحيح للآيات وخفاءه على السابقين من أهل اللغة ومعاصري التنزيل المخاطبين به،
فهذا الذي ننازع فيه، ونرى في الاستدلال به على النبوة خللا منهجيا، يضعف موقف المحتج
به، من جهة أنه كيف تكون تلك الآيات دالة على مكتشفات لم تكن متصورة معلومة المعنى
بالمرة، دون أن تفهمها َأولى الناس بفهم اللغة؟.
وغاية ما يمكن التمسك به هنا لإاض دلالتها القول بالاحتمال اللغوي، وهنا يدخل
الخلل والضعف المشار إليه سابقا بقاعدة "إذا دخل الاحتمال سقط-أو ضعف- الاستدلال"،
وهي منطبقة هنا؛ وذلك أن المعاني المحت  ملة للآية إما أن تكون متضادة أو متنوعة، فإن كانت
متضادة لم يجز أن يكون الصواب خارجا عما فهمه السلف من احتمالات؛ وإلا لزم تجهيلهم
وخروج الحق عن مجموعهم، بل يلزم أن يكون المعنى الصحيح قد خفي على النبي صلى الله
عليه وسلم، أو علمه فلم يبينه!، والله تعالى يقول:{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل
إليهم}[النحل ٤٤ ]، أما إن كانت المعاني المحت  ملة متنوعة، بمعنى أن السياق يحتمل الدلالة عليها
جميعا دون مشا  حة، فهنا يلزم المستدل بالآية على مع  نى مخصو ٍ ص أن يثبت بقرينة خارجية أو من
السياق أن هذا المعنى مراد بعينه للمتكلم؛ فإن مجرد الاحتمال شيء، وقص  د مع  نى مخصو ٍ ص
بعينه شيءٌ آخر، ودلائل النبوة لا يكفي فيها مجرد الاحتمال.
وهكذا يقال لمن تمسك بالعموم في معنى الآية؛ فإن دلالته على أفراد المعنى احتمالية، ولا
تكفي في الدلالة على النبوة إلا في المقام السلبي كما سنبين، لكنها مستقيمة في الدلالة على
الربوبية كما سبق.
٣٠٦ مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآداا، ج ( ١٩ )،ع ( ٤٣ )، ذو الحجة ١٤٢٨ ه
فإذا قال مدعي الإعجاز العلمي مثلا: إن العلماء اكتشفوا مؤخرا علم البصمات، وفيه
أن كل إنسان يختص في باطن كفه بخطوط دقيقة لا توافق غيره، ورتبوا عليها إثبات الهوية، وإن
القرآن قد سبق في الإشارة إلى هذا قبل أربعة عشر قرنا، وذلك في قوله تعالى:{بلى قادرين
٣٤ )، فدل ذلك على أن القرآن كلام الله؛ إذ من أدرى محمدا ) [ على أن نسوي بنانه}[القيامة ٤
ومن في عصره ذا الاكتشاف الحديث؟.
قلنا له: هب أن خلق (البصمات) على هذا النحو العجيب الدال على عظمة الله تعالى
مشمول بعموم معنى الآية، فما الدليل على أن الله تعالى أراد ا ما ذكرته من علم البصمات
المكتشف بعينه؟( ٣٥ )، وهل هذا إلا قول على الله بلا علم، ورجم بالغيب؟ فكيف يجعل دليلا
على النبوة؟، وهل هذا إلا كمن استدل مثلا بقوله تعالى:{اذكروا الله ذكرا كثيرا}[الأحزاب
٤١ ] على وِر  د مبتدع، أو بقوله تعالى:{وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت
أيديكم}[الشورى ٣٠ ] على أن الزلازل والبراكين و"تسونامي" كانت عقوبات لمن أصابتهم!،
وكأا عقوبا  ت الاستئصال الإلهيُة لمكذبي الرسل الوار  د ذكرها في القرآن، مع أا إنما طالت
أبأس أهل الأرض، وغالبهم مسلمون!، وسلم منها الجبابرة الظالمون الكافرون، فهذا كله آفته
الاستدلال بالعمومات على أمور مخصوصة دون دليل إضافي على التخصيص.
فإن احتج القائلون بالإعجاز العلمي على حمل القرآن على تلك المعاني المظنونة الحادثة
المست ِ جدة، وأا قطعا مرادة من السياق القرآني، بأنه كلام علام الغيوب، الذي أحاط بكل
شيء علما، وتنزه عن الغفلة والنسيان، فلا بد من حمل كلامه على غاية ما يحتمله لغة؛ إذ
الغفلة عن بعض محتملاته منتفية هنا، فظاهر أن هذا مصادرة على المطلوب، وقلب للقضية،
وتحويل للمست  دل عليه إلى دليل، وذلك أن إثبات كون القرآن كلام الله مطلوب يستدل عليه
بالإعجاز، فكيف يكون من مقدمات إثبات الإعجاز؟!.
كما أنه يمكن أن يستغل ذلك مكذب القرآن فيقول: كما تحملون بعض الآيات على
بعض المكتشفات بأدنى ملابسة تصديقا، فأنا على المنهج نفسه أفعل ذلك بأدنى مناقضة تكذيبا،
فما هو جوابه حينئذ؟. ومعلوم أنه لن يعوزه الوقو  ف على النصوص التي استشكل العلماء
منهج الاستدلال بالمكتشفات العلمية على النبوة والربوبية / د. سعود العريفي ٣٠٧
ظواهرها، واشتغلوا ببيان وجه موافقتها للحس والعقل، وربما تأولوا في ذلك، كما فعلوا مع
نصوص إثبات العلو والترول لله تعالى مع كروية الأرض وسبب تعاقب الليل والنهار، وحديث
سجود الشمس واسئذاا للطلوع كل يوم( ٣٦ ) مع جرياا دون توقف وكوا لا تزال طالعة
غائبة في كل لحظة، وهكذا الأحاديث الواردة في ردم يأجوج ومأجوج( ٣٧ ) مع انكشاف
جغرافية سطح الأرض على التمام والكمال، وغير هذه النصوص كثير وكثير، بل إنه يمكن أن
يتمسك في هذا بجميع الآيات التي اعتمد عليها بعض علماء الشريعة في إنكار شيء من الحقائق
العلمية المكتشفة، كحركة الأرض ودوراا حول الشمس، فهل يقال إن المعتمدين على
.( الاحتمال في الإعجاز يفتحون ثغرة على المسلمين من حيث لا يشعرون؟( ٣٨
وهكذا يمكن أن يعترض بوجه إجمالي على الإعجاز العلمي بأنه لو كان هذا من طرق
دلالة القرآن على النبوة لكان الأولى أن يصرح القرآن بأعظم الحقائق العلمية المكتشفة الكبرى
وأشهرها، لا أن يتجاوزها إلى ما هو أدق منها وأخفى على وجه محتمل، أما الاعتذار عن
التصريح بذلك بأنه كان سيؤدي إلى ردة بعض من آمن أول الأمر( ٣٩ ) فهو أوهى من نسج
،( العنكبوت؛ إذ قد حدث هذا بالفعل في حادثة الإسراء والمعراج، وارتد من ارتد بسببها( ٤٠
وهي لعمرو الحق أبلغ في القدرة، وأكثر تحييرا للعقول، فكان درء مفسدة الافتتان ا أولى.
ومما تستتبعه آفة الاحتمال هذه أنك ترى كثيرا من الأمثلة المذكورة على الإعجاز
العلمي مع ما يكتنفها من التكلف الظاهر، لها نظائر في كلام العرب وأساليب تخاطبهم، فبينما
يدندن بعض المغرقين في الإعجاز العلمي حول كلمة في آية، ويحملها من التهاويل ما يكبر
ويهلل له المتحمسون، إذا ا مستخدمة بالتركيب نفسه القرآني تقريبا أو قريبا منه في الشعر
الجاهلي، ومن أمثلة ذلك قول عبيد بن الأبرص يصف البرق والمطر:
أرق  ت لضوء برق في نشاص تلألأ في ممّلأة غصا ِ ص
لواق  ح دّل ٍ ح بالماء سح ٍ م تث  ج الماء من خلل الخصا ِ ص
سحا ٍ ب ذات أسح  م مكفه ٍ ر ت  و  حي الأرض قطرا ذا افتحا ِ ص
٣٠٨ مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآداا، ج ( ١٩ )،ع ( ٤٣ )، ذو الحجة ١٤٢٨ ه
تأّلف فاستوى طبقا دكاكا محيلا دون مثعبه نوا ِ ص
كلي ٍ ل مظلم الحجرات داج ي ٍ م أو كبحر ذي بوا ِ ص
كأن تبسم الأنواء فيه إذا ما انك ّ ل عن لهق هصا ِ ص
فهذه الألفاظ والمعاني بمحت  ملاا وعموماا إذا ُ طبق عليها منهج الإعجازيين مع الآيات
التي تذكر الألفاظ والمعاني نفسها كقوله تعالى:{وأرسلنا الرياح لواقح}[الحجر ٢٢ ]، وقوله:{ألم
تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما}إلى قوله:{يكاد سنا برقه يذهب
٤٤ ] ، نتج عن ذلك: الإعجاز العلمي في شعر عبيد بن - بالأبصار}( ٤١ ) [النور ٤٣
الأبرص؟!.
وكما أن مسألة الاحتمال والعموم هذه مشكلة على تطبيقات الإعجاز العلمي، فهي
كذلك واردة على الأدلة الإجمالية التي يحتج ا المنظرون لهذا الاتجاه، فقد استدلوا بقوله
تعالى:{لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون}[الأنعام ٦٧ ]،وقوله:{سنريهم آياتنا في الآفاق وفي
أنفسهم}[فصلت ٥٣ ]، ونحوها من الآيات الدالة على أن الله تعالى سيظهر مستقبلا من
الدلائل والبراهين ما يتب  ين منه صدق وعد الله تعالى بنصرة رسوله وإهلاك المكذبين، وأن رسوله
على الحق وأم على الباطل، ومع أن سياق الآيات يحتمل العموم، والعبرة بعموم اللفظ لا
بخصوص السبب( ٤٢ )، فإ ّ ن توجه الخطاب في قوله{وسوف تعلمون}{سنريهم} للمكذبين في
عهد النبوة يجعل حصول ذلك في زمنهم مرادا متعينا في الآيات، إن لم يكن غيره ممتنعا، ومن هنا
دخل الاحتمال.
وقس على ذلك الآيات التي تخاطب الكفار في زمن التنزيل، كقوله تعالى:{أولم ير
الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا
،( يؤمنون}[الأنبياء ٣٠ ] وقد  ح  ملت النظرية الانفصالية ونظرية خلق الكون من سديم( ٤٣
وقوله تعالى:{وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياا معرضون}[الأنبياء ٣٢ ] وحملت
معنى الغلاف الغازي حول الكرة الأرضية( ٤٤ )، وقوله تعالى:{أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها
منهج الاستدلال بالمكتشفات العلمية على النبوة والربوبية / د. سعود العريفي ٣٠٩
من أطرافها}[الأنبياء ٤٤ ] وحملت نظرية كروية الأرض غير المكتملة عند الأقطاب( ٤٥ )، وقوله
تعالى:{ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا}[نوح ١٤ ]،{يا أيها الناس إن كنتم في
ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين
لكم}[الحج ٥] وحملت علم الأجنة( ٤٦ ) ونظرية التطور( ٤٧ )، وقوله تعالى:{مرج البحرين
٢١ ]، وحملت قانون - يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان، فبأي آلاء ربكما تكذبان}[الرحمن ١٩
المط السطحي( ٤٨ )، فهذه الآيات ونحوها مما يخاطب الكفار أيام التنزيل مخاطبة صريحة، ويحتج
عليهم في شأن التوحيد والبعث بما يعرفونه تماما من آيات قدرة الله تعالى في الآفاق وفي
أنفسهم، أهي مفهومة لمن خوطبوا ا أم لا؟ فإن لم تكن مفهومة كيف قامت ا الحجة عليهم؟
وإن كانت مفهومة عندهم فهل المعنى المكتشف في هذه النظريات ونحوها مما فهموه؟ فإن كانوا
فهموه منها فما وجه الاكتشاف والجدة؟ وما بالهم لم يسبقوا إلى تلك المكتشفات آنذاك؟ وإن لم
يفهموا مما خوطبوا به شيئا من تلك المكتشفات فما الذي أدرى أصحاب الإعجاز أن المتكلم
بالقرآن أراد بخطابه وقصد تلك المكتشفات دون ما فهمه المخاطبون الأولون أو معه؟.
ومعلوم للمتأمل أن هذا غير مختص بالآيات التي تخاطب الكفار صراحة؛ بل هو في سائر
الآيات، فهم مخاطبون ا جميعا ولو لم يرد التصريح في كل آية بمخاطبتهم وذكرهم.
ولعله قد استبان بما سبق أن المنهج الصحيح في الاستدلال بالمكتشفات العلمية على
النبوة يتمثل في مقامين: المقام الأول مقام الإثبات، أو المقام الإيجابي، ويتطلب أن تكون الحقيقة
العلمية المكتشفة مرادة بخصوصها من الآية، لا بمجرد الاحتمال، والمقام الآخر مقام النفي، أو
المقام السلبي، ومضمونه الاستدلال بمجموع القرآن مع المكتشفات العلمية سلبا، بمعنى أنه لم
تنهض حقيقة علمية واحدة مكتشفة بتكذيب صريح القرآن كما سبقت الإشارة( ٤٩ )، فهو بمعنى
قوله تعالى:{ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}[النساء ٨٢ ]، وواضح
استغناء هذا المقام عن الشرط المذكور في الآ  خر، ومن هنا رأى خصوم التفسير العلمي للقرآن
أن هذا المقام وحده هو السائغ في الدلالة على النبوة؛ إذ لا يتصور تحقق الشرط المذكور في
٣١٠ مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآداا، ج ( ١٩ )،ع ( ٤٣ )، ذو الحجة ١٤٢٨ ه
المقام الأول في أي من أمثلة الإعجاز العلمي الم  دعاة في آيات الخلق والتدبير؛ من جهة أا جميعا
مسوقة أصلا للاحتجاج على المشركين بتوحيد الربوبية الذي يعرفونه ويقرون به على توحيد
العبادة الذي ينكرونه، فصار المراد مترددا في جميع هذه الآيات بين ما فهمه المشركون وما
ادعاه الإعجازيون، فدخل الاحتمال، وُفقد الشرط، فلم يبق له وجود إلا في التنظير.
وأرى أن هذا التعميم مع تبادره إلى الذهن سابق لأوانه؛ فهو يتطلب استقراء دقيقا
للقرآن، والاستيقا َ ن من عدم ذكر شيء من المخلوقات في غير سياق الاحتجاج على المشركين
والمكذبين بما يعرفونه ويقرون به، سواء من جهة الحس أو من جهة ما تلقوه من بقايا النبوات
السابقة، كما في قوله تعالى:{قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم؟ سيقولون لله،
قل أفلا تتقون}[المؤمنون ٨٧ ،٨٦ ]، فإن علمهم بخبر العرش وعدد السموات محصل من
النبوات السابقة، ولو افترضنا جدلا أن العلم الحديث كشف بدليل حسي قاطع عن أا سبع،
لم يصح اعتبار ذلك دليلا على النبوة؛ لجواز استفادة النبي لذلك من قومه، فإن لم يحصلوه من
النبوات السابقة دل على النبوة من جهة موافقة النبوات السابقة، لا من جهة موافقة
المكتشفات العلمية الحديثة.
كما أنه تعميم مختص بالقرآن، فتبقى السنة التي تستوي مع القرآن في الشرط المذكور
للإعجاز الموجب، وفيها نماذج قد تكون مثالا صحيحا لانطباق هذا الشرط المذكور في المقام
( الأول، كقول النبي صلى الله عليه وسلم عن الذباب (في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء)( ٥٠
، وكتحديده مدة تخليق كل من النطفة والعلقة والمضغة بأربعين - أو اثنين وأربعين أو خمسة
وأربعين أو بضع وأربعين - يوما - أو ليلة- على اختلاف الروايات( ٥١ )، لكن تبقى مطابقة
الخبر للواقع بشهادة الحقيقة العلمية المكتشفة ركنا آخر لدلالته على النبوة، وما يتطلبه ذلك
من إجماع المختصين على صحة هذا الاكتشاف وكونه حقيقة ائية غير قابلة لإعادة النظر،
واشتهار ذلك بما تنتفي معه شبهة التقول عليهم.
ومهما يكن من أمر، فإن في تحديد الشروط والضوابط الممحصة لصحيح الإعجاز
العلمي المو  جب من مزيفه مندوحًة عن الالتزام المبكِّر بحكم عام بامتناع تحققه في أي نص، وهي
منهج الاستدلال بالمكتشفات العلمية على النبوة والربوبية / د. سعود العريفي ٣١١
كفيلة إن شاء الله بغربلة النتاج الغزير المقدم حتى الآن، ويمكن في ضوء ما سبق تحديد هذه
الشروط والضوابط فيما يلي:
١- أن يكون النص مفهوم المعنى تماما موع المخاطبين به منذ صدوره.
٢- أن يكون المعنى الإعجازي مدلولا متعينا للنص.
٣- ألا يكون صدق هذا المعنى ومطابقته للواقع في الأمر نفسه معلوما من َقبلُ للمخاطبين.
٤- إذا ادعي الإعجاز في حديث نبوي شريف لزم انتفاء احتمال صدوره بظن واجتهاد من
النبي صلى الله عليه وسلم.
٥- إجماع المختصين على كون الاكتشاف العلمي الم  دعى وقو  ع الإعجاز العلمي به حقيقًة
قطعية ائية تمتنع إعادة النظر فيها، واشتهار ذلك بما تنتفي معه شبهة التقول عليهم.
فير  د بالشرط الأول كل إعجاز علمي يزعم فيه فوات المعنى الصحيح للآية على من
خوطبوا ا أيام التنزيل، كالذي عبر عنه الدكتور أحمد جمال العمري بقوله: (والذي لا شك
فيه أن القرآن العظيم يضم آيات كثيرة لم تفهم بوضوح إلا بعد أن تقدمت العلوم التجريبية في
عصرنا الحاضر...، ومن ثم نقول – على سبيل القطع -: إن كثيرا من آيات القرآن الكريم
.( ستفهم بصورة أدق وأكمل بعد تقدم العلوم التجريبية أكثر فأكثر)( ٥٢
ومثاله الإعجاز الم  دعى في اكتشاف العلماء كون (المضغة) المذكورة في أطوار خلق
الجنين على شكل ما يمضغ وهيئته، ففيها كأثر الأسنان في العلك، لا على قدر ما يمضغ كما
.( فهم السابقون، بل هي أصغر من قدر اللقمة بكثير( ٥٣
وير  د بالشرط الثاني كل إعجاز علمي مبني على معنى محت  مل في الآية، حتى لو التزم
صاحبه بصحة المعنى الآخر الذي فهمه السابقون أو بعضهم من الآية؛ لاحتمال أن يكون وحده
هو مراد الله تعالى من الآية دون غيره من المعاني المحتملة، وإذا دخل الاحتمال سقط الاستدلال.
ومثال ذلك الإعجاز الم  دعى في قوله تعالى: {أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من
٣١٢ مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآداا، ج ( ١٩ )،ع ( ٤٣ )، ذو الحجة ١٤٢٨ ه
فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض}[النور ٤٠ ]، وأن المراد ا الموج
الباطني والموج السطحي( ٥٤ )؛ فإن عامة المفسرين على أن المراد بالموج الذي من فوقه موج هو
هذه الأمواج المترادفة المتراكبة المتتابعة المتلاطمة، التي يشاهدها مباشرة كل من نظر إلى بحر
هائج، فهي مراد الآية قطعا؛ وإلا لم يكن المثل المضروب للكافر مفهوما لمن لا يعرف الموج
الباطني.
وير  د بالشرط الثالث كل إعجاز علمي مب  ني على مع  نى كان الناس يعرفون مطابقته
للواقع في الأمر نفسه قبل ّ تحدث النبي صلى الله عليه وسلم به.
ومثال ذلك الإعجاز العلمي الم  دعى في الآيات التي تتحدث عن أطوار خلق الإنسان؛
فإا ُ ذكرت في سياق يقتضي معرفة المخاطبين السابقة بحقيقة هذه الأطوار، وهو سياق
الاحتجاج بخلق الإنسان أول مرة على إعادة خلقه بعد الموت.
ويرد بالشرط الرابع كل إعجاز علمي مدع  ى في حديث نبوي ليس في شأن ديننا؛ مما
يحتمل أن يكون مقولا على سبيل الظن والاجتهاد، لا بوحي من الله تعالى.
ومثاله كل إعجاز علمي مدعى في أحاديث طب الأبدان التي لم يرد فيها تصريح بأا
وحي من الله تعالى.
وير  د بالشرط الخامس كل إعجاز علمي لم توثَّق فيه الحقيقة العلمية على وجه يمنع
خفاءها والخلاف حولها والمراجعة فيها من العقلاء، ويس  وغ التح  دي بثباا ويقينيتها على صدق
النبوة.
ومثال ذلك ما راج مؤخرا من الإعجاز الم  دعى في نصوص عذاب البرزخ، المبني على
صوت مس  جل من باطن الأرض يسمع فيه ما يشبه الصراخ واللغط، وأنه صوت المعذبين في
البرزخ، التقطته أجهزة قياس الموجات الصوتية مصادفة.
---------------


منهج الاستدلال بالمكتشفات العلمية
على النبوة والربوبية
(دراسة نقدية)
إعداد
د. سعود بن عبدالعزيز العرِيفي
َ
قسم العقيدة – جامعة أم القرى

http://www.uqu.edu.sa/majalat/shariaramag/mag43/6.pdf